بَابُ التَّحَفُّظِ مِنَ الْغِيبَةِ وَاللَّغْوِ وَمَا يَقُولُ إذَا شُتِمَ
1652- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1653- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَالنَّسَائِيَّ.
بَابُ الصَّائِمِ يَتَمَضْمَضُ أَوْ يَغْتَسِلُ مِنَ الْحَرِّ
1654- عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَشَشْتُ يَوْمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا؛ قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: فَفِيمَ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
1655- وَعَنْ أَبِي بَكْرِ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الْحَرِّ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَّا لِمَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ
1656- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1657- وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.
وَفِي لَفْظٍ: "كَانَ يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
1658- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ: سَلْ هَذِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ أَنَّ أَفْعَالَهُ حُجَّةٌ.
1659- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ، فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَإِذَا الَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على مسائل:
المسألة الأولى: أنه ينبغي للمؤمن أن يصون نفسه عمَّا حرم الله، ولا سيما الصائم يصون صيامه من الغيبة والنَّميمة والمشاتمة وغير هذا مما يقدح في الصوم؛ لأنَّ المقصود هو ترك المعاصي، والإقبال على الله بالاجتهاد في طاعته، وحفظ الجوارح عمَّا لا ينبغي، ليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب، المقصود الصوم عن محارم الله، وأن يكون ترك الطعام والشراب وسيلة لغير ذلك من أعمال الخير، والتَّحفظ مما حرَّم الله، والبُعد عن كل ما يُغضب الله.
فالصائم مأمور بأن يكفَّ جوارحه عن محارم الله، فيحفظ لسانه عمَّا لا ينبغي، ويحفظ جوارحه كلها عمَّا لا ينبغي؛ ولهذا يقول ﷺ: الصيام جُنَّة يعني: سترة وحاجز من النار لمن صانه وحفظه، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب يعني: لا يُجامع، ولا يأتي الرفث من القول: الرديء، ولا يصخب لا يتكلم بما لا ينبغي، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم، يعني: إن اعتديت عليَّ لا أُقابلك، لا أُكافئك على ما قلتَ من السبِّ؛ لأني صائم، والصائم منهيٌّ عمَّا لا ينبغي.
ويقول ﷺ: مَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به والجهل –يعني: الظلم- فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه يعني: لا قيمةَ لصومه، إذا كان صومه لا ينهاه عمَّا حرَّم الله فلا قيمةَ لهذا الصوم، الواجب أن يكون صومك ناهيًا لك عن الفحشاء والمنكر، مُوجبًا لحفظ بصرك وسمعك ولسانك وسائر جوارحك عمَّا حرَّم الله من الظلم والجهل.
والحديث الثاني وما جاء في معناه يدل على جواز تبرد الصائم بالماء؛ أن يصبَّ على نفسه الماء يتروش لا بأس، وقد كان النبيُّ يتروش وهو صائم، ثبت عنه ﷺ أنه كان يغتسل من الجنابة بعد الصبح وهو صائم، فلا حرج في ذلك، كون الإنسان يتروش: يصبُّ عليه ماءً باردًا، ويلبس ثيابًا مرشوشةً بالماء لا بأس؛ لأنَّ هذا يُعين على النشاط وعلى تخفيف ألم الحرِّ والظَّمأ.
والأحاديث الأخيرة تدل على أنه لا بأس بالمباشرة؛ لحديث عائشة وأمِّ سلمة وعمر بن أبي سلمة، كلها تدل على جواز المباشرة للصائم، لا بأس أن يُقبل، ولا بأس أن يُباشر أهله، والمباشرة يعني: يضمُّهم إليه بالقبلة واللَّمس والاجتماع في الفراش، لا بأس بذلك، كما فعله النبيُّ مع زوجاته؛ كان يُقبِّل وهو صائم، ويُباشر وهو صائم، كما قالت أمُّ سلمة وعائشة رضي الله عنهما.
