وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] قال: بعث رسول الله ﷺ سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا، وأتاهم ذو العينتين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل، فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدًا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم، فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه، وأخذ ماله، فبلغ عمارًا الخبر، فأتى خالدًا فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني، فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا، وارتفعا إلى النبي ﷺ فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله ﷺ، فقال خالد: أتترك هذا العبد الأجدع يسبني، فقال رسول الله ﷺ يا خالد لا تسب عمارًا فإنه من سب عمارًا يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله، ومن يلعن عمارا يلعنه الله فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه، فأنزل الله قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.الشيخ: هذا مرسل؛ لأن السدي ما أدرك لا خالدًا، ولا عمارًا، فهذا منقطع، فهو ضعيف الإسناد ....... لأن خالدًا يعرف فضل عمار، ويعرف أن الإنسان إذا أسلم حقن دمه بذلك.. حاصل هذا الخبر يحتاج إلى عناية في تتبع طرقه.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلًا، ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية، وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني العلماء، والظاهر، والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء، والعلماء كما تقدم.الشيخ: وهذا الراجح أن أولي الأمر يعم العلماء، والأمراء، وإن كانت في الأمراء أظهر، لكن أهل العلم أيضًا هم من أولي الأمر في بيان أحكام الله، وبيان ما يجوز، وما يحرم، وما يحل، فهم أولو الأمر من جهة البيان، والأمراء أولو الأمر من جهة التوكيد، والأحكام.
وقد قال تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني، فهذه أوامر بطاعة العلماء، والأمراء، ولهذا قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ أي اتبعوا كتابه، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي خذوا بسنته، وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح إنما الطاعة في المعروف.
الطالب: بالنسبة لأثر: عدل يوم خير من عبادة أربعين سنة، بسم الله الرحمن الرحيم، قال العجلوني في كشف الخفاء: حديث عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة رواه الديلمي عن أبي هريرة، وأرسله من طريق أبي نعيم بلفظ: عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة والحديث عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى ابن عساكر، من حديث أبي هريرة كذا في كنز العمال، قال الزيلعي في نصب الراية: الحديث الرابع، قال : عدل ساعة خير من عبادة سنة. قلت: غريب بهذا اللفظ، وروى إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا جعفر بن عمرو الحريثي، قال: حدثنا عفان بن زبير عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يومًا، وكذا رواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه في الكبير عن عفان بن زبير الطائي عن أبي حريج الأزدي عن عكرمة به.
وجعفر بن عمرو، قال في التقريب: جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي صدوق من التاسعة مات سنة ست، وقيل سبع ومائتين، ومولده سنة عشرين، وقيل سنة ثلاثين (الجماعة)
وعفان بن زبير الطائي، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: روى عن أبي حريث، وروى عنه. ....... الشيباني، وجعفر بن عمرو.. سمعت أبي يقول ذلك.
وسنده في الطبراني الكبير: حدثنا العباس بن الفضل الإسباطي قال: حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني قال: سمعت عفان بن زبير الطائي عن أبي حريث الأزدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ الحديث. وفيه: أربعين عامًا بدلاً من أربعين يومًا، قال الحكمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، وفيه سعد أبو غيلان، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، انتهى.
وسعد أبو غيلان هو ابن طالب الشيباني قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: روى عن حماد ........، وعفان بن زبير الطائي روى عنه أبو الأحوط سلمان بن سليم ..... عبدالله بن يونس سمعت أبي يقول ذلك، حدثنا عبدالرحمن، قال: سألت أبي عنه فقال: شيخ صالح، وفي حديثه ضعف. حدثنا عبدالرحمن قال: سئل أبو زرعة عن سعد أبي غيلان فقال: لا بأس به. وأبو حريز بفتح المهملة، وكسر الراء، وآخره زاي. هو عبدالله بن حسين الأزدي البصري، قال في......: صدوق يخطئ من السادسة، البخاري تعليقًا، والأربعة.
وقال الزيلعي بعد ذكره الحديث السابق: حديث آخر، روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال حدثنا هشيم بن زياد بن مخراق عن رجل عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: العادل في رعيته يومًا واحدًا أفضل من عبادة عابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة. شك هشيم. انتهى.
وزياد بن مخراق قال في التقريب: بكسر الميم وسكون المعجمة المزني مولاهم، أبو الحارث البصري، ثقة من الخامسة (البخاري في الأدب، وأبو داود)، وفيه: الرجل الذي لم يسم، والله أعلم.
الشيخ: لا يخلو من مقال، لكن فيه الدلالة على فضل العدل.. وأن العدل في الأمة مثل ......... فالعبادة قاصرة على العبد، لكن العدل يعم الناس كلهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي حريث، عن عمران بن حصين، عن النبي ﷺ قال: لا طاعة في معصية الله.
وقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله، وسنة رسوله. وهذا أمر من الله بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] فما حكم به الكتاب والسنة، وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر، وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي، وغير واحد.
وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.الشيخ: وهذا هو الواجب على جميع الأمة في جميع الأمور إذا حصل التنازع يرجع إلى ربه والقرآن، وإلى السنة، فما حكما فيه فهو الحكم، ولهذا قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إلى الله إلى الكتاب العزيز، وهو القرآن، والرسول إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته بعد وفاته، الأحاديث الصحيحة هذا هو الواجب على المسلمين، وإيمانهم يحملهم على هذا، ويوجب عليهم هذا، ولهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، وهكذا قوله جل وعلا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] أي إلى شرعه الذي جاء به نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو الكتاب والسنة، فلا يجوز التحاكم إلى القوانين الوضعية، أو إلى السوالف التي قالها الآباء والأجداد، أو إلى الآراء المجردة كل هذا لا يجوز، وكانت الجاهلية تتحاكم إلى رؤسائها وكبرائها من الكهنة، والمنجمين، والسحرة، فأبطل الله هذا، وأوجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى كتابه العزيز، وإلى ما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام من العلم والهدى، وفيه ما يحصل به فصل النزاع، وفيه قيام الحق الذي به مصلحة الجميع، وسعادة الجميع، وذلك يحتاج إلى العناية من أهل العلم، فإن الحكم يحتاج إلى نظر وبصيرة كما قاله الله ورسوله حتى يبت في نزاع الناس .....
س: كذلك الأنظمة الوضعية، لا تعارض.....؟
الشيخ: ... لكن النقش في أفهام الناس فإذا استعان بشيء من القوانين، أو شيء في شيء التي تعينه على بعض المسائل ... حتى يعرضها على الكتاب السنة، وينظر، ويستشير إخوانه، وزملاءه حتى يستعين بآرائهم على ما ..... مثل هذا الكلام على أهل العلم حتى يستفيد ..... هذا النظر كمقدمات.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:60-63].
هذا إنكار من الله على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخصاما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب، والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا، ولهذا قال: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها.الشيخ: يعني الطاغوت هنا كل ما يتحاكم إليه من غير الكتاب والسنة، سواء كان وضعي، وضعه الرجال، أو السوالف التي مضى عليها الآباء والأجداد، يتحاكمون إليها، أو كافر يتحاكمون إليه، أو شخص يحكم بالرشوة لا بما أنزل الله، كل هؤلاء يسمون طاغوتًا، ولذلك لأنهم طغوا يعني خرجوا عن الحدود، يقال: طغا الماء إذا جاوز الحدود، وسمي الطاغوت طاغوتًا؛ لأنه جاوز الحدود، وتعدى الحدود، ولم يقف عند الحدود الشرعية، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو تجاوز الحد المطلوب، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله داخل في ذلك، والذي يدعو الناس إلى عبادة نفسه داخل في ذلك، والذي يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان وغير ذلك كلها طواغيت، وهكذا إبليس، وسائر الشياطين كلهم طواغيت، كذلك الذي يُعْبَد وهو يرضى أن يعبد من دون الله طاغوت، وهكذا من يحكم بين الناس بالآراء، والقوانين الباطلة، أو بالرشوة، أو بغير ما أنزل الله كائنًا من كان دخل في اسم الطاغوت، صفة عامة، وهكذا الكهان طواغيت، والسحرة طواغيت، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ويضلون الناس عن سبيل الله، كلهم يسمون طواغيت. والطاغوت قد يكون كافرًا مرتدًا عن الإسلام ضالاً مضلاً، وقد يكون عاصيًا فاجرًا وليس بكافر، كالذي يحكم بالرشوة وهو يعلم أنه عاص، يعلم أنه مخطئ لكنه يأخذ الرشوة لضعف إيمانه فهذا عاص، وليس بكافر إلا إذا استحله، إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر بذلك، أما لو أخذ الرشوة، ولكن لا يستحل ذلك فهو عاص، وأتى كبيرة عظيمة لكونه ظلم الناس.
س: سبب النزول هذا صحيح؟
الشيخ: يروى في الروايات، ولا عبرة بأسباب العبرة بالعموم.
وقوله: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا أي يعرضون عنك إعراضًا كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21]، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، الآية.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك، أو جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أي يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان، والتوفيق، أي المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا صحة ذلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [المائدة:52]، إلى قوله: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إلى قوله: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا.الطالب: صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي أبو عمرو الحمصي، ثقة من الخامسة، مات سنة خمس وخمسين أو بعدها (البخاري في الأدب، ومسلم، والأربعة).
صفوان ابن عمرو الحمصي الصغير صدوق من الحادية عشرة النسائي.
الشيخ: هو الأول، انظر أحمد بن يزيد الحوطي لعل النسائي روى له.
ثم قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، وَعِظْهُمْ أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق، وسرائر الشر، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.الشيخ: وهذا هو واجب ولاة الأمور والعلماء؛ لأن القلوب إلى الله ، والمنافقون يتظاهرون بالإسلام، فالواجب إذا ظهر فيهم أمارات النفاق أن ينصحوا، ويعلموا، ويوعظوا، ويذكروا حتى يوجد منهم شيء صريح يدل على كفرهم، وضلالهم، ولهذا كان ﷺ يوكل سرائرهم إلى الله، وينصحهم، ويحذرهم، ولا يكتفي بما أظهروا من الإسلام.
الطالب: أحمد بن يزيد بن إبراهيم بن الورتنيس بفتح الواو، وسكون الراء، وفتح المثناة الفوقانية، وكسر النون الثقيلة بعدها ياء أخيرة ساكنة، أو مهملة يكنى أبا الحسن الحراني ضعفه أبو حاتم من العاشرة.
