فصل
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفايةٌ، فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما يُقِيم عذرَنا:
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:97-99].
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه إنما عذرَهم بتخلُّفهم وعجْزِهم؛ إذ لم يستطيعوا حِيْلةً يتخلصون بها من المُقام بين أظْهُر الكفار، وهو حرام، فَعُلِمَ أن الحيلة التي تُخلِّص من الحرام مُسْتَحبة مأذونٌ فيها، وعامّة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب، فإنها حيل تُخَلِّص من الحرام، ولهذا سَمّى بعضُ من صَنّف في ذلك كتابه: "المخارج من الحرام، والتخلُّص من الآثام".
واعتبر هذا بحيلة العينة؛ فإنها تُخَلّص من الربا المحرم.
وكذلك الجمع بين الإجارة والمساقاة، يُخَلّص من بَيع الثمرة قبل بُدوّ صلاحها، وهو حرام.
وكذلك خُلع اليمين يُخَلّص من وقوع الطلاق الذي هو حرام، أو مكروه، أو من مواقعة المرأة بعد الحِنْثِ، وهو حرام.
وكذلك هِبَةُ الرجل مالَه قبل الحوْلِ لوَلَدِه أو امرأته، يخُلّصه من إثم مَنْع الزكاة، كما يتخلِّص من إثم المنع بإخراجها، فهما طريقان للتخلُّص.
فالحيل تخلِّص من الحرج، وتخلِّص من الإثم، والله تعالى قد نفى الحرجَ عَنّا وعن ديننا، ونَدَبنا إلى التخلص منه ومن الآثام، فمن أفضل الأشياء معرفةُ ما يُخلّصنا من هذا وهذا، وتعليمُه، وفَتْحُ طريقه.
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق: ليقْتُلَنّ أباه، أو ليشربن الخمر، أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كان في الحيلة تخليصُه من مفسدة فعل ذلك، ومن مفسدة خراب بيته، ومفارقة أهله؛ فإن مَنْ لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق، فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فِعْلُ المحلوف عليه، فأي شيء أفضلُ من تخليصه من هذا وهذا؟ وكذلك من وَقع عليه الطلاق الثلاث، ولا صبرَ له عن امرأته، ويرى اتصالها بغيره أشدّ من موته، فاحْتلنا له بأن زوَّجناها بعبدٍ فوطئها، ثم وَهَبْناهُ منها فانفسخ نكاحه، وحلّت لزوجها المطلّق بعد انقضاء عدتها.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوبَ عليه السلام وقد حلف لَيَجْلِدَنّ امرأتَه مئةً: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص:44].
السؤال:.....................
الشيخ: هذا كلام أهل الحيل، ما يجوز هذا كلام أهل الحيل يحتجون وكلامهم باطل، والحيل قسمان:
حيل صحيحة شرعها الله، وحيل باطلة، كالحيل التي شرعها الله: الزواج الشرعي لمن طلقت بائنًا هذا شرعي إذا تزوجها قاصدًا الاستمتاع بها ثم طابت نفسه فطلقها، أما حيلة يتزوجها ليحلها فهذه حيلة منكرة سواء تزوجت بعبد أو بحر.
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوبَ عليه السلام وقد حلف لَيَجْلِدَنّ امرأتَه مئةً: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص:44].
قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عَرّضَت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمتِ بكذا وكذا. وإنما حملها عليه الجوع، فحلف نبيّ الله لئن شفاهُ الله تعالى ليجلدنها مئة جلدة، قال: فأُمِرَ بأصلٍ فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تَكْملة المئة، فيضربها به ضربة واحدةً، فأبَرّ الله تعالى نبيه، وخَفّف عن أمَتِهِ.
الشيخ: وهذا من رحمة الله لأيوب ورحمته لزوجته في شرع من قبلنا، رحمة لها لما كانت مجتهدة - رحمة الله عليها - فشرع الله التخفيف عنها في جلدها.
وقال عبد الرحمن بن جُبير: لقيها إبليس، فقال لها: والله لو تكلّم صاحِبُك بكلمة واحدةٍ، لكُشِفَ عنه كلّ ضُرٍّ، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب عليه السلام، فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مَثَلُك مَثَلُ المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشيء قَبِلته وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه. فلمّا أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفُرُ به؟ إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مئة. فأفتاه الله سبحانه بما أخبر به: أن يأخذ ضِغْثًا وهو الحُزْمَة من الشيء، مثل الشماريخ الرّطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة.
وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلُّص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيّ شيء، وهذا أصلنا في باب الحيل، فإنا قسنا على هذا، وجعلناه أصلًا.
قالوا: وقد أرشد النبي ﷺ إلى التخلّص من صريح الربا، بأن يبيع التمْر بدراهم، ثم يشتري بتلك الدراهم تمرًا:
فروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمرٍ بَرْني، فقال له النبي ﷺ: من أين هذا؟، قال: كان عندنا تمرٌ رديءٌ، فبعتُ منه صاعين بصاعٍ لنطْعَم النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ عند ذلك: أوّهْ! عينُ الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبعِ التمرَ بدراهم، ثم اشترِ به متفق عليه.
وفي لفظ آخر: بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيبًا.
والجمع والجنيب: نوعان من التمر.
وفي لفظ لمسلم: بِعْهُ بسلعةٍ، ثم ابتعْ بسلعتك أيّ التمرِ شئت.
الشيخ: وهذه ما لهم حجة فيها، هذه حيلة فقهية وليس فيها حيل محرمة يبيع التمر الرديء ثم يشتري بالدراهم من التمر الطيب، وأي حيلة منكرة في هذا؟ هذا من باب الفرج من تيسير الله إذا أراد التمر الطيب باع الرديء ثم اشترى.
السؤال:....................
الشيخ: يكفر عن يمينه، هذا حكمه حكم اليمين.
السؤال: ولو نوى الطلاق؟
الشيخ: إذا نوى الطلاق يقع الطلاق لا يزني ويقع الطلاق، وقوع الطلاق أهون من الزنا وأهون من القتل، لكن إذا قصد التأكيد يكون كفارة يمين، إما إذا قصد إيقاع الطلاق يقع الطلاق ولو بأقل من هذا.
فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة، ثم يبتاعَ بها تمرًا، وهذا ضرب من الحيلة، ولم يُفرّق بين بيعه ممن يشتري منه التمر، أو من غيره.
وقد قال تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [البقرة:282]، وهذا إرشاد إلى حيلة العِينَة وما يشبهها؛ فإن السلعة تدور بين المتعاقدين للتخلص من الربا.
الشيخ: وهذا كله من التلبيس من تلبيسه على الحال، الحيل الشرعية غير الحيل الباطلة، الحيل الشرعية شيء والحيل الباطلة شيء، حيل ثانية، شيء ما شرعه الله يتحيل به ليقع فيما حرم الله، أما شيء شرعه الله وجعله بابًا ومخرجًا فهذا ليس بحيلة باطلة، حيلة شرعية شرع الله البيع والشراء حتى يتوصل الناس إلى حقوقهم وإلى حاجاتهم، شرع الله النكاح للمطلقة ثلاثًا حتى لا تتعطل فإذا طلقها الزوج من غير حيلة حلت والحمد لله.
السؤال:.........................
الشيخ: يلبسون بالحيل الباطلة ويتحججون بالحيل الشرعية.
قالوا: وقد دلَّت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلّص من القول الذي يأثم به أو يخاف بالمعاريض، وهي حيلة في الأقوال، كما أن تلك حيلة في الأعمال.
فروى قيس بن الربيع، عن سليمان التَيْمي، عن أبي عثمان النّهْدي، عن عمر بن الخطاب ، قال: إن في معاريض الكلام ما يُغْنِي الرجل عن الكذب.
وقال الحَكَمْ، عن مجُاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما يَسُرُّني بمعاريض الكلام حُمْرُ النعم.
وقال الزهري، عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أُمِّه، أم كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيْط، وكانت من المهاجرات الأُول قالت: لم أسمع رسول الله ﷺ يرخّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث: الرجل يُصلِح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب.
ومعنى الكذب في ذلك: هو المعاريض، لا صريح الكذب.
وقال منصور: كان لهم كلام يَدْرَأون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا،
الشيخ: وقوله رحمه الله: المراد به المعاريض ليس بجيد، صريح الكذب ما هو بالمعاريض، المعاريض تجوز حتى من غير الثلاثة، المعاريض في كل شيء فيها مندوحة عن الكذب، ما يتعلق بالمرأة والحرب والإصلاح صريح الكذب ما فيه شيء إذا كان لا يضر به أحدًا إنما يريد به الخير، فإذا أراد الإصلاح بين القبيلتين، يقول القبيلة الفلانية تثني عليكم وتحب الصلح معكم وتحب زوال الوحشة وهم يسرهم أن تصالحوهم وهم ما قالوا هذا الكلام لا بأس، وهكذا الطائفة الثانية أو شخصين قال الثاني يثني عليك ويحب الصلح معك ورأيت منه الخير وأرادوا المصالحة كذلك، كذلك الحرب كونه يقول لجيش إنا قافلون نتوكل على الله نقفل، وهم متفق معهم على أنه ما في قفول إنما يريد مكيدة للعدو حتى يخرج العدو من حصنه أو غير ذلك من الأسباب التي تدعو إلى الكذب.
كذلك الرجل مع امرأته يقول لها صريح الكذب سوف أشتري لك كذا سوف أعطيك كذا، لكن أمهليني وفي نيته أنه ما هو معطيها لكن لحل النزاع حل المشكلة، وهي كذلك تقول: أنا لن أعود إلى هذا الشيء، سوف أفعل ما يرضيك وهي في نيتها أنها تكذب فالحديث صريح في هذا إذا كان كذب لا يضر غيرهم إذا كان كذبًا يخصهم لا يضر غيرهم.
السؤال: المعاريض - سلمك الله - تجوز لحاجة أو على الإطلاق يعني؟
الشيخ: المعاريض لا بأس بها إذا احتاج إليها.
وقال منصور: كان لهم كلام يَدْرَأون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا، وقد لقي رسولُ الله ﷺ طليعة للمشركين، وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي ﷺ: نحن من ماء!، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياءُ اليمن كثير، لعلهم منهم، وانصرفوا!. وأراد ﷺ بقوله: نحن من ماء قوله تعالى: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6]. ولما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته، فأخذت السّكّين وجاءت، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوَجَأْتُ بها في عُنُقِك، فقال: ما فعلتُ؟ فقالت: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن. فقال:
شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ |
وأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرينَا |
وأنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ طافٍ | وفَوْقَ العَرْشِ ربُّ العالمِينَا |
وتحمِلُهُ ملائكَةٌ شِدادٌ | ملائكةُ الإلَهِ مُسَوِّمينَا |
فقالت: آمنت بكتاب الله، وكذّبت بصري، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فضحك حتى بَدَتْ نواجذه.
قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رَواحَة.
ويُذكر عن عمر بن الخطاب أنه قال: عجبتُ لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟
ودُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: إني صائم، ثم رَأَوْهُ يأكل، فقالوا: ألم تقل: إني صائم؟ فقال: ألم يقل رسول الله ﷺ: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر؟ وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم، ولا شيء معه، قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله، فيظن أنه أراد يومه والذي يليه، وإنما أراد يَوْمَي الدنيا والآخرة.
وذكر الأعمشُ، عن إبراهيم، أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل: والله ما أُبْصِرُ إلا ما سدَّدَني غيري، تعني: إلا ما بصَّرك ربُّك.
وقال حمّاد، عن إبراهيم في رجل أخذه رجلٌ، فقال: إن لي معك حقًا، فقال: لا، فقال: احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، فقال: احْلِفْ بالمشي إلى بيت الله، واعْنِ مَسْجَد حَيّك.
وذكر هشام بن حسّان، عن ابن سِيرين: أن رجلًا كان يُصيب بالعَيْنِ، رأى بَغْلة شُريح، فأراد أن يَعِينها، ففطن له شُريح، فقال: إنها إذا رَبضَتْ لم تقُمْ حتى تُقام، فقال الرجل: أف أف، وسلمت بغلته، وإنما أراد: أن الله هو الذي يقيمها.
وقال الأعمش، عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه، فيسأله عنه؟ فقال: قل: والله إن الله لَيَعْلَمُ ما من ذلك شيء، يعني بـ (ما): الذي.