وسأله ربيبه عمر بن أبي سلمة: هل يُقبِّل الصائم؟ فقال: سَلْ أُمَّك -أم سلمة- فسألها فقالت: نعم، فقال عمر: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر. يعني: نحن لسنا مثلك، قال: إني والله أخشاكم لله وأتقاكم له، يعني: لو كان هذا ممنوعًا لامتنعتُ منه، فأنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، فدلَّ ذلك على أنَّ أفعاله حُجَّة، وتركها حجة؛ لأنه أسوة، كما قال جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وفيه سؤال الإنسان عمَّا يُشكل عليه، كما قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وفيه دليل على أن أفعاله ومتروكاته كلها حجة؛ لأنه المبلغ عن الله بفعله وقوله وتركه، أما حديث أنه سُئل عن المباشرة: فسأله سائلٌ وأباح له، وسأله آخر ونهاه، فإذا الذي نهاه شابٌّ، والذي أذن له شيخ، فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، والأحاديث المتقدمة تدل على خلافه، والحديث هذا ضعيف؛ لأنه من رواية أبي العنبس، وليس بذلك، المقصود أنه حديث ضعيف، والصواب أنَّ المراعاة في هذا خشية الوقوع فيما حرَّم الله، سواء كان شيخًا أو شابًّا، إن كان يخشى يترك، وإن كان لا يخشى فلا بأس أن يُقبِّل، ولا بأس أن يُباشر.
وفَّق الله الجميع.
س: حديث المضمضة؟
ج: حديث المضمضة فيه ضعف، لكن يُغني عنه أحاديث أم سلمة وعائشة وعمر بن أبي سلمة، كافية، حديث عمر فيه ضعف من جهة المضمضة، جزم بمعناه ابنُ القيم رحمه الله، لكن في سنده ضعف، لكن يُغني عنه ما جاء في حديث عائشة وأم سلمة وعمر بن أبي سلمة، وأنه لا حرج في ذلك.
س: لو باشر فأنزل؟
ج: يقضي اليوم، جمهور أهل العلم [على أنه] يقضي اليوم، أما المذي لا، لكن إذا أنزل المني يقضي.
س: الراجح؟
ج: يقضي.
س: الكفَّارة يا شيخ أو القضاء؟
ج: لا ما فيه كفَّارة، هذا في الجماع، الكفَّارة في الجماع في رمضان خاصَّة.
س: قوله: أطيب عند الله من ريح المسك مَن حملها على المجاز عفا الله عنك؟
ج: الأصل عدم المجاز، الأصل في الأحكام الشرعية الحقيقة، ما هو بالمجاز.
س: وماذا يكون معناها؟
ج: على ظاهره.
س: هل يُقال بأنَّ في اللغة مجازًا؟
ج: من باب الجواز، يعني: "مجاز" المصدر الميمي، يعني: اللغة فيها توسع، على لغة العرب، أما ما يُقصد به أنه يجوز نفيه وإبطاله فهذا ما هو بصحيحٍ.
س: قول الزور والعمل به العمل به هو الظلم؟
ج: من الخيانة والكذب والتَّعدي على الناس، كله عمل بالزور، والجهل التَّعدي يعني.
س: أيّهما الأفضل في رمضان: الصلاة أم القراءة؟
ج: كل شيء له وقته، الصلاة في وقتها أفضل، والقراءة في وقتها أفضل، يُنزل الأمورَ في منازلها مثلما فعل النبيُّ ﷺ، الصلاة لها وقتها، والقراءة لها وقتها، وهكذا التَّسبيح له وقته، والاستغفار، يتحرى ما كان يفعله النبيُّ ويُرشد إليه عليه الصلاة والسلام، لو أنَّ إنسانًا إذا سلَّم قرأ يقال: لا، ما هو بمشروع، إذا سلَّمت تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، ثم تأتي بالتَّهليل، ما تقرأ، وإذا ركع ما يقرأ، وإذا سجد ما يقرأ، القراءة في محلِّها، والتَّسبيحات والأذكار الشرعية في محلِّها.
س: المجاز الذي يجوز نفيه في اللغة دون القرآن؟
ج: الكلام الذي عند أهل اللغة مثل: "رأيتُ أسدًا" يعني شجاعًا، تقول: رأيتُ حمزة، رأيتُ فلانًا.
س: يجوز في اللغة دون القرآن؟
ج: نعم، ليس في القرآن ما يجوز نفيه.
