بَابُ الْقَسْمِ
1066- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَلَكِنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَه.
1067- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
1068- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
1069- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1070- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذا الباب في القسم بين النساء، وهو واجب لأجل العدل؛ لأنَّ الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الأزواج، والقسم بينهن بالسوية هو طريق العدل.
واختلف العلماء: هل ذلك واجب عليه ﷺ، وفعله لأنه واجب، أم غير واجب، ولكن فعله من باب حُسن العشرة، وطيب العشرة؛ وليتأسَّى به غيره؛ لقوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]؟
فمَن قال: إنه ليس بواجبٍ، احتجَّ بقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ الآية [الأحزاب:51].
وبكل حالٍ فقد قسم وعدل عليه الصلاة والسلام، وفيه أسوة، وإذا كان غير واجبٍ عليه، بل واجب على غيره لإقامة العدل.
وفي هذا الباب عدة أحاديث، منها حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يقسم بين النساء فيعدل، ثم يقول: اللهم إنَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
هذا الحديث لا بأس به، خرجه أهلُ السنن بإسنادٍ جيدٍ، وقد وصله حماد بن سلمة رحمه الله، وأرسله حماد بن زيد، ووقع في الشرح أن ابن يزيد هو حماد بن زيد، وحماد بن زيد أكبر في الثقة عند الأئمة من حماد بن سلمة في الحفظ، ولكن القاعدة: أنَّ الثقة إذا وصل وأرسل غيره فإنه يُقبل قول الثقة في الوصل، ويكون إرسال غيره لا يضرّه، فالطريقان يؤُكد أحدهما الآخر، والقاعدة: الأخذ بالزيادة من الثقة.
وهو دليل على وجوب العدل في القسم بين النساء، وأنَّ هذا طريق العشرة بالمعروف، وطريق التأليف بين قلوبهن، وجمعهن على دورهن.
وقوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك لما ذكره الترمذي قال بعدها: الحبُّ والمودة. ولما ذكره أبو داود قال: يعني القلب. ولما ذكره أبو سعدٍ قال: الحبّ. وهو كما قالوا؛ فإن المراد: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ما يتعلق بالقلوب؛ لأنَّ المحبة والمودة شيء في القلوب لا يستطيع الزوجُ أن يُسوي بينهن فيه، فله أسباب: من تحبب المرأة إلى زوجها، ومن دينها وعنايتها، ومن شبابها، ومن غير ذلك من الأسباب التي تُرجح إحدى الزوجات على الأخرى، فهذا لا يملكه العبد، وإنما يملك القسم بينهن بالسوية في الليل والنهار، في النفقة وإحسان العشرة وطيب الكلام، أما الشيء الذي يتعلق بالقلب والشهوة فهذا لا يملكه؛ لأنَّ الشهوة ليست بيده، قد تميل نفسه إلى واحدةٍ من جهة حبِّه لها، وتحببها إليه، فيُجامعها، وقد لا يحصل من الأخرى ذلك، فلا يحصل شيء مما يتعلق بالشهوة.
فالحب وما ينتج عنه من الجماع ونحوه من مقدمات الجماع شيء لا يملكه الإنسان، بخلاف النفقة وقسم الليل والنهار ونحو ذلك، فهذا بيده.
والحديث الثاني حديث أبي هريرة: مَن كان له امرأتان ومال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل هذا فيه الحثّ على العدل، وأنَّ الميل الذي يستطيعه الإنسانُ لا يجوز، أما الشيء الذي ليس باختياره، وليس من طوقه، فالله جلَّ وعلا يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول سبحانه: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129]، فالمستطاع هو المطلوب، وغير المستطاع معفو عنه.
وفيه الوعيد لمن تعمد الجور والظلم، وأنَّ ذلك من أسباب العقوبة يوم القيامة: بأنه يجيء وشقّه مائل عقوبةً ظاهرةً، نسأل الله العافية.
والحديث الثالث أنس، الرابع حديث أم سلمة في القسم بين الأبكار والثَّيبات، بيَّن الحديثان أنَّ الرجل إذا تزوج امرأةً بكرًا وعنده ضرائر قسم لها سبعًا، وإن تزوج ثيبًا قسم لها ثلاثًا، هذا هو السنة.
وقوله: "من السنة" يعني سنة الرسول ﷺ كما هو معلوم عند أهل المصطلح، وهذا هو الواجب على الزوج فيما إذا استجدَّ زوجةً ومعه غيرها، فإن كانت بكرًا قسم لها سبعًا، ثم سوَّى بين نسائه ..... بينهن، وإن كانت ثيبًا أعطاها ثلاثًا ثم قسم بينهن، ويُشرع أن يُخيرها -يعني الثَّيب- كما في حديث أم سلمة، فإن أحبَّت السبعَ سبَّع لها، ثم سبَّع لهن، وإن اكتفت بثلاثٍ عدل بينهنَّ، وقسم لكل واحدةٍ ليلة كالمتبع.
وقوله: ليس بك على أهلك هوان قال الشُّراح: أهلك يعني نفسه، يعني: ليس عندي لك هوان، أو ليس لك عندي هوان، جعل نفسه أهلها؛ لأنه أهلها عليه الصلاة والسلام، وهي أهله، فكل منهما يتأهل بالآخر، ويستر الآخر.
ويحتمل من حيث المعنى -وإن لم أقف عليه لأحدٍ- أن المراد يعني: لست بمَن يستهان بأهله، أو أهلك ليس لهم حُرمة حتى أفعل هذا، بل أهلها مُحترمون معروفون، من بني مخزوم، معروفون، من رُفعاء قريش، ومن كبار قريش.