أحمد بن يزيد بن روح الداري الفلسطيني مستور من الثانية عشرة ابن ماجه.
الشيخ: نعم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64، 65].
يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] أي عن أمره، وقدره، ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.الشيخ: والمعنى في هذا أنه أرسل الرسل سبحانه إلى الخلق ليطاعوا، ويتبع ما جاءوا به، ما أرسلهم عبثًا ولا سدى، ولا ليعصوا، وإنما أرسلهم ليطاعوا، ويتبعوا، فالواجب على المكلفين في كل زمان أن يطيعوا الرسل، وأن يتبعوهم؛ لأنهم أرسلوا لدعوتهم إلى أسباب النجاة، إلى أسباب السعادة، إلى دار الكرامة، إلى أداء الحق في الدنيا؛ حتى يفوزوا بالسعادة في الآخرة، ولهذا قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وقال: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ، وعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ومَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] فالمقصود أن الرسل وعلى رأسهم خاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إنما أرسلوا ليطاعوا، ولكن طاعتهم إنما تكون بيد الله وتوفيقه، فمن الناس من يوفق، ويطيع الرسل، ويتبعهم، ومن الناس من يخذل فلا يتبعهم، فهذا كله بإذن الله، يعني بإذنه الكوني القدري، فمن الناس من يوفق، ويكون قد سبق في علم الله أنه يهتدي فيهتدي، ويطيعهم فيفوز بالسعادة، ومن الناس من سبق في علم الله أنه شقي، وأنه لا يتبع الرسل فعند ذلك لا يبالي، ولا يطيع الرسل، ولا ينقاد لما جاؤوا به، وهذه حال الأكثرين، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
لما ذكر قصص جماعة من الأنبياء في سورة الشعراء قال بعد كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]، فعلى المؤمن أن لا ينقاد للهوى، والشيطان، وعليه أن لا يتبع الأكثرين، بل عليه أن يبادر لطاعة الرسول ﷺ، وأن يجاهد نفسه في ذلك، وأن يسأل ربه التوفيق، والإعانة، والهداية، حتى ينقاد لحكم الذي بعث به رسوله ونبيه محمد عليه الصلاة، والسلام.
أما المجيء إلى قبره وسؤاله أن يستغفر لهم أو يستشفع لهم هذا منكر، ولا أصل له، ولا صحة له، وهذه الحكاية باطلة موضوعة لا أساس لها، والعتبي لا يحتج به، ولا بسنده، ولا بالسند إليه، كما نبه على ذلك الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وغيرهم، تكلموا على هذه القصة فهي لا أصل لها، ولا صحة لها.
والواجب على أهل العلم إذا ذكروا مثل هذه القصة يبينوا بعدها غلطها، والمؤلف في بعض النسخ بيض لها، كأنه يريد أن يعلق عليها فلم يعلق، وكان الواجب عليه رحمه الله أن يطرحها أو ينبه عليها لما ذكرها، وبيان بطلانها، لا يجوز للناس الإتيان إلى قبر النبي ﷺ، ويسألوه الشفاعة لا، يسألوا ربهم، اللهم شفع فينا نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم لا تحرمنا شفاعته، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، أما في حياته ﷺ نعم، إذا قيل: يا رسول الله اشفع لنا، ادع الله لنا، فلا بأس في حياته، وهكذا يوم القيامة إذا بعث الله الخلائق يجتمع المؤمنون فيأتون إليه ويسألونه أن يشفع لهم عند الله؛ لأنه مقرب بين الناس، لأنه حي بين أيديهم عليه الصلاة والسلام، أما في البرزخ بعد وفاته وقبل البعث والنشور فلا يجوز أن يؤتى قبره ويسأل، لا قبره ولا قبر غيره عليه الصلاة والسلام، وإنما يدعى الله ، ويسأل فيقال: يا ربنا شفع فينا نبيك، يا ربنا شفع فينا ملائكتك، يا ربنا شفع فينا أفراطنا، يا رب اغفر لنا، يا رب ارحمنا، هو الذي يدعى جل وعلا.
فهذه القصة التي ذكرها المؤلف هنا قصة العتبي عند أهل العلم لا أساس لها، بل هي باطلة، ولا صحة لها، ومعناها أيضًا باطل.
وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول ﷺ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا، ولهذا قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة، كما ورد في الحديث: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحرة، فقال النبي ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما ﷺ بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، هكذا رواه البخاري هاهنا، أعني في كتاب التفسير في صحيحه من حديث معمر، وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج، ومعمر أيضا، وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، فذكره، وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي ﷺ في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي ﷺ للزبير: اسق، ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فاستوعى النبي ﷺ للزبير حقه، وكان النبي ﷺ قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له، وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله ﷺ استوعى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة، وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه.
والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبدالله، فإن أبا محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم، رواه كذلك في تفسيره.الشيخ: ........ بالإرسال صرح بالإرسال، ولكن عروة قيل: إنه سمع من أبيه، لأنه ذاك الوقت كبير، وسمع من علي أيضًا، وعلي عاش بعد الزبير أربع سنين تقريبًا، فقوله: أن الزبير كان يحدث ظاهره الاتصال.
فقال: حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث، ويونس عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا مع النبي ﷺ إلى رسول الله ﷺ، في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، واستوعى رسول الله ﷺ للزبير حقه، وكان رسول الله ﷺ قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله ﷺ استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به، ورواه أحمد، والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبدالله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبدالله بن الزبير. والله أعلم.
والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبدالله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، فذكره، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدًا قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبدالله بن الزبير غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.الشيخ: وهذا يدل على وجوب التسليم، والانقياد لحكم الله في حياة النبي ﷺ وبعده، في حياته ﷺ في حكمه بنفسه عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته ما حكمت به السنة، وما دلت عليه السنة والقرآن، فإن الواجب الرضا بذلك والتسليم له، فما حكم به الله، ورسوله وجب التسليم له، والانقياد له، والواجب على جميع الأمة أن تحكم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينقادوا لله، ويسلموا له، ولما حكم النبي ﷺ، ولما أمر النبي ﷺ الزبير أن يحبس الماء، ثم يرسل إلى جاره قال: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء، قال: اسق يا زبير ما تيسر، ثم أرسل الماء، كان أحدهما فوق الآخر من الشراج فينزل من الأعلى فيسقيه أولا، ثم ينحدر الماء إلى جاره، يعني من غير استيعاب، إنما أمره أن يشرب، وأن يرسل من دون استيعاب، فلما قال الأنصاري ما قال من الكلمة السيئة (أن كان ابن عمتك) فإن هذا معناه التهمة، وأنه حابى من أجل أنه ابن عمته؛ لأن الزبير هو ابن عمة النبي ﷺ، أمه صفية بنت عبدالمطلب، أخت عبدالله أبي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قال هذه الكلمة الشنعاء تلون وجه رسول الله ﷺ، يعني غضب عليه الصلاة والسلام، وهذا معنى أحفظه، أي: أغضبه، فأمر الزبير أن يأخذ حقًا وافرًا تامًا حتى يعم الماء أرضه إلى أصول الجدر التي بها يعم الماء أرض الزبير، ثم بعد هذا يرسله إلى جاره، فيكون استوفى له الحكم بعدما قال الأنصاري ما قال، وهذه الرواية سواء كانت رواية عبدالله بن الزبير عن أبيه أو من رواية عروة عن أبيه فالحديث صحيح، ولهذا ذكره البخاري رحمه الله، وساقه في صحيحه في مواضع يبين أن هذا الحكم هو المطابق لمعنى الآية، وأن الواجب على من حكم له رسول الله ﷺ أو حكم عليه أن يرضى بذلك، وأن ينقاد لذلك، وأن لا يكون في قلبه شيء من التردد والحرج، بل يسلم تسليمًا، وهكذا بعد وفاته ﷺ يجب على الأمة أن تنقاد لحكمه، وأن تسلم له عليه الصلاة والسلام كأنه حي بين يديها عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فالواجب طاعته حيًا وميتًا عليه الصلاة والسلام.
الطالب: رواية الحاكم عن عبدالله بن الزبير؟
الشيخ: كان استنكر رواية ما ذكره من رواية ابن أخي الزهري، عن الزهري.
الطالب: هل هي ضعيفة؟
الشيخ: ابن أخ الزهري فيه كلام لا بأس به جيد في الجملة، استغرب من الصحابي من هذا الطريق، وقال: لم يخرجاه، ومع هذا فقد خرجه البخاري.
الطالب: والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبدالله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير فوصله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فإني لا أعلم أحدًا قال بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبدالله بن الزبير غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.
الشيخ: رواية أحمد المتقدمة قبل هذا بقليل؟
الطالب: وهكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة، وبين أبيه الزبير. .
الشيخ:. ..
الطالب: وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه، فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير.
الشيخ: المقصود أن روايته من طريق ابن أخيه هي التي مستنكرة....... وهو لا بأس في نفسه، لكن لعل له أوهام عن عمه.
شف ابن أخي الزهري التقريب.
س: رواه الحاكم، ولم يخرجاه؟
الشيخ: ظاهر كلام المؤلف اللي ما اعترض في هذا، اعترض عليه أنه رواه ابن أخي الزهري، وإلا. ......؛ لأنه خرجه البخاري، ما قال لم يخرجه مسلم، لأن الاعتراض عليه من الجهتين، لكن ابن كثير إنما لاحظ سند الحديث ابن أخي الزهري.
س: قصة العتبي لها سند؟
الشيخ: ذكر الذهبي وجماعة أن لها سند مظلم لا صحة له، ذكرها الشيخ عبداللطيف في رده على ابن إدريس في التأسيس، وذكرها غيره، وشيخ الإسلام تكلم عليها أيضًا.
الطالب: محمد بن عبدالله بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب الزهري، المدني ابن أخي الزهري، صدوق له أوهام، من السابعة مات سنة 52، وقيل بعدها (الجماعة).
الشيخ: كأن مقتضى كلام ابن كثير أنه سيئ الحفظ عن عمه، أو لم يضبط أحاديث عمه، والمؤلف ما نبه عليه هنا.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلًا، ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه، والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية، وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني العلماء، والظاهر، والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء، والعلماء كما تقدم.الشيخ: وهذا الراجح أن أولي الأمر يعم العلماء، والأمراء، وإن كانت في الأمراء أظهر، لكن أهل العلم أيضًا هم من أولي الأمر في بيان أحكام الله، وبيان ما يجوز، وما يحرم، وما يحل، فهم أولو الأمر من جهة البيان، والأمراء أولو الأمر من جهة التوكيد، والأحكام.
وقد قال تعالى: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة:63]، وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني، فهذه أوامر بطاعة العلماء، والأمراء، ولهذا قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ أي اتبعوا كتابه، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي خذوا بسنته، وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح إنما الطاعة في المعروف.
الطالب: بالنسبة لأثر: عدل يوم خير من عبادة أربعين سنة، بسم الله الرحمن الرحيم، قال العجلوني في كشف الخفاء: حديث عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة رواه الديلمي عن أبي هريرة، وأرسله من طريق أبي نعيم بلفظ: عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة والحديث عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى ابن عساكر، من حديث أبي هريرة كذا في كنز العمال، قال الزيلعي في نصب الراية: الحديث الرابع، قال : عدل ساعة خير من عبادة سنة. قلت: غريب بهذا اللفظ، وروى إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا جعفر بن عمرو الحريثي، قال: حدثنا عفان بن زبير عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يومًا، وكذا رواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه في الكبير عن عفان بن زبير الطائي عن أبي حريج الأزدي عن عكرمة به.
وجعفر بن عمرو، قال في التقريب: جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي صدوق من التاسعة مات سنة ست، وقيل سبع ومائتين، ومولده سنة عشرين، وقيل سنة ثلاثين (الجماعة)
وعفان بن زبير الطائي، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: روى عن أبي حريث، وروى عنه. ....... الشيباني، وجعفر بن عمرو.. سمعت أبي يقول ذلك.
وسنده في الطبراني الكبير: حدثنا العباس بن الفضل الإسباطي قال: حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني قال: سمعت عفان بن زبير الطائي عن أبي حريث الأزدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ الحديث. وفيه: أربعين عامًا بدلاً من أربعين يومًا، قال الحكمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، وفيه سعد أبو غيلان، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، انتهى.
وسعد أبو غيلان هو ابن طالب الشيباني قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: روى عن حماد ........، وعفان بن زبير الطائي روى عنه أبو الأحوط سلمان بن سليم ..... عبدالله بن يونس سمعت أبي يقول ذلك، حدثنا عبدالرحمن، قال: سألت أبي عنه فقال: شيخ صالح، وفي حديثه ضعف. حدثنا عبدالرحمن قال: سئل أبو زرعة عن سعد أبي غيلان فقال: لا بأس به. وأبو حريز بفتح المهملة، وكسر الراء، وآخره زاي. هو عبدالله بن حسين الأزدي البصري، قال في......: صدوق يخطئ من السادسة، البخاري تعليقًا، والأربعة.
وقال الزيلعي بعد ذكره الحديث السابق: حديث آخر، روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال حدثنا هشيم بن زياد بن مخراق عن رجل عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: العادل في رعيته يومًا واحدًا أفضل من عبادة عابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة. شك هشيم. انتهى.
وزياد بن مخراق قال في التقريب: بكسر الميم وسكون المعجمة المزني مولاهم، أبو الحارث البصري، ثقة من الخامسة (البخاري في الأدب، وأبو داود)، وفيه: الرجل الذي لم يسم، والله أعلم.
الشيخ: لا يخلو من مقال، لكن فيه الدلالة على فضل العدل.. وأن العدل في الأمة مثل ......... فالعبادة قاصرة على العبد، لكن العدل يعم الناس كلهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي حريث، عن عمران بن حصين، عن النبي ﷺ قال: لا طاعة في معصية الله.
وقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله، وسنة رسوله. وهذا أمر من الله بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] فما حكم به الكتاب والسنة، وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر، وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي، وغير واحد.
وقال مجاهد: وأحسن جزاء، وهو قريب.الشيخ: وهذا هو الواجب على جميع الأمة في جميع الأمور إذا حصل التنازع يرجع إلى ربه والقرآن، وإلى السنة، فما حكما فيه فهو الحكم، ولهذا قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إلى الله إلى الكتاب العزيز، وهو القرآن، والرسول إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته بعد وفاته، الأحاديث الصحيحة هذا هو الواجب على المسلمين، وإيمانهم يحملهم على هذا، ويوجب عليهم هذا، ولهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، وهكذا قوله جل وعلا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] أي إلى شرعه الذي جاء به نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو الكتاب والسنة، فلا يجوز التحاكم إلى القوانين الوضعية، أو إلى السوالف التي قالها الآباء والأجداد، أو إلى الآراء المجردة كل هذا لا يجوز، وكانت الجاهلية تتحاكم إلى رؤسائها وكبرائها من الكهنة، والمنجمين، والسحرة، فأبطل الله هذا، وأوجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى كتابه العزيز، وإلى ما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام من العلم والهدى، وفيه ما يحصل به فصل النزاع، وفيه قيام الحق الذي به مصلحة الجميع، وسعادة الجميع، وذلك يحتاج إلى العناية من أهل العلم، فإن الحكم يحتاج إلى نظر وبصيرة كما قاله الله ورسوله حتى يبت في نزاع الناس .....
س: كذلك الأنظمة الوضعية، لا تعارض.....؟
الشيخ: ... لكن النقش في أفهام الناس فإذا استعان بشيء من القوانين، أو شيء في شيء التي تعينه على بعض المسائل ... حتى يعرضها على الكتاب السنة، وينظر، ويستشير إخوانه، وزملاءه حتى يستعين بآرائهم على ما ..... مثل هذا الكلام على أهل العلم حتى يستفيد ..... هذا النظر كمقدمات.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:60-63].
هذا إنكار من الله على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخصاما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب، والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا، ولهذا قال: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها.الشيخ: يعني الطاغوت هنا كل ما يتحاكم إليه من غير الكتاب والسنة، سواء كان وضعي، وضعه الرجال، أو السوالف التي مضى عليها الآباء والأجداد، يتحاكمون إليها، أو كافر يتحاكمون إليه، أو شخص يحكم بالرشوة لا بما أنزل الله، كل هؤلاء يسمون طاغوتًا، ولذلك لأنهم طغوا يعني خرجوا عن الحدود، يقال: طغا الماء إذا جاوز الحدود، وسمي الطاغوت طاغوتًا؛ لأنه جاوز الحدود، وتعدى الحدود، ولم يقف عند الحدود الشرعية، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو تجاوز الحد المطلوب، فالذي يحكم بغير ما أنزل الله داخل في ذلك، والذي يدعو الناس إلى عبادة نفسه داخل في ذلك، والذي يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان وغير ذلك كلها طواغيت، وهكذا إبليس، وسائر الشياطين كلهم طواغيت، كذلك الذي يُعْبَد وهو يرضى أن يعبد من دون الله طاغوت، وهكذا من يحكم بين الناس بالآراء، والقوانين الباطلة، أو بالرشوة، أو بغير ما أنزل الله كائنًا من كان دخل في اسم الطاغوت، صفة عامة، وهكذا الكهان طواغيت، والسحرة طواغيت، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ويضلون الناس عن سبيل الله، كلهم يسمون طواغيت. والطاغوت قد يكون كافرًا مرتدًا عن الإسلام ضالاً مضلاً، وقد يكون عاصيًا فاجرًا وليس بكافر، كالذي يحكم بالرشوة وهو يعلم أنه عاص، يعلم أنه مخطئ لكنه يأخذ الرشوة لضعف إيمانه فهذا عاص، وليس بكافر إلا إذا استحله، إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر بذلك، أما لو أخذ الرشوة، ولكن لا يستحل ذلك فهو عاص، وأتى كبيرة عظيمة لكونه ظلم الناس.
س: سبب النزول هذا صحيح؟
الشيخ: يروى في الروايات، ولا عبرة بأسباب العبرة بالعموم.
وقوله: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا أي يعرضون عنك إعراضًا كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21]، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، الآية.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك، أو جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أي يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان، والتوفيق، أي المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا صحة ذلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [المائدة:52]، إلى قوله: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].
وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إلى قوله: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا.الطالب: صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي أبو عمرو الحمصي، ثقة من الخامسة، مات سنة خمس وخمسين أو بعدها (البخاري في الأدب، ومسلم، والأربعة).
صفوان ابن عمرو الحمصي الصغير صدوق من الحادية عشرة النسائي.
الشيخ: هو الأول، انظر أحمد بن يزيد الحوطي لعل النسائي روى له.
ثم قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، وَعِظْهُمْ أي: وانههم عما في قلوبهم من النفاق، وسرائر الشر، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أي: وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.الشيخ: وهذا هو واجب ولاة الأمور والعلماء؛ لأن القلوب إلى الله ، والمنافقون يتظاهرون بالإسلام، فالواجب إذا ظهر فيهم أمارات النفاق أن ينصحوا، ويعلموا، ويوعظوا، ويذكروا حتى يوجد منهم شيء صريح يدل على كفرهم، وضلالهم، ولهذا كان ﷺ يوكل سرائرهم إلى الله، وينصحهم، ويحذرهم، ولا يكتفي بما أظهروا من الإسلام.
الطالب: أحمد بن يزيد بن إبراهيم بن الورتنيس بفتح الواو، وسكون الراء، وفتح المثناة الفوقانية، وكسر النون الثقيلة بعدها ياء أخيرة ساكنة، أو مهملة يكنى أبا الحسن الحراني ضعفه أبو حاتم من العاشرة.
أحمد بن يزيد بن روح الداري الفلسطيني مستور من الثانية عشرة ابن ماجه.
الشيخ: نعم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64، 65].
يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم.
وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] أي عن أمره، وقدره، ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.الشيخ: والمعنى في هذا أنه أرسل الرسل سبحانه إلى الخلق ليطاعوا، ويتبع ما جاءوا به، ما أرسلهم عبثًا ولا سدى، ولا ليعصوا، وإنما أرسلهم ليطاعوا، ويتبعوا، فالواجب على المكلفين في كل زمان أن يطيعوا الرسل، وأن يتبعوهم؛ لأنهم أرسلوا لدعوتهم إلى أسباب النجاة، إلى أسباب السعادة، إلى دار الكرامة، إلى أداء الحق في الدنيا؛ حتى يفوزوا بالسعادة في الآخرة، ولهذا قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وقال: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ، وعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ومَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] فالمقصود أن الرسل وعلى رأسهم خاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إنما أرسلوا ليطاعوا، ولكن طاعتهم إنما تكون بيد الله وتوفيقه، فمن الناس من يوفق، ويطيع الرسل، ويتبعهم، ومن الناس من يخذل فلا يتبعهم، فهذا كله بإذن الله، يعني بإذنه الكوني القدري، فمن الناس من يوفق، ويكون قد سبق في علم الله أنه يهتدي فيهتدي، ويطيعهم فيفوز بالسعادة، ومن الناس من سبق في علم الله أنه شقي، وأنه لا يتبع الرسل فعند ذلك لا يبالي، ولا يطيع الرسل، ولا ينقاد لما جاؤوا به، وهذه حال الأكثرين، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
لما ذكر قصص جماعة من الأنبياء في سورة الشعراء قال بعد كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]، فعلى المؤمن أن لا ينقاد للهوى، والشيطان، وعليه أن لا يتبع الأكثرين، بل عليه أن يبادر لطاعة الرسول ﷺ، وأن يجاهد نفسه في ذلك، وأن يسأل ربه التوفيق، والإعانة، والهداية، حتى ينقاد لحكم الذي بعث به رسوله ونبيه محمد عليه الصلاة، والسلام.
وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول ﷺ، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم، ورحمهم، وغفر لهم، ولهذا قال تعالى: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي، قال: كنت جالسًا عند قبر النبي ﷺ، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع، والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف، وفيه الجود، والكرم
ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي ﷺ في النوم، فقال يا عتبي، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له».
الشيخ: هذه القصة ذكرها جماعة كما قال المؤلف، ولكنها مثل ما قال أهل العلم، والتحقيق قصة موضوعة لا أصل لها، ولا صحة لها، فهي باطلة، وهذا الذي ذكره الله جل وعلا إنما هو في حياته ﷺ دعاهم الله ليحضرون إليه، وأن يستغفروا الله ويستغفر لهم عليه الصلاة والسلام.يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع، والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف، وفيه الجود، والكرم
ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي ﷺ في النوم، فقال يا عتبي، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له».
أما المجيء إلى قبره وسؤاله أن يستغفر لهم أو يستشفع لهم هذا منكر، ولا أصل له، ولا صحة له، وهذه الحكاية باطلة موضوعة لا أساس لها، والعتبي لا يحتج به، ولا بسنده، ولا بالسند إليه، كما نبه على ذلك الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وغيرهم، تكلموا على هذه القصة فهي لا أصل لها، ولا صحة لها.
والواجب على أهل العلم إذا ذكروا مثل هذه القصة يبينوا بعدها غلطها، والمؤلف في بعض النسخ بيض لها، كأنه يريد أن يعلق عليها فلم يعلق، وكان الواجب عليه رحمه الله أن يطرحها أو ينبه عليها لما ذكرها، وبيان بطلانها، لا يجوز للناس الإتيان إلى قبر النبي ﷺ، ويسألوه الشفاعة لا، يسألوا ربهم، اللهم شفع فينا نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم لا تحرمنا شفاعته، اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، أما في حياته ﷺ نعم، إذا قيل: يا رسول الله اشفع لنا، ادع الله لنا، فلا بأس في حياته، وهكذا يوم القيامة إذا بعث الله الخلائق يجتمع المؤمنون فيأتون إليه ويسألونه أن يشفع لهم عند الله؛ لأنه مقرب بين الناس، لأنه حي بين أيديهم عليه الصلاة والسلام، أما في البرزخ بعد وفاته وقبل البعث والنشور فلا يجوز أن يؤتى قبره ويسأل، لا قبره ولا قبر غيره عليه الصلاة والسلام، وإنما يدعى الله ، ويسأل فيقال: يا ربنا شفع فينا نبيك، يا ربنا شفع فينا ملائكتك، يا ربنا شفع فينا أفراطنا، يا رب اغفر لنا، يا رب ارحمنا، هو الذي يدعى جل وعلا.
فهذه القصة التي ذكرها المؤلف هنا قصة العتبي عند أهل العلم لا أساس لها، بل هي باطلة، ولا صحة لها، ومعناها أيضًا باطل.
وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول ﷺ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا، ولهذا قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة، كما ورد في الحديث: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحرة، فقال النبي ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما ﷺ بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، هكذا رواه البخاري هاهنا، أعني في كتاب التفسير في صحيحه من حديث معمر، وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج، ومعمر أيضا، وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة، فذكره، وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي ﷺ في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي ﷺ للزبير: اسق، ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فاستوعى النبي ﷺ للزبير حقه، وكان النبي ﷺ قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له، وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله ﷺ استوعى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة، وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه.
والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبدالله، فإن أبا محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم، رواه كذلك في تفسيره.الشيخ: ........ بالإرسال صرح بالإرسال، ولكن عروة قيل: إنه سمع من أبيه، لأنه ذاك الوقت كبير، وسمع من علي أيضًا، وعلي عاش بعد الزبير أربع سنين تقريبًا، فقوله: أن الزبير كان يحدث ظاهره الاتصال.
فقال: حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث، ويونس عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا مع النبي ﷺ إلى رسول الله ﷺ، في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: اسق يا زبير، ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، واستوعى رسول الله ﷺ للزبير حقه، وكان رسول الله ﷺ قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله ﷺ استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به، ورواه أحمد، والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبدالله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبدالله بن الزبير. والله أعلم.
والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبدالله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، فذكره، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدًا قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبدالله بن الزبير غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.الشيخ: وهذا يدل على وجوب التسليم، والانقياد لحكم الله في حياة النبي ﷺ وبعده، في حياته ﷺ في حكمه بنفسه عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته ما حكمت به السنة، وما دلت عليه السنة والقرآن، فإن الواجب الرضا بذلك والتسليم له، فما حكم به الله، ورسوله وجب التسليم له، والانقياد له، والواجب على جميع الأمة أن تحكم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينقادوا لله، ويسلموا له، ولما حكم النبي ﷺ، ولما أمر النبي ﷺ الزبير أن يحبس الماء، ثم يرسل إلى جاره قال: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء، قال: اسق يا زبير ما تيسر، ثم أرسل الماء، كان أحدهما فوق الآخر من الشراج فينزل من الأعلى فيسقيه أولا، ثم ينحدر الماء إلى جاره، يعني من غير استيعاب، إنما أمره أن يشرب، وأن يرسل من دون استيعاب، فلما قال الأنصاري ما قال من الكلمة السيئة (أن كان ابن عمتك) فإن هذا معناه التهمة، وأنه حابى من أجل أنه ابن عمته؛ لأن الزبير هو ابن عمة النبي ﷺ، أمه صفية بنت عبدالمطلب، أخت عبدالله أبي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قال هذه الكلمة الشنعاء تلون وجه رسول الله ﷺ، يعني غضب عليه الصلاة والسلام، وهذا معنى أحفظه، أي: أغضبه، فأمر الزبير أن يأخذ حقًا وافرًا تامًا حتى يعم الماء أرضه إلى أصول الجدر التي بها يعم الماء أرض الزبير، ثم بعد هذا يرسله إلى جاره، فيكون استوفى له الحكم بعدما قال الأنصاري ما قال، وهذه الرواية سواء كانت رواية عبدالله بن الزبير عن أبيه أو من رواية عروة عن أبيه فالحديث صحيح، ولهذا ذكره البخاري رحمه الله، وساقه في صحيحه في مواضع يبين أن هذا الحكم هو المطابق لمعنى الآية، وأن الواجب على من حكم له رسول الله ﷺ أو حكم عليه أن يرضى بذلك، وأن ينقاد لذلك، وأن لا يكون في قلبه شيء من التردد والحرج، بل يسلم تسليمًا، وهكذا بعد وفاته ﷺ يجب على الأمة أن تنقاد لحكمه، وأن تسلم له عليه الصلاة والسلام كأنه حي بين يديها عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فالواجب طاعته حيًا وميتًا عليه الصلاة والسلام.
الطالب: رواية الحاكم عن عبدالله بن الزبير؟
الشيخ: كان استنكر رواية ما ذكره من رواية ابن أخي الزهري، عن الزهري.
الطالب: هل هي ضعيفة؟
الشيخ: ابن أخ الزهري فيه كلام لا بأس به جيد في الجملة، استغرب من الصحابي من هذا الطريق، وقال: لم يخرجاه، ومع هذا فقد خرجه البخاري.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي أبو دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من آل أبي سلمة، قال: خاصم الزبير رجلًا إلى النبي ﷺ فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته، فنزلت: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الآية.
الشيخ: انظر كلام في الحاكم.الطالب: والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبدالله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير فوصله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فإني لا أعلم أحدًا قال بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبدالله بن الزبير غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.
الشيخ: رواية أحمد المتقدمة قبل هذا بقليل؟
الطالب: وهكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة، وبين أبيه الزبير. .
الشيخ:. ..
الطالب: وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه، فصرح بالإرسال، فقال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير.
الشيخ: المقصود أن روايته من طريق ابن أخيه هي التي مستنكرة....... وهو لا بأس في نفسه، لكن لعل له أوهام عن عمه.
شف ابن أخي الزهري التقريب.
س: رواه الحاكم، ولم يخرجاه؟
الشيخ: ظاهر كلام المؤلف اللي ما اعترض في هذا، اعترض عليه أنه رواه ابن أخي الزهري، وإلا. ......؛ لأنه خرجه البخاري، ما قال لم يخرجه مسلم، لأن الاعتراض عليه من الجهتين، لكن ابن كثير إنما لاحظ سند الحديث ابن أخي الزهري.
س: قصة العتبي لها سند؟
الشيخ: ذكر الذهبي وجماعة أن لها سند مظلم لا صحة له، ذكرها الشيخ عبداللطيف في رده على ابن إدريس في التأسيس، وذكرها غيره، وشيخ الإسلام تكلم عليها أيضًا.
الطالب: محمد بن عبدالله بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب الزهري، المدني ابن أخي الزهري، صدوق له أوهام، من السابعة مات سنة 52، وقيل بعدها (الجماعة).
الشيخ: كأن مقتضى كلام ابن كثير أنه سيئ الحفظ عن عمه، أو لم يضبط أحاديث عمه، والمؤلف ما نبه عليه هنا.