س: وأيش الأفضل: الطواف أم القراءة؟
ج: يطوف ويقرأ، يقرأ في الطواف، لكن ذكر العلماء أنَّ الطواف أفضل في حقِّ الغُرباء، والصلاة أفضل في حق المقيمين في مكة، أما الغرباء فيفوتهم الطواف، ما يستطيعون الطواف إلا إذا جاءوا مكة، أما المقيمون في مكة فعندهم سعة: يطوفون ويصلون، فالطواف في حقِّ الغُرباء أفضل؛ لأنهم إذا سافروا فاتهم هذا الخير، وأما أهل مكة المقيمون فالصلاة أفضل من الطواف.
س: قراءة القرآن أثناء الطَّواف؟
ج: لا بأس، يقرأ ويذكر الله ويدعو، كله طيب.
بَابُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ
1660- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ، فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
1661- وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ فِي رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1662- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا حُلُمٍ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْضِي". أَخْرَجَاهُ.
بَابُ كَفَّارَةِ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ
1663- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا، قَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أُطِيقُ، قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَذَكَرَهُ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَلِابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ.
وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ فِيهِ: فَقَالَ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: مَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي. وَذَكَرَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث تدل على أنَّ الإنسان إذا أصبح جنبًا فلا حرج؛ لأنه ﷺ كان يُصبح جنبًا ثم يغتسل ويصوم عليه الصلاة والسلام، المحرَّم الجماع، لا يجوز له أن يُجامع بعد طلوع الفجر، ولا أن يتعاطى شيئًا من المفطرات، أما كونه يبقى على جنابته حتى يتسحَّر ويفرغ من حاجاته ثم يغتسل بعد طلوع الفجر فلا حرج في ذلك، قد فعله النبيُّ ﷺ، وهو سيد الخلق وأفضلهم وأورعهم، كما في حديث عائشة وأم سلمة، ولم يقضِ، ولم يُكفِّر.
قال: "يُصبح جنبًا من جماعٍ" لئلا يتوهَّم أنه احتلام، فقال له عمر بن أبي سلمة: يا رسول الله، لستَ مثلنا، قد غفر الله لك، قال: إني والله لأخشاكم الله وأتقاكم له، وفي لفظٍ: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له، وهو ﷺ أخشى الناس، وأتقاهم لله، وأعلمهم بالله، فإذا ترخَّص فهو القدوة والأسوة، كما قال الله جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وهو الأسوة في جميع الأفعال والأقوال إلا ما خصَّه الدليل.
أما حديث: مَن أصبح جنبًا فلا صومَ له فهو حديث منسوخ، رواه أبو هريرة عن الفضل بن العباس، وكان هذا في أول الأمر ثم نُسخ بأدلةٍ: حديث أم سلمة وعائشة وعمر بن أبي سلمة وغيرهم.
وأما الجماع فهو أعظم المفطرات، وهو مُحرَّم على الصائم في الفرض، ليس له أن يُجامع، كما أنه ليس له أن يُفطر بشيءٍ من المفطرات، لكن لو جامع فعليه التوبة، وعليه الكفَّارة، وقد فسد صومه، فإذا جامع زوجته في الصيام وهو فرض بطل الصوم، وعليه التوبة، وعليه الكفَّارة إذا كان في رمضان، وكفارته في رمضان كفَّارة الظِّهار: عتق رقبة، فإن عجز يصوم شهرين متتابعين، فإن عجز يُطعم ستين مسكينًا.
وفي هذا أنَّ الرجل لما أخبر أنه عاجز عن العتق والصوم وعن الإطعام جيء النبيُّ ﷺ بعرقٍ فيه تمر، قال: اذهب فتصدَّق به، فقال هذا الرجل: على أهل بيتٍ أفقر مني؟ فوالله ما بين لابتيها –يعني: طرفيها- أحد أحوج إليه منا. فضحك النبيُّ ﷺ يتعجب من أمره، بينما هو يسأل عن الكفَّارة ويطلب أن يُخلص نفسه من ذلك، إذا هو يطمع فيما أُمر به أن يُكفِّر، وهذا من شدَّة حاجته، فقال النبيُّ: اذهب فأطعمه أهلك، فدلَّ ذلك على أنَّ الفقير إذا جامع في رمضان وليس عنده شيء ولا يستطيع الصوم فإنه لا شيء عليه؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يأمره بالقضاء، ولم يقل له: إنَّ هذا قد بقي في ذمَّتك، بل أسقط عنه ذلك، وأمره أن يأكل الطعامَ الذي عنده الذي أعطاه إياه هو وأهل بيته لشدَّة حاجتهم.