وقال عقبة بن المغيرة: كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحَجّاج، فكُنّا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سُئِلْتم عني وحُلفتم فاحْلِفوا بالله ما تدرون أين أنا؟ ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو؟ واعْنُوا أنكم لا تدرون أيّ موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صَدَقتْم.
الشيخ: يعني يعرفون على حاله وقت كلامه، لا يدرون أين هو قائم وإلا قاعد وإلا في بيته وإلا مضطجع لأنهم خرجوا عنه وما يدرون عن أحواله بعد ذلك.
وجاءه رجلٌ فقال: إني اعترضتُ على دابة، فنفَقَتْ، فأخذتُ غيرها، ويريدون أن يُحَلّفوني أنها الدابة التي اعترضتُ عليها؟ فقال: اركبها، واعْتَرِضْ عليها على بَطْنِك راكبًا، ثم احلفْ أنها الدابة التي اعترضت عليها.
وقال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تُعاتبه في جاريةٍ له، وبيده مِرْوَحَة، فقال: أُشهِدكُم أنها لها، فلما خرجنا قال: علامَ شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أُشير إلى المروحة؟ إنما قلتُ لكم: اشْهَدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.
وقال محمد بن الحسن، عن عمر بن ذَرٍّ، عن الشعبي: من حلف على يمين لا يستثني، فالبِرّ والإثم فيها على علمه، قلت: ما تقول في الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحَلّ ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما نَكْرَهُ من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يُبطله، أو يحتال في باطل حتى يُمَوِّهَه، أو يحتال في شيء حتى يُدْخِل فيه شُبْهة، وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك.
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه مَنْ لا يريد الاجتماع به وضَع يده على ضِرْسِه، ثم قال: ضِرْسي، ضِرْسي.
ووجَّه الرشيدُ إلى شَريك رجلًا ليُحْضره، فسأله شريكٌ أن ينصرف ويُدافع بحضوره، ففعلَ، فحبسَه الرشيدُ، ثم أرسل إليه رسولًا آخر فأحضره، وسأله عن تخلّفه لما جاءه رسوله؟ فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثاني، فصدّقه، وأمر بإطلاق الرجل. وأُحضر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقومَ، فَمُنعَ، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج، ثم رجع فلبسها، ولم يَعُدْ، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمَّن كثيرًا من مسائل الحيل.
فأبعدُ الناس عن القول بها: مالك، وأحمد.
وقد سُئل أحمد عن المروذي وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمدُ إصبعه في كفّه، وقال: ليس المروذي هاهنا، وماذا يصنع المروذي هاهنا؟
وقد سُئل أحمدُ عن رجل حلف بالطلاق ليَطأنّ امرأته في نهار رمضان، فقال: يُسافر بها ويطؤها في السفر.
وقال صاحب "المستوعب": وجدت بخط شيخنا أبي حكيم: حُكي أن رجلًا سأل أحمدَ عن رجل حلف أن لا يُفْطر في رمضان، فقال له: اذهب إلى بشر بن الوليد، فسَلْه ثم ائتني فأخبرني، فذهب فسأله، فقال له بشرٌ: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السَّحر فكلْ، واحتج بقول النبي ﷺ: هلمّ إلى الغداء المبارك، فاستحسنه أحمد.
قالوا: وقد علّم الله سبحانه نبيّه يوسف عليه السلام الحيلة التي تَوصّل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارقٌ، ووضع الصُّواع في رَحْله، ولم يكن لذلك حقيقةٌ، لكن أظهر ذلك توصلًا به إلى أخذ أخيه، وجعله عنده.
وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيدٌ كاده سبحانه ليوسف؛ ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه أن ذلك من العلم الذي يرفع به درجاتِ مَنْ يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه، ففَوْق كل ذي علمٍ عليمٌ.
فصل
قال منكرو الحيل:
الحيل ثلاثة أنواع:
نوع: هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
ونوع: هو جائز مباح، لا حَرَجَ على فاعله، ولا على تاركه، وتَرَجُّحُ فعله على تركه أو عكس ذلك: تابعٌ لمصلحته.
ونوع: هو مُحرّمٌ ومخادعة لله ورسوله، متضمّن لإسقاط ما أوْجبه، وإبطال ما شَرعه، وتحليل ما حَرّمه.
وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع.
فإن الحيلة لا تُذَمّ مطلقًا، ولا تحمَدُ مطلقًا، ولفظُها لا يُشعِرُ بمدحٍ ولا ذَمٍّ، وإن غلب في العرفِ إطلاقها على ما يكون من الطرق الخَفِيّة إلى حُصولِ الغرضِ، بحيث لا يُتفَطّن له إلا بنوع من الذّكاء والفِطنة.
وأخص من هذا: تخصيصُها بما يُذَمّ من ذلك، وهذا هو الغالب على عُرف الفقهاء المنكرين للحيل؛ فإن أهلَ العرف لهم تصرفٌ في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها، وتقييد مطلقها ببعض أنواعه.
فإن الحيلة فِعْلَةٌ: من الحَوْلِ، وهو التصرف من حالٍ إلى حالٍ، وهي من ذوات الواو، وأصلها: حِوْلَة؛ فسكنت الواوُ، وانكسر ما قبلها، فقُلِبَتْ ياءً، كميزان، ومِيقات، وميعاد.
قال في "المُحْكَم": الحَوْلُ، والحَيْل، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلَة، والحَوِيل، والمَحَالة، والاحتيال، والتحيل، والتَحوُّل، كل ذلك: الحِذق، وجَودة النظَر، والقدرة على وجه التصرف.
قال: والحِوَل، والحِيلُ، والحيلات جمع حِيلَة. ورجل حُوَّل، وحُوَلةَ، وحَوَاليٌّ، وحُواليٌّ، وحَولْوَلٌ: شديد الاحتيال.
وما أحْوَله وأحْيَله، وهو أحولُ منك. انتهى.
فالحيلة: فِعْلةٌ من الحول، وهو التحوّل من حالٍ إلى حالٍ، وكل من حاول أمرًا يريد فعله، أو الخلاصَ منه، فما يحاوله به: حيلة يَتَوَصّل بها إليه.