والأول أظهر ما دام هو الذي فهمه الشُّراح، وأيضًا هو ألصق بالمعنى، فالمعنى أنه ليس بك عندي هوان، ولكن هذه هي السنة في هذا المقام: بأن الثَّيب لا يبقى إلا ثلاثًا، وأم سلمة من خيرة النساء، ومن أفاضل النساء رضي الله عنها، ومن خير أمهات المؤمنين، وكانت تحت أبي سلمة، أحد المهاجرين السَّابقين رضي الله عنه وأرضاه، وابنها عمر بن أبي سلمة الذي قال له النبيُّ كما تقدم: سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك، وقد تأخَّرت حياتها، فلم تمت إلا بعد الستين سنة، اثنتين وستين، أو بعد وقعة الحرة، المقصود أنها طالت حياتها، وتأخَّرت بعد الستين، أما عائشة فماتت قبلها، سنة سبعٍ وخمسين أو ثمانٍ وخمسين رضي الله عن الجميع.
وفي هذا بيان أحكامٍ للنساء؛ حتى لا يقع منهن شيء، وإذا صار هناك شيء واجب بيَّنه للمرأة؛ حتى لا تظنّ أنه ظلمها، يُبين لها أحكام العشرة، وأحكام القسم إن كان عنده ضرائر؛ حتى تعرف حكم الله في ذلك، وحتى لا يُتهم بشيءٍ من الجور وهو بريء منه.
وفيه حُسن خلقه ﷺ، ومُلاطفته لأزواجه، وتحدثه إليهن بما يدعهن في لينهن، ويكن به معلمات ومُوجهات للنساء بعد ذلك.
والحديث الخامس: حديث عائشة في قصة سودة، سودة رضي الله عنها تزوَّجها النبيُّ في مكة بعد خديجة، وقبل عائشة، وطالت حياتها معه رضي الله عنها، فلما أسنت وفرقت أن يُطلقها قالت: يا رسول الله، يومي لعائشة. هكذا رواه أبو داود عن عائشة بإسنادٍ جيدٍ: أن سودة لما أسنت وفرقت أن يُفارقها قالت: يا رسول الله، يومي لعائشة. فرضي النبيُّ وقبله، وصار يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
وفيه الدلالة على أنَّه لا بأس أن تتنازل المرأةُ عن يومها لإحدى ضرائرها إذا رضي الزوجُ بذلك، فيكون لضرة المرهوبة يومان، وللبقية يوم؛ لفعل سودة ورضى النبي ﷺ وتنفيذه ذلك، والله أعلم.
.............
1071- وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيت عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
1072- وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ. الْحَدِيثَ.
1073- وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1074- وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1075- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُم امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة تتعلق أيضًا بالقسمة بين النساء وإحسان العِشرة.
الحديث الأول: حديث عروة، عن عائشة، عروة هو ابن الزبير بن العوام الأسدي، ابن أختها أسماء، تقول عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان يطوف على نسائه في كل عصرٍ، فيدنو من كل امرأةٍ من غير مسيسٍ، حتى يبلغ التي هي يومها فيبيت عندها. وهكذا رواية مسلم.
هذا يدل على حُسن عشرته ﷺ، وعنايته بأزواجه، وكان أحسن الناس في كل أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وألطف الناس بأهله، وخير الناس لأهله، كان يطوف عليهن كل عصرٍ حتى يتفقد أحوالهن، وينظر إلى مطالبهن وحاجاتهن، إلى غير هذا مما في ذلك من إحسان العشرة وطيب العشرة، فربما يكون لواحدةٍ حاجة، ربما يحدث فيها شيء -مرض- أو غير ذلك، فكان يطوف بهن كل عصرٍ عليه الصلاة والسلام، فيدنو من كل امرأةٍ من غير مسيسٍ.
قال الشارحُ: يعني من غير وقاعٍ. وذكر له رواية، لكن لم أقف على هذه الرواية، ولم يعزها، وعند مراجعة أبي داود لم يذكر الوقاع، قال: من غير مسيسٍ. وأما رواية مسلم فلم أجدها أيضًا في باب قسمة النساء في مسألة القسم، ولعله ذكرها في مكانٍ آخر، وقد راجعتُها في النكاح وما وجدتُها، ولعل أحدًا منكم يطلبها: رواية مسلم.
والأقرب ما قاله الشارحُ، وأن المراد بالمسيس يعني: الوقاع؛ لأنَّ الله يُعبر عنه كثيرًا في القرآن، كما في قوله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، أما كونه يتصل بها من غير وقاعٍ: كتقبيلٍ، أو ملامسةٍ، أو راحةٍ عندها، اضطجاع، أو غير ذلك لا يضرّ، إنما كان يدع الجماعَ عليه الصلاة والسلام، وربما طاف بهن وجامع كما في حديث أنسٍ المتقدم، وطاف عليهن بغسلٍ واحدٍ، ولعلَّ هذا ليس بكثيرٍ، لعله نادر؛ جمعًا بين رواية عائشة ورواية أنسٍ؛ رواية عائشة ذكرت: من غير مسيسٍ. وأنس ذكر المسيس، وأبو رافع كذلك، والمثبت مُقدَّم على النافي، فلعله في الغالب يطوف عليهن من غير مسيسٍ، من غير جماعٍ، وربما جامع عليه الصلاة والسلام.
وهذا دليل على جواز أن يفعله الرجلُ مع زوجاته الأربع، أو الثلاث، أو الثنتين، وليس خاصًّا بالنبي ﷺكما زعم ابن العربي، لا، بل يتأسَّى به .....، فإذا أراد صاحبُ الأربع أو الثلاث أو الثنتين أن يفعل هذا فهذا من السنة والعشرة الطيبة، ومن الخلق الكريم.