أما كفَّارة الظِّهار وكفَّارة القتل فهي لا تسقط، تبقى في الذمة حتى يستطيعها، وأما كفَّارة الوطء في رمضان فالحديث نصٌّ في أنها تسقط عنه إذا عجز عن الثلاثة، وأنَّ عليه قضاء اليوم الذي أفطر فيه، وهذا أمر معروف، كل مَن أفطر بغير عذرٍ فهو آثم وعليه القضاء، فإن كان بعذرٍ فلا إثم عليه لكن عليه القضاء، كالمريض والمسافر.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان يجوز أن يُخبر بما فيه زكاته وفضله إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك؛ فإنه ﷺ أخبرهم بأنه أخشى الناس لله؛ لأنه خشي أن يظنُّوا أنه لكون الله قد غفر له يتساهل في الأمور؛ لأنه مغفورٌ له، فبيَّن لهم ﷺ أنه لا يتساهل وإن كان الله قد غفر له، فهو أخشى الناس لله، وأتقاهم لله، وهو عبدٌ شكورٌ عليه الصلاة والسلام، فمن شُكر الله أن يُسارع إلى مراضيه، وأن يتحفَّظ، وأن يُبادر إلى الخير، وأن يكون أسرع الناس إلى الخير عليه الصلاة والسلام.
وحديث عمر الذي تقدم: "هششتُ" راجعتُ سنده عند أحمد، وسنده صحيح لا بأس به، وصحَّحه ابنُ خزيمة وابنُ حبان والحاكم، وأقرَّه الذهبيُّ، وسنده جيد، فإنكار مَن أنكره: المنذري أو النَّسائي لا وجهَ له، رجال سنده كلهم ثقات، ويُغني عنه حديثُ كونه يُباشر ﷺ ويُقبِّل وهو صائم كافٍ، لكن رواية عمر زيادة في الخير، زيادة في الدلالة على جواز التَّقبيل والمباشرة للصَّائم.
س: إطعام ستين مسكينًا عن الزوج والزوجة أو عن الزوج؟
ج: لا، على كل واحدٍ.
س: كل واحد عليه ستون؟
ج: نعم.
س: فتوى أبي هُريرة تُحمل على ماذا في وجوب ..؟
ج: ما درى عن النَّسخ.
س: ما بلغه؟
ج: أبو هريرة يقول: حدَّثني بهذا الفضلُ بن العباس رضي الله عنه، فاتَّضح من هذا أن كون لا صومَ له شيء منسوخ.
س: إذا عجز عن الكفَّارة ويُؤمل مثلًا أنه في يومٍ من الأيام يستطيع أن يجمع المال أو يجمع كذا؟
ج: الراجح أنها تسقط عنه، فإن كفَّر فلا بأس.
س: الاعتبار بالحال يا شيخ؟
ج: الاعتبار بالحال نعم.
س: على الترتيب أو التَّخيير؟
ج: على الترتيب مثل الظِّهار.
س: حدُّ النهار أي وقتٍ؟ يعني: إذا جامع في أي وقتٍ يغتسل؟
ج: في أي وقتٍ، سواء في آخر الليل، وإذا كان جامع في آخر الليل يغتسل في آخر الليل، أو بعد الصبح لا حرج، أو احتلم في النهار في الضُّحى أو الظهر لا بأس يغتسل ولا شيء عليه.
س: يعني لو طلعت الشمسُ؟
ج: لا يجوز أن يُؤخِّر، وإلا الصوم صحيح، لكن ما يجوز له التأخير وهو يستطيع، أما لو نام ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس إذا قام يغتسل ويُصلي.
س: مقدار الإطعام كم؟
ج: نصف صاع.