فالحيلة معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقًا ومنعًا، ومصلحة ومفسدة، وطاعة ومعصية.
فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت الحيلةُ قبيحةً، وإن كان طاعةً وقُربة كانت الحيلةُ عليه كذلك، وإن كانت معصيةً وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك.
ولما قال النبي ﷺ: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلّوا محارم الله بأدنَى الحيل صارت في عُرْف الفقهاء إذا أطلقت يُقْصَد بها الحيل التي يُستَحَلُ بها المحارم، كحيل اليهود.
وكل حيلةٍ تتضمن إسقاط حقٍّ لله، أو لآدميّ فهي مما يستحلُّ بها المحارم.
ونظير ذلك لفظ الخداع؛ فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحقٍّ فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذمومٌ.
ومن النوع المحمود قوله ﷺ: الحرب خدعة، وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: كلّ الكذب يُكْتَبُ على ابن آدم إلا ثلاث خصال: رجل كذب على امرأتِه ليُرضيها، ورجل كذب بين اثنين ليُصلح بينهما، ورجلٌ كذب في خَدْعة حَرب.
ومن النوع المذموم قوله في حديث عِيَاض بن حِمارٍ، الذي رواه مسلم في "صحيحه" : أهل النار خمسة ... ذكر منهم رجلًا لا يُصبح ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعك عن أهلك ومالك، وقوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، وقوله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62].
ومن النوع المحمود: خَدْعُ كَعْب بن الأشْرفِ وأبي رافع عَدُوَّيْ رسول الله ﷺ حتى قُتِلا، وقَتْلُ خالد بن سفيان الهُذَليّ.
ومن أحسن ذلك: خديعة مَعْبَد بن أبي معبد الخُزاعي لأبي سُفيان وعسكر المشركين حين هَمّوا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فردَّهم من فورهم.
ومن ذلك: خديعة نُعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قُرَيظة، ولكفار قريش والأحزاب، حتى ألقى الخُلْفَ بينهم، وكان سببَ تفرقهم ورُجوعهم.
ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك المكر: ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن حقيقته إظهارُ أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده.
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلةً لهم بفعلهم، وجزاءً لهم بجنس عملهم، قال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل:50].
وكذلك الكَيْدُ: ينقسم إلى نوعين، قال تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، وقال: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76]، وقال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15، 16].
فصل
إذا عُرف ذلك: فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يُظْهِر قولًا أو فعلًا، مقصودُه به مقصودٌ صالح، وإن كان ظاهرُه خلاف ما قصد به، إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دَفْع الظلم عن نفسه، أو غيره، أو إبطال حِيلةٍ: محرمة.
وإنما المحرّم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله ورسوله له، فيصير مخادعًا لله تعالى ورسوله ﷺ، كائدًا لدينه، ماكرًا بشَرْعه، فإن مقصودَه حصولُ الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة.
وهذا ضِدّ الذي قَبْله؛ فإن ذلك مقصوده التوصلُ إلى إظهار دين الله، ودفع معصيته، وإبطالُ الظلم، وإزالة المنكر، فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخر.
ومثال ذلك: التأويل في اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه ولا يُخلّصه من الإثم، وذلك إذا كان الحقّ عليه فجحده، ثم حَلفَ على إنكاره متأوّلًا؛ فإن تأويله لا يُسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمُسْتَحْلِفِ في ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأوّل من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين.
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويُخَلّصه من الإثم، وتكون اليمين على نِيّته.
فإذا استحلفه ظالم بأيمان البَيْعة، أو أيمان المسلمين، فتأوّل الأيمان بجمع يمين وهي اليد.
أو حَلَّفه بأن كلّ امرأة له طالق، فتأوّل أنها طالق من وَثاق، أو طالق عند الولادة، أو طالق من غيري، ونحو ذلك.
أو استحلفه بأن كلّ مملوك له حُرّ أو عَتيق، فتأوّل أنه عفيف أو كريم، من قولهم: فَرَس عتيق.
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظَهْر أُمِّه، فتأوّل ظهر أمه بمركوبها.
فإن ضَيّق عليه وألزمه أن يقول: إنه مُظاهر من امرأته؛ تأوّل بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جُبّتين من عند امرأته.
وإن استحلفه بالحرام؛ تأوّل أن الحرامَ الذي حرّمه الله عليه يلزمه تحريمه.
فإن ضَيّق عليه بأن يُلزمه أن يقول: الحرامُ يلزمني من زوجي، أو أن تكون عليّ حرامًا؛ قَيّد ذلك بنيته: إذا أحْرَمَتْ، أو صامَت، أو قامت إلى الصلاة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بأن كل مالٍ له أو كل ما يملكه صدقةٌ؛ تأوّل بأنه صدقة من الله عليه.
وإن قال له: قل: وأن جميعَ ما أملكه من دارٍ وعقار وضَيْعةٍ وقفٌ على المساكين؛ تأوّل الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل، بعد كذا وكذا سنة.
الشيخ: وهذا كله عند القدرة وإلا فهو مظلوم ولو أراد أنه بهذه اليمين إنما قال ذلك للدفع كفى، لأنه مظلوم فإذا كان مظلومًا جاز له التأويل وإذا ما عرف التأويل كفاه أنه قصد دفع هذا المبطل ودفع الظلم عنه وليس مراده تحريم زوجته أو تحريم أمه أو تحريم أمواله أو أنه ما عنده كذا إنما أراد المظلوم أن ينفعه التأويل فتنفعه النية التي نواها وأنه ما حمله على هذا إلا أن يدفع الشر عن نفسه لأنه مظلوم.
السؤال: ......................
...........................
فإن ضَيّق عليه وقال: جميعُ ما هو جار في ملكي الآن؛ نَوى إضافة الملك إلى الآن، لا إلى نفسه، والآن لا يملك شيئًا.
فإن قال: مما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفًا؛ أخرج معنى لفظ الوقْفِ عن المعهود إلى معنى آخر، والعربُ تُسَمّي سِوَار العاج وَقفًا.
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله؛ نوى مسجدًا من مساجد المسلمين.
فإن قال قل: عليّ الحجّ إلى بيت الله؛ نوى بالحج القصدَ إلى المسجد.
فإن قال: إلى البيت العتيق؛ نوى المسجد القديم.
فإن قال: البيت الحرام؛ نوى الحرامَ هَدْمُه، واتخاذه دارًا، أوحَمّامًا ونحو ذلك.
وإن استحلفه بالأمانة؛ نوى بها الوديعة، أو اللُّقَطة، ونحو ذلك.
وإن استحلفه بصوم سنةٍ؛ نوى بالصوم الإمساكَ عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنةً أو دائمًا.
الشيخ: المقصود حديث النبي ﷺ: اليمين على نية المستحلف إذا كان المستحلف محق فاليمين على نيته؛ فإذا حلف متأولًا ما ينفعه التأويل ويكون عليه إثم اليمين الغموس، فإذا قال: والله ما عندي وهو يكذب وتأول ما عندي هذا الشيء يعني في المكان هذا، قال: والله ما عندي يعني يطابق ما قال من بعض الوجوه فتأول ما ينفع التأول لأنه ظالم والرسول يقول: اليمين على نية المستحلف أما إذا كان مظلوما فهو على نيته هو إن كان مظلوما فهو على نيته مظلوم لا يضره، فإذا قال: عندك لي ألف ريال أو عندك لي مائة ريال أو مائة ألف ريال وحلف ما عندي لك شيء، وهو صادق حلفه بالظهار أو حلفه بكذا أو بأيمان مغلظة فهو على نيته هو.
السؤال: إذا كان المظلوم لا يعرف التأويل يكفيه النية؟
الشيخ: النية يكفي، المظلوم مكره، نيته الدفع.
السؤال:.........................
الشيخ: أيش العبارة؟
الطالب: (فإن استحلفه بالأمانة نوى بها الوديعة)؟
السؤال: هل يجوز الحلف بالأمانة؟
الشيخ: لا، ما يجوز الحلف بالأمانة، لا يحلف بالأمانة يقول النبي ﷺ: من حلف بالأمانة فليس منا لكن لعله أراد معنى آخر بهذا وإلا الحلف بالأمانة لا يجوز بنص الحديث عن النبي ﷺ.
هذا كله في المحلوف به.
وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى.
فإذا استحلفه: ما رأيتَ فلانًا؛ نوى ما ضربتُ رِئته.
أو: ما كلمته؛ نوى ما جرحته.
أو: ما عاشرته ولا خالطته؛ نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسُّرِّيَّة.
الشيخ: يعلق عليه على الحلف بالأمانة أمر لا يجوز، يعلقه عليه الحديث الصحيح.
أو: ما بايعته ولا شاريته؛ نوى بذلك ما بايعته بَيعة اليمين، ولا شاريته من المشاراة، وهي اللَّجاج، أو الغضب، تقول: شَرِي على مثال عَلِم: إذا لَجّ أو استشاط غضبًا.
وإن استحلفه لِصٌّ أنه لا يَدُلّ عليه، ولا يُعلِم به ولا يخُبر به أحدًا؛ نوى أنه لا يفعل ذلك ما دام معه.
وإن ضَيّق عليه وقال: ما عاش، أو ما بقي، أو مادام في هذه البلدة؛ نوى قَطْع الظّرْف عما قبله، وأن لا يكون متعلقًا به، أو نوى بـ (ما): الذي؛ أي: لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك.
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته؛ نوى وطأها برجله.
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة؛ نوى أن لا يتزوجها نكاحًا فاسدًا.
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا، أو لا يشتريه، أو لا يؤجره، ونحو ذلك.
وكذلك لو استحلفه أن لا يدخل هذه الدار، أو البلد، أو المحلة؛ قَيّد الدخول بنوع معيَّن بالنية.
ولو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان؟ نوى مكانه الخاص من داره، أو بلده، أو سوقه.
ولو استحلفه: أنه ليس عنده في داره؛ نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار.
فإن ضيَّق عليه، وقال: الآن؛ نوى أنه ليس حاضرًا معه الآن، وقد بَرّ وصدق.
وإن استحلفه: ليس لي به علم؛ نوى أنه ليس لي علمٌ بِسِرِّه، وما ينطوي عليه، وما يُضْمِرُه، أو ليس لي علم به على جهة التفصيل؛ فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده.
الشيخ: في كل حال هذه التفاصيل ما تلزم؛ لأن بعض الناس قد لا يستحضر الحيلة والتأويلات فيكفيه أنه مظلوم إذا حلف لأجل الظلم لأجل دفع الظلم عنه لا يضر.
فصل
وللمظلوم المستحْلَف مخرجان يتخلص بهما:
مخرج بالتأويل حالَ الحلف.
فإن فاته فله مخرج يتخلَّص به بعده إن أمكنه، كما إذا استحلفه قُطَّاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدًا، فالحيلة في ذلك: أن يجمع الوالي المتهمين، ثم يسأله عن واحدٍ واحدٍ، فيُبرّئ البريء، ويسكت عن المتهم.
وهذا المخرج أضيق من الأول.
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه، ولا يطالبه بحقِّه، فحلف ولم يتأوّل: أحال عليه بذلك الحق مَنْ يطالبه به، ولم يحنث في يمينه.
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئًا، فله أن يُملّكه زَوْجته، أو ولده، فإذا باعه بعد ذلك كان قَدْ بَرّ في يمينه، ويمنع من تسليمه مَنْ مَلّكه إياه.
فصل
وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة:
المثال الأول: إن استأجر منه أرضًا أو بستانًا أو دارًا سنين، ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان، بنوع من أنواع المكر والغدر، ولو لم يكن إلا بأن يدعى أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى.
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يُسَمّي لكل سنة أجرًا معلومًا، ويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة، وأقلها للسنين الأول، فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك. وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول، وأقلها في الأواخر.
المثال الثاني: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر، فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة، ولا من إخراجها.
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة. فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة، ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا. فإن كان قد أجرها من الزوج، وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له، وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا، وإن كفل المرأة وقت العقد أنها تردّ إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك.
المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة، ويفسخ عقده، إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك، أو يتحيل عليه، حتى يبطل عقده.
فالحيلة في أمنه وتخليصه: أن يسمّي للأجرة أكثر مما اتفقا عليه، ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه، ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذى وقع عليه العقد. فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى. هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها، وعدم فسخها للزيادة.
المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك، فيأبى المالك ويفسخ العقد، ويرجع عليه بالأجرة. فالحيلة في تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة، وإن ضَمّن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى.
المثال الخامس: أن يخاف فَلَس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة.
فالحيلة في فسخه: أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ. ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك. فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر، أو السنة، ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ. كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوّغًا للفسخ. وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطًا معلومًا. ولا يعين مقدار المدة، بل يقول آجرتك كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا، تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة، فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ. وإن أفلس بعد مضى شيء منها، فهل يملك الفسخ؟ على وجهين:
أحدهما: لا يملكه. لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع، وهو يمنع الرجوع.
والثاني: يملكه. وهو قول القاضي. وهو الصحيح، لأنَّ المنافع إنما تملك شيئًا فشيئًا بخلاف الأعيان فإنها تملك في آن واحد. فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع.
المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها، فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق فى ذلك.
فالحيلة في ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج الدار إلى عمارته من أجرتها، ويقدر لذلك قدرًا معلومًا. فيقول، مثلا: بمائة فما دونها، أو يقول: من عشرة إلى مائة. فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها، أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها، وأنه غير متبرع به، وحسب له من الأجرة.
وكذلك إذا استأجر منه دابة، واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك. فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار، أو الدابة ما تحتاج إليه، فادعى قدرًا وأنكره المؤجر. فالقول قول المؤجر.
والحيلة في قبول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة، ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعها إليه، ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه، فالقول حينئذ قوله لأنه أمين. فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول إنه تلف، وهو أمانة، فلا يلزمني ضمانه، فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه، ويجعله في ذمته، ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك.
المثال السابع: إذا آجره دابة، أو دارًا مدة معلومة، وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة.
فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعدها لكل يوم دينار أو نحوه، فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة.
المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل، لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئًا لنفسه من دين الغير بفعله.
وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برئ منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا، والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك، لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه، فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء. فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه، وإنما برئ بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل.
الشيخ: كل هذه الحيل الجائزة واضحة للمحتاجين الناس في دنياهم أنهم ................ فالمستأجر والمؤجر كل منهم يستطيع أن ينظر فيما هو سبب لحفظ ماله وعدم ذهاب ماله عليه، فلينظر بما يحفظ ماله عليه بالطرق الشرعية التي تغني عن الكذب وعن الخيانة مثل هذه الحيل التي ذكرها المؤلف وهي واضحة.
المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة، فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا، فقالوا: لا يصح العقد؛ لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد.
قالوا: والحيلة في تصحيحه: أن يسمي للمكان الأقرب أجرة، ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى. فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة، ومن الرملة إلى مصر بمائة. لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى، ويكون قد أقام في المكان الأقرب.
فالحيلة في تخلصه: أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني. إن شاء أمضاه، وإنْ شاء فسخه.
ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة، إذا كانت على مدة لا تلي العقد. والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة، وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان، ولا غرر في ذلك، ولا جهالة. وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب روميًا فلك درهم، وإن خطته فارسيًا، فلك نصف درهم، فإن العمل إنما يقع على وجه واحد. وكذلك قطع المسافة، فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة، فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة. فإنه إذا أخذه لا يدرى بأي الثمنين أخذ. فيقع التنازع، ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما. بخلاف عقد الإجارة، فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينًا، فيجب أجرة عمله.
المثال العاشر: إذا زرع أرضه. ثم أراد أن يؤجرها، والزرع قائم لم يجز، لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض.
وطريق تصحيحها: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة. ثم أجره الأرض بعد تلك المدة بإجارة مضافة. فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة، فالحيلة: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإذا تم العقد اشترى منه الزرع، فعاد الزرع إلى ملكه، وصحت الإجارة.
المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر. لم يصح،لأن الخراج تابع لرقبة الأرض، فهو على مالكها، لا على المنتفع بها: من مستأجر، أو مستعير.
وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها، ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا. وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح.
وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى، ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة، ويوكله في إنفاقه عليها.
الشيخ: هذا فيه نظر، والصواب الجواز لا في مسألة الدابة ولا في مسألة الأرض الخراجية، فإذا كانت الأرض الخراجية للدولة فيها كل سنة مائة ريال أو خمسين ريال على مالكها وأجرها يقول: ............ عليك بكذا وكذا مع الخراج ما في جهالة ............... وأنا لي كذا وكذا هذا ما فيه جهالة ولا حرج في ذلك ولا في غرر، فيستأجرها المستأجر ويسلم للدولة ما لها من الخراج ويسلم لصاحب الأرض ............. وهكذا في الدابة ما في جهالة لو أجره الدابة على أنه يسافر عليها إلى كذا وكذا والعلف عليه يعلفها العلف المعتاد ما في إشكال ولا شبهة مثل ما يستأجر السيارة ويقوم بالبنزين هو المقصود أن هذا شيء واضح ما فيه شبهة ولا غرر.
الشيخ: وهذا هو الصواب.
السؤال:....................
الشيخ: لا حرج رخصة عامة إن شاء الله، رخصة عامة إذا كان وقت المطر لا حرج. لكن لو صبر ما دام المسجد عنده لو صبر وصلى العصر في وقتها قد يكون هذا أسلم وإلا فالصواب يجوز الجمع لوجود الرخصة لأنه قد يخرج هذا وقد يدخل هذا وقد يحصل مشقة.
السؤال: يعني العلة هي المطر أم المشقة؟
الشيخ: هم صلوا العصر والظهر جميعًا؟
السؤال: نعم.
الشيخ: يعني ينتظرون إلى وقت العصر.
السؤال: نعم.
الشيخ: ما يخرجون قبل العصر؟
السؤال: لا ما يخرجون.
الشيخ: يعني يستمرون في الدائرة؟
س: إلى الساعة الرابعة يصلون العصر داخل الدائرة والمسجد في وسط الدائرة لا يمشون في مطر ؟
الشيخ: مقتضى كلام كثير من أهل العلم أن الرخصة عامة لأنه قد يحتاج أحد يخرج ويدخل فيصير فيه مشقة قد يكون له حاجة يذهب إليها ولا يرجع فالأقرب إن شاء الله الصحة، لكن لو تركوا وصلوا العصر في وقتها لعدم المشقة كان هذا حسن إن شاء الله.
السؤال: من رفض أن يجمع مع المصلين وخرج بعد إقامة الصلاة؟
الشيخ: لا حرج إذا كان عنده شبهة، لكن الأفضل أنه يصلي مع إخوانه والحمد لله (إن الله يحب أن تؤتى رخصه).
السؤال: إذا كان الإمام لم يجمع ثم بعض الجماعة أرادوا أن يجمعوا فهل لهم أن يجمعوا ؟
الشيخ: الأفضل أن إمامهم يرفق بهم ويجمع بهم فإذا ترك وجمع غيره فلا حرج .
السؤال:.........................
الشيخ: يعني تحصل به مشقة، مطر يحصل به أذى أو دحض في الأسواق يعني طين أو مياه في الأسواق.
المثال الثاني عشر: لا تجوز إجارة الأشجار، لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بَيْعِها قبل بُدُوِّها.
قالوا: والحيلة في جوازه: أن يُؤجِره الأرض، ويُساقيه على الشجر بجزءٍ معلوم.
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يُحتاج إليه، بل الصواب جواز إجارة الشجر، كما فعل عمر بن الخطاب بحديقة أُسَيد بن حُضير، فإنه آجرها سنين، وقضى بها دَيْنَه.
قال: وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغَلّها؛ فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والزِّيار في الكَرْم، حتى تحصل الثمرة، كما يقوم على الأرض بالحَرْث والسّقي والبَذْرِ، حتى يحصل المغَلّ، فثمرة الشجر تجري مجرى مَغَلّ الأرض.
فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغَلّ من البَذْرِ، وهو مِلك المستأجر، والمعقود عليه: الانتفاع بإيداعه في الأرض، وسَقيه، والقيام عليه، بخلاف استئجار الشجر؛ فإن الثمرة من الشجر، وهي ملك المؤجر. والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه، وإنما هو فرقٌ عديم التأثير.
الثاني: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعُشْبها الذي يُنْبته الله سبحانه وتعالى، بدون بَذْرٍ من المستأجر، فهو نظيرُ ثمرة الشجر.
الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة، والقيام على الشجرة، فهي مُتولدة من عمل المستأجر، ومن الشجرة، فللمستأجر سَعيٌ وعملٌ في حصولها.
الرابع: أن تولُّد الزرع ليس من البذر وحده، بل من البذر، والتراب، والماء، والهواء؛ فحصول الزرع من التراب الذي هو مِلكُ المؤجر كحصول الثمرة من الشجر، والبَذْرُ في الأرض قائمٌ مقام السقي للشجر، فهذا أودع في أرض المؤجر عينًا جامدةً، وهذا أوْدعَ في شجره عينًا مائعة، ثم حصلت الثمرة من أصل هذا، وماءِ المستأجر وعمله، كما حصل العمل من أرض هذا، وبذر المستأجر وعمله.
وهذا من أصحِّ قياس على وجه الأرض.
وبه يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثّرة في الأحكام، ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر، فهو إجماع منهم.
ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبًا إذا كان البستان ليتيم أو وقفًا؛ فإن المؤجِر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذٍ.
ولا يخلّص من ذلك محاباةُ المستحقّ في إجارة الأرض؛ فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يُخسّره في عقدٍ آخر.
ولا يخلِّص من ذلك اشتراطُ عقدٍ في عقد، بأن يقول: إنما أساقيك على جُزء من ألف جزء، وبشرط أن أُوجِرك الأرض بكذا وكذا، فإن هذا لا يصح.
فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة، وبالله التوفيق.
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف واضح فإن تأجير الشجر لا بأس به، يسمونه الناس الآن كلمة يسمونها ما يؤخذ من المستأجر وهي تأجير الشجر بشيء معلوم كل سنة يسلمه المستأجر ويقوم على الشجر ويسقيه ويأخذ ثمرته، هذا الذي فعله عمر في بستان أسيد بن حضير لأنه من ثمرة الأرض كما أنه يؤجر الأرض ويأخذ أجرة والمستأجر يحرثها وقد يكون البذر منه وقد يكون البذر من الآخر، كما فعل النبي مع اليهود ويسلم الأجرة ويأخذ ثمرة الأرض، وهكذا إذا أعطاه البستان وقال تقوم على هذه البستان تسقيه شجره وتقوم عليه وما يسر الله من الثمرة فهو لك والمستأجر يسلم كل سنة شيء معلوم للمؤجر فهذا لا إشكال فيه وليس من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولهذا تأجير للشجر حتى يسقيه ويقوم عليه الثمر لا يحصل إلا بعد ذلك بعد السقي والتعب يسمونها ..................... يعني بالأجرة السنوية.
المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارًا أو أرضًا، وخاف أن تخرج وقفًا أو مستحقة؛ فتؤخذ منه هي وأجرتها.
فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره دَرَك المبيع، وأنه ضامن لما غَرمه المشتري من ذلك، ويصح ضمان الدرك، حتى عند من يُبطل ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، للحاجة إلى ذلك.
فإن ضمن مَن يخاف استحقاقه كان أقوى.
فإن خاف أن يظهر استحقاقٌ على وارثه بعد موته ضمن الدّرَك ورثةُ البائع، أو ورثة من يخاف استحقاقه إن أمكنه.
فإن كان على ثقةٍ أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه، ولكن يغرم قيمة المنفعة، وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين.
وهذا قولٌ ضعيف جدًّا؛ فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفى المنفعة بلا عوض، والعِوضُ الذي بذله في مُقابلة العين لا للانتفاع، فإلزامه بالأجرة إلزام بما لم يلزمه، وكذلك نقول في المستعير: إذا استُحِقّت العين لم يلزمه عِوض المنفعة؛ لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانًا بلا عِوض، بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعِوض، ولكن لا يلزمه إلا المسمّى الذي دخل عليه.
وكذلك الأمَةُ المشتراة إذا وطئها، ثم استُحِقّت لم يلزمه المهر؛ لأنه دخل على أن يطأها مجِّانًا، بخلاف الزوج، فإنه دخل على أن الوطء في مقابلة المهر، ولكن لا يلزمه إذا استُحقّت إلا المسمّى.
وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور؛ لأنه معذور غير ملتزم للضمان، وهو محسن غير ظالم، فما عليه من سبيل، وهذا هو الصواب، فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غرّه بما لم يلتزم ضمانه خاصة، ولا يرجع عليه بما التزم غرامته.
فإذا غرم المودع أو المتّهِب قيمة العين والمنفعة رجع على الغارّ بهما، وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين، دون قيمة المنفعة، إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى، حيث لم يلتزم ضمانه، وإذا ضمن وهو مشترٍ أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة، دون قيمة العين، لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى.
والمقصود: أن هذا المشتري متى خاف أن يُطالب بقيمة المنفعة إذا استُحِقّ عليه المبيع؛ فالحيلة في تخلُّصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مُسماة، ثم يشتريها منه بعد ذلك، ويُشهِد عليه أنه أقبضه الأجرة، فمتى استُحقّت العينُ، وطولب بعِوض المنفعة طالبَ هو المؤجِر بما قبضه من الأجرة، لمّا ظهرت الإجارة باطلة.
المثال الرابع عشر: إذا وكّله أن يتزوج له امرأةً معيّنة أو يشتري له جاريةً معينة، ثم خاف الموكِّل أن تعجب وكيله فيتزوجها، أو يشتريها لنفسه، فطريق التخلُّص من ذلك في الجارية أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهي حُرَّة، ويصحّ هذا التعليق والعتق.
وأما الزوجة: فمن صحّح هذا التعليق فيها كمالكٍ وأبي حنيفة نفعه، وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه.
فطريق التخلُّص: أن يُشهد عليه أنها لا تحَلّ له، وأن بينهما سببًا يقتضي تحريمها عليه، وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلًا.
فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه، ولا يأثم فيما بينه وبين الله، فالحيلة: أن يَعزل نفسه عن الوكالة، ثم يعقد عليها لنفسه، ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عَزْلًا لنفسه عن الوكالة.
فإن خاف أن لا يتمَّ له ذلك، بأن يرفعه إلى حاكم حَنفيّ يرى أنه لا يَملِك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل، فأراد التخلُّص من ذلك فالطريق في ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه، فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عَزْلَ نفسه في غيبة موكّله، وهو ممتنع، فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له، ولم يكن ذلك عزلًا لنفسه.
المثال الخامس عشر: إذا وكّله في بيع جارية، ووكّله آخر في شرائها، فإن قلنا: الوكيل يتولىَّ طرفي العقد جاز أن يكون بائعًا مشتريًا لهما.
وإن منعنا ذلك فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه، ثم يشتريها لموكّله، فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي يستوثق منه، فالحيلة: أن يبيعه إياها بشرط الخيار، فإن وفىّ له بالبيع وإلا كان مُتمكِّنًا من الفَسْخ.
الشيخ: وهذا ما في حاجة للحيلة إذا وكل إنسان في بيع سلعة وآخر في شرائها فلا بأس، إذا ساوم عليها ووقف السوم أخذها لمن وكله في الشراء والحمد لله هو وكيل في هذا وفي هذا ولا حرج.
المثال السادس عشر: لا يملك خُلْع ابنته بصداقها، فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق: أن يتملكه عليها، ثم يَخلعها من زَوجها به، فيكون قد اختلعها بماله.
والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك، وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بما لها، وربما كان هذا خيرًا لها.
الشيخ: وهذا هو الصواب إذا رأت المصلحة في اختلاعها أو رأى أبوها المصلحة أشار إليها وخلعها من مالها أو من ماله فالأمر واسع، إذا رأى المصلحة أو رأيا جميعًا المصلحة في ذلك فإنه يخلعها من مالها، فإن كانت رشيدة شاورها وإذا رأت ذلك إن شاء خلعها من مالها وإن شاء خلعها من ماله، لكن بشرط أن يعطي إخوانها مثلها إن كان لها إخوة وإلا فليخلعها من مالها.
الشيخ: وهذا الظاهر أنه لا حاجة إليه متى اشترى له السلعة وأرسلها إليه ولم يفرط الرسول وحصل عليه شيء فلا يضمن لأنه محسن، وإذا باع عليه السلعة أو بقيت عنده يحفظها فأصابها آفة فلا شيء عليه لأنه أمين.
المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يُسلِم وعنده خمرٌ أو خنازير، وأراد أن لا يَتلف عليه، فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام، ثم يسلم، ويكون له المطالبة بالثمن، سواءً أسلم المشتري أو بقي على كفره.
نصَّ على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيًّا خمرًا، ثم أسلما، يأخذُ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه.
الشيخ: هذا فيه نظر، بيع الخمر ................ إن عزم على إسلامه محل نظر، والأقرب أنه لو عزم على الإسلام فليتركه لله وليريق الخمر ويطلق الخنزير ولا يبيعه على غيره يريد ما عند الله من المثوبة.
أما إذا كان قد تم البيع قبل أن ينوي الإسلام وقبل أن ينوي الإسلام هذا هو محل النظر، هل يطالب بالثمن لأنه لما أسلم عرف أن هذا البيع وهذا الثمن لا يصلح لأنه خبيث مثل ما لو أسلم بعدما أربأ فإنه يأخذ رأس ماله ولا يأخذ الربا وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] هذا مثل الربح لا يأخذه يتركه لله ثمن الخنزير وثمن الخمر لأنه لما أسلم حرم عليه أخذه كما يحرم عليه أخذ الربا الزيادة التي فعلها في الجاهلية.
المثال التاسع عشر: إذا كان له عصيرٌ، فخاف أن يتخمّر، فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلًا، فالحيلة: أن يُلقي فيه أولًا ما يمنع تخمُّره، فإن لم يفعل حتى تخمّر وجب عليه إراقته، ولم يجز له حَبْسه حتى يتخلّل، فإن فعل لم يطهر ولم يُطهر؛ لأن حبسه معصية، وعَوده خلًّا نِعمةٌ، فلا يستباح بالمعصية.