36 من حديث (عَلَّمَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة)

980- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ التَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَن يُضلل فلا هادي له، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

981- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

982- وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ.

983- وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.

984- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا.

985- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

الشيخ: هذه الأحاديث: الحديث الأول حديث ابن مسعودٍ في خطبة الحاجة، يقال: خطب يخطب، من باب نصر، خُطبة في الموعظة بالضم، وخِطبة بالكسر في خِطبة النساء، ويجتمعان في الماضي والمضارع، ويختلفان في المصدر، والحاجة تعمّ حاجة النكاح وغيرها: أنه كان يخطب هذه الخطبة للحاجة التي .....: كتذكير الناس، أو تحذيرهم من شيءٍ، أو أمرهم بشيءٍ، وربما خطب بغير ذلك عليه الصلاة والسلام في الخطب الأخرى، كما هو واضح بالاستقراء.

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ويقرأ الثلاث آيات.

هذا جاء بعدة ألفاظ، في بعضها زيادة: ومن سيئات أعمالنا، وفي بعضها: وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحقِّ بين يدي السَّاعة بشيرًا ونذيرًا.

والآيات بيَّنها في الرواية الأخرى: أنها آية آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وأول النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، والآية الثالثة آية الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70- 71].

ثم يقول بعد هذا -الولي يقول- زوجتُك. ويقول الزوجُ: قبلتُ. ويدعو لهم بالتّرفئة: "بارك الله لك وعليك .." إلى آخره.

هذه السنة في عقد النكاح، وهذا عند الجمهور سنة، ليس بالواجب، وحُكي عن الظَّاهرية بالوجوب، وقول الجماعة أقوى وأصح؛ لأدلةٍ كثيرةٍ: منها الحديث الآتي، حديث سهل: كان النبيُّ ﷺ إذا زوَّج الرجلَ على ما معه من القرآن، ولم يذكر فيه خطبة .....

المقصود أنَّ هذا سنة ومُستحب، وليس بواجبٍ، فلو قال له: زوجتك، وقال: قبلتُ، من دون خطبةٍ، بحضرة الشَّاهدين والولي كفى.

وفي هذا بيان أنَّ الحمد لله وحده ، وهذا جاء به القرآن في مواضع: بيان أنَّ الحمد له وحده : الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، في فاطر وسبأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [سبأ:1] [فاطر:1]، وفي الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الكهف:1]، وفي مواضع كثيرة، فله الحمد في الأولى والآخرة .

والحمد الثناء، وأل للاستغراق، فالمعنى: أنَّ كل الحمد له ؛ لأنه المستحق لهذا؛ لكمال أسمائه وصفاته؛ ولعظيم نعمه ؛ ولأنَّ جميع النِّعم التي بالعباد كلها منه ، فله الثناء المطلق جلَّ وعلا.

وقوله: نحمده، ونستعينه له الحمد، ونحن نحمده أيضًا؛ لكونه أهلًا لذلك، ونستعينه في مهماتنا ونستغفره؛ لأنه هو الغفَّار للذنوب، لا غافر سواه .

ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، في زيادةٍ في الروايات الأخرى: وسيئات أعمالنا .. إلى آخره.

هذه الخطبة فيها ثناء على الله، وضراعة إليه، وبراءة من الحول والقوة، وطلب للعون والمغفرة، والاستعاذة بالله من شرور النفس، فإنَّ مَن وقاه الله شرَّ نفسه وسيئات عمله فقد أفلح، وهما دعوتان عظيمتان: "نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا".

وفي هذا أنه الهادي لا سواه، وأنَّ مَن هداه الله فهو المهتدي، ومَن أضله فهو الضَّال، فيها الرد على القدرية النُّفاة ومَن سار في مذهبهم الباطل في نفي القدر، فهو المعين، وهو الموفق، وهو الهادي .

وفيه الشَّهادتان، تذكير الشَّهادتين عند العقد، وأنه سبحانه المعبود والمستعان، وأن رسوله المتبع عليه الصلاة والسلام، وأنَّ من رحمة الله وإحسانه أن شرع هذا العقد الذي جاء به محمدٌ ﷺ، العقد الشَّرعي الذي يحلّ المرأة لك بعدما كانت حرامًا.

والعقد يحضره أربعة: الزوج، والولي، والشاهدان، ويأتي في الحديث الصحيح: لا نكاح إلا بوليٍّ، وفي الرواية الأخرى: وشاهدي عدل، والمقصود أنه عند جمهور أهل العلم لا بدَّ من الولي والشَّاهدين، والمسألة فيها خلاف يأتي عند أحاديث الولي إن شاء الله، فلا بدَّ من هذين الأمرين:

أولًا: وجود الولي.

والثاني: وجود الشَّاهدين.

ولا يتم النكاح إلا بذلك، مع خلو الزوجين من الموانع، والمرأة ليست في العدة، وليس لها مانع من النكاح: كالإحرام، والقرابة، ونحو ذلك، وسليمة ليس بينها وبينه ما يمنع من قرابةٍ، ولا رضاعٍ، ولا عدةٍ، ولا إحرامٍ.

وكون الزوج كذلك سليمًا من الموانع، صالحًا لها، بحيث لا يكون كافرًا وهي مسلمة، ولا تكون وثنيةً وهو مسلم، بل إما مسلمة، وإما كتابية.

المقصود خلوه من الموانع، لا بدَّ من كون الزوجين خاليين من الموانع، من موانع النكاح، وحضور الولي، وحضور الشَّاهدين.

وتُستحب هذه الخطبة مع قراءة الآيات الثلاث، وفي قراءتها التَّذكير بتقوى الله، وأنه المستحق للعبادة والطاعة جلَّ وعلا، وأنَّ أصل هذا النَّسل من شخصين: آدم وحواء، في الآية الثانية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] تذكير بأنَّكما معشر الزوجين أصلكما من نفسٍ واحدةٍ: من آدم وحواء، تذكير بمبدئهما؛ ليعبدا هذا الرب العظيم الذي خلقهما وخلق أصلهما؛ وليتَّقوه في هذا النكاح وفي غيره.

وهذا الحديث جدير بأن تُجمع طرقه وألفاظه، وأذكر أنَّ الشيخ ناصر الدين الألباني جمعه فيما أذكر، فينبغي لأحدكم أن يجمعه ويعتني به، وهل جمع الشيخ ناصر كافٍ أم لا؟ فمَن يلتزم؟ عبدالمحسن أنت لها، قل: إن شاء الله.

والحديث الثاني والثالث والرابع: حديث جابر، والمغيرة، ومحمد بن مسلمة، وأبي هريرة، هذه الأحاديث الأربعة كلها تدل على شرعية رؤية المرأة التي يريد خطبتها قبل أن يتزوجها؛ لأنه قد يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها فيُقدم، وقد يرى ما لا يُعجبه فلا يُقدم، فيُستحب له أن يراها إذا تمكَّن، إذا تيسر له أن يراها فهو أولى؛ ولهذا في رواية المغيرة: فإنَّ ذلك أقرب إلى أن يُؤدم بينكما، في حديث جابر: إذا خطب أحدُكم المرأةَ فلينظر منها ما يدعو إلى نكاحها فليفعل، وفي حديث المغيرة: اذهب فانظر إليها.

هذا يدل على شرعية النظر إلى المخطوبة إذا تيسر ذلك.

وعن جابرٍ: فذهبتُ وتخبأتُ لها تحت النَّخل حتى رأيتُ منها ما دعاني إلى تزوجها، فليس من شرط ذلك أن ترى أو تعلم، ولو لم تعلم، ولم ترضَ، يفعل الأسباب حتى يراها، وإذا سمح أهلُها بذلك وجمعوا بينهما فلا بأس، لكن من دون خلوةٍ، يراها لكن لا يخلو بها، بل مع أبيها، أو أمها، أو غيرهما؛ حتى يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها، أو إلى الترك: كالوجه واليدين والرِّجلين، وإذا رأى الشعر فلا بأس على الصحيح، المقصود الشيء الظاهر الذي يظهر كثيرًا: كاليد أو الوجه والقدم والشّعر.

والحديث السادس حديث ابن عمر: أن النبي ﷺ قال: لا يخطب أحدُكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطبُ قبله أو يأذن له متفق عليه.

هذا جاء في عدة أخبارٍ عن النبي ﷺ: النَّهي عن الخطبة على خطبة أخيه، والسر في هذا والله أعلم: أنه وسيلة للشَّحناء؛ ولأنه سبق إلى شيءٍ لم تسبق إليه، فهو أولى من سبقك، فهو أولى؛ ولأنه متى علم أثر في نفسه، وربما سبب شرًّا ونزاعًا وبغضاء، مثل: عدم البيع على البيع، وعدم الشراء على شرائه، هذا من جنسه، وقد يكون أعظم؛ فإنَّ السلعة قد يجدها عند غير هذا، ولكن المرأة التي أراد قد لا يجدها، فالخطبة على خطبته فيها شرٌّ كثيرٌ؛ ولهذا نهى النبيُّ عن هذا عليه الصلاة والسلام وقال: لا يخطب أحدُكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطبُ قبله أو يأذن يعني: حتى يهون، أو يأذن يقول: لا بأس أن تخطب، أو يُردّ، يردُّونه، إذا ردُّوه أو ترك أو أذن فلا بأس، أما ما دام لا يعلم فإنه لا يخطب.

وقال بعضهم: إنما يحرم إذا عرف أنهم أجابوه، وما دام لا يعرف فهذا القول ليس بشيءٍ، الصواب أنه يحرم مطلقًا ولو لم يعلم أنهم أجابوه، إذا أجابوه فلا شكَّ في هذا، لكن حتى ولو لم يُجيبوا ما دام علم أنه خطب فلا يخطب؛ لإطلاق الأحاديث في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة النَّهي عن ذلك أيضًا الخطبة على خطبة أخيه.

وفي حديث فاطمة بنت قيس أنها رفعت للنبي ﷺ وقالت: إنَّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم وأسامة بن زيد قد خطبوها، فشاورت النبيَّ ﷺ في ذلك، وقال لها النبيُّ: أنكحي أسامة، هذا محمول عند أهل العلم على أنَّ كل واحدٍ خطب لا يدري، ليس معناه أنه يكون خطب على خطبة أخيه، لا، محمول على أن كل واحدٍ خطب ولا يشعر بالآخر، وهذا هو الظن بهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ فلهذا أشار عليها بأسامة، وأسامة مولى عتيق له، وهكذا أبوه زيد مولى للنبي ﷺ، وهو من بني كلب القبيلة المعروفة، فقال: أنكحي أسامة.

ذكر في روايةٍ: أنكحي أسامة، قالت: فنكحتُه، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطتُ به.

وقال في معاوية: إنه صعلوك لا مالَ له، وقال في أبي جهمٍ: إنه لا يضع العصا عن عاتقه، إنه ضرَّاب للنساء، فأشار عليها بأسامة، وصرف النظر عن معاوية وأبي جهم؛ للأسباب التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا أنَّ المستشار مُؤتمن، والمستنصح يجب عليه أن ينصح، فأشار عليها عليه الصلاة والسلام بأسامة، شاب مناسب لها، ومعاوية ذكر علته: أنه فقير، قد يشقّ بعض الأوقات ولا يحصل لها مطلوبها منه ذاك الوقت يعني، وقد أعطاه الله الملكَ والدنيا بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، وأبو جهم كان ضرَّابًا للنساء، فيُخشى أن يشقَّ عليها، فنصح لها بأسامة، فتزوجت أسامة.

وفيه دلالة على أنه لا بأس بنكاح القرشية من المولى العتيق، ولو كانت قرشيةً، والكفاءة هي الدِّين، لا مجرد النَّسب أو الحسب: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولكن إذا تزوَّجها مَن هو مكافئ لها من بني عمِّها ومن جماعتها كان ذلك حسنًا، ولا سيما إذا كان في خروجها عنهم مشقّة على جماعتها أو قرابتها أو نحو ذلك، أو فتنة، فالأولى الوقوف عند الشيء المعتاد حتى لا تكون فتنة ولا مشاقّ بين القرابات، ولكن مَن عرف الأمر الشَّرعي فلا حرج عليه أن يُزوجها من غير قبيلتها، ومن غير جنسها، ومن الموالي، أو من العجم، لا بأس بذلك إذا كان الدِّينُ سليمًا.

س: حديث أبي هريرة عند مسلم وقال: اذهب فانظر إليها هل يدل على الوجوب؟

ج: سنة، كله سنة.

س: تمكين الخاطب من النَّظر إذا غلب على الظنِّ ..؟

ج: ما بيَّن لهم أمرهم، ما أُمروا، لا نحفظ شيئًا أنه أمرهم، يُروى عنه ﷺ أنه بعث بعض النِّساء، خطب امرأةً فبعث بعض النساء لتنظر إليها؛ ولهذا قال العلماء: إذا لم يتيسر النَّظر يُستحب أن يبعث امرأةً ثقةً تنظر إليها وتُخبره بمحاسنها وغيرها؛ حتى يكون على بصيرةٍ.

س: إذا مكّن من النظر؟

ج: لا حرج.

س: يُفضي إلى أن كل خاطبٍ يمكن؟

ج: الأمر واسع، لا نعلم فيه بأسًا، لا نعلم فيه شيئًا، كل منهم يدخل على بصيرةٍ، هي تراه، وهو يراها؛ حتى هي تحتاج إلى نفس الشَّيء.

س: إذا غلب على الظنِّ أنه يتزوَّجها؟

ج: المقصود إذا كان جنسه يصلح لها، إذا كان في نيَّتهم أن يُزوجوه، أما إذا كان ما في نيَّتهم أن يُزوجوه ما في حاجة، أو كان مثله لا يُزوج من جنسهم فلا حاجةَ للنظر إليها.

س: أخو الزوج والزوجة يصلح أن يكونوا شهودًا؟

ج: ما في شكّ، بخلاف الأب والجد والابن، أما الإخوان ما فيهم خلاف.

س: ..............؟

ج: ما يحتاج خطبةً، يكفي، كانوا في البرية ولا يعرفون الخطبة، يقول: زوجتُك، وقبلتُ، والحمد لله، بحضرة الشُّهود.

س: ..............؟

ج: الأفضل الجهر بها؛ لأنها سنة مشروعة، وفيها فوائد ومصالح، السنة الجهر بها عند القراءة، يسمع الزوج والولي والشاهدان والحاضرون.

س: اعتاد بعضُهم أنه يُسرُّ؟

ج: ما أعلم له أصلًا، السنة أن يجهر.

س: المرأة المخطوبة إذا طلب منها الزوجُ النظرَ، يلزمها أن تُمكنه؟

ج: لا، مستحب فقط، ولا يلزم أهلها.

س: .............؟

ج: العقد يصحّ عند الجمهور، لكن يأثم، وإلا هم مُخيرون، إذا زوّجوا الأخير وتركوا الأجلَ فلا بأس عليهم.

986- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنهمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ: فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي -قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ- فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟! إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، وَحَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا. عَدَّدَهَا، فَقَالَ: تَقْرَأْهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ.

987- وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا تَحْفَظُ؟ قَالَ: سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ: قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً.

988- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

989- وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

990- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

991- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

992- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

993- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث السبعة كلها تتعلق بالنكاح وبعض أحكامه.

في الحديث الأول -حديث سهل- الدلالة على أنه لا بدَّ من مهرٍ في النِّكاح، ولو كان تعليم القرآن، أو تعليم العلم إذا لم يتيسر المال، فإنَّ امرأةً وقفت وهبت نفسها للنبيِّ ﷺ، فصعَّد بها النَّظر وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه ولم يتكلم فيها بشيءٍ، فخطبها بعض الحاضرين، فسأله النبيُّ: هل عندك شيء؟ فقال: ما عندي شيء، فقال: اذهب التمس خاتمًا ولو من حديدٍ، فذهب ثم رجع وقال: ولا خاتم من حديدٍ. ثم عرض إزاره .. إلى آخره.

هذا يدل على أنَّ التزويج بالمال هو المطلوب، كما قال جلَّ وعلا: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فالتزويج بالمال هو المطلوب، وهو الواجب، ولو قلَّ، فإن لم يجد زوَّجه بما تيسر من التعليم: تعليم الآيات، أو السور، وهذا هو الصواب، كما دلَّ عليه هذا الحديث.

والحديث فيه شواهد كثيرة، وهو حديث جليل عظيم: منها جواز النَّظر للخاطب، فإنَّ رسول الله صعَّد فيها النظر، فدلَّ ذلك على جواز النَّظر للخاطب الذي يُريد أن ينكح إن ناسبته المرأة، ولعلَّ هذا كان قبل الحجاب؛ ولهذا لم يأمرها بالتَّستر عن الحاضرين، كان هذا والله أعلم قبل الحجاب، ويجب حمله على هذا، فلما رأى الرجلُ أنَّ رسول الله ما قضى فيها بشيءٍ سأله أن يُزوجه إياها، هذا خطبة جديدة، لما رأى الخاطبَ أعرض، هذا يدل على جواز الخطبة على الخطبة إذا أعرض الخاطبُ وترك، أو ظهر منه ما يدل على ذلك، كما تقدم في حديث ابن عمر.

وفيه من الفوائد: أن المال القليل يجوز أن يكون مهرًا، ولو خاتمًا من حديدٍ، أو فضةٍ، أو ذهبٍ.

وفيه من الفوائد: أن خاتم الحديد جائز، ولا بأس بلبسه، والحديث الذي فيه النَّهي شاذٌّ لا يصح ولا يُعارض هذا الحديث الصَّحيح.

وفيه من الفوائد أيضًا: رفق النبي ﷺ وعنايته وتواضعه وحرصه على هذه الأمة؛ فلم يزل يعتني بهذا الرجل حتى ردَّه بعدما ولَّى، ثم زوَّجه بما معه من القرآن، فدلَّ ذلك على أنه ينبغي لولي الأمر أن يعتني بالرعية، وأن يُلاحظ حاجاتهم حسب الإمكان.

وفيه ما أصاب الناس في عهده ﷺ من الشدة والحاجة، فقد أصابهم في أول الأمر حاجةٌ شديدةٌ، وفقرٌ عظيمٌ، حتى صار التَّمر يشقّ على كثيرٍ من الناس حصوله، والكسوة كذلك، فيتجمع في المدينة جمٌّ غفير وأحوالهم ليست كذلك من الملاءة والدنيا؛ فلهذا عظم الأمر، واشتد الأمر، ثم وسَّع الله ويسَّر بعد ذلك.

وفيه من الفوائد: أن التزويج على القرآن، وعلى تعليم الأحاديث، أو صنعة من الصناعات: كالنجارة، أو الخياطة، أو نحوه، كله جائز، وكله صحيح، بدلًا من المال، فيُعلمها شيئًا معلومًا: كسورة، أو سورتين، أو آيات معلومة؛ مهرًا لها، ويكفي ذلك.

وفيه من الفوائد: أنه لا يتعين: زوجتك، فإذا قال: ملكتك، أو وهبتك إياها، بنية النكاح جاز، وقول مَن قال: لا بدَّ من زوجتك، أو أنكحتك، ليس بجيدٍ، والصواب أنه كل دالٍّ على المعنى، مثل: البيع والشراء وأشباه ذلك، كل لفظٍ دلَّ على المعنى جائز، لكن إذا قال له: زوجتك، أو أنكحتك، فهو أولى؛ خروجًا من الخلاف، وإلا فإذا قال: وهبتكها على سنة الله ورسوله، أو أعطيتكها على سنة الله ورسوله، أو أعطيتكها على مهر كذا، أو وهبتكها على مهر كذا؛ أجزأ، ولو ما قال: زوجتك. وهو يقول: قبلتُ هذا النكاح، أو قبلتُ ما قلتَ، أو قبلتها، أو ما أشبه ذلك، يصحّ النكاح إذا حضره الشَّاهدان مع الولي والزوج.

وفيه من الفوائد: جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وأنها ترغب في زواجه لا بأس، ثم هو مُخير: إن شاء قبل، وإن شاء ردَّ، كما يعرض نفسه يقول: أنا راغب فيك، فإن شاءت قبلت، وإن شاءت لم تقبل.

والحديث الثاني: حديث عامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام، حواري الرسول ﷺ، عن أبيه: أن النبي ﷺ قال: أعلنوا النكاح.

هذا الحديث يدل على وجوب إعلان النكاح؛ لأنَّ الفرق بينه وبين السِّفاح: الإعلان، والسفاح يكون بالخفاء والسرِّ والدسّ، أما إعلان النِّكاح فيكون بالعلن والإظهار؛ حتى يتبين له أن فلانة زوجة فلان، وأنه ناسب بني فلان، وحتى تبتعد الشبهة وتزول، فالسنة إعلان النكاح.

جاء في الروايات الأخرى: إعلانه بالدف والصوت والغناء الذي يتعاطاه النساء، وهكذا تشييع النساء للمرأة، وتشييع الرجال للرجل، كله من إعلان النكاح، ثم يعلن النكاح من تشييع، أو صوت، أو رمي، كما يحصل عند بعض البادية، أو ما أشبه ذلك مما يكون فيه إعلان النكاح، فهو مطلوب؛ حتى لا يظن أنه زانٍ بها، بل يُعرف أنه تزوجها، وأن فلانة عند فلانٍ، وهذا مطلوب، ومن إعلانه: إشهاد الشاهدين عند الجمهور، لا بد من شاهدين؛ حتى يكون ذلك مثبتًا له، لو تنازعا فإنَّ الشاهدين يشهدان بوقوع النكاح.

والدف يُسمونه: الطار، له وجه واحد، لا بأس به كما ذكر العلماء، أما الطبل لا، الطبل وأنواع الملاهي: كالعود والكمان والربابة هذا لا يجوز، وإنما هذا فقط الدف للنِّساء خاصة، من غير اختلاطٍ، وهو في وقتٍ خاصٍّ لا يتضمن السَّهر الذي يضرُّ الناس، أو يُفوت صلاة الفجر، بل يكون في وقتٍ من الوقت في أول الليل، يحصل به الإعلان، ويحصل به إشاعة النكاح ويكفي، وإن تركوه واكتفوا بتشييع المرأة وتشييع الرجل كفى والحمد لله.

المقصود إعلان النكاح مطلوب، وقد ثبت في الأحاديث ما يدل على الغناء للنساء والطار، كما قال النبي لعائشة: هل شيعتم فلانة؟ قال: هلا فعلتُم وقلتُم كذا وكذا.

المقصود أنَّ إعلان النكاح مطلوب على الوجه الذي يعتاده الناس في بلدانهم، من غير مخالفةٍ للشريعة.

والسر فيه والحكمة أن يميز بينه وبين السِّفاح، وأن تعلم أنَّ المرأة زوجة فلان، ويعلم أنه تزوجها، وأن آل فلان أصهاره؛ حتى لا يُتَّهم بشيءٍ من الباطل.

والحديث الثالث: حديث أبي موسى الأشعري، عبدالله بن قيس ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا نكاح إلا بوليٍّ.

حديث صحيح، واختلف العلماء في وصله وإرساله: فوصله قومٌ، وأرسله آخرون، والواصلون ثقات، والمرسلون ثقات، والصواب قول مَن قال بالوصل، هذه قاعدة: إذا أرسل قومٌ ووصل آخرون، أو أرسل ثقةٌ ووصل ثقةٌ، فالحكم حكم مَن وصل، ولو كان المرسلون أكثر كما تقدم لكم في المصطلح: ..... في الأظهر، وقيل: بل الإرسال للأكثر، فالصواب: ولو كان المرسلون أكثر، الصواب قول مَن قال بالوصل.

فلو قال الزهري: عن أنسٍ، قال رسولُ الله ﷺ. وقال حميد وقال آخرون مع حميدٍ -كثابتٍ وغيره- عن أنسٍ فقط وسكتوا، فقول الزهري وأشباهه بالرفع هو المقدم؛ لأنه ثقة زادنا شيئًا، فتُقبل زيادته، كما لو انفرد بحديثٍ نقبله، فالزيادة كالحديث المستقل.

وهكذا إذا قطعه قومٌ ووصله آخرون ..... أو الزهري مثلًا عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وجاء آخرون فقطعوه قالوا: رواه الزهري عن أبي هريرة مُنقطعًا؛ لأنَّ الزهري ما أدرك أبا هريرة، فقول مَن قال: عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، أولى .....؛ لأنهم زادوا ثقةً، زادوا فائدةً، زادوا ما يدل على ثبوت الحديث واستقامة إسناده، فيكون قولهم مُقدَّمًا، ولو كان الذين حذفوا الواصل هم الأكثر، فلو كان جماعةٌ من أصحاب الزهري رووا عن الزهري عن أبي هريرة، ثقات، وجاء واحدٌ ثقة أو اثنان ثقتان فقالوا: عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، فقولهم مُقدَّم؛ لأنَّ قولهم يجعل الحديث متصلًا صحيحًا، والآخرون يجعلوه منقطعًا ضعيفًا، فقولهم مُقدَّم.

وهذا يدل على أنه لا بدَّ من ولي في النكاح، وهو القريب، وهو كالمواريث، الأقرب فالأقرب، فالأب مُقدَّم، ثم الابن، وهكذا، فإذا عُدم ولم يتيسر الولي قام السلطانُ مقامه، والسلطان هو الأمير والحاكم، وهو رئيس الجمهورية والملك وأشباه ذلك، فإذا فُقد قام شيخُ القبيلة وأشباه ذلك.

المقصود أنَّ السلطان الذي له السلطنة في البلد، أو في القبيلة يقوم مقام الولي، والقضاة ..... يقومون مقام السلطان؛ لأنهم نوابه في هذه المسائل، وإذا تولاه بنفسه كفى، وإذا ولَّى غيره كفى، وإلا فالقضاة يقومون مقامه بهذا؛ لأنَّ هذا هو العُرف في كثيرٍ من البلدان: أن القاضي يتولى بدلًا من السلطان، ولو قدر في بلدٍ من البلدان أنَّ السلطان جعله لغير القاضي: جعله لأناسٍ آخرين عيَّنهم يتولون تزويج مَن لا وليَّ لها كفى ذلك، وإذا كانت في بلدٍ ليس فيها سلطان ولا أمير زوَّجها رجلٌ من المسلمين تسند إليه الأمر، وتقول له: زوِّجني، فيُزوجها، ولا تُعطل.

والحديث الرابع حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي ﷺ قال: أيما امرأةٍ نَكحت، نَكَحَتْ بالفتح زَوَّجَتْ، ونُكِحَتْ بالضم يعني: زُوِّجَتْ: بغير إذن وليها فنكاحها باطل، في بعض الروايات: باطل، باطل، باطل.

هذا يدل على أنَّ الزواج بغير الولي باطل غير صحيحٍ، وهو معنى الحديث السابق: لا نكاح إلا بوليٍّ، فإنَّ الأصل في النَّفي نفي الحقيقة، المعنى: لا نكاحَ صحيحَ، أو لا نكاح مُعتبر إلا بوليٍّ.

وهذه الرواية الأخيرة تُبين ذلك، فإذا أذن الولي جاز، وإن تولاه فلا بأس، لكن الإذن يكون لشخصٍ آخر، ما هو للمرأة؛ لأنَّ المرأة لا تُزوج نفسها، فإما أن يتولاه بنفسه، وإما [أن] يُوكِّل، يأذن لآخر أن يُزوجها، لا للمرأة .....: لا تُزوج المرأةُ المرأةَ، ولا المرأة نفسها، ويأذن الولي لشخصٍ آخر ثقةٍ يُزوجها.

فإن دخل بها فالنِّكاح فاسد، ولها مهر ما استحلَّ من فرجها، لو تزوجت بغير وليٍّ فنكاحها فاسد، لكن لو دخل بها لها المهر، أما إذا ما دخل فله ماله، ونكاحهما باطل، ولا صار شيء، لكن لو قُدر أنه دخل بها ظانًّا أنَّ النكاح صحيح؛ فإنَّ المهر يستحق لها بما استحلَّ من فرجها، وله أن يُعيد النكاح بواسطة السلطان: السلطان ولي مَن لا وليَّ له، ولذا قال: فإن اشتجروا يعني: تنازع الأولياء، ومثل لو فُقدوا: فالسلطان ولي مَن لا ولي له عند فقدهم، وعند تنازعهم واختلافهم وعضلهم .....، فيُزوجها الحاكم، فإذا عضلها القريب زوَّجها البعيد، ولا سيما في هذه الأوقات كثير من الأولياء يُحكى عنهم أشياء قبيحة: من حبس النساء، وظلم النساء، بعضهم يُلزمها [أن] تخدمه في بيته، أو تخدمه في إبله، أو غنمه، وبعضهم يحبسها لأجل [أن] يُلزمها بابن أخيه، أو بابن أخته، أو ما أشبه ذلك، وهذا من أغلاطهم التي هي محرمة وظلم، فينبغي لمن سمع هذا من أحدٍ أن يُبين لهم أنَّ هذا ظلم، وأنه لا يجوز إجبارها على أحدٍ من أبناء عمِّها، أو أبناء خالها أو خالتها، أو ما أشبه ذلك ..... رضاها إذا كان الخاطبُ صالحًا.

ولهذا في الحديث الأخير -حديث أبي هريرة- لا تُنكح البكرُ حتى تُستأذن، ولا تُنكح الأيِّم حتى تُستأمر، هذا يدل على أنه لا بدَّ من أمر الثَّيب وإذنها، ولا بدَّ من سكوت البكر بعد إذنها، فلا يجوز لوليها أن يُجبرها، سواء كانت ثيبًا، وهي التي قد تزوجت ودخل بها، أو كانت بكرًا لم تتزوج، لا بدَّ من إذنٍ، لكن الثَّيب لا تستحي في الغالب، فلا بدَّ من إذنها الصريح، والبكر قد تستحي؛ لأنها لم تعتد الأزواج، فإذنها سكوتها.

فهذا من رحمة الله، ومن إحسانه إلى النساء، فإذا سكتت أو بكت كفى، وهكذا اليتيمة التي ليس لها أب تُستأذن أيضًا، وإذنها صماتها، يستأذنها وليها، ولا يجوز له إجبارها.

وفي رواية مسلمٍ عن ابن عباسٍ: يستأذنها أبوها، والصحيح في أنَّ الأب كذلك.

وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنها تُجبر، قالوا أن قوله: "اليتيمة" يُفهم منه أنَّ غير اليتيمة تُجبر. هذا غلط، وإنما هذا نوع من أنواع المزوجات، وإلا فالحديث عامّ: لا تُنكح البكرُ حتى تُستأذن يعمّ أباها وغير أبيها، ثم جاء صريحًا في رواية مسلم: يستأذنها أبوها، وإذنها سكوتها، فلا بدَّ من إذنٍ من الأب وغير الأب، وليس له إجبارها على ابن عمِّها، أو ابن خالها، أو ابن عمتها، أو ابن خالتها، أو صاحبٍ له، صديق له، أو على شيخٍ كبيرٍ، أو على فاسقٍ، أو ما أشبه ذلك، ليس له إجبارها، بل لا بدَّ من رضاها، فإذا رضيت الخاطبَ زوَّجها، هذا هو الواجب، لكن ليس له أن يُزوجها بمَن هو يضرّها من الفسقة الذين سمعتهم تضرّهم وتضرّ سمعته، فيختار لها الطيب، ويختار لها المستور عند الإمكان، وإذا ما تيسر يختار لها أحسن ..... وأولاهم وأقربهم إلى الخير عند الحاجة، لكن لا يُزوجها كافرًا؛ فإنَّ الله قال: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، إنما يُزوجها غير الكافر، الفاسق لو تعذر العدل، لو تعسر في الأزمان هذه، وبعض البلدان يتعسر العدل من كل الوجوه، فإذا زوَّجها مَن هو خير في ذاته وفي زمانه، وإن كان عنده شيءٌ من النَّقص: كالتدخين، أو غير هذا من النَّقص؛ فإنه أولى من حبسها وجعلها تبقى عانسًا في البيت تتعرض للأمراض، تتعرض للزنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والصغيرة لا تُزوج حتى تعقل، تبلغ التسع، كما ذكر جمعٌ من أهل العلم؛ لأنَّ تزويجها وهي صغيرة يضرّها، وقد يُفضي إلى نزاعٍ كثيرٍ، قد تُمهل، إلا والدها فله أن يُزوجها؛ لأنه أحنى الناس عليها، كما زوَّج الصديقُ عائشةَ وهي بنت ستٍّ، فوالدها له تزويجها إن رأى المصلحة، إذا رأى شخصًا طيبًا يخشى أن يفوت فزوَّجها لا بأس، أما الأولياء الباقون فليس لهم التَّزويج إلا بعد أن تعقل وتُستأذن، وفي الغالب أنها لا تعقل إلا بعد التِّسع، تفهم بعض الفهم، قالت عائشة: إذا بلغت الجاريةُ تسعًا فهي امرأة.

والحديث السابع: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا تُزوج المرأةُ المرأةَ، ولا المرأة نفسها رواه ابن ماجه والدَّارقطني، ورجاله ثقات.

هذا يدل على ما تقدم، وأنَّ المرأة لا تتولى تزويج نفسها، ولا غيرها، هي ليست مؤهلةً لهذا الشيء، بل هذا للرجال، سواء كانت لنفسها أو لجاريتها أو لبنتها أو غير ذلك، لا، يُزوجها وليُّها، فيُزوج بناتها أولياؤهن، ويُزوج جاريتها وليها أيضًا هي، فأبوها يُزوجها، ويُزوج جواريها وعتيقاتها، وهكذا أخوها، وهكذا عمّها، الولي لها هو الولي لمالها وعتيقاتها .....، والله أعلم.

س: .............؟

ج: أنا ما أحفظها، ما كانت محفوظات إلا السابق حديث جابر، ما أحفظها .....، ولكن الحديث معروف، ولكن أحفظها في "البلوغ"، قرأناها على شيخنا مرات .....، ما أذكر هذه الزيادة في نسخنا السَّابقة، ولكن الحديث معروف.

س: ..............؟

ج: فيها بعض اللِّين، جاء من عدة الطرق، لكن عليها عمل الجمهور .....، ويدخل في ذلك الإعلان، فإنَّ الإعلان في ضمنه الشَّاهدان.

س: ..............؟

ج: الذكورية، يكون ذكرًا، وكونه مسلمًا، وكونه عاصبًا لها .....، وكونه مُكلَّفًا، ليس صغيرًا، ولا مجنونًا، أما كونه عدلًا فهو محل نظرٍ، الصواب أنه لا تُشترط عدالته، ولو كان فاسقًا فهو ولي، لكن إذا كان ذكرًا حرًّا مسلمًا مُكلَّفًا بالغًا عاقلًا فله الولاية، ولو كان في عدالته نظر، كالناس اليوم إلا مَن عصم الله.

س: .............؟

ج: يُزوجها نعم، نعم تختار واحدًا ويُزوِّجها.

س: ..............؟

ج: لا أعلم إلا الضَّرورة .....، قد صرح بأنه لم يوجد زوجها حتى جاء عن أحمد رحمه الله أنها تُوكل إذا كان القُضاة ليسوا بجيدين، قضاة سوءٍ، يُزوجها غير القُضاة، نعم.

س: ..............؟

ج: لا بأس، لا حرج، إذا كان إذن بوليها مفهومها إذا أذنت فلا بأس.

..............

994- وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الشِّغَارِ.

وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاتَّفَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ.

995- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا: أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.

996- وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

997- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ أَوْ أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ.

998- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

999- وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا يَخْطُبُ.

وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الشِّغار، فيه أنَّ النبي ﷺ نهى عن الشِّغار، قال: والشِّغار أن يُزوج الرجلُ ابنته على أن يُزوجه الآخرُ ابنته، وليس بينهما صداق. متفق عليه ..... من كلام نافعٍ.

هذا الحديث يدل على تحريم الشِّغار، وهو كما في الحديث: أن يشترط كلٌّ منهما على الآخر نكاح ابنته أو أخته أو بنت أخيه أو ما أشبه ذلك، وهو كثير في الجاهلية، وكثير في زماننا هذا أيضًا وقبله، وأسبابه أنَّ بعض الناس عنده مولية، ولا يجد مَن يُرحب به ويقبل خطبته، فيجعل هذه المولية وسيلة إلى أن يحصل مَن يرضاها [من] النساء، وهكذا الآخر، فيجعلونها سلعة لتحصيل أغراضهم: إما لهم، وإما لأولادهم، فأنكر الله ذلك ونهى عنه؛ حتى لا تُظلم النساء بأسباب رغبة الأولياء في الزواج لأنفسهم أو لأولادهم أو أولاد إخوتهم ونحو ذلك.

وسُمي: شغار، قيل: من الخلو؛ لخلوه من المهر، يقال: شغر الكلبُ رجله، إذا رفعها وأخلى مكانها. وقيل: سُمي بذلك لأنه يُشبه الواقع في الحقيقة، أنَّ كل واحدٍ يقول: لا ترفع رجل فلانة حتى أرفع رجل فلانة؛ تشبيهًا برفع الكلب رجله إذا أراد البول.

وبكل حالٍ فالشِّغار هو النكاح الذي يشرط فيه دائمًا الوليان من الخاطبين ألا يُزوجه حتى يُزوجه، أو ألا يُزوجه حتى يُزوج ابنه، أو ابن أخيه، أو ما أشبه ذلك، وهذا نكاح فاسد؛ لأنَّ الرسول نهى عنه، والأصل في النَّهي الفساد، هذا هو الأصل، حتى اختلف العلماءُ في هذا؛ فذهب الأكثرون إلى بطلانه، وذهب قومٌ إلى صحَّته، وأن النَّهي لا يقتضي الفساد، بل هو منهي عنه، ولكن لا يبطل؛ لعموم أدلة النكاح، شرعية النكاح.

وقول الجمهور أصحّ: أن النَّهي يقتضي الفساد، ثم اختلفوا: هل من شرط الفساد ألا يُسمَّى مهر؟ وإن سُمي مهر صحَّ أم يفسد مطلقًا ولو سُمي مهر؟

فذهب قومٌ إلى أنه متى سُمي مهر زالت العلَّة، وزال الشِّغار؛ لأنه لم يخل من المهر فيصح.

وقال آخرون: لا، العلة باقية، وهي ما فيه من الظلم والإيذاء والعدوان، واتِّخاذ المرأة سلعةً تُباع وتُشترى، فلا يصحّ هذا النكاح ولو وُجد فيه المهر.

وقالوا: وتفسير الشِّغار بخلوه من المهر إنما هو من كلام نافع، كما قال المؤلفُ هنا.

وقال آخرون من أهل العلم -كالخطيب البغدادي وجماعة- أنه من كلام مالك .....

قال الشافعي: أشكّ فلا أدري هل هذا الكلام من كلام ابن عمر، أو من كلام نافع، أو من كلام النبي، أو من كلام مالك؟

المقصود أنَّ الصواب أنَّ الشِّغار تفسيره ليس من كلام النبي ﷺ في هذا الحديث، بل هو من كلام نافع أو مالك، فلا تقوم به الحُجَّة.

وفي "صحيح مسلم" عن جابرٍ النَّهي عن الشِّغار من دون تفسيره، وهكذا في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة النَّهي عن الشِّغار وفيه تفسير الشِّغار، وقال: وهو أن يقول الرجلُ للرجل: زوِّجني بنتك وأُزوجك بنتي، أو زوِّجني أختك وأُزوجك أختي.

وظاهره أنه من كلام النبي ﷺ، ظاهر السياق أنه من كلام النبي ﷺ، لا من كلام الرواة، وتفسيره هو الحقّ، وهو الذي يجب الأخذُ به.

ويدل على هذا ويُقويه وأنه الصواب: ما رواه أحمد وأبو داود بإسنادٍ صحيحٍ عن معاوية : أنه بلغه أن العباس بن عبدالله بن عباس أنكح عبدالرحمن بن الحكم ابنته، وعبدالرحمن بن الحكم أنكح العباس ابنته، تشارطا، وقد جعلا مهرًا، سميا مهرًا، فرفع أميرُ المدينة الأمر إلى معاوية يسأله في إمرة مروان، فكتب إليه أنَّ هذا هو الشِّغار الذي نهى عنه النبيُّ ﷺ، وأمر أن يُفرق بينهما، وقد سميا مهرًا، فهذا موافقٌ لرواية أبي هريرة، موافق للمعنى والمقصد من النَّهي، وهذا هو الصواب، وهو الذي أُفتي به منذ دهر طويل.

وأرى أنَّ النكاح فاسدٌ مطلقًا، ولو سمُّوا آلافًا وعشرات الآلاف من الذهب والفضة، فهو فاسد ما دام فيه شرط، ما دام لم يُزوجه إلا بالشرط: زوِّجني وأُزوجك.

فهذا هو المعنى الذي قصد الشارع إبطاله؛ ولأنه يُفضي إلى ظلم النساء والتَّعدي عليهنَّ، وإمساكهن في البيوت حتى يجد الولي رغبته، ويُفضي أيضًا إلى النزاع المستمر؛ لأنَّه كلما تنازع هذا مع هذه، تنازعت الأخرى مع زوجها؛ لأنَّ كل واحدةٍ مربوطة بالأخرى، ومتى خرجت هذه خرجت هذه، ومتى تنازع مع هذه تنازع مع هذه، وهذا هو الواقع، فتبقى الحياة حياةً سيئةً بين الجميع ..... أنه هو باطل مطلقًا ولو سُمي مهر، وقد أحسن في ذلك، وقال به جمعٌ من أهل العلم من أهل الحديث، وهو الصواب.

والحديث الثاني: حديث ابن عباسٍ في الجارية البكر التي قالت: إنَّ أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبيُّ ﷺ. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأُعلَّ بالإرسال، الحديث وصله قومٌ، وأرسله آخرون، والصواب وصله؛ لأنَّ القاعدة -كما تقدم غير مرةٍ- القاعدة أنه متى وصل الثِّقةُ، وأرسل غيرُه، فالواصل مُقدَّمٌ على المرسل، وهو مقدم على مَن رواه بالانقطاع؛ لأنه أتى بزيادةٍ نافعةٍ مفيدةٍ، فأشبهت ما جاء في الحديث المستقل فتُقبل.

تقدم لنا في المصطلح أنَّ زيادة الثقة مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق، فهذه الزيادات لا تُنافي، بل تُوضح وتزيد علمًا، فهي مقبولة.

ويدل الحديثُ على ما دلَّ عليه الحديثُ السابق في النَّهي عن إجبار البكر، وأنَّ وليها لا يُجبرها، حتى أبوها ليس له إجبارها، بل الواجب استئذانها، فإن أذنت وإلا تركها؛ لأنَّ المصلحةَ لها ليست لغيرها، فالواجب استئذانها، فإذا زوَّجها وهي كارهة وأجبرها فلها الخيار: إن شاءت أمضت، وإن شاءت لم تمضِ، كما خيَّرها النبيُّ ﷺ.

وفي روايةٍ: أن المرأة لما خيَّرها النبي ﷺ قالت: يا رسول الله، قد أمضيتُ ما أمضى أبي، ولكني أردتُ أن تعلم النساءُ أنه ليس لأوليائهن حقٌّ في أمرهن. أو كما جاء في الحديث، وهو صحيح أيضًا.

فالمقصود من هذا بيان أنَّ الأولياء ليس لهم الإجبار، بل الواجب عليهم الاستئذان والنَّظر في النساء، اختيار الأفضل فالأفضل، من دون إجبارٍ.

كذلك حديث الحسن، عن سمرة: أيما امرأةٍ زوَّجها وليَّان فهي للأول منهما رواه أحمد وأهل السُّنن، وحسَّنه الترمذيُّ.

الكلام في رواية الحسن عن سمرة معروف، وقد تنازع العلماءُ في ذلك: فقال قوم: إنها مُنقطعة مطلقًا. وقال قومٌ: إنها متَّصلة مطلقًا. وقال آخرون -وهو الثالث- أنها منقطعة عن سمرة مطلقًا إلا حديث العقيقة، وهو صحيح في الحقيقة أنه متصل، أما ما عدا حديث العقيقة فهي خلاف مشهور.

ولكن هذا الحديثَ مهما قيل في سماع الحسن من سمرة وروايته عنه فهو جيد من حيث هذا المعنى، ومطابق للأصول والقواعد الشرعية؛ فإنه متى زوَّج الأولُ صارت زوجةً معصومةً، ما يصحّ أن يُعقد عليها نكاح آخر، فيكون الثاني باطلًا؛ لأنَّ من شرط النكاح: خلو المرأة من الموانع، فإذا صادفها نكاح الثاني وهي مشغولة بالنكاح الأول بطل النكاح الثاني، كما لو صار الثاني في العدة، أو مُحرمة، بطل، وهكذا ..... يكون نكاحها باطلًا.

وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، ولا أعلم فيه خلافًا، إذا كان الولي الذي زوَّج أهلًا لذلك فإنه يصح تزويجه، ويكون الثاني باطلًا، فلو كان لها أخوان أو عمَّان كلاهما سواء، فزوَّج أحدُهما باختيارها ورضاها، ثم زوَّج الثاني: إما عمدًا، وإما ساهيًا، ما درى عن تزويج الأول، فبكل حالٍ فهو حال باطل، الثاني باطل؛ لأنَّ الأول استوفى الشروط، وهو ولي، وقد استأذن، فلو فُرض أنه جاء الثاني واستأذن وأذنت ..... ما زوَّج، فإنَّ نكاح الأول هو الصَّحيح.

وهكذا العقود الأخرى حيثما باع سلعةً من اثنين فهي للأول منهما، وهكذا عقد الإجارة، وهكذا غيرها، إذا ثبت أنَّ العقد الأول استوفى الشروط بطل العقدُ الثاني.

س: ولو كان الثاني أقرب؟

ج: لا بدَّ أن يكون وليَّان جميعًا، مثل: أخوان شقيقان، أخوان لأبٍ، عمَّان شقيقان، عمَّان لأبٍ، وما أشبه ذلك، يكون كل واحدٍ صالح للولاية، وقد رضيت بالعقد المنكوحة، ولو كان الأولُ أصغر، والثاني أكبر، أو أتقى، أو ما أشبه ذلك، المقصود إذا كان زواج الأول سائغًا مستوفيًا للشرط نفذ.

س: لمن تكون الولايةُ عند التَّساوي؟

ج: الأفضل يتولاها الأكبر، ولكن كلاهما ولي، لكن إذا قدَّموا الأكبر أو الأعلم أو الأفضل يكون أحسن، من باب التَّفضيل.

س: يعني: لو أذنت للأصغر؟

ج: يكفي، كل منهما صالح.

الحديث الرابع: حديث جابرٍ، عن النبيِّ ﷺ قال: أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر.

هذا الحديث أيضًا صحيح، وهو يدل على أنه ليس للعبد أن يتزوج إلا بإذن مواليه، وليس له في الزواج سرًّا عنه، ومتى فعل فهو باطل؛ لأنه مملوك لهم، ملكوا منافعه، وليس له مال، فلا بدَّ من إذنهم، فالزواج يلزمه أموال، ويأخذ عليه أوقاته، فالمقصود أنَّه لا بدَّ من إذنهم، فإذا تزوج بغير إذنهم -كتمه عليهم ولم يستأذنهم- فهو عاهر، يعني: زانٍ يبطل نكاحه ويُؤدّب؛ لافتياته على ولاة أمره.

والحديث السادس حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنَّ النبي ﷺ قال: لا يُجمع بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها متفق عليه.

وفي لفظٍ: لا تُنكح الكبرى على الصُّغرى، ولا الصُّغرى على الكبرى.

وفي "صحيح البخاري" عن جابرٍ مثل حديث أبي هريرة في المعنى.

وهذا يدل على تحريم النكاح بين المرأة وعمَّتها، والمرأة وخالتها، والمرأة وبنت أخيها، والمرأة وبنت أختها، هذا بإجماع أهل العلم، وهذا مخصص لقوله جلَّ وعلا في سورة النساء: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، كما أنَّ الآية مخصوصة بتحريم الرضاع ..... الأم والأخت ..... الأم والأخت، فجاء التَّحريم في بقية مَن يحرمن بالنَّسب، فهي آية عامَّة مخصوصة.

فليس للمسلم أن يجمع بين امرأتين إحداهما عمَّة الأخرى، أو خالة الأخرى، كما يحرم عليه الجمع بين الأختين، هذه قرابة يحرم الجمعُ فيها بين اثنتين: الأخوات والخالات والعمَّات، فليس له أن يجمع بين الأختين مطلقًا: شقيقتين، أو لأب، أو لأم، ..... بنص القرآن: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، وليس له أن يجمع بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة وعمَّتها، ولا بين بنت أخيها وبنت أختها، إذا كانت الخالةُ هي السَّابقة؛ لهذا الحديث الصحيح ..... حديث عثمان.

س: ملك اليمين في الأُختين؟

ج: هو الأقرب؛ أنه إذا وطئ هذا يمتنع عن الأخرى حتى يستبرئ الأول أو يُخرجها عن ملكه.

س: الأولياء إذا كانوا مثلًا إخوة أشقاء ولأب يُقدَّم الشَّقيق؟

ج: نعم كالإرث، هذا الصواب، هذا المقدم، الشَّقيق يُقدم على الأب.

س: ولو زوَّج الأخُ لأب؟

ج: على حسب الصِّلة، الصواب أنه لا يصح؛ لأنه ليس هو الأقرب.

س: أما إذا تساووا؟

ج: نعم، يكون الأولُ منهما صحيحًا إذا أذنت له المرأة.

س: وإذا لم تأذن؟

ج: لا يصح، لا بدَّ من إذنها.

س: قوله: زوَّجها وهي كارهة؟

ج: لم تأذن، هذا المعنى.

س: .............؟

ج: هذا يدل على صحة المعلق؛ لأنه إذا أذنت صحَّ.

س: ..............؟

ج: ما في بأس، من باب التَّعاون، ما في شيء، أقول: من باب التَّعاون على الخير.

س: ..............؟

ج: نعم، أو أحدهما يخطب الخطبة، سواء كان الزوج أو الشهود أو الولي.

س: .............؟

ج: في حديث أبي هريرة عند مسلم، والشِّغار أن يقول الرجلُ: زوِّجني أختك وأُزوجك أختي، أو زوِّجني بنتك وأُزوجك بنتي، فقط، ما في صداق، لا، وهكذا معنى حديث معاوية.

س: .............؟

ج: هذا من اجتهاده، نعم.

س: ..............؟

ج: فيه خلافٌ بين أهل العلم: منهم مَن يقول: يجوز. وهو قول قوي؛ لأنه ما عاد لها علاقة، ومنهم مَن يقول: حتى تنتهي من العدة. وهو محل نظرٍ، محل اشتباهٍ، والقول بالجواز قول قوي إذا كانت مطلقةً طلاقًا بائنًا، لكن يترجح القول بالمنع: أنَّ هذا قد يقع فيه التَّساهل والاشتباه، وقد يُفضي إلى حرص الناس على البينونة ..... يرغب في بقاء النكاح وعدم البينونة، فإذا عرف أنه لا يزوج إلا بعد العدة فربما التزم الطَّلاق الشَّرعي .....

س: ..............؟

ج: لعلَّ هذا للجنس؛ لأنَّ العبد جنس، يعني: العبيد، العبد يعمّ جنس العبيد: أيما عبدٍ نكرة في سياق الشرط، والعبيد لهم موالٍ كثيرة، ويحتمل أن يكون المرادُ أيضًا أن يكون له موالٍ خمسة، ستة، عشرة، كلهم شركاء، كلهم أهل بيتٍ واحدٍ، وكلهم شركاء فيه، وقد يكون كل واحدٍ قد أُجيز له أن يتصرف بينهم، يعني بينهم ..... تصرف الأموال، كل واحدٍ منهم يُجيز الآخر، ما عندهم تشاحّ، فإذا أجازه واحد منهم فقد أجازوه.

999- وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَا يَخْطُبُ.

وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ.

1000- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1001- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ.

1002- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1003- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1004- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعنه : أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء، وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر. أخرجه السبعة إلا أبا داود.

وعن ربيع بن سبرة، عن أبيه : أن رسول الله ﷺ قال: إني كنتُ أذنتُ لكم بالاستمتاع من النساء، وإنَّ الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمَن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا إذا آتيتُموهن شيئًا أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان.

الشيخ: هذه الأحاديث المتعددة المتعلقة بنكاح المحرم، وبنكاح المتعة.

حديث عثمان ، وهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية، الأموي، الخليفة الراشد، أحد الخلفاء الأربعة، وثالثهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ويُلقب بذي النُّورين، تولى الخلافة بعد مقتل عمر، وبايعه المسلمون على ذلك، وأقام فيها ثنتي عشرة سنة، ثم قُتل شهيدًا في ذي الحجة، في آخر ذي الحجة من عام 35 من الهجرة.

يقول: عن النبي ﷺ أنه قال: لا يَنكح المحرمُ، ولا يُنكح، ولا يخطب رواه مسلم.

وهذا يدل على تحريم النكاح من المحرم، وتحريم إيقاعه للنكاح على موليته، وظاهره النَّهي، ويحتمل أنه خبر معناه النَّهي، وكلاهما حُجَّة في تحريم النكاح من المحرم لنفسه ولغيره من مولياته، فليس له أن ينكح بنفسه ويتزوج، وليس له أن ينكح موليته: كبنته وأخته ونحو ذلك، وليس له أن يخطب؛ لأنَّ الخطبة وسيلة، فيُمنع منها؛ لئلا تجره إلى النكاح.

زاد ابن حبان: ولا يُخْطَب عليه أي: ولا تطلب منه موليته الخطبة حال النكاح، وهذا من باب سدِّ الذَّرائع.

قال ابنُ القيم رحمه الله: وقد جاء سدُّ الذَّرائع في الشريعة من تسعةٍ وتسعين وجهًا. فسردها رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، أو سرد أكثرها.

المقصود أنَّ سدَّ الذرائع أمرٌ جاءت به الشريعة من طرقٍ كثيرةٍ، وهي الذَّرائع التي تُفضي إلى الشرك، أو إلى المعاصي، ومنها التي من العقد -عقد النكاح- للمُحرم، حيث يُفضي إلى الجماع، فإنه متى تم النكاحُ فإنَّ الغالب أن الإنسان يشتاق إلى الزوجة الجديدة، ويهمه لقاؤها، وربما لم يصبر ويُواقعها، فحرم الله عقد النكاح لأنه يُوصل إلى الجماع المحرم، وهكذا كونه يُوجد النكاح لغيره من باب سدِّ الذرائع والخدمة كذلك.

فحرم الله جلَّ وعلا هذا وهذا حمايةً للمُحرم من وقوعه فيما حرَّم الله حتى ينتهي من إحرامه، فالإحرام حال عبادةٍ وشغل بأداء المناسك، وليس من شأن صاحبه أن يتصل بالنساء، ولله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة فيما يأمر به، وينهى عنه .

وقد أشكل على حديث عثمان رواية ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو مُحرم، وهي بنت الحارث المزنية، تزوجها في عمرة القضاء، واختلف الناسُ في ذلك:

فقال ابن عباسٍ: أن النبي تزوَّجها وهو محرم، وبنى بها وهو حلال. أي: دخل بها وهو حلال، رواه الشيخان عن ابن عباسٍ.

وقال آخرون: وهم ابنُ عباسٍ في ذلك، وليس بمحرمٍ، وإنما تزوجها وهو حلال. قال سعيد بن المسيب رحمه الله التابعي الجليل: وهم ابن عباسٍ في هذا، فإنَّ الناس كالمجمعين في أنه تزوَّجها وهو حلال.

قال يزيد بن عبدالله ..... عن ميمونة أنه تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي كما أنها خالة ابن عباسٍ.

وقال أبو رافع: تزوجها النبيُّ وهو حلال.

وقالت ميمونة كذلك: تزوجني وهو حلال.

وقال أبو رافع: كنت السَّفير بينهما. يعني: الرسول بينهما، وهذا من أعلم الناس بالواقع.

فميمونة نفسها والسَّفير بينهما أبو رافع، كلاهما يُخبر أنَّ الزواج وقع من النبي وهو حلال، وهذا مطابق لرواية عثمان، فإنه لا ينهى عن شيءٍ ويفعله، ولو فُرض ذلك لكان من خصائصه، أو من الدلائل على أنَّ النهي ليس للتحريم، لكن لما جاءت هذه من عدة روايات أنه تزوجها وهو حلال كان ذلك هو الصواب؛ لأنَّ الخطأ من الواحد أقرب من الخطأ من الجماعة، كما قال ابن عبد البر رحمه الله، قال: ابن عباس وإن كان ثقةً وإمامًا لكن الخطأ من الواحد أقرب من الخطأ من الجماعة، وكلهم ثقات؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الصواب أنه تزوجها وهو حلال، لا محرم عليه الصلاة والسلام، فهو مطابق لرواية عثمان.

وتأوَّل بعضُ الناس حديثَ ابن عباسٍ على أنه محرم، يعني: وهو داخل في الحرم، أي: تزوجها قبل أن يخرج من الحرم، يقال: أحرم الرجلُ، إذا دخل في الحرم، إذا دخل في الأشهر الحرم، كما يُقال: أنجد وأتهم، إذا دخل في نجدٍ وتهامة.

وهذا التأويل ليس بجيدٍ، وليس بشيءٍ، والمحرم يحرم عليه النكاح حتى يفعل الثلاثة: وهي رمي الجمرة يوم العيد، والحلق أو التقصير، والطواف، والسعي إن كان عليه سعي، فإن فعلها تمَّ حلّه، وحلَّ له النكاح: رمى الجمرة يوم العيد، وحلق رأسه وقصره، وطاف طواف الإفاضة، وسعى إن كان عليه سعي؛ حلَّ عليه النكاح، سواء كان رجلًا أو امرأةً، وقبل ذلك ليس له النكاح، ليس له الاتِّصال بالنساء، وتقدم البحثُ هذا في الحجِّ.

والحديث الرابع حديث سلمة بن الأكوع: أن النبيَّ ﷺ رخَّص لهم في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهى عنها.

وحديث عقبة بن عامر : أن النبي ﷺ قال: إنَّ أحقَّ الشروط أن يُوفى به ما استحللتم به الفروج متفق عليه.

هذا الحديث العظيم يدل على أنَّ أولى الشُّروط بالوفاء، وأنَّ أحقَّ الشروط بالوفاء: ما استحلَّ به الزوجُ فرجَ المرأة، وهذا يدل على وجوب العناية بأدائها، والحرص على أدائها، وعدم جحد شيء منها، أو التساهل فيه، فإنه لا يستحل فرجها إلا بالشروط التي شرطتها، فالواجب عليه أن ينفذها، وأن يوفيها حقَّها.

ومعلوم أنَّ المسلمين على شروطهم في كل شيءٍ: في البيع، في الإيجارات، في المساقات، وغير ذلك، ولكن أحقّها بالوفاء من هذه العقود النكاح؛ لما فيه من استحلال الفروج، فإذا اشترطت عليه شيئًا وجب عليه الوفاء به، إلا أن يُخالف شرع الله، أما إذا لم يُخالف شرع الله فعليه أن يلزم به، فإذا شرطت عليه مهرًا مُعينًا، أو مبلغًا مُعينًا من المال، أو نقودًا معينةً والتزم بذلك؛ وجب عليه الوفاء.

وهكذا لو شرطت عليه أن تبقى في بلدةٍ معينةٍ، أو عند أهلها، أو ألا يتزوج عليها، أو ألا يتسرى عليها، فإنه يلزمه الوفاء، فإن رغب عن ذلك فلها الخيار؛ لأنها لا تُحرم ما أحلَّ الله عليه، لكن هذا من مصلحتها، والحديث عامّ ..... بعد ذلك إذا رغب أن يتزوج أو يتسرى يكون لها الخيار: إن شاءت بقيت معه، وإن شاءت طلبت منه الفسخ.

واختلف العلماءُ في هذا، فقالوا: الشروط قسمان:

قسم أباحها الشرعُ، مثل: شرطها نقدًا مُعينًا، ونسبةً معينةً، وأشباه ذلك، هذا حقٌّ لها.

وقسم منعها الشرع: كأن تشرط عليه أن يُطلق ضرّتها، فلا حقَّ لها في ذلك، ولا يجوز لها أن تشرط طلاق ضرَّتها، أو تشرط عليه ألا يُصلي، أو يشرب الخمر، أو ألا يخرج لصلاة الجماعة، أو ما أشبه ذلك من الشروط المحرمة، هذه لا حقَّ لها فيها، وهي باطلة، بل هي شروط محل نظرٍ: هل تدخل في الممنوع أو في الجائز؟ وهي ما تقدم من شرطها: ألا يتزوج عليها، أو ألا يتسرى عليها، أو يجعلها عند أهلها .....، أو في بلدٍ معينٍ .....، وما أشبه ذلك.

اختلفوا في هذا، قال قومٌ: تلزم هذه الشروط؛ لأنَّ فيها المصلحة، وليست مخالفةً للشرع، ليست محرَّمةً.

وقال آخرون: لا يلزمه ذلك، ولا تصحّ؛ لأنَّ له أن يتزوج، وله أن يتسرى، وله أن ينتقل من بلدٍ إلى بلدٍ.

والصواب الأول، الصواب أنَّ هذه الشروط لازمة إذا شرطتها؛ لأنه ليس فيها محذور شرعًا، إذا التزم بألا يتزوج ليس الزواجُ واجبًا عليه، ولا لزامًا له، وإن اكتفى بواحدةٍ فلا بأس، ثم إذا أراد أن يتزوج فليس له مانع، لكن هي لها الخيار.

وهكذا إذا اشترطت عليه بلدًا معينًا يُقيم فيها، أو عند أمها، أو عند أبيها، أو عند والديها، أو عند أخيها، أو أن تكون وحدها ليس معها ضرّة في بيتها، مستقلة، كل هذه الشروط لها فيها مصلحة، والصواب أنها تلزم؛ لعموم الحديث: المسلمون على شروطهم؛ ولهذا الحديث الصحيح الخاصّ، وهو أقوى شيءٍ في الموضوع، فعلى مَن خالفه الدليل، والأصل العمل بهذا الحديث والأخذ به، ومَن خالفه فعليه الدليل الذي ..... من هذا الحديث.

أما الأحاديث الباقية: حديث علي، وحديث سبرة، وحديث سلمة، كلها في المتعة، ومتعة النساء مُحرَّمة عند أهل العلم، وبعضهم يحكي إجماعَ أهل العلم، وبعضهم يحكيه قول الجمهور، وقول الأكثرين، وقد كان فيه نزاع قديم لابن عباسٍ، ثم رجع عنه فيما نُقل عنه، كان يقول: إنها كالميتة تحلّ للضَّرورة.

ويُروى عن ابن مسعودٍ ما يُوهم أنها باقية، فلعله لم يُرد ذلك المقصود الذي عليه إجماع أهل العلم، أو كإجماع أهل العلم أنها مُحرَّمة، خلافًا للرافضة، وأنه يجب على أهل العلم الانكفاف عنها، والامتناع منها، يعني: المتعة.

وكان عمرُ يتوعد من فعل ذلك أن يرجمه إن كان مُحْصَنًا، أو يجلده إن كان بكرًا، ويقول: "لا أؤتى بأحدٍ تمتع إلا جلدته حدَّ الزنا"؛ لثبوت ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

المقصود أنَّ تحريمها ثابتٌ بطرقٍ كثيرةٍ: من حديث عليٍّ، وحديث سلمة، وابن مسعودٍ، وحديث سبرة بن معبد الجهني، وأحاديث أخرى كلها تدل على تحريم نكاح المتعة، فوجب الأخذُ بذلك.

واختلفوا: متى حُرمت؟

فقيل: في خيبر؛ لحديث عليٍّ.

وقيل: في حجَّة عام الفتح؛ لحديث سبرة بن معبد الجهني، وهو صريح في ذلك.

وقالوا في حديث عليٍّ: إنه ..... ليس للنكاح، وإنما هو للحرم، حرم الحرم عام خيبر، ونهى عن نكاح المتعة، يعني بعد ذلك، وليس المقصود أنه عام خيبر، فهو محتمل.

والخلاصة: أنَّ الصواب والحقَّ الذي لا ريبَ فيه أنها محرَّمة، وأنها منسوخة بعدما أُحلَّت؛ ولهذا في حديث سبرة ما يدل على النَّسخ المؤبد، وأنَّ الله قد حرَّمها إلى يوم القيامة، ومَن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا، هذا واضح في أنها محرَّمة تحريمًا أبديًّا مثل تحريم الزنا واللّواط وأشباه ذلك، فهو تحريم أبدي.

وأما ما يفعله الرافضةُ أو بعض الرافضة من استحلالها فليس بمستنكرٍ من مخالفاتهم وبدعهم الكثيرة، ومخالفاتهم لأهل السنة المتعددة، فليسوا بحجَّةٍ، ولا يُلتفت إليهم، ولا يُعول على خلافهم، والله جلَّ وعلا أعلم.

س: .............؟

ج: المشهور عنه أنها كالميتة، ولكن ذكر بعضُهم أنه رجع رجوعًا تامًّا، وأنا ما أتذكر أني وقفتُ على شيءٍ صريحٍ، إنما الرجوع التام عن تحريم ربا الفضل، كان يقول به ثم رجع، صحَّ عنه ذلك، أما رجوعه الكلي ما أتذكر الآن أني وقفتُ على شيءٍ صريحٍ، وقد ألَّف الناسُ في ذلك، ألَّف جماعةٌ من العلماء في نكاح المتعة، وجمعوا ما فيها، ممكن مراجعة ذلك .....، لكن الذي أذكره الآن والمعروف عنه هو أنه جعلها كالميتة.

س: ............؟

ج: لعله نعم، لكن إمامهم ومعبودهم من دون الله علي، وهو ينهى عن هذا، ولكنَّهم مُتناقضون، نسأل الله العافية، فعلي أولى بالاتباع من ابن عباسٍ على مصطلحهم؛ لأنَّ عليًّا هو المقدم عندهم، حتى قدَّموه على الصديق، وعلى عمر، وحتى عبدوه من دون الله، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: نعم لا يخطب من موليته.

س: ...............؟

ج: يطلب منه موليته، نعم، ينكحه أخته وهو محرم؛ لأنه إذا خطبها منه وسيلة إلى أن يزوج، وهو ممنوع ألا ينكح.

س: ...............؟

ج: لا يخطب لنفسه هو، لا يخطب امرأةً لنفسه، ولا يُخطب عليه، لا يخطب الناسُ منه مولياته.

1005- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1006- وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.

1007- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1008- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

الشيخ: هذا الحديثُ الأول عن ابن مسعودٍ في نكاح التحليل، وقد جاء في الباب عدةُ أحاديث عن عليٍّ، وعن عقبة بن عامر، وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

والتحليل: هو أن يقصد الرجلُ بزواجه حلّ المرأة لمن طلَّقها سابقًا. فهذا هو التحليل، سواء اتَّفق عليه مع زوجها الأول، أو شرط عليه من أهلها، أو من غيرهم، أو أضمر ذلك في نفسه، فإنَّ الأحاديث تعمّ الجميع، تعم الصور كلها.

فالرسول ﷺ لعن المحلل والمحلل له، وما ذاك إلا لأنه لم يتزوجها بقصدٍ صالحٍ، وإنما تزوجها ليُحلّها لمن حرَّمها الله عليه، ولم يجز هذا النكاح، وصار باطلًا؛ لأنه ..... خلاف ما شرع الله، بل المشروع أن ينكح الرجلُ المرأةَ ليستمتع بها .....، إنما شرع الله الاستمتاع وغضَّ البصر وقصد النَّسل وغير هذا من مقاصد نكاح الشرع، وهذا إنما قصدها لغيره؛ ولهذا سُمي: التيس المستعار، كأنه جيء به للضِّراب فقط؛ ولهذا استحقَّ اللَّعن: لعن الله المحلل والمحلل له.

والمحلل له إذا كان عن قصدٍ منه وتواطؤٍ، أما إذا كان ما درى ما تعمّه اللعنة؛ لأنه ما درى .....، وإنما هذا في الغالب يقع عن تواطؤٍ، وعن قصدٍ من الجميع، فإنه جاء في اللَّعن في الجميع: لعن الله المحلل والمحلل له، وهذا هو الذي عليه أهلُ العلم: تحريم نكاح التَّحليل، وقد تنازع الناسُ في بعض الصور .....

والصواب أنَّ الحديث يعمّها: يعمّ ما لو اتَّفقا وتواطآ، وما لو شرطه عليه الزوج الأول، وما إذا لم يشرط عليه، فإن الحديثَ يعمّ الصور كلها.

فالواجب الحذر من ذلك، وقد يظنّ بعضُ الناس أنه مُحسن، يُزين له الشيطانُ أنه مُحسن، فبين النبيُّ ﷺ أنَّ هذا الأمر ليس من الإحسان، بل الواجب الحذر مما حرَّم الله، والله حرَّمها لحكمةٍ بالغةٍ.

ولعلَّ من الحكمة أن يتباعد الناسُ عن الطَّلاق المحرم، وألا يُطلِّقوا إلا الطَّلاق السني الشَّرعي الذي يُمكنهم فيه المراجعة في العقد، وفي غير العقد، فكان من عقوبتهم إذا تساهلوا أن حرَّمها الله عليهم إلا بعد الزوج الجديد الذي يطأها.

ولعلَّ هناك حِكَمًا أخرى لا نعلمها، ولكن الحِكَم الظاهرة التي قررها أهلُ العلم: أن الزوج إذا عُرف أنه متى طلَّقها الطلقة الأخيرة -الثالثة- حرمت عليه، أمسك نفسه وجاهدها حتى لا يُطلق، وحتى تبقى الزَّوجية.

والحديث الثاني حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: لا ينكح الزاني إلا مثله، هذا يدل على أنه لا ينبغي التَّزوج بالمرأة المعروفة بالزنا، ولا ينبغي للعفيفة أن تنكح الزاني المعروف بالزنا؛ لأنَّ هذا قد يضرّها، كما أنَّ الزوجة المعروفة بالزنا تضرُّ زوجها؛ تعلق عليه أولادًا من غيره، وتنكد عليه حياته، فيكون في غمٍّ وهمٍّ كثيرٍ، فمن رحمة الله أن حرَّم هذا على المؤمنين، وقال في هذا: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

فمتى عُلم وعُرف أنه زانٍ فلا ينبغي للمرأة أن تتزوجه، ولا ينبغي لأوليائها أن يُزوجوه؛ حتى تُعلن توبته، وإذا عُرفت أنها زانية كذلك لا ينبغي للأخيار أن يتزوَّجوها حتى تُعلن توبتها، وتُعرف توبتها.

وقوله: "المجلود" المراد والله أعلم الذي ظهر زناه وعُرف، فإنه إذا جُلد إنما يُجلد عن بينةٍ وعن إقرارٍ، فالسر في ذكر المجلود والله أعلم يعني: الذي قد ظهر زناه، وعُرف زناه، بخلاف مَن تُتهم أو يُتهم فلا يكفي هذا، وإنما المراد مَن عُرف؛ لأنَّ الله قال الزاني بالنصِّ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

وذهب قومٌ إلى أنَّ هذا من باب الوعيد، وبعضهم تأوَّله على معنى: لا يرغب في نكاحها إلا كذا، ولكن لا يحرم.

وليس بجيدٍ، والصواب قول مَن قال: إنَّ النص يدل على التَّحريم، وأنَّ الواجب على الزاني التوبة إلى الله الصَّادقة، وعلى الزانية التَّوبة إلى الله، وما داما لم يُعلنا ذلك ولم يُعرف عنهما ذلك فإنه لا يجوز نكاح هذا المعروف بالزنا؛ لأنه يضرّ زوجته، ويُفسد عليها حياتها، وليس له أن ينكح الزانية، بل يجب عليه أن ..... ذلك، ولا يُؤثره إلا مَن أُصيب في دِينه؛ لضعف الإيمان؛ ولهذا قال: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.

أما نكاح المشرك معلوم أنه مُحرَّم على المؤمنة أن تنكح المشرك، ومحرَّم على المشركين نكاح المسلمات، ولكن المقصود في هذا التَّنفير والتَّحذير، وأن مثل هذا يجب الحذرُ منه، ويجب على أهل الإيمان أن ينتهوا من ذلك، والمؤمنات أن ينفرن من ذلك؛ حتى يكون ذلك رادعًا عن الفاحشة، ومُسببًا للبعد عنها، والحذر من أسبابها، والاستتار بستر الله إذا وقع شيءٌ من ذلك، إذا عرف أنه يُهجر ويُرغب عنه، وعرفت أنها تُهجر ويُرغب عنها؛ كان هذا من أسباب توقي هذه الفاحشة والحذر منها، نسأل الله السَّلامة.

والحديث الثالث حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المبتوتة امرأة رفاعة القرظي، لما أرادت أن تتزوج أخبرها النبيُّ ﷺ أنه لا يحلّ لها ذلك حتى تذوق منه عسيلته ..... يعني: حتى يطأها الزوجُ.

وهذا الذي عليه أهل العلم قاطبةً: أنه لا بدَّ في نكاح الثاني أن يطأ، وإذا كان العقدُ فقط فإنها لا تحلّ للأول، قال الله جلَّ وعلا: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فالنكاح هنا: العقد والوطء جميعًا، يعني: حتى يحصل الأمران: عقد ووطء، ولا تحلّ بعقدٍ فقط، ولا بوطءٍ فقط، فلو وطئها سيدها، أو كان بالفاحشة لم تحل، فلا بدَّ من عقدٍ ووطءٍ جميعًا؛ ولهذا قال: حتى تذوق من عسيلته .....، وهذا كناية عن الجماع وما يحصل فيه من الحلاوة، فإن الجماعَ مُشتهى، قد جبل الله الرجال على محبَّة الجماع، وجعل ذلك سائغًا وتابعًا إلى الزواج، وإلى الجماع، وإلى قضاء الأوطار، فلولا ما يجده الزوجُ من الحلاوة والتَّلذذ بهذا الجماع، ولولا ما تجده المرأةُ من ذلك ما مال بعضُهم إلى بعضٍ، وما رغب بعضُهم في بعضٍ، ولكن جعل الله ذلك من أسباب ميل هذا لهذا، وميل هذا لهذا، ومن أسباب وجود الزواج والنَّسل والذرية .....

وقد ذُكر عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه أجاز رجوعها بمجرد العقد، ولكن الذي عليه أهلُ العلم خلاف ما قال سعيد، ولعله خفي عليه الحديث ولم يصل إليه.

ثم المراد بالثلاث هنا: الثلاث التي أوقعها واحدة بعد واحدةٍ، فقد جاء في الرواية الأخرى أنه طلَّقها آخر الثلاث، أما الثلاث مجموعة فقد اختلف العلماءُ فيها:

فقال الجمهورُ أنها تقع كلها، وأنها يحرم بها المرأة. وهذا هو المعروف عند الأربعة من الجمهور.

وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنها لا تقع، وإن هي إلا واحدة، واحتجُّوا بما رواه مسلم في "الصحيح" من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ أبا الصهباء قال لابن عباسٍ -وهذا يأتي إن شاء الله في الطلاق- ألم تكن الثلاث على عهد رسول الله واحدة، وفي عهد الصديق، وفي أول خلافة عمر؟ فقال ابن عباسٍ: بلى.

واحتجوا أيضًا بما رواه أحمد، ورواه أبو داود ..... عن ابن عباسٍ أيضًا .....، فقال: إنها واحدة.

وسُئل ابن عباسٍ عن هذا فأفتى بأنها واحدة إذا كانت ..... واحد.

وهذا قال به ابنُ عباسٍ في روايةٍ صحيحةٍ، وقال به جماعةٌ من أصحابه، وطاووس، وجماعة من أصحاب ابن عباسٍ، وقاله ابن إسحاق أيضًا صاحب "السيرة"، وأفتى به جمعٌ من أهل العلم، واختاره أبو العباس ابن تيمية، وابن القيم رحمة الله عليهما: أن الثلاث مجموعة لا يقع بها إلا واحدة.

أما إذا فرَّقها قال: طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو: طالق، فطالق، فطالق، فطالق فتقع، تقع كلها؛ لأنه فرَّقها.

وهكذا لو طلَّقها اليوم، ثم طلَّقها غدًا، ثم طلَّقها بعد غدٍ، أو طلَّقها في طهرٍ، ثم في طهرٍ، ثم في طهرٍ، تقع عند الجميع، إلا ما يُروى عن شيخ الإسلام رحمة الله عليه: أنها لا تقع إلا بعد نكاحٍ أو رجعةٍ. ولا أعلم به قائلًا من السلف رحمة الله عليهم بعد التَّتبع، ما رأيتُ عن بعض السلف شيئًا صريحًا بأنَّ الثانية لا تقع أو الثالثة إذا كانت مُفرقةً، وإنما المعروف عنهم وقوع الجميع.

وإنما الخلاف إذا كانت بلفظٍ واحدٍ قاله: بالثلاث، أو مطلقة بالثلاث، أو أنت بالثلاثة؛ لأنَّ هذه الألفاظ وأشباهها المختار والأرجح أنها واحدة؛ لحديث ابن عباسٍ الذي سمعت .....؛ ولما فيه من عناية المسلمين، وتسهيل جمع شمل المتفرقين بهذه الكلمة؛ ولأنَّ قواعد الشرع تقتضي أنَّ ما كان ..... يُعتبر واحدةً، فلو قال: سبحان ثلاثًا وثلاثين، لم يُعتبر إلا واحدة حتى يُكملها ثلاثًا وثلاثين: سبحان الله، إلى آخره. ولو قال: لا إله إلا الله مئة مرة، لم تُحسب له حتى يقول: لا إله إلا الله مئة مرة. وهكذا لو قال في اللعان: قد لاعنتُك أربع مرات، لم تُحسب حتى يُكررها أربعًا.

فمن هذا وأشباهه احتجَّ الجاعلون لها واحدة بهذا المعنى، مع صريح حديث ابن عباسٍ المرفوع.

..............