س: قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] دليل على عدم القُدرة على أداء هذا الواجب الذي هو الكفَّارة؟
ج: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ من جوامع الكلم التي أنزلها الله جلَّ وعلا، فإذا عجز عن الصوم انتقل إلى الإطعام، وإذا عجز عن العتق انتقل إلى الصوم: في كفَّارة القتل، كفَّارة الظهار، كفَّارة الجماع في رمضان، هذا أوله العتق، فإن عجز انتقل إلى الصوم، وفي كفَّارة الظهار وكفَّارة الفطر في رمضان زيادة: ينتقل إن عجز عن الصوم، ينتقل إلى الإطعام، أما القتل فما فيه إلا العتق أو الصوم إن عجز عن العتق، وكل حسب حاله، الناس يختلفون في هذا.
س: الإطعام يكون لستين مسكينًا، لو أعطى طعامَ ستين مسكينًا لواحدٍ فقط؟
ج: ما يصلح، لا بدَّ من تنفيذ ما نصَّ الله عليه.
س: إذا كان يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين لكن يخاف على نفسه، هو شابٌّ لكنه يخاف أنه ما يقدر أن يصوم شهرين؟
ج: هو أعلم بنفسه، الرجل الذي قال: يا رسول الله، جامعتُ امرأتي وأنا صائم، قال له النبي: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلا من الصيام؟ يعني: ما أستطيع، فقال النبي: أطعم، فإذا كان شابًّا يخشى ألا يستطيع [أن] يصبر على أهله يُطعم.
س: يُعادله بالكيلو؟
ج: تسعون كيلو، كل واحدٍ كيلو ونصف.
س: كفَّارة القتل يتحقق فيها: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]؟ يعني: الذي لا يستطيع في كفَّارة القتل أداء هذه الكفَّارة تسقط عنه؟
ج: لا، تبقى في ذمَّته.
س: طيب قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ؟
ج: تبقى مُعلَّقة مثل الدَّين الذي عليك يبقى في ذمَّتك حتى تستطيع: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
س: الذي ذكرتَ رواه مَن: "هل أصبتُ ما أصبتُ إلا من الصوم"؟
ج: في بعض الروايات، ما أذكر الآن مَن خرَّجها: إما مسلم أو البخاري، هي في "الصحيحين".
س: نصف الصاع يكون مطبوخًا أم حبًّا؟
ج: حبٌّ، وإذا أخرجت طحينًا فلا بأس: حنطة أو أرز أو تمر، من قوت البلد، شعير، قوت بلدهم ذرة.
س: يقول السائل: فضيلة الشيخ، استقدمتُ خادمةً مسلمةً، والحمد لله هي ملتزمة، ولكني علمتُ أنَّ لها أطفالًا صغارًا وزوجًا، وقد جاءت الرياض بدون محرمٍ، هل عليَّ من إثمٍ؟ وما الواجب عليَّ؟ هل أُسفِّرها إلى بلادها أفضل؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
ج: لا، ما عليه في هذا شيء، الإثم على مَن أرسلها، وهي ما جاءت إلا لحاجةٍ، لولا الحاجة ما جاءت، وليس عليك إثم، الإثم على مَن أرسلها بدون محرمٍ، فإذا تمَّت مدَّتها تُرسَل إلى أهلها، وإذا أرسلتها ورضيت ....... لازمة، فإذا أحبت أن تردَّها إلى أهلها وسمحت لها ترجع إلى أهلها.
س: هو يعرف عندما قدم على مكتب الاستقدام، عارف أنها تجيء بدون محرمٍ؟
ج: الإثم على مَن أرسلها.
س: وهو ما يأثم لأنه عالم ابتداءً؟
ج: عليه أن يلتزم بالمحرم، يطلبها بمحرم، فإذا أرسلوها بمحرمٍ يسوق أجرة المحرم، وإذا أرسلوها بدون محرمٍ فالإثم عليهم.
س: وإذا كانت كبيرةً في السنِّ هل تحتاج إلى محرمٍ؟
ج: ولو، الأحاديث عامَّة.
س: إذا خشي الوقت هل له أن يتوضَّأ ويتسحر ثم يغتسل؟
ج: الأمر واسع، ما دام وسَّع الله وسِّعوا.
س: بعض العلماء قالوا أنَّ الفضل سمع من الرسول ﷺ حديث أبي هريرة في اغتسال الجنابة: أن أبا هريرة قال: مَن قام على جنابةٍ فليُفطر؟
ج: مَن أصبح جُنبًا فليغتسل منسوخ، هذا رواه أبو هريرة عن الفضل بن عبَّاس.
س: بعض العلماء قالوا أنَّ الفضل سمعه من الرسول ﷺ؟
ج: المقصود منسوخ بدليل أنه ﷺ كان يُصبح جنبًا، وقال للصحابة: إني أخشاكم لله وأتقاكم له لما قالوا: لستَ مثلنا، فرخَّص في هذا عليه الصلاة والسلام، وهو بقوله وفعله اللهم صلِّ عليه، وهذا من أخبار زوجاته، وزوجاته ما زالوا معه حتى مات عليه الصلاة والسلام.
س: ما رجع أبو هريرة عن هذا؟
ج: بلى، رجع.
س: المذي والمني نجس؟
ج: المذي نجس، والمني ما هو بنجسٍ، المذي لُزُوجة، ماء لزج يخرج عند تحرك الشَّهوة، وأما المني فأصل الإنسان، طاهر على الصحيح.
س: لو أصاب مثلًا الملابس أو كذا؟
ج: يغسلها من باب النَّظافة، أو يُحَكُّ، أما المذي لا، نجس.
بَابُ كَرَاهَةِ الْوِصَالِ
1664- عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالُوا: إنَّكَ تَفْعَلُهُ! فَقَالَ: إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي.
1665- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ه، عَن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ، فَقِيلَ: إنَّكَ تُوَاصِلُ! قَالَ: إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَاكْلُفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ.
1666- وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَاهُم النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ! فَقَالَ: إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ.
1667- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرَ، قَالُوا: فإنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
بَابُ آدَابِ الْإِفْطَارِ وَالسُّحُورِ
1668- عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ.
1669- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
1670- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
1671- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبًا فَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ يكُنْ تَمْرًا حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
1672- وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.
1673- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إذَا أَفْطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
1674- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السُّحُورَ وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
1675- وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد.
1676- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: في هذه الأحاديث -الأحاديث الأول- كراهة الوصال والنَّهي عنه، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يُواصل نهارًا بنهارٍ، بل يُفطر بينهما في أول الليل أو في آخره، هذا هو السنة؛ ولهذا نهاهم عن الوصال رحمةً من الله لهم، وإحسانًا من الله إليهم أن لا يُواصلوا.
ومعنى الوصال أن يدع الأكلَ في الليل، وأن يصل النهارَ بالنهار، يكون صائمًا في الليل والنهار يومين أو ثلاثة أو أكثر، هذا هو الوصال، وقد نهى عنه النبيُّ ﷺ، وفي إحدى روايات الصحيح أنهم لما أبوا واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخَّر الهلال لزدتكم كالمنكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا، فدلَّ ذلك على كراهة الوصال، وهو ليس بحرامٍ، ولكنه مكروه؛ ولهذا واصل بهم ثم واصل بهم، فلما رأوا الهلال قال: لو تأخَّر لزدتُكم كالمنكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
وقال في جوابه لهم لما قالوا له: إنك تُواصل! قال: إني لستُ مثلكم، إنَّ لي طاعمًا يُطعمني، وساقٍ يسقيني، وفي اللفظ الآخر: إني أبيتُ يُطعمني ربي ويسقيني، وفي اللفظ الآخر: إني أظل عند ربي يُطعمني ويسقيني، فهذا يدل على أنه ﷺ قد قوَّاه الله على الوصال، وأعانه على الوصال.
وهذا الإطعام والإسقاء الذي يحصل له ما يحصل له من نفحات القدس، ومواد الأنس بالله، والأنس بطاعته وذكره، حتى صار ذلك قائمًا مقام الطعام والشراب، وليس معناه أنه يأتيه الطعام من الجنَّة كما يقول بعضُهم، لا، لو كان يأتيه طعامٌ من الجنة ما صار صائمًا، صار مُفطرًا، فالمقصود أنَّ الله يفتح على قلبه وعلى حواسه ما يجعلها تتحمل الصوم والوصال، فضلًا منه جلَّ وعلا، فيُعطيه من القوة ما يُغنيه عن الطعام والشراب، فسمَّى هذا إطعامًا وإسقاءً من الله جلَّ وعلا، لكن مَن أراد أن يُواصل إلى السحر فلا بأس، والسنة الإفطار، قال ﷺ: إذا أقبل الليلُ من هاهنا، وأدبر النهارُ من هاهنا، وغابت الشمسُ فقد أفطر الصائم، السنة الإفطار إذا غابت الشمس، يُفطر على ما يسَّر له الله من رطبٍ أو تمرٍ أو ماءٍ أو غير ذلك، فإن أحبَّ أن يُواصل فلا حرج إلى السَّحر، إلى آخر الليل، أما أنه يدع الأكل كل الليل حتى يصل النهارَ بالنهار فهذا هو الذي نُهِيَ عنه، هذا هو الذي لا ينبغي، أما إذا أمسك حتى صار عشاؤه سحورًا، فلا بأس، لكن الأفضل الترك، الأفضل أن يُفطر من أول الليل؛ لقوله ﷺ: لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر متفق عليه، ويقول الله جلَّ وعلا: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا؛ ولأنَّ حكم الصوم ينتهي بغروب الشمس، فإذا غابت الشمسُ قد أفطر الصائمُ حكمًا.
وفي الأحاديث الأخرى الدلالة على فضل السحور، وأن السنة للمؤمن أن يتسحَّر؛ لقوله ﷺ: تسحَّروا؛ فإنَّ في السحور بركةً، وقوله ﷺ: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السَّحر، فالسنة أن يتسحَّر على ما يسَّره الله، يتقوى بهذا على طاعة الله، أما الفطور فالأفضل الإفطار: إن وجد الرطب فالرطب، فإن لم يتيسر فالتمر، فإن لم يتيسر فالماء، كما في حديث سلمان بن عامر الضبي وحديث أنس.
وفي بقية الأحاديث الدلالة على شرعية الدعاء عند الإفطار، يُستحب أن يدعو عند الإفطار، أما حديث: اللهم لك صمتُ فسنده ضعيف، لكن جاء من رواية أبي داود والنَّسائي بإسنادٍ حسنٍ كما قال الدَّارقطني رحمه الله وجماعة: اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله رواه أبو داود والنَّسائي وحسَّنه الدَّارقطني، لا بأس عند الإفطار، وإذا دعا بدعواتٍ أخرى عند الإفطار أو في حال الصوم تُرجى له الإجابة، كان ابنُ عمر يقول: "اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي"، يعني عند الإفطار، فإذا قال: "اللهم اغفر لي، اللهم أنجني من النار، اللهم تقبَّل مني، اللهم اغفر لي ولوالدي، اللهم انصر دينَك، اللهم أصلح أحوال المسلمين"، هذه الدَّعوات تُرجى إجابتها في حال الصوم وعند الإفطار.
وفَّق الله الجميع.
س: من يتَّخذ هذا عادةً، يعني قبل الإفطار بخمس دقائق يقوم برفع يديه ويدعو؟
ج: هذا محلٌّ تُرجى فيه الإجابة.
س: وأصح دعاء ورد عند الإفطار: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق"؟
ج: هذا أحسنها، لا بأس.
س: و"اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ"؟
ج: هذا جاء بسندٍ ضعيفٍ، وجاء من روايةٍ أخرى مع "ذهب الظمأ" لا بأس بها.
س: أقل ما يُقال بأنَّ الإنسان تسحر بماذا؟
ج: على ما يسَّر الله، على حسب حاله، استكمال السحور أولى، لكن إذا كان ما يشتهي سحورًا ولو على شرب ماءٍ، أو شربة لبنٍ، أو تمرات، لكن إذا كان يشتهي السّحور يتسحر بسحورٍ يكفي، يُقويه على طاعة الله.
س: بعض الناس يتعشَّون الساعة الثانية عشرة ثم ينامون ويقولون: لا نستيقظ إلا قبيل الأذان نشرب كأس ماءٍ، فهذا ينطبق علينا أنا تسحرنا، يعني: يُريدون هذا الفضل الذي ذكره الرسولُ في الحديث؟
ج: الذي يظهر لي أنه ما ينطبق، يُؤخِّرون السحور إلى آخر الليل كما كان يفعل الرسولُ عليه الصلاة والسلام؛ كان سحوره آخر الليل.
س: لو تسحَّر بدري على أساس أنه يخشى لو تأخَّر إلى الفجر ما قام لصلاة الفجر؟
ج: يُقدِّر الوقتَ الذي يكفيه، الذي يُعظِّم الصلاةَ يُقدِّم وقت السحور وينتهي منه حتى يذهب للصلاة، أما اللَّعَّاب فله شأنٌ آخر.
س: بعضهم يستدلون بـ"تسحَّروا ولو بلقمةٍ"، و"نعم السحور التمر"؟
ج: على كل حال حسب الطاقة، المعروف أن السر في السحور أنه يُقوي على طاعة الله: تسحروا فإنَّ في السحور بركة، فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر يعني: اليهود والنصارى، أكلة السحر يعني السحور.
س: والتَّهاون في السحور يدل على ..؟
ج: على ضعف في الاتِّباع.
س: ما جاءت رواية: "ولو أن يجرع أحدُكم جرعةً من ماءٍ"؟
ج: ما أدري عن الرواية هذه، لكن على حسب التيسير، المهم أن يتسحَّر السحور المعتاد، لا يتتبع العلل والرّخص التي ما لها سند، يتسحر السحور المعتاد الذي يفعله الناس للصوم حسب طاقته، الذي ما يقدر ...... والذي خبزة، والذي لبن، والذي ماء، حسب طاقته.
س: أقول: إذا جاء زيد من الناس إلى المسجد ووجد مكانًا خاليًا، ووضع متاعه أو كتابه في ذلك المكان، وأراد أن يتوضأ، والمواضئ متَّصلة بالمسجد، فهل هذا فيه محذور؟
ج: أي نعم، يبدأ بالوضوء أولًا، ثم يأتي، لا يحجز قبل.
س: حتى ولو كان مُؤذِّنًا؟
ج: المؤذِّن ما يحتاج حجزًا، إذا جاء يُؤذن في وسط الصف أو في الصف الثاني، متيسر له الأذان في كل وقتٍ، ما هو بلزوم خلف الإمام.
س: صحَّة حديث: إنَّ الله وملائكته يُصلون على المُتسحرين؟
ج: ما أذكر حاله.
س: بعض مجالس العلم ما تكون في صفوف الصلاة، ويحجز بعضُ الناس محلًّا قبل الدرس بساعات؟
ج: ما هم موجودين في المسجد؟
س: ما هو موجودًا، يحطُّ متاعه ويروح؟
ج: لا، ما يصلح.
س: حتى ولو هو ما هو بمكانٍ للصلاة؟
ج: لا، ما يحجز، الأول فالأول، السنة الأول فالأول، مَن سبق فهو أحقُّ.
س: هل الحديث صحيح أنَّ ركعتين في مسجد قُباء تعدل عمرةً؟
ج: جاء حديثٌ صحيحٌ لا بأس به: مَن تطهر في بيته ثم أتى المسجد فصلَّى ركعتين كان كعمرةٍ، هكذا جاء في الحديث الصحيح.
س: في أيام رمضان الذي يدخل على أساس أنه يُفطر في المسجد، ويدخل في وقت الأذان، يجب عليه أن يُصلي ركعتين أو يُفطر؟
ج: السنة أن يُصلي ركعتين أولًا، إن كان بعد الأذان أو قبل الأذان، هذه سنة تحية المسجد، مثل: لو جاء والإمام يخطب يُصلي ركعتين ثم يجلس.
س: يعني حتى لو دخل وقت الفطور؟
ج: الركعتان مُقدَّمتان.
س: قباء يرتحلون إليه أحسن الله إليك؟
ج: لا، ما يرتحل إليه إلا من نفس المدينة فقط؛ لأنه ما هو من المساجد الثلاثة، هو تبع مسجد النبي ﷺ.
س: إذا وصل المدينة ممكن يذهب؟
ج: أو الساكن فيها، أما أن يقصده بشدِّ الرَّحْل لا.
س: بالنسبة للدعاء عند الإفطار: أحيانًا يكون الإنسانُ يشرع بالدعاء والأذان يُؤذِّن، هل مثلًا نقول له: أفطر أولًا وبعد ذلك ادