42 من حديث (انظرن من إخوانكنَّ، فإنما الرضاعة من المجاعة)

1139- وَعَن عائشةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1140- وَعَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، قَالَ: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1141- وَعَنْهَا: أَنْ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحِجَابِ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1142- وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: بالكسر والفتح: رِضاع ورَضاع، ويقال: رِضاعة، ورَضاعة، وهو مصّ الثَّدي، يقال: رضع إذا مصَّ الثدي لأخذ اللبن، وفي حكمه ما يُسقى من اللبن، جاء في الكتاب العزيز الدلالة على أنَّ الرضاع له أثر في التَّحريم؛ لقوله جلَّ وعلا: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، وجاءت السنةُ بما هو أوسع من ذلك، وبما يدل على أنَّ الرضاع كالنَّسب، فكما تحرم العمَّة والخالة بالنَّسب، وبنت الأخ، وبنت الأخت، كذلك في الرضاع؛ ولهذا قال كما يأتي عليه الصلاة والسلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب.

ثم هذا الرضاع الذي يحصل به التَّحريم له شرطان على الصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم، وبه تجتمع الأخبار الثابتة عن رسول الله ﷺ:

أحدهما: أن يكون في الحولين في حال المجاعة، فإن كان فوق الحولين فلا يُؤثر.

والشرط الثاني: أن يكون خمسًا، لا ينقص عن ذلك، خمس رضعات فأكثر.

وفي كلٍّ من الشرطين خلاف كما يأتي إن شاء الله، لكن هذا هو الصواب، الصواب أنه لا يحرم الرضاع إلا بهذين الشرطين:

أحدهما: أن يكون في الحولين، ويدل عليه: إنما الرضاعة من المجاعة، فالمجاعة محل الحولين، ويدل عليه قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، فدلَّ على أنَّ انتظامها نهاية الحولين، وما بعد الحولين ليس محل رضاعةٍ إلا عند حاجة رضاعةٍ.

ويأتي أيضًا من أحاديث أخرى تأتيكم إن شاء الله: لا رضاعَ إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام، لا رضاع إلا في الحولين، لا رضاع إلا ..... إلى آخره.

فهذا الشرط هو الصواب؛ لقول مَن قال: بجواز إرضاع الكبير، كما يأتي في حديث سهلة، ليس بجيدٍ، ولكن ..... عن حديث سهلة.

الشرط الثاني: أن يكون خمس رضعات، ويدل عليه حديث عائشة الذي ذكره المؤلفُ هذا، وهو الحديث الخامس .....، ويدل على أن جنس الرضاع لا يحرم إلا بعددٍ معينٍ الحديث الأول، حديث عائشة رضي الله عنها: لا تُحرم المصَّة والمصتان، وفي رواية أبي داود: ولا المصتان، المعنى: أن جنس الرضاع من غير عددٍ لا يكفي، بل لا بدَّ من عددٍ.

وفي لفظٍ آخر من حديث أم الفضل: لا تُحرم الرضعة ولا الرضعتان، وقد فهم بعضُ الناس أنَّ ما فوقهما يحرم، ولكن الصواب أنه لا يحرم لذلك، بدليل أنه ﷺ بيَّن في حديث عائشة أنه لا بدَّ من خمسٍ، والمنطوق مقدم على المفهوم في سائر الأصول، وفي سائر الأحكام، وحديث عائشة الآتي وحديثها في قصة سهلة: أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه كله منطوق، ويدل على أنَّ كون الرضعة والرضعتان لا مفهومَ لهما، والثلاث والأربع كذلك، حتى يستكمل الطفلُ خمس رضعات.

ثم الرضعة هي إمساك الثَّدي ومصّ اللَّبن، فإذا تركه ثم عاد إليه فهذه الرضعة الثانية، سواء كان في مجلسٍ، أو في مجالس، أو في أيام، أو في ليالي، ومما يُؤيد هذا حديث: لا تُحرم الرضعة ولا الرضعتان، وحديث: أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه، وحديث عائشة الخامس، وهو قولها رضي الله عنها: كان فيما أُنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يُحرمن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات، وتوفي النبيُّ ﷺ والأمر على ذلك. وفي لفظٍ: وتوفي النبي ﷺ وهي مما تُتلى من القرآن. يعني: لم يشعر بعض الناس بنسخ لفظها.

فهذا يدل على أنه لا بدَّ من خمسٍ، وقد رواه الترمذيُّ رحمه الله وجماعة بلفظ: توفي النبيُّ والأمر على ذلك، دلالة على أنه لا بدَّ من خمسٍ في الرضاع.

وهكذا في حديث سهلة لما أمرها أن تُرضع سالمًا أرضعته خمس رضعات، قالت: فأرضعته خمسًا. وفي لفظٍ: أمرها أن تُرضعه خمسًا. فدلَّ ذلك على أنه لا بدَّ من خمسٍ، ثم أيضًا الأصل التَّحريم وعدم تحريم الرضاع إلا بما يدل على شيءٍ ثابتٍ لا شبهةَ فيه، ولا يحصل التأكد والخروج من أساس الإباحة إلا بوجود الخمس، فيحصل التحريم حينئذٍ، وإلحاق الرضيع بالنَّسب في المحرمية والخلوة ونحو ذلك، لا في الأحكام الأخرى.

والحديث الثاني: حديث سهلة في قصة سالم، سالم هذا كان مولًى لأبي حذيفة، كان قد تبنَّاه أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة، وكان من صالحي المسلمين، من السابقين ، وكان سالم عتيقًا لامرأةٍ من الأنصار، فتبناه أبو حذيفة، وكان الناسُ في الجاهلية يتبنون بعض الأولاد، كما تبنَّى النبي ﷺ زيد بن حارثة، ثم أنزل الله: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، ونسخ ذلك، ومنع التبني.

وكان أبو حذيفة يُحب سالمًا ويُقدره، فزوجه ابنة أخيه الوليد، بنت الوليد بن عتبة، وكانت سهلة لا تحاشى منه، فتعده كالولد، ولما بلغ مبلغ الرجال استأذنت النبيَّ ﷺ في شأنه، فقال: أرضعيه تحرمي عليه، فقالت: كيف أُرضعه وهو رجل ذو لحيةٍ؟ فتبسم وقال: أرضعيه عليه الصلاة والسلام.

واحتجَّ بعضُ أهل العلم بهذا على جواز إرضاع الكبير؛ لهذا الحديث، واحتجت به عائشة رضي الله عنها وجماعة، كانت عائشةُ رضي الله عنها تعمل بذلك، وتأمر بنات أخيها وبنات أخواتها إذا أرادت أن يدخل عليها أحدٌ يرضعنه خمس رضعات، وأما بقية أزواج النبي ﷺ فقلن: لا نرضى أن يدخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة، ولا نظن هذا إلا شيئًا خاصًّا بسالم.

وإلى هذا ذهب الجمهور: إلى أن رضاع الكبير لا يُؤثر، وأجابوا عن حديث سهلة هذا بأجوبةٍ: منها أنه خاصٌّ بسالم وسهلة، ومنها أنه منسوخ، كان في أول الأمر ثم بيَّن النبيُّ ﷺ شروط الرضاع، فصار هذا منسوخًا.

وبكل حالٍ فهذان الجوابان أوجه الأجوبة، وقال آخرون -ولا أعلمه إلا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أنه خاصٌّ بمن يُشابه حاله حال سالم: بأن يكون عند القوم خادمٌ لهم لا يستغنون عن دخوله وخروجه، ويحتاجون إلى إرضاعه؛ حتى يتمكن من دخوله عليهم وقضاء حاجاتهم. فهذا قاله شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا أذكر أنه قاله أحدٌ قبله، ورأى أنَّ هذا جمعًا بين النصوص، أنَّ هذا هو الجمع بين النصوص.

والأظهر والأقرب قول الجمهور، قول بقية أزواج النبي ﷺ أنه ممنوع، وأنه لا يجوز إرضاع الكبير، وأنَّ هذا الأمر الذي وقع لسالم: إما أن يكون خاصًّا، وإما أن يكون منسوخًا، وهذا هو الحيطة لأمور المحارم، والحذر من خطر إرضاع الكبير الذي لا يُؤمن.

فالمقصود أنَّ هذا القول هو الأظهر والأرجح؛ لأنَّ قول النبي ﷺ: إنما الرضاعة من المجاعة، وقوله ﷺ: لا رضاعَ إلا في الحولين وهو حديث صحيح كما يأتي، وحديث: لا رضاعَ إلا ما فتق الأمعاء إلى آخره، كلها دالَّة على أنه لا بدَّ من هذا القيد، ولا تثبت الرضاعة ولا تُعتبر إلا بالشرطين السَّابقين: أحدهما: أن يكون في الحولين. والثاني: أن يكون خمس رضعات فأكثر.

هذا هو المعتمد، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الأرجح من جهة النقل، والأرجح من جهة الحكمة والحيطة للعوائل والنساء والبيوتات، والبُعد عما فيه خطر، ولا سيما في هذا العصر الذي قد غلب فيه الجهل، وانتشرت فيه الرذائل، وضعف فيه الإيمان، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.

وحديث عائشة الرابع يدل على أنَّ الرضاع كما يتعلق بالمرأة يتعلق بالرجل أيضًا؛ لأنَّ اللبن لبنهما، فالفحل واللقاح واحد، فكما أن المرأة تكون أمًّا، فالزوج يكون أبًا في الرضاع، وكما أنَّ إخوانها أخوالًا للرضيع، فهكذا إخوان الزوج يكونوا أعمامًا للرضيع، وأخواته عمَّاته.

هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الصواب: أنَّ الرضاع يُؤثر في حقِّ المرأة والرجل جميعًا؛ لأنَّ اللقاح واحد، وأنه كالنسب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب، فكما تحرم العمَّة من النَّسب، تحرم العمَّة من الرضاع، والخالة من النَّسب كالخالة من الرضاع، وهكذا، والله أعلم.

س: .............؟

ج: نعم، نعم.

س: .............؟

ج: الله أعلم، الله أعلم.

س: .............؟

ج: هذا في قصة عقبة بن الحارث لما ادَّعت امرأةٌ أنها أرضعته وزوجته، وأنكر ذلك عقبة، فقال النبيُّ ﷺ: فارقها، كيف وقد قيل؟ يعني: لا ينبغي لك أن تبقى مع امرأةٍ قيل فيها أنها أخت لك.

..............

1143- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي؛ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1144- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ.

1145- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَا رَضَاعَ إِلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَرَجَّحَا الْمَوْقُوفَ.

1146- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1147- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1148- وَعَنْ زِيَادِ السَّهْمِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ تُسْتَرْضَعَ الْحَمْقَى. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتْ لِزِيَادٍ صُحْبَةٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة كلها تتعلق بالرضاع، وتقدم لنا ما يتعلق بشرط الرضاع، وهو أن يكون الرضاعُ خمسًا، وأن يكون في الحولين.

في هذا الحديث -حديث ابن عباس- الدلالة على أنَّ الرضاع يُحرم ما تُحرمه الولادة، فإنه أُريد عليه الصلاة والسلام على ابنة حمزة، وقيل له: لو تزوجتها. فقال: إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النَّسب.

وحديث عائشة: الرضاعة تُحرم ما تُحرم الولادة.

وحديثها الآخر: يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب.

فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على أنَّ حكم الرضاع كحكم النَّسب في تحريم النكاح وما يلتحق بذلك من جواز الخلوة، وأن يكون محرمًا لرضيعته، لا في المسائل الأخرى من الرحم والنَّفقة والعقل ونحو ذلك، فهذه الرضاعة ما تحرم الولادة من جهة النكاح، فيجب على المسلم التزام ذلك، وهو إجماع من أهل العلم، أجمع العلماءُ على ذلك، وتنازعوا في لبن الفحل، والصواب أنه يحرم كلبن المرأة؛ ولهذا قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب، فكما أنَّ النَّسب يتعلق بالفحل وبالمرأة: فعمته كخالته، كلاهما حرام، هكذا عمته من الرضاع وعمته من النَّسب سواء بسواء؛ ولهذا قال لعائشة: ائذني له فإنه عمُّك كما تقدم.

أما حديث أم سلمة وابن عباس وابن مسعودٍ فكلها تدل على أنَّ إرضاع الكبير لا يحرم، وأنه لا رضاعَ إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام، يقال: فطام بالفتح والكسر: فِطام، وفَطام، لا رضاعَ إلا في الحولين. وهكذا حديث ابن مسعودٍ: لا رضاعَ إلا ما أنشز العظم.

يُروى: "أنشز" بالزاي، و"أنشر" بالراء، شدّ العظم بالدال كلها معاني معلومة، يعني: الذي يُؤثر في قوة العظم ونشره وقوته .....، بخلاف إرضاع الكبير؛ فإنَّ الكبير لا يُؤثر فيه الحليب، وإنما يُؤثر به حاجته الأخرى من الطعام والشراب الآخر.

وحديث ابن عباسٍ صحيح، وإن كان رجَّح ابن عدي والدَّارقطني وقفه، ولكن رفعه ثقة وهو الهيثم بن جميل، والقاعدة: أنَّ الثقة إذا رفع يُقدم، هذا هو الأرجح كما تقدم في المصطلح: إذا رفع الحديثَ قومٌ وأرسله آخرون، أو وصله شخصٌ ولم يصله آخر؛ فالحجَّة فيمَن وصل وفيمَن رفع إذا كان ثقةً، ولو كان غير الرافع أوثق؛ لأنها زيادة فتُقبل، وتقدم قول الحافظ العراقي: "واحكم بوصل ثقةٍ في الأظهر".

ما قاله ابن الصلاح رحمه الله عن أئمة الحديث، ذكر الحافظ في "النخبة" قال: "وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق"، فزيادة الراوي الحسن والصحيح مقبولة وحُجَّة، كأنها حديث مستقل.

أما حديث ابن مسعودٍ ففي سنده ضعيف، وقد سكت عنه المؤلفُ، وليست من عادته السكوت عن البيان؛ لأنه من رواية شخصٍ يقال له: أبو موسى الهلالي، عن أبيه، عن ابنٍ لعبدالله بن مسعودٍ، وفي روايةٍ عن ابن مسعودٍ، وهو سند ضعيف عند أهل العلم، رواية ابن مسعود رواية ضعيفة؛ فيها مجاهيل، فالمؤلف سكت عنها، وليست عادته.

فالمقصود أنَّ حديث ابن مسعودٍ يُستشهد به من باب الاستشهاد فقط، ليس هو العمدة، العمدة على حديث أم سلمة وحديث ابن عباس وحديث عائشة: إنما الرضاعة من المجاعة، وما جاء في معناها، وحديث ابن مسعودٍ وإن كان فيه ضعف وجهالة لكنه شاهد لما تقدم.

وحديث عقبة بن الحارث فيه الدلالة على قبول المرأة الواحدة في الرضاع؛ لأنَّ الرسول ﷺ اعتمدها وقال: كيف وقد قيل؟ دعها عنك، ففارقها عقبة، فدلَّ ذلك على أنَّ المرأة الواحدة الثِّقة تُقبل في الرضاع، وهكذا الرجل الثِّقة.

واختلف الناس في هذا: فذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه لا بدَّ من ثقتين من النساء، وذهب آخرون إلى أنه لا بدَّ من أربعٍ، وذهب آخرون إلى أنه لا بدَّ من شهادة رجلٍ.

والأقرب والأظهر والأصح ما دلَّ عليه حديث عقبة؛ لأنَّ هذه أمور تتعلق بالنساء، والغالب أنَّ اطلاع النساء عليها أكثر؛ فلهذا تُقبل فيها المرأة الواحدة، كما تُقبل في أمور النساء التي تقع بينهن، هذا هو المعتمد، وإليه ذهب جمعٌ من أهل العلم؛ احتجاجًا بهذا الحديث: حديث عقبة بن الحارث رحمه الله ورضي عنه، فإذا كانت ثقةً غير متَّهمة قُبلت، سواء كانت هي المرضعة أو غير مرضعةٍ، ..... أو علم الرضاع، والرجل من باب أولى، إذا قُبلت المرأةُ فالرجل من باب أولى إذا شاهد ذلك أو نقله عن ثقةٍ من النساء والرجال.

أما حديث زياد السَّهمي فهو يدل وإن كان مُرسلًا، لكن يُستأنس به في اختيار المرضعة، وأن تكون من النساء الطيبات المعروفات بالاستقامة، المعروفات بالدِّين، المعروفات بالأخلاق الفاضلة؛ لأنَّ اللَّبن قد يُؤثر، قد ذكر الأطباء في هذا أشياء كثيرة.

فالحاصل أنَّ استرضاع الطيبة والمعروفة بالأخلاق الفاضلة وعدم الحماقة أولى، وإن كان لا تقوم به حُجَّة؛ لأنه مرسل، لكن يُستأنس به في اختيار المرأة الصالحة الطيبة الأخلاق.

س: .............؟

ج: كذلك ليس بشرطٍ أن يكون لبنها عن حملٍ، الصحيح ليس بشرطٍ؛ لو أنَّ امرأةً درت وأرضعت صار ولدها، وصار إخوتها أخوالًا، وأبوها جدًّا، وأمها جدةً، هذا هو الصواب: أن الشَّارع ما شرط: لا في الكتاب، ولا في السنة، ليس بشرطٍ أن يكون هناك زوج أو وطء.

س: ..............؟

ج: لا، ما يُؤثر في أقارب الرضيع إلا ذريته فقط، أما إخوانه وأخواته ما يُؤثر، الرضيع وزوجته وأولاده فقط .....

بَابُ النَّفَقَاتِ

1149- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ -امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1150- وَعَنْ طَارِقِ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

1151- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1152- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ .. الْحَدِيث، وتَقَدَّمَ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ.

1153- وَعَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِاللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ الْحَجِّ بِطُولِهِ، قَالَ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ: وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1154- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة تتعلق بالنَّفقة، والنَّفقات جمع نفقة، وهي ما يبذل المؤمنُ في حاجة أهله، وحاجة نفسه، وحاجة أولاده، وضيفه، ونحو ذلك، يقال لها: نفقة، والله جلَّ وعلا قال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً [البقرة:274]، وقال: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [الرعد:22]، فذكر النَّفقة في القرآن كثير، والإنفاق من الزوج على زوجته أمر معلوم مفترض، فلها عليه رزقها وكسوتها بالمعروف، كما ذكر في حجّة الوداع عليه الصلاة والسلام، والمراد هنا ما يتعلق بنفقة الزوجات والأقارب والمماليك من بني آدم ومن الحيوانات.

فعلى المؤمن أن يُنفق على مَن تحت يده من زوجةٍ وأولادٍ قاصرين وعاجزين ومماليك، وغير ذلك مما تحت يده، وللضيف كذلك؛ فإنَّ النفقة فيه واجبة كما هو معلوم، على الوجه الذي حدده الله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام.

والإنفاق في وجوه الخير أمر وراء ذلك، زائد على هذا، فالإنفاق في وجوه الخير مما ندب الله إليه وحثَّ عباده عليه، وأثنى على المنفقين، وأوعدهم الأجر الجزيل، وهذا يعمّ جميع وجوه الخير: كالجهاد، والفقراء، والمحاويج، وسائر الأقارب، والمشاريع الخيرية كلها داخلة في عموم النَّفقة المشروعة التي حثَّ الله عليها، وحثَّ عليها رسولُه عليه الصلاة والسلام.

ومن هذا قوله سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، هذا يعمّ النَّفقة في جميع مشاريع الخير، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، وقال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، في آيات كثيرات، وقال سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

وقال النبي ﷺ: يا ابن آدم، أنفق يُنفق عليك.

والحديث الأول: حديث عائشة في قصة هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والدها من أشراف قريش، ومن رؤسائهم، وهو ممن اشتدت عداوته للنبي ﷺ وأخوه وولده وجماعتهم، وهكذا بنو نوفل، كلاهما ممن اشتدت عداوته للنبي ﷺ، حتى قال فيهم أبو طالب:

جزى الله عنا عبد شمس ونوفل عقوبة شرٍّ عاجل غير آجل

في قصيدته المعروفة اللامية.

وهند هذه من عُقلاء النساء ..... الإنسان من مال غيره ما يستحقه بغير علمه، وهذا نصٌّ في مسألة الزوجة وأولادها؛ لأنَّ حقَّها معروف وظاهر، ليس به خفاء، فأخذها من ماله بغير علمه أمر متيسر وجائز؛ لشدة حاجتها إلى ذلك.

ويجوز للمرأة إذا كان زوجُها لا يُؤدي الواجبَ العُرفي -النفقة- أن تأخذ من ماله ما يكفي لها ولأولادها القاصرين والعاجزين في طعامهم وشرابهم وكسوتهم ونحو ذلك مما تدعو الحاجةُ إليه، من دون إسرافٍ ولا تبذيرٍ، يجب أن تُراعي في ذلك ألا إسراف ولا تبذير، بل قدر الحاجة المعروفة، وليس عليها حرجٌ في ذلك، وإن لم يعلم بهذا النصِّ.

وفيه دليل على أن الفُتيا لا يحتاج فيها إلى إحضار الخصم، فالمفتي إذا سُئل يُفتي بما يقتضيه الشرعُ، ولا يحتاج إلى أن يُحضر أطراف المسألة المتعلقة بالفتوى، بخلاف الحاكم الذي يحكم؛ يحتاج إلى حضور الخصمين حتى يسمع ما لدى هذا وما لدى هذا.

وفيه من الفوائد: أن المستفتي لا بأس أن يذكر ما يكرهه مَن له تعلق بالفتوى، وهذه من المسائل التي أُبيح فيها الغيبة، وأنها لا تكون غيبة للحاجة إلى ذلك، فإنه محتاج إلى أن يُبين أسباب هذا السؤال.

والشَّحيح: هو الذي يحرص ويبخل، الشَّحيح عند لغة العرب هو الذي يجمع بين الأمرين: بين البخل، وبين الحرص؛ ولذلك إذا كان غير ملتزمٍ فقد يحرص بحقٍّ وبغير حقٍّ، وإذا كان مُلتزمًا فهو بخيل وحريص، وإن كان يتقيد بالأمر الشَّرعي في حرصه، لكن الغالب أن الشَّحيح هو الذي يحرص على المال بكل طريقٍ: من حلٍّ وحرمةٍ، ولا يُبالي من شدة حرصه على المال ورغبته فيه، ويبخل بإخراجه في وجوهه.

والبخيل أخص من ذلك؛ فهو الذي يبخل بالمال، لكن ليس عنده الحرص، قد يكون بخيلًا، لكن ما عنده حرص على طلب المال، لكن متى جاء أمسكه، وليس هناك حرص، إنما إمساك، فكل شحيحٍ بخيل، وليس كل بخيلٍ شحيحًا.

ويتعلق بهذا مسائل:

منها مسألة الرقيق إذا لم يقم سيده بالواجب، هل يأخذ من ماله بغير علمه؟ ومسألة الضيف، وهذا مثل الزوجة؛ يجوز أن يأخذ من مال سيده بالمعروف إذا بخل عليه سيده ولم يُعطه حقَّه، والضيف كذلك بنصِّ الرسول ﷺ، كما في حديث عقبة بن عامر: له أن يأخذ؛ لأنَّ حقَّه ظاهر، ولا يُتهم بالسرقة.

وهكذا المغصوب منه المال، إذا كان غصبًا ظاهرًا معروفًا عند الناس له أن يأخذ، إذا استطاع أن يأخذ مقابل ما أُخذ منه فله ذلك؛ لأنه لا يُتهم بالخيانة؛ لأنَّ حقَّه ظاهر.

أما ما سوى ذلك فلا؛ لقوله ﷺ: أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك، إذا كان الأخذ قد يُفضي إلى أن يخون ويُرمى بالسرقة والخيانة فليدع؛ حتى يسلم عرضُه، لكن إذا كان حقه ظاهرًا، وإذا اطلع على أمره لم يُتهم بالباطل مثل هؤلاء الأربعة: الزوجة، والرقيق، والضيف، والمغصوب منه، وصفًا ظاهرًا معروفًا.

وقد يُلحق بهذا صاحب دَينٍ، عنده دَين على إنسانٍ، وعليه بينة، ولكنه يُماطله، أو يجحده، وقد استطاع أن يجد مالًا له؛ يأخذ منه حقَّه، فهذا من جنس هؤلاء إذا كانت عنده بينة، لو خُوصم -لو طُولب- أقام البينةَ الواضحة التي لا يتهم معها بالخيانة أو بالسرقة.

فالمقام مقام خطير إذا كانت الحقوقُ غير ظاهرةٍ، فيجوز إذا ظهر الحقّ فيه ولم يُفضِ إلى تخوين الآخذ وتُهمته بالسرقة أو بالخيانة، وما كان في حقِّه خفيًّا يترك ويطلب حقَّه بالطرق الأخرى.

وفي حديث هند هذا أيضًا: جواز استفتاء المرأة للرجل وتكليمها إياه في حاجاتها: كالرئيس والقاضي والمفتي ونحوهم، وأنه لا حرجَ أن تُكلم الرجال في حاجاتها كلامًا وسطًا، ليس فيه خضوع، وليس فيه شدة، بل كلام عادي، لا حرجَ في ذلك؛ لأنَّ الرسول ﷺ كانت تسأله النساء والصحابة كذلك ولم يُنكروا عليهن.

والحديث الثاني حديث طارق المحاربي: أنه سمع النبيَّ ﷺ وهو يخطب يقول ﷺ: يد المعطي العليا، وابدأ بمَن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك.

هذا يدل على أنَّ يد المعطي هي العليا، وفي الحديث الصَّحيح: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ بمَن تعول، خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومَن يستعفف يُعفه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله خرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه.

هذا الحديث يُفسر لنا اليد العليا، وأنها المعطية، وأنَّ السُّفلى هي الآخذة، ويقال في السفلى أنها السائلة، السائلة والآخذة هي السفلى، والمعطية هي العليا.

في هذا حثٌّ على أن تكون يدك عليا، وأن تكون مُنفقًا ومُحسنًا، لا آخذًا سائلًا مهما أمكن، مهما استطعت.

وفيه الحثُّ على الإحسان إلى الأقارب ومُواساتهم، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم: كالأم والأب، ثم الإخوة، ثم أدناك فأدناك من الأقارب.

وفي هذا المعنى ما رواه مسلم في "الصحيح" أنه قال: يا رسول الله، مَن أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب، فهو في هذا المعنى.

وهكذا الحديث الآخر الصحيح، لما قيل: يا رسول الله، أي الناس أحقّ بحُسن الصُّحبة؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك.

فهذا يُبين لنا أنَّ هؤلاء على هذا الترتيب: أن الأم والأب مقدمان، ثم بعد ذلك بقية الأقارب على حسب القرب، أما الزوجة والرقيق فحقّهما حقّ عوضٍ، حق مقابل، فلا بدَّ من إعطائها حقَّها أو فراقها، إلا أن تسمح بعدم النَّفقة، وهكذا الرقيق: إما أن يُنفق عليه، وإما أن يبيعه أو يعتقه.

وفي هذا المعنى في الحديث الثالث: للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يطيق.

هذا يدل على وجوب النَّفقة على الرقيق، فإما أن يُنفق عليه، وإما أن يخلي سبيله، فله طعامه العُرفي، وله كسوته، ولا يُكلف إلا ما يطيق، فليس له ظلمه وتكليفه بالأعمال التي تشقّ عليه، ولا يستطيعها.

وفي اللفظ الآخر: فإن كلَّفتُموهم فأعينوهم.

والواجب على السيد أن يتَّقي الله في الرقيق والدَّواب، وألا يُكلفها ما تعجز عنه، وإذا كلف الرقيق شيئًا من الحاجات التي يستطيعها فليُعينه، يتعاون معه في ذلك، ويكون هذا من باب التَّواضع والإنصاف والرفق والرحمة، وقد جاء في حديث أبي ذرٍّ الأمر بإطعامه مما يطعم، وإلباسه مما يلبس، وكذا جاء في حديث معاذٍ -الحديث الرابع- في حقِّ المرأة: تُطعمها مما طعمت، وتكسوها مما اكتسيت.

هذا يدل على الأفضل، وأنَّ الأفضل أن يُساوي المملوك به: أن يكون طعامه معه، ولبسه معه، يُلبسه مما يلبس، هذا هو الأفضل والأكمل، ولكن لا يجب؛ ولهذا في الحديث الآخر: إذا أتى أحدُكم خادمه طعامه فليُجلسه معه، فإن لم يفعل فليُناوله لقمةً أو لقمتين، فإنه تولَّى حره ودخانه أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ويدل على أنَّ المقصود طعامه المعروف، وكسوته المعروفة، فإن ساواه به فذلك أكمل وأفضل وأطيب للنفوس، وهكذا الزوجة لها طعامها المعروف، وكسوتها المعروفة، فلو اختصَّ بشيءٍ فوق لباسها، فوق طعامها لجاز، لكن كونه يُساويها بنفسه: بطعامه وشرابه ونحو ذلك يكون هذا هو الأكمل والأفضل والأطيب للنفوس.

وحديث معاوية جيد؛ رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه كما تقدم في العشرة، وعلَّق البخاري بعضه رحمه الله، وصحَّحه ابن حبان والحاكم، وهو حديث جيد يدل على أنَّ من الكمالات: من كمال الأخلاق، ومن كمال المروءة ومن تمامها أن تكون الحالةُ بين الرجل وبين زوجته وأرقائه حالة مستوية: طعامهم واحد، لباسهم واحد، وأكلهم واحد، لا يُفضل نفسه عليهم، هذا هو الكمال والأفضل.

وقوله: "الزوجة" جاء في الرواية بالهاء، وجاء في الرواية الأخرى بعدمها، يقال: زوج وزوجة، والأصح زوج، هذا هو الأفصح، وهكذا جاء القرآن بذلك: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ [الأحزاب:53] في آيات كثيرات فيها ذكر الأزواج، وهي جمع الزوج، ويُطلق على الذكر والأنثى؛ يقال للذكر: زوج، وللأنثى: زوج، وفي لغات أخرى قليلة: زوجة، قال بعضهم هي لغة تميم، وجاء بها هذا الحديث: "ما حقّ زوجة أحدنا عليه"، حديث معاوية القشيري، ويُؤتى بها للفرق؛ لأنه قد يشتبه، في مقام التَّفصيل قد يشتبه، فيُؤتى بها للفرق؛ حتى لا تشتبه العبارة على بعض الناس، فيقال: حق الزوجة، وحق الزوج، للإيضاح.

والحديث الخامس حديث جابرٍ في حجّة الوداع: قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: ولهن عليهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف مثلما تقدم هذا يدل على وجوب إطعامها وسقيها وكسوتها ..... بالمعروف، فالطعام يحتاج إلى إدامٍ، ويحتاج إلى كذا، ويحتاج إلى كذا، والكسوة تحتاج إلى كذا، وتحتاج إلى خياطةٍ، وتحتاج إلى أشياء من النقوش المعتادة، فعليه أن يقوم بالواجب حسب العُرف؛ ولهذا قال: بالمعروف، فالمعروف هذا يفصل كل شيءٍ، ويُبين كل شيءٍ، فكل مقامٍ له مقال، وكل له حالة، فكسوتها في عهد النبي ﷺ شيء، وكسوتها في عهدنا شيء، وهكذا في العهود السابقة بين عهدنا وبين عهد النبيِّ ﷺ، في كل بلدٍ، وفي كل قبيلةٍ لها عرفها، فيُعطيها من الكسوة والطعام في بلدها وفي قبيلتها ما جرى بالعُرف.

ومَن حدد بالمدِّ أو المدين، أو الرطل أو الرطلين فقد أبعد النُّجعة، ولا وجهَ للتحديد، بل الواجب مثلما قال الرسول ﷺ: بالمعروف، مثلما قال الله في القرآن: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، هذا هو الذي ينضبط، هو الذي يستقيم، أما تحديد ذلك بطعامٍ معينٍ، أو أرطال، أو مكيال، فهذا كله لا يتحدد، لا يتحدد بشيءٍ من هذا، وإنما يتحدد بالعُرف في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ بحسب ذلك، فليس عُرفنا في هذا كعُرفهم في المغرب، أو عُرف أهل إندونيسيا، أو في البلاد الأخرى، كل ذلك لهم عُرفهم في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وغير ذلك، فعلى كل إنسانٍ في محله وفي قبيلته وفي بلده أن يقوم بالواجب حسب المعتاد بين أمثاله.

والحديث السادس حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبيَّ ﷺ قال: كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع مَن يقوت، وفي لفظ مسلم: كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمَّن يملك قوته.

هذا يدل على وجوب النَّفقة، وأنه يكفيه في الإثم بخله وحبسه النَّفقة عمَّن يملك إطعامه وإسقاءه، والواجب عليه أن يبذل هذه النَّفقة، سواء كانت لبني آدم: كالزوجة والأقارب والمملوك، أو كانت للبهائم، حقٌّ عليه أن يقوم بالواجب ولا يقصر، ولا يظلم، بل يذكر الذي فوقه وأقوى عليه منه على هؤلاء، وليتَّقِ الله في إعطائهم حقوقهم، سواء كان المنفق عليهم أقارب أو زوجةً أو مملوكًا أو بهائم، عليه أن يتَّقي الله في ذلك، ولا يحبس عنهم قوتهم ونفقتهم بغير حقٍّ.

ولا شكَّ أنه يختلف، كما يختلف في بني آدم يختلف أيضًا في البهائم، فالبهيمة تُعطى ما يُناسبها، وتُعلف بما يُناسبها في بلدها وفي جهتها، فقد تكون في بعض الجهات بعض البهائم تُعطى شيئًا يُناسبها، غير ما تُعطاه في البلدان الأخرى، قد يكون لها علفٌ غير علفها في البلدان الأخرى.

المقصود أنَّ عليه [أن] يقوم بالواجب فيما يتعلق بالبهائم، كما يقوم بالواجب فيما يتعلق ببني آدم، أو يتخلص منها، فالعبد يعتق أو يُباع، والبهيمة تُذبح إن كانت تُؤكل أو تُباع، أما أن يحبسها ويظلمها فليس له ذلك، والله أعلم.

س: ...............؟

ج: ما تعارف عليه الناس في بلدهم، في محلِّهم، ما تعارفوا عليه، إذا كان من عرفهم أنهم يأكلون الأرز لا يُعطيهم ذرةً، إذا كان في عُرف البلد أن طعام هؤلاء الأرز، لا يعرفون الذرة، فيُعطيهم الأرز، وإذا كان في بلدٍ العُرف والمعتاد الذُّرة فيُعطيهم ذرةً .....

س: ...............؟

ج: ما عليه دليل إلا مجرد اجتهادٍ ورأيٍ، وكذلك إذا كان من عاداتهم في لباسهم: يلبسون القطن، أو الحرير، على حسب أحوالهم يُعطيهم مثل ذلك.

س: ................؟

ج: المتعارف هذا، هو بين أهل البلد أو أهل القبيلة.

س: ...............؟

ج: عُرف البادية غير عُرف الحاضرة، وعُرف المغرب غير عُرف المشرق، وهكذا.

س: ...............؟

ج: لا، لا، ما هو المراد ما عرفه الشرع، المقصود المتعارف بين الناس.

س: ...............؟

ج: هذا من الحور العين.

س: ...............؟

ج: كذلك من هذا الباب، من باب حديث معاوية، لكنه قليل، الأغلب زوج.

س: ...............؟

ج: من البيت، بضعة من أبيهم، ما يحتاج هذا، ويأتي فيهم بعض الأحاديث، وذكر ..... حديث هند.

س: ...............؟

ج: مراعاة هذا أولى ..... حسب التيسير، لكن كون الإنسان يُراعي الفقير ويُعطيه ..... هذا أكمل بما تيسر، ويجمع هذا كله النُّقود، إذا تيسرت النقود كفت الفقير .....

س: ...............؟

ج: الأقرب فالأقرب مثلما قال النبيُّ ﷺ: الأقرب فالأقرب، أما تحديد ذلك لا دليلَ عليه.

س: ..............؟

ج: الصواب ما يتعلق بالقرابة، أما ذاك في المضارة ذاك لئلا يُضار بالمولود، يضار أمه، أما مسألة النَّفقة النبي علَّقها بالقرابة ..... كلها علَّقها بالقرابة: الأقرب فالأقرب، أدناك فأدناك، لم يتعرض للعتق ..... لا يضارّ، كما لا يضارّ الزوج لا يضارّ ورثته.

س: ...............؟

ج: أعطِ أمك وأباك.

س: ...............؟

ج: يأخذ على أيديهم، ما يصير عرفًا، العُرف في مخالفة الشرع يُمنع ..... لو كان عُرفهم يأكلون الحمير، ويأكلون الخنازير، ما يُطاعون، لا بدَّ من مراعاة العُرف المتعارف، مع قيد الشرع، إذا تعارفا على شرب الخمر ما يُعطيها خمرًا، تعارفوا على أكل الخنزير ما يُعطيها خنزيرًا، تعارفوا على الإسراف ما يُسرف، على التَّبذير لا، لا بدَّ من عُرف مُقيد بالشَّرع.

س: ..............؟

ج: إلى آخر الدنيا، الأقرب فالأقرب حتى العاشر من أولادك، والعاشر من بني أخيك، والعاشر من بني خالك، وهكذا، والحادي عشر، والخامس عشر .....

س: ...............؟

ج: لا، ما له أصل، ما له أصل، لا يُساوي زوجته بأولاده، ولا أولاده بزوجته، هذا له حقّ، وهذا له حقّ .....، فالأولاد لهم حقوق، والمرأة لها حقوق، فلولده الحقّ المتعارف، ولزوجه الحقّ المتعارف، لكن بعض الأمهات تغار ولا ترضى أنَّ الزوجة تُعطى شيئًا، فإذا جاملها وأحسن إليها ورفق بها يكون أولى؛ حتى لا يقع شقاقٌ أو نفرةٌ أو عقوقٌ.

س: ..............؟

ج: التَّشبه لا يجوز، التَّشبه مثلما تقدم، لا بدَّ من مراعاة قيد الشَّرع.

1155- وَعَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ، فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا قَالَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ: الْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ.

1156- وَثَبَتَ نَفْيُ النَّفَقَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1157- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَيَبْدَأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَطْعِمْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

1158- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ.

1159- وَعَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ: أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا. أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

1160- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ. أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ.

1161- وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تتعلق بالنَّفقة:

الأول منها حديث جابرٍ في نفقة المتوفَّى عنها، وأنه لا نفقةَ لها وإن كانت حاملًا، ليس لها نفقةٌ في مال الزوج .....، وذلك لأمرين:

أحدهما: أنها بينونة كبرى كالطلاق الذي هو آخر الثلاث؛ ولهذا ذكر المؤلفُ حديثَ فاطمة بنت قيس بعد ذلك، والمعنى أنه إذا كانت البائنةُ في الحياة ليس لها شيء، فالبائنة في الموت من باب أولى أن ليس لها شيء؛ لأنها فرقة ليس بعدها رجعة، فأشبهت الفرقة البائنة.

والأمر الثاني: أن المال انتقل عن الزوج، ما بقي له مال يُنفق منه، صار للورثة، قد وقعت فيه السِّهام، وهي من جملتهم لها سهمها، فنفقتها في سهمها، لا على زوجها، ونفقة الحامل في سهمها.

فالحاصل أنَّ الحديث هذا يُؤيد ما يظهر من المعنى، وما تقتضيه الأصول من عدم النَّفقة، فهو مؤيد لما تقتضيه الأصول والقواعد من عدم النَّفقة ممن فارقها زوجها فرقة بائنة، وهي بالمطلقة البائن أشبه؛ ولهذا ذكر المؤلفُ حديثَ فاطمة كما تقدم، الذي يلي هذا، وهذا هو المعتمد، وليس هناك وجه واضح ممن قال بأنها .....

والحديث الثاني حديث أبي هريرة: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، ويبدأ أحدُكم بمَن يعول، تقول المرأةُ: أطعمني أو طلِّقني.

تقدم ما يتعلق باليد العُليا، وأنها المنفقة المعطية، وأن السُّفلى هي الآخذة، هي السائلة، وأنه ينبغي للمؤمن أن تكون يده عليا، وأن يحرص أن يكون مُعطيًا ومُنفقًا ومُحسنًا، لا سائلًا، ولا آخذًا مهما استطاع، وتقدم في حديث طارق المحاربي وغيره، وحديث حكيم بن حزام الإشارة إلى ذلك.

أما قوله: تقول المرأةُ: أطعمني أو طلِّقني فالمعنى أنَّ نفقتها مُتعينة؛ لأنها في حسابه، وقد أخذها ليقوم عليها، وليكفها المؤنة، ويُنفق، فإذا لم يُطعمها وجب طلاقها؛ ولهذا قال ﷺ: لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف كما تقدم.

فينبغي للمؤمن أن تكون يده عليا في الأقربين أكثر، إن كانت اليد العليا مطلوبةً في كل شيءٍ: مع الأقارب، ومع غيرهم، فكونها عليا بالنسبة إلى الزوجة والأولاد من باب أولى: أن يُنفق، ويُحسن عليهم؛ لأنَّ الزوجة ليس لها إلا الله ثم زوجها، فإما أن يُنفق، وإما أن يُفارق، وهكذا أولاده القاصرون، وهكذا مَن يعول من أيتامٍ أو خدمٍ أو نحو ذلك، فالبداءة بهم أولى؛ لأنهم في عياله، وفي نفقته، وهو مسؤول عنهم قبل غيرهم، فيبدأ بهم؛ ولهذا قال: ويبدأ أحدُكم بمَن يعول» أي: بمَن يُنفق عليهم ..... ممن يكون في عياله فهو أولى من البعيدين.

وهذا جاء في عدة أحاديث، ومنها ما جاء في حديث حكيم في "الصحيحين": اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ بمَن تعول، وخير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنًى.

المقصود أنَّ بداءة الإنسان بمَن يعولهم هذا أمر مسلم وواجب أن يُقدمهم على غيرهم، ويدخل في ذلك الزوجة، والوالدان إذا كانا عاجزين، والأولاد القاصرون، والخدم الذين تحت يده، والأيتام الذين تحت يده، وأشباههم ممن يعولهم، فإذا كانت لهم أموال صاروا ليسوا بعيالٍ له، أو ليسوا بعيالٍ، بل يكون بالإمكان أن يُنفق عليهم من أموالهم.

وأما كون المرأة تقول: أطعمني أو طلِّقني، فهذا قد يقع، فإذا وقع فهو حقٌّ، ولكن قد لا تقول ذلك، قد ترضى بالحاجة والصبر عليها، كما فعل الأنصارُ وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ صبروا مع أزواجهم في عهد الشدة، ولم يطلبوا الطلاق، وهكذا المهاجرون.

المقصود أنَّ هذا وصف لها حيث أرادت ذلك، حيث احتاجت إلى ذلك، وإلا فليس كل امرأةٍ تقول ذلك، إنما المعنى أنَّ لها أن تقول هذا الشيء، بإمكانها أن تقول هذا الشيء، وقد قالها منهن مَن قال، لكن قد لا تقول ذلك كما هو الواقع من حال الكثير من التَّقيات والخيرات والتي ترغب في زوجها، قد يكون عنده عسر وشدة وعجز، ومع هذا تصبر ولا تقول هذا الكلام؛ لحبها له، أو لإيمانها وتقواها، أو لأسبابٍ أخرى.

وحديث سعيد بن المسيب يُؤيد ذلك؛ فإنه قال في الرجل، لما سُئل عن الرجل لا يُنفق على أهله قال: "يُفرَّق بينهما" يعني عند الطلب، عند طلبها، وسُئل عن هذا فقال: "سنة"، وهذا معناه المرسل؛ لأنَّ سعيدًا تابعي كبير، ومراسيله مُعتمدة عند أهل العلم؛ لأنها فتشت ووجدت مسانيد مرفوعة إلى النبيِّ ﷺ، والقاعدة: إذا قال التابعي: سنة، فالمراد سنة الرسول ﷺ، كما لو قالها الصَّحابي، إلا أن تُعرف له عادة يُصار إليها، وإلا فالأصل إذا قال التابعي: سنة، فالمراد سنة الرسول ﷺ؛ لأنَّ السائل إنما يسأل عن سنة الرسول ﷺ، لا عن غيره، فيكون مرسلًا، وإن قاله الصَّحابي كان مُتَّصلًا.

فأثر سعيدٍ هذا وحديث أبي هريرة والقواعد المعروفة مع حديث جابرٍ المتقدم، كلها تدل على أنَّ المرأة إذا طلبت ذلك لها ذلك، وإن صبرت على ما أصاب زوجها من الشدة والحاجة فهو أفضل لها، إذا كان زوجُها ممن يُرضى، وهو أفضل لها، وخيرٌ لها، وإن طلبت فلها ذلك، فالحاكم يُفرِّق بينهما عند الطلب، وعند عدم الطلب لا حاجةَ إلى ذلك.

والحديث الرابع حديث عمر: أنه بعث إلى أمراء الأجناد في الذين غابوا عن نسائهم بأن يُنفقوا أو يُطلِّقوا، فإن طلَّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا.

هذا من العدل، ومن العناية من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهو حقّ؛ فإنَّ الزوجات محبوسات على أزواجهن، وهم قبضوهنَّ بأمانة الله، واستحلوا فروجهن بكلمة الله، فحقُّهن واجب، فإما أن يُطلِّقوا، وإما أن يُنفقوا، وهذا عند الطلب ..... لما طلبت الأزواج النَّفقة، فإذا كانت المرأةُ لا تطلب النَّفقة، ولا تُطالب بالطلاق، فلا يلزم ذلك، إنما هذا عند الطلب، وعند الرغبة، ومتى طلَّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا؛ لأنَّ حقَّها لازم، ومعاوضة، فوجب دفع النَّفقة الماضية، بخلاف الأقارب؛ فإنَّ ما مضى لا يُطالب به.

المقصود سدّ الفاقة، سدّ الحاجة، فيُنفق على أقاربه، وعلى أرحامه، يسدّ الحاجةَ، فما مضى من الأوقات التي سدَّدوا فيها أنفسهم ..... وحصل لهم ما يكفيهم لا يُطالب وليهم، اللهم إلا أن تكون هناك أسباب: كأن يكون ما طالب بالنَّفقة حتى احتاجوا إلى أن يستدينوا، أو احتاجوا إلى أن يقوم عليهم بعضُ الناس بأمر القاضي، أو بأمر ولي الأمر ليحسب النَّفقة، ويرجع بها، هذا شيء آخر لا مانعَ منه إذا كانت هناك أسباب تقتضي الرجوع على قريبهم الغني: كأن يُنفق عليهم وليُّ الأمر قرضًا، أو القاضي قرضًا، أو مُحتسب قرضًا ليأخذ لهم من عائلهم، فالقواعد تقتضي ذلك، وهذا حقٌّ؛ لأنه فرَّط وقصَّر فيُؤخذ بما عليه.

أما إن كان هناك ما تسدّ به حاجتهم، ووجدوا ما يسدّ حاجتهم، فإن الأمر قد يكون قد مضى، ولا يُطالب بما مضى، إلا أن تكون له أسباب كما تقدم.

وهذا يدل على أنَّ ولي الأمر له أن يأخذ حقَّ الضُّعفاء، وأن الواجبَ عليه أن يُجيب طلب الضَّعيف: من زوجةٍ، أو رقيقٍ، أو قريبٍ، وألا يُهمل ذلك، فقد تكون الزوجةُ ليس لها مَن يقوم لها، فولي الأمر يقوم مقامها ومقام أوليائها، قد يكون الرقيقُ كذلك ليس له القُدرة على أن يأخذ حقَّه، وهكذا الأقرباء والضُّعفاء، فولي الأمر يقوم بذلك ويأخذ لهم حقَّهم، ويُلزم مَن عليه النَّفقة بذلك؛ حتى لا تضيع الحقوق، وحتى لا تقع الظلامة لهؤلاء الضُّعفاء.

وحديث أبي هريرة في الرجل الذي قال: يا رسول الله، عندي دينار .. إلى آخره. جاء في عدة روايات، في إحداها قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: تصدق به على أهلك، قال: عندي آخر؟ قال: على خادمك، قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم به.

وفي اللفظ الثاني: تصدق به على نفسك، ثم ذكر الزوجةَ، ثم الولد، ثم قال: أنت أعلم.

وفي "صحيح مسلم" عن جابرٍ : أن رجلًا قال: يا رسول الله، عندي كذا؟ فقال: ابدأ بنفسك تصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا، بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك.

هذه الرواية التي عند مسلم تُؤيد رواية النَّسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد، هنا قال: ابدأ بنفسك تصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا، وحديث بهز الذي بعده يدل على عظم حقِّ الأم والأب، وأنَّ الأم مُقدَّمة.

وحاصل هذه الروايات تدل على أنَّ الإنسان يبدأ بنفسه كما تقدم، في الرواية الأخرى: ابدأ بنفسك، ثم بمَن تعول، يبدأ بنفسه، ثم بمَن يعول، ويبدأ بالزوجة؛ لأنها شبه المستأجرة، وحقّ متأكد عليه، فيجب عليه أن يبدأ بها، وأن يُنفق عليها أو يُطلقها، فيبدأ بأهله: زوجته، ثم بعد ذلك قراباته: الأم والأب والأولاد، ثم مَن وراءهم: كالأخوات وبقية الأقارب، كما تقدم في حديث طارق: أمك وأباك، وأختك وأخاك، وفي حديث بهز: ثم الأقرب فالأقرب.

فالمؤمن ينظر فيمَن تحت يده فيبدأ بهم: من زوجةٍ وأولادٍ قاصرين وأمٍّ وأبٍ ونحو ذلك ممن تحت يده، ثم ..... على مَن وراء ذلك من القرابات.

والصواب في هذا أنه يبدأ بنفسه قبل كل أحدٍ، ثم مَن يعولهم من زوجات وأرقاء، ثم بعد ذلك القرابات: أمه وأبوه وأولاده، ثم مَن وراءهم، هذا هو الأظهر في الأدلة؛ ولأنَّ الزوجة والرقيق في الغالب ليس لهم مَن يقوم عليهم سواه، حقّهم مُتحتم عليه كحقِّ الأجير، فبُدئ بهم، ثم القرابات بعد ذلك؛ لأنها مُواساة، فالقرابة مواساة، إن فضل شيءٌ أُعطوا، الأقرب فالأقرب: كالأم ثم الأب والأولاد بعد ذلك.

وفي الحديث الصحيح ما يُؤيد حديث بهز بن حكيم في البخاري أو في "الصحيحين" جميعًا: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أي الناس أحقّ بحُسن الصحبة؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك، هذا يُؤيد ما في رواية بهز وما جاء في معناها.

س: ..............؟

ج: هذا محتمل؛ لأنَّ الرسول قال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجله، والمعروف عند العلماء أنَّ عليها السُّكنى فقط، أنَّ عليها السُّكنى حيث تيسرت، ولم يأمر النبيُّ ﷺ المرأة أن يُسكنوها، وإنما قال: امكثي في بيتك، فعليها السُّكنى إذا تيسر ذلك، أما أن يُلزم الورثة بأن يستأجروا بيتًا لها فالظاهر ليس في النصِّ ما يُوضح ذلك، لكن البيت الذي وراءه، إذا كان وراءه بيتٌ لها حقُّ السُّكنى فيه؛ لأنَّ الرسول أمرها بالسُّكنى عليه الصَّلاة والسلام.

س: ...............؟

ج: يكون مُستثنًى من الإرث، يكون هذا الحقّ وهذه المنفعة مُستثناة إلى أن تقضي العدة أو تضع الحمل.

س: ...............؟

ج: نعم، لا نفقةَ ولا سُكنى، أما هذا حقّ خاصٌّ فيمَن ..... لأهله أو نسله؛ حفظًا لها.

س: ...............؟

ج: من ماله نعم، فإن لم يكن له نصيبٌ فعلى قرابته، لو كان ما هناك مال، ما هناك ورث، فعلى قرابته.

س: ...............؟

ج: لهم الحقّ، لهم حقّ أن يُطالبوه.

س: ...............؟

ج: ما نعرف مدةً، يختلف بحسب الأحوال: قد تكون المدةُ طويلةً، يحتاج مثلًا في جهادٍ أو في رباطٍ، لا يتيسر نقله .....، قد يكون في طلب العلم، وقد يكون في طلب الرزق، ولا يتيسر له المجيء، عمر ضرب لهم ستة أشهر في المشهور عنه؛ اجتهادًا منه رضي الله عنه وأرضاه، وهذا حيث تيسر ذلك، فولي الأمر يرفق بهم، ويجعل لهم ستة أشهر، ولكن قد تكون الحاجةُ تدعو إلى مجيئه قبل ذلك، قد تكون زوجته على خطرٍ، فلا ينبغي أن ينقطع عنها ستة أشهر، فيطلب منه ألا يغيب عنها مدةً تشقّ عليها وتُسبب الخطر عليها في عِرضها.

المقصود أنَّ هذا يختلف بحسب الأحوال: قد تكون البلاد آمنةً، وقد تكون الزوجةُ عند أهلها مأمونةً، قد أمن عليها، قد تكون على خطرٍ في بيتٍ ما عندها أحدٌ، قد تكون في بلادٍ فيها الشر الكثير، المقصود يتخلَّف هذا، فينبغي للزوج أن يُلاحظ هذا، وألا يغيب غيبةً يُخشى منها الخطر على زوجته حتى يُؤمنها، أو يكون عمله عندها في بلدها التي هي فيه؛ حتى لا يقع الخطر.

..............