وفي حديث أنسٍ عند مسلم قال : إنهن كن يجتمعن عند صاحبة الليلة، مع أزواج النبي ﷺ يجتمعن كل ليلةٍ عند صاحبة الليلة، يعرفون صاحبةَ الليلة فيجتمعن عندها، كأنهن أردن بهذا السلام عليه عليه الصلاة والسلام، والاجتماع به، والاستفادة منه، ونصائحه، وتوجيهاته عليه الصلاة والسلام.
وهذا أيضًا من آدابهن، ومن حُسن عشرتهن، ولعلَّ هذا كان بتوجيهٍ منه، وأمرٍ منه عليه الصلاة والسلام، فكن يجتمعن كل ليلةٍ عند مَن لها الليلة، وهذا علاوة على طوافه عليهن، يطوف عليهن كل عصرٍ، ومع ذلك يجتمعن عند صاحبة الليل، وذلك مما يُؤلف بين القلوب، فإن اجتماعهن عند صاحبة الليلة يكسبهنَّ تعارفًا وتواصلًا وتآلفًا وابتعادًا عن الوحشة، فإنَّ بين الضرات وحشة، واجتماعهن عند صاحبة الليل كل ليلةٍ مما يُسبب التَّآلف والتَّقارب والراحة له ﷺ مما قد يقع بينهن من نزاعٍ، هذا كله حسنٌ، وكله طيب.
والحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها لما مرض النبيُّ ﷺ كان يسأل: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ كأنه بسبب شدة المرض ينسى الدور فيسأل حتى يعرف صاحبةَ الليلة فيأتيها، والمرض اشتدَّ به ﷺ كثيرًا نحو اثني عشر يومًا.
والمرض لا شكَّ أنه يشغل الإنسان، ويُضعف الذاكرة؛ فلهذا كان يسأل: أين أنا غدًا؟ حتى يُعطي كل صاحبة حقٍّ حقَّها، ثم استأذن أزواجَه أن يكون عند عائشة فأذن له.
هذا يدل على أنَّ المريض يقسم بين النساء ولو أنه مريض، ولو يُحْمَل؛ حتى يُؤدي لكل واحدةٍ حقّها، فإذا ثقل وعجز لم يذكر هنا ماذا فعل؟ لكن يُستفاد من الحديث الثاني: كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمُها خرج بها معه، هذا مثل ذلك، إذا اشتد به المرضُ وثقل عن الدوران فبالإمكان الإقراع: أن يُقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمُها صار عندها، كالمسافر، إلا أن يأذنَّ من دون قرعةٍ فلا بأس، فإذا أراد سفرًا أو نزل به مرضٌ يمنعه من القسم فإنه يُقرع بينهن، إلا أن يسمحن، فإذا أذن وقلن: نسمح أن تكون عند فلانة. فلا بأس، وإن لم يأذن في سفر إحداهن أو بمكثه عند إحداهن بسبب المرض أقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها سافر بها، وقام عندها في المرض.
وهذا من العدل، ومما يُطيب النفوس، فإنَّ اختيار واحدةٍ منهن يجعل في نفوس الباقيات شيئًا من الحزن، لكن متى صار بالقرعة ذهب ذلك، وهذا من سماحة هذه الشريعة، ومن كمالها، ومن حُسن العشرة التي شرع الله جلَّ وعلا.
والحديث الرابع حديث عبدالله بن زمعة: أنَّ النبي ﷺ نهى أن تُجلد المرأةُ جلد العبد: لا يجلد أحدُكم امرأته جلد العبد، وهذا أيضًا من كمال الشريعة؛ فإنَّ المرأة هي سكنه وأم أولاده، فلا يليق أن يضربها ضرب الخادم، وضرب الدابة، أو يضربها ضرب الفحل، ولكن يُحسن إليها، ويلطف بها، ويتباعد عن ضربها مهما أمكن، والضرب يكون آخر الطب؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا جعله آخره قال: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فالوعظ والهجر مقدم، فإذا لم يتيسر نفعهما والاكتفاء بهما ضربها ضربًا خفيفًا، ليس مثل ضرب الجارية وضرب العبد والدابة، لا.
وهكذا جاء في رواية مسلم عن عبدالله بن زمعة، فإنه خرَّجه مسلم أيضًا في حديثٍ طويلٍ قال فيه: وإنما يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، ويضربها جلد العبد.
فعلى هذا يكون الحديثُ أخرجه الشيخان، لكن هنا قال: لا يجلد، وفي رواية مسلم: وإنما يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، وفي روايةٍ أخرى عند مسلم: جلد الأمة.
وهذا كله يُبين لنا أنَّ الذي ينبغي للزوج أن تكون حالته مع زوجاته حالةً رقيقةً طيبةً، بعيدةً عن الشدة على الزوجة، بعيدةً عن أسباب الوحشة والبغضاء وسُوء العشرة، فإنَّ هذا يُسبب الفراق والطلاق، لكن مع الرفق والحكمة وترك الضرب والاكتفاء بالوعظ والهجر عند الحاجة إليه، هذا هو الأولى في حقِّ المؤمن؛ حتى تبقى المودة، وتبقى العشرة، فإذا اضطر إلى ذلك فيكون ضربًا خفيفًا، كما قال الله: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، والله أعلم.
................
بَابُ الْخُلْعِ
1076- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَت النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا.
1077- وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عِدَّتَهَا حَيْضَةً.
1078- وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ: لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَسَقْتُ فِي وَجْهِهِ.
1079- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ.
الشيخ: هذا الباب في الخلع، هو بالضم هو الاسم، ومعناه: الاختلاع، اختلاع المرأة من زوجها بمالٍ تدفعه إليه ليُفارقها، وبالفتح المصدر، مصدر: خلع يخلع خلعًا، قطع يقطع قطعًا، ونحو ذلك.
والخلع هو الافتداء، وهو من رحمة الله ، ومن إحسانه إلى عباده، فإنَّ الزوجين قد لا يتَّفقان، قد تسوء الحال بينهما من جهة المرأة، فجعل الله لها حيلةً من الاختلاع؛ حتى يُغني الله كلًّا من سعته: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، فشرع الاختلاع عند سوء الحال؛ بكون المرأة لم يحصل لها معه وئام لأسبابٍ، ويُشرع حينئذٍ الاختلاع؛ حتى لا تُعذَّب به، ولا يُعذَّب بها، وقد بيَّن الله هذا في قوله سبحانه: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، هذا هو الخلع، إذا خافا ألا يقوما بالواجب فلا بأس بالافتداء؛ حتى تتخلص منه، ويتخلص منها.
والمشهور عند العلماء أنه ليس بخارجٍ عن الطلقات الثلاث، وأنه واحد منها، وأنه يكون بلفظ "الخلع"، وقد يكون كنايةً، ويكون بصريح الطلاق كما في حديث ثابت.
وقال قومٌ: إنه نوع مستقلّ، وأنه فسخ، ولا دخلَ له بالطلاق، وهذا هو المروي عن ابن عباسٍ وجماعة، وأنه متى خالعها ولم يقصد الطلاقَ، وإنما قصد الخلع فقط، فإنه يُحتسب خلعًا، لا ينقصها عن الطلاق الثلاث، وفي النفس منه شيء.
والأظهر ما قاله الجمهور في هذا، وأنه نوع من الطلاق بلفظ الخلع والفداء؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في حديث ابن عباسٍ هذا: وطلِّقها تطليقةً، والأصل في هذا قصة ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، فإنه كان بينه وبين زوجته جميلة بنت عبدالله بن أبي بن سلول وحشة، ولم يقدر أنها تحبّه، فطلبت من النبي ﷺ مُفارقته، قالت: إني أكره الكفر في الإسلام. والمعنى والله أعلم: أنها تكره أعمال الكفر، أعمال الجاهلية من النُّشوز والإيذاء ونحو ذلك. أو المعنى: أنها تكره أن تقع في الكفر بعدما هداها الله للإسلام. والأول أظهر، والمراد بذلك يعني: كفر العشير والإيذاء، وعدم القيام بالواجب، وأما الكفر ما يُعبر عنه بأكره، بل يُعبر بأني أخشى أن أقع في الكفر، أو ما أشبه ذلك.
فقال لها النبيُّ ﷺ: أتردين عليه حديقته؟ وكان أصدقها بستانًا، فقالت: نعم، فقال النبيُّ ﷺ: اقبل الحديقةَ وطلِّقها تطليقةً.
فأخذ العلماءُ من هذا شرعية المخالعة والمفاداة عند الحاجة إليها، وأن المشروع للزوج أن يقبل ذلك، وألا يضرّ بها ويضرّ بنفسه أيضًا.
وقال قومٌ: بل يجب عند الحاجة إليه. وأفتى به جماعة من المقادسة الحنابلة، كما ذكر صاحب "الفروع" ذلك، وهو ظاهر الأمر؛ فإنَّ الأصل في الأوامر الوجوب، فقوله: اقبل ظاهره الوجوب، وأنه متى بذلت له صداقه وجب عليه قبوله؛ تخليصًا لها من المضرة والمشقة، وإراحة للجميع، وكلٌّ يُغنيه الله من سعته.
وهذا القول هو أظهر، القول بالوجوب أظهر عند الحاجة إليه؛ إذا تمنع ولم يتيسر الموافقة فيما بينهما والالتئام فالواجب تخليص أحدهما من الآخر، ويُطلقها طلقةً بائنةً لا رجعية، وهذا معنى قوله: وأمره بطلاقها.
هذا يدل على أنه يلزم الفراق، ويلزم الطلاق، ويكون طلاقًا بائنًا؛ لأنه لو لم يكن بائنًا لم يحصل به المقصود، فإن بإمكانه أن يأخذ المالَ ثم يرجع، فوجب أن يكون بائنًا، يُخلصها منه، ويملكها نفسها، لكن بينونة صغرى لا كبرى، بحيث لو ندما وأحبَّا المراجعة فلا بأس بعقدٍ جديدٍ.
وفي رواية أبي داود والترمذي: أن النبي جعل عدتها حيضةً.
ولا بأس بهذه الرواية، وسندها جيد، وأفتى بهذا عثمان، كما روى ذلك النسائي والترمذي عن الربيع بنت معوذ: أنها اختلعت من زوجها، وجعل عثمانُ عدَّتها حيضةً، وأخذ بقصة ثابت وامرأته.
وهذا قول جيد؛ لأنَّ المخالعة نوعٌ من المعاوضة، فأشبهت المشتراة، أشبهت الجارية المشتراة، والاستبراء يكون بالحيضة.
وقد تعلق بهذا مَن قال: إنَّ الخلع ليس بطلاقٍ. قال: الطلاق فيه القروء الثلاثة، فدلَّ هذا على أنه ليس بطلاقٍ، ولكنه خلع.
وليس لهم في ذلك حُجَّة واضحة؛ لأنَّ هذا تخصيص؛ لأنَّ العدة حيضة للمخلوعة، هذا تخصيص الشريعة، جاءت بالتخصيص من العام، على فرض أنَّ الغاية تعمّ البائنة وغير البائنة، والله يقول جلَّ وعلا: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهو عامٌّ للجميع.
وقال قومٌ: إنَّ المراد به المطلقات الرجعيات؛ لأنه قال في آخر الآية: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ، فدلَّ على أنَّ المراد بذلك الرجعيات، أما البائنات فأخذت العدة من القياس على الرجعية، ومن الأحاديث التي جاءت في المعنى في جعل العدة ثلاث حيض للجميع، فيُستثنى من ذلك البائنة بالخلع؛ لأنها معاوضة، فأشبهت المسبية، وأشبهت الجارية المشتراة تُستبرأ بحيضةٍ، ولا منافاةَ في ذلك، فيكون حكمًا مُستثنًى: إما من العموم إذا حملنا الآيةَ على العموم، أو بحكمٍ مُستقلٍّ؛ لأنَّ الآية في الرَّجعيات.
وفي هذا الحديث من الفوائد: أنَّ ولي الأمر يُشير على الزوج والزوجة بما فيه المصلحة؛ فإنَّ الرسول لما رأى منها النَّفرة منه قال لها: أتردين عليه حديقته؟، وقال له: اقبل الحديقةَ، فدلَّ على أنَّ ولي الأمر وهكذا مَن يتوسط بينهما بالصلح يُشير عليهما بما هو الأولى؛ حسمًا للنزاع، وإراحةً لكل واحدٍ من الآخر، والوقوع يكون بما دلَّ عليه من المعنى، أي لفظٍ دلَّ على المعنى: خالعتك، أو فاديتك، أو فسختك، أو طلقتك، المعنى واحد، فما كان بلفظ الطلاق فهو صريح، وما كان بلفظٍ آخر فهو كناية، والله أعلم.
س: ..............؟
ج: هذا من الخلع نعم، وهنا مسألة اختلفوا فيها أيضًا، وهي مسألة الزيادة، إذا طلب الزيادة: الجمهور قالوا: لا بأس بالزيادة، وله أن يطلبها، وعليها أن تُسلم الزيادة إن استطاعت إن كانت ترغب بالفراق.
وذهب قومٌ إلى أنها لا تجوز الزيادة، واحتجُّوا بأنه جاء في عدة روايات: ولا تزدد، أما الزيادة فلا، في بعض الطرق الزيادة ما يدل على أنها جيدة.
والأظهر أنه ينبغي للمؤمن أن يتنزَّه عن الزيادة، وألا يقبلها، وليكتفِ بالمهر، وهذا هو الأظهر، فإنَّ الزيادة وإن كانت مرسلةً، وجاءت في بعض الروايات متصلةً بإسنادٍ فيما أعلم جيد، فإنَّ المرسل يعضد المتصل، فينبغي في هذه الحال أن يُمنع من الزيادة؛ لأنَّ هذا شيء لا حدَّ له، وقد يتعاطى شيئًا مُعجزًا يُفضي إلى إلغاء الخلع وعدم تمكينها من الخلع بالكلية؛ لأنَّ كثيرًا من الأزواج عندهم حقد على الزوجة إذا كرهته، حقد كبير، فهو لا يرى أنَّ ..... أبدًا، ويرى أن هذا فضل عليه أن تكرهه، وأن تطلب فراقه؛ فلهذا يُبدي ما يستطيع من الامتناع والإيذاء لها، فهذا ليس بجيدٍ، وليس من خلق المؤمن، وإنما هو من أخلاق الضُّعفاء: ضعفاء البصيرة، وضعفاء الإيمان، إلا ما شاء الله.
فإذا ظهر من حالها الكراهة، ولا سيما مع طول المدة: قد تُحبس سنةً أو سنتين أو أكثر، ولا تخضع للرجوع، تدَّعي أشياء يعلم بها، فالأقرب والأظهر أنَّ على القاضي أن يُمكنها من الخلع بإعطائها مهره من دون زيادةٍ، كل يُغنيه الله من سعته: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، أما إذا تراضوا من غير إلزامٍ فلا بأس، الله قال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229] إذا تراضيا، فلو أعطته ضعفَ مهره فلا بأس، أما من دون تراضٍ فلا تُلزم إلا بالمهر، وهذا هو الأظهر والأقرب والله أعلم.
..............
كتَابُ الطَّلَاقِ
أَحَادِيث فِي الطَّلَاقِ:
1080- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَبْغَضُ الْحَلَالِ عِنْدَ اللَّهِ الطَّلَاقُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ.
1081- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ ليُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: وَحُسِبَتْ تَطْلِيقَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَو اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا، ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثم أُمهلها حتى تطهر، ثم أُطلقها قبل أن أمسّها، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أمرك به مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ.
1082- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاق الثَّلَاثِ وَاحِدَة، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَد اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1083- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.
1084- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَفِي سَنَدِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
1085- وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ أبا رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ.
الشيخ: هذا الكتاب فيما يتعلق بالطلاق، لما ذكر المؤلفُ أحاديث النكاح ذكر أحاديث الطلاق؛ لأنَّ النكاح قد لا يدوم، قد تقع أسباب من الزوج والزوجة أو غيرهما تُسبب الطلاق، فجعل الله جلَّ وعلا للعبد طريقًا وفسحةً للتَّخلص من النكاح إذا كان بقاؤه يضرّه ويشقّ عليه، فلم يجعل للمرأة غلًّا لازمًا لرجلٍ لا يتخلص منها كما عند النصارى، لا، بل له حيلة، وله منفذ، وله طريق للخروج منها إذا لم تُناسبه، وهذا من رحمة الله وإحسانه جلَّ وعلا إلى عباده، حيث قال سبحانه: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130].
فالنكاح مقصوده التَّعاون على الخير والعفَّة لكلٍّ منهما، وإذا لم تحصل هذه المصلحة، لو صار اجتماعهما يضرّهما ويشقّ عليهما ولا تحصل به المودة والرحمة والعفّة وغضّ البصر وإحصان الفرج، إلى غير ذلك من المقاصد؛ كان الفراق أصلح؛ ولهذا شرع اللهُ الطلاقَ وبيَّن حكمه في آيات: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، فبين أحكام الطلاق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، وهذا كله من رحمته جلَّ وعلا وفضله على عباده.
والطلاق هو حلّ قيد النكاح، هو الطلاق، وهو من الإطلاق، يقال: أطلقت الدابة، إذا خُلي سبيلها، وأُطلق الأسير، إذا خُلي سبيله، وطلقت المرأة، إذا خُلي سبيلها، ويقال: فلان طلق اليدين، إذا كان واسع العطاء، جوادًا، يُعطي مما أعطاه الله.
فالطلاق هو بهذا المعنى، هو حلّ قيد النكاح كله أو بعضه، يعني: حلّ عقدة النكاح كلها بالطلقات التي تُبين المرأة، أو حلّ البعض بالطلقة الواحدة والطلقتين، تبقى معها الرجعة، فالواحدة والثنتان بعد الدخول فيهما رجعة، والطلقة الأخيرة ليس فيها رجعة، والطلقة الواحدة ليس فيها رجعة إذا كانت قبل الدخول، فإنها تحله كله، ولا يبقى رجعة، بل لا بدَّ من عقدٍ جديدٍ إذا أرادت ذلك، وهذا كله يأتي إن شاء الله فيما يتعلق بالأحاديث.
والحاصل أن النكاح له حالان: حالة يكون فيها دخول: دخول الرجل على المرأة ..... أو جماعه لها، وهذا يملك فيه ثلاث طلقات، إذا طلَّقها واحدةً أو ثنتين له الرجعة، أما في الحالات الأخرى: وهي ما إذا كان قبل الدخول بها -مجرد عقدٍ- فهذا يبينها منه واحدة، ويُحرمها عليه طلقة واحدة ..... من غير المدخول بها، كما في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
ثم الطلاق تدخله الأحكام الخمسة:
- تارةً يكون مباحًا إذا كانت له أسباب.
- وتارةً يكون مكروهًا إذا كان ليس له أسباب كما يأتي.
- وتارةً يكون مُحرَّمًا، وهو طلاق البدعة، كالطلاق في الحيض، والطلاق الثلاث جميعًا.
- وتارةً يكون مُستحبًّا إذا كان له أسباب تقتضي إيقاعه والتَّخلص من شرِّ المرأة.
- وتارةً يكون واجبًا -وهذا الخامس- وهو طلاق المولي، وطلاق المضارّ بالمرأة الذي يُضارها، فيُجبر على الطلاق، ويجب عليه فراقها؛ حتى لا يضرَّها، ومن ذلك المولي الذي يحلف ألا يطأها أكثر من أربعة أشهر كما يأتي، وإذا بلغت الأربعة يُوقف: فإما أن يُطلق، وإما أن يفي، فإن أبى وجب عليه الطلاق، وإن أبى طلَّق عليه الحاكمُ كما يأتي؛ لقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226- 227].
الحديث الأول حديث ابن عمر: يقول النبيُّ ﷺ: أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
هذا الحديث رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجَّح أبو حاتم وجماعة إرساله، وقد ثبت من طرقٍ بعضها مُرسل، وبعضها مُتصل، والقاعدة عند أهل هذا الشأن -عند أئمة الحديث- المعتمدة: أن الواصل يُقدم إذا كان ثقةً، وإن كان الأكثر على خلاف ذلك، ولكن الصواب والحقَّ الذي لا ريبَ فيه أنه إذا اختلف الرواةُ: بعضهم وصل الحديث ورفعه، وبعضهم أرسله، وبعضهم رواه مُنقطعًا؛ فإنَّ مَن رواه متَّصلًا مرفوعًا مُقدم؛ لأنَّ مَن حفظ حُجَّة على مَن لم يحفظ؛ ولأنه أتى بزيادة، والزيادة من الثِّقة مقبولة، فوجب أخذها وعدم ردِّها، وهذا معنى ما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله والعراقي وغيرهما، يقول العراقيُّ رحمه الله:
وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ في الأظْهَرِ | .............. |
والحافظ في "النخبة" يقول: "وَزِيَادَةُ رَاوِيهِمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِـمَنْ هُوَ أَوْثَقُ".
فهذا الذي وصله ثقة، فيكون الصوابُ خلاف ما قال أبو حاتم: أن الصواب أنه متصل ومرفوع، ويدل على كراهة الطَّلاق إذا ما به بأس، وأنه مبغوض إلى الله جلَّ وعلا، فلا ينبغي الإقدام عليه إلا من بأسٍ، من عذرٍ، ما دام الحال مستقيمةً، والزوجة صالحةً، فلا ينبغي الطلاق، بل يُكره الطلاق؛ لما فيه من تفريق الشَّمل، وربما أفضى إلى بقائها وبقائه بدون زوجٍ، أو بدون زوجةٍ.
والحديث الثاني: حديث ابن عمر أيضًا، وهو عبدالله بن عمر بن الخطاب، إذا أُطلق هو عبدالله، وعمر له أولاد ، لكن أفضلهم وإمامهم والمراد عند الإطلاق عبدالله، وله عاصم بن عمر، وله غيرهما، فإذا أُطلق ابن عمر فهو عبدالله، وإذا أُطلق ابن عباس فهو عبدالله بن عباس، وإذا أُطلق ابن الزبير فهو عبدالله بن الزبير، وإذا أُطلق ابن عمرو فهو عبدالله بن عمرو، وهكذا؛ لأنَّ هؤلاء هم المشهورون، ولهم إخوة، لكن هؤلاء هم المشهورون.
ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض في عهد النبيِّ ﷺ، فبلغ عمرُ النبيَّ ﷺ بذلك، فغضب وأمره أن يُبلغ ابن عمر أن يُراجعها، ثم يُمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم يُطلق إذا شاء قبل أن يمسَّ، ثم قال: فتلك العدَّة التي أمر الله أن تُطلق لها النساء، يعني في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] يعني: طاهرات من غير جماعٍ، هذه العدة، أو حوامل، إما أن يُطلقن طاهرات بغير جماعٍ، لا يُطلقن في نفاسٍ، ولا في حيضٍ، ولا في طهرٍ جامعها زوجها فيه، أو حال كونهن حوامل، هذا هو الطلاق الشرعي.
واختُلف في العلة: فقال بعضهم: إنها إذا كانت في الحيض أنها تطهر وعليها العدَّة ..... في النفاس كذلك، لكن يبقى الطلاقُ في الطُّهر الذي جامعها فيه، ما العلة بأنها تحتسب الحيضةَ التي بعدها، فالعدة هي العدة؟!
والأقرب والله أعلم أنَّ العلة في ذلك: أن الإنسان حال كون امرأته في الحيض أو النِّفاس ممنوع من قربانها، فتكون رخيصةً عليه، وليس لها المنزلة الكبيرة، مثل حالها إذا كانت طاهرةً جاهزةً صالحةً للوقاع، فيسهل عليه فراقها؛ لما فيه من المانع عند أقلّ سببٍ.
وحرَّم الله عليه ذلك لما في الفراق من المضارِّ في الغالب؛ ولما في بقاء المرأة وبقاء النكاح من المصالح، فكان هذا من رحمة الله أن ضيَّق مجال الطلاق، ويسَّر بقاء النكاح، كون الإنسان يغضب ويعتريه مشاكل فمن رحمة الله أنه ضيَّق مجاري الطلاق ومخارج الطلاق؛ حتى يبقى النكاحُ كثيرًا؛ لينتظر المؤمن .....، وإلا إذا كان لا ينتظر فقد يكثر الطلاقُ على غير بصيرةٍ.
وفي حال الطهر الذي جامعها فيه: إذا جامع فقد تكون نفسه أخذت نصيبها، فيسهل عليه الطلاق بعد ذلك؛ لأنه قد أخذ نصيبَه، وقد جامعها، فيسهل عليه الطلاقُ بعد ذلك فمُنع، ولم يُرخص له إلا في حال طهرٍ لم يُجامعها فيه، فإذا طهرت من حيضها ربما تاق إليها وامتنع من طلاقها، فإذا وطئها مُنع من الطلاق فبقيت، فكان هذا من أسباب بقائها، ومن أسباب قلة الطلاق.
وأما حال الحمل فلأنَّ الأمر قد وضح في المرأة الحامل .....، فالغالب أنه لا يُطلقها، فإن طلَّقها فلا يُطلقها إلا لأمرٍ شديدٍ دفعه إلى ذلك، فأُبيح له الطلاق في حال الحمل؛ لأنه إنما يُطلق حال الحمل لأمرٍ شديدٍ قويٍّ دفعه إلى الطلاق؛ لأنَّ الغالب أنَّ الإنسان إذا عرف الحمل تأخَّر عن الطلاق وتوقف، وإذا طلَّق قبل ذلك ثم عرف الحملَ راجع في الغالب؛ لرغبته في الحمل.
وهذا من حكمة الله أنه أباح الطلاق في الحمل؛ لأنه في الغالب لا يقع، والناس في الحمل يُمسكون، ومنعه في طهرٍ جامعها فيه، وفي الحيض والنفاس؛ لأنَّ الرغبة قد تكون يسيرةً فيسهل عليه الطلاق.
وبكل حالٍ، الله حكيم عليم جلَّ وعلا، له الحكمة البالغة ، وهذا كله من مجال تضييق الطلاق، لما كان أبغض الطلاق إلى الله ضيَّق مجاريه، فصار الطلاقُ لا يقع إلا في حالين، يعني: لا يُشرع ولا يُباح إلا في حالين:
إحداهما: أن تكون المرأةُ في طهرٍ لم يُجامعها فيه.
والحال الثانية: أن تكون في حال الحمل.
هذا حال الطلاق، أما في حال الحيض والنِّفاس وطُهرٍ جامعها فيه فهذه لا يُطلِّق فيها.
فالأحوال خمسة: حالان يُطلق فيهما، وثلاث لا يُطلق فيها:
فالحالان اللذان يُطلق فيهما: الحمل، وحال كون المرأة طاهرًا من غير جماعٍ، ولم يتبين حملها.
والأحوال الثلاث التي ليس فيها طلاق، ولا يجوز فيها الطلاق: حال الحيض، وحال النفاس، وحال الطُّهر الذي جامعها فيه.
فالعامَّة تظن أنَّ حال الحمل ليس حال طلاقٍ، وأن الطلاق لا يقع على الحامل، وهذا من الجهل الكبير الذي لا وجهَ له، ولا أساس له، وهذا معنى قوله جلَّ وعلا: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، قال العلماء من الصحابة وغيرهم: طاهرات من غير جماعٍ، أو حبالى. هذا هو وقت الطلاق؛ لأنها ..... بحيضٍ، إذا طلَّقها بالطهر الذي ما جامعها فيه بدأت العدة بأول حيضةٍ.
ثم اختلف العلماءُ في وقوع الطلاق بعدما بيَّن أنه ممنوع في الأحوال الثلاثة، هل يقع أم لا يقع؟
على قولين للعلماء:
أحدهما: أنه يقع، وأنَّ كونه يعصي الله لا يمنع من وقوعه، وهو آثم، ويقع عليه زيادة في تنكيله. وهذا هو قول الأكثر، واحتجُّوا بأن الرواية التي ذكرها: وحُسبت تطليقة، فقوله: وحُسبت تطليقة الظاهر أنه حسبها النبيُّ ﷺ، رُوي ذلك صريحًا، لكن بإسنادٍ لا يثبت.
وجاء من أحاديث ابن عمر من طريق نافع وسالم: أنه اعتدَّ بها وحسبها، فلما سُئل عن هذا قال: "وما لي لا أعتدُّ بها وقد ....."، ولم ينسبه إلى النبي ﷺ، لكن قالوا: ابن عمر أعلم بما روى؛ لما احتسبها احتسبها الجمهور، قالوا: تُحتسب، وبأنه آثم ويُعاقَب باحتسابها عليه.
وقال آخرون من أهل العلم: لا تُحتسب ولا تنفذ، وهو آثم، وطلاقه بغير وجهٍ لا يقع؛ لقول النبي ﷺ: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ، وهذا العمل ليس عليه أمرُ النبي ﷺ فلا يقع، وهو مردود؛ ولأنَّ النبي ﷺ لو قال ..... يُمسكها ثم يُطلقها، فالنبي لا يأمر بتكثير الطلاق، وهو يُخبر أنه .....، فإذا قلنا أنه وقع ثم يأمر بطلاقها بعد ذلك صار تكثيرًا للطلاق، فالرسول ﷺ لا يأمر بتكثيره، وإنما يأمر بتقليله.
فقوله: فليُمسكها ولم يستفصل دلَّ على أنها غير واقعةٍ؛ لأنه قد يكون طلَّقها واحدةً، ثنتين، ثلاثًا، وإذا كان في الرواية أنه طلَّقها واحدةً -في رواية مسلم رحمه الله- لكن أكثر الروايات ليس فيها ذكر العدد، وليس فيه شيء من الاستفصال .....، فهذا مما يُقوي عدم الوقوع.
وللقائلين بهذا حُجج كثيرة سردها ابنُ القيم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" وفي غيره، وألَّف بها صاحب "السبل" رسالةً، وألف بها أيضًا محمد بن إبراهيم الوزير كما ذكر الشارحُ، وكان الشارحُ محمد بن إسماعيل ممن كان يُفتي بذلك، ثم توقف، ثم أفتى أيضًا بعدم الوقوع، وألَّف في هذا رسالةً جمع فيها حُجج مَن قال بعدم وقوعه.
ومما احتجوا به رواية أبي داود، ذكرها المؤلفُ هنا عند مسلم، والصواب أنها ليست عند مسلم، وهو وهمٌ من المؤلف، والصواب أنها ليست عند مسلم، وإنما هي عند أبي داود بلفظ: "فردَّها عليَّ ولم يرها شيئًا"، قالوا: فهذا يدل على أنه لم يرها شيئًا واقعًا، بل ألغاها، ثم قال: فإذا طهرت فليُطلق أو ليُمسك.
والخلاصة أنَّ مَن تأمل الروايات -تأمَّل المعنى- يتَّضح له صحة قول مَن قال بعدم الوقوع، وأنها لاغية، وأنها على خلاف أمر الله، وهذا أفتى به ابنُ عمر نفسه، وقد روى محمد بن ..... بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عمر: أنه سُئل عن ذلك فقال: لا تقع، لا يعتدّ بها. وهكذا قال طاوس بن كيسان اليماني .....، وذكره الشارحُ عن جماعةٍ منهم محمد بن علي الباقر .....، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير ..... غير مرةٍ.
المقصود أنه هو الأظهر والأقوى من حيث الدليل والمعنى، ولنقف على هذا، نقف على حديث ابن عباسٍ .....، فإنه يحتاج إلى كلامٍ.
وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه.
س: ...............؟
ج: لا يُطلق، لا يُطلق، إذا كان جامعها لا يُطلق، يُبقيها عنده ولا يُطلق، لعلَّ الله يجعل في قلبه المودةَ والمحبةَ؛ لأنه قد جامعها، أما إذا كان ما جامعها من حين طهرت من نفاسها فله الطلاق، وأما وقد جامعها فليُمسك حتى تحيض ثم تطهر ثم يُطلق بعد ذلك.
س: ..............؟
ج: كذلك هذا يحتجّ به مَن قال: إنه أوقعها، يعني: وقعت عليه، ولكن ليس بصريحٍ، وإنما هذا رأيه، أما إذا طلَّقها ..... فهذا يأتي الكلامُ عليه في حديث محمود بن لبيد إن شاء الله في السَّائل الذي سأله.
س: .............؟
ج: إيه، سأله عمَّن طلَّق امرأته وهي حامل، فأجاب بهذا.
س: .............؟
ج: هذا محل خلافٍ، سمعت الخلاف، الجمهور يرونه يقع، والصواب أنه لا يقع .....
س: الطلاق إذا وقع بأي صورةٍ بدعيةٍ لا يقع؟
ج: نعم.
س: حتى بلفظه؟
ج: نعم، بأي لفظٍ.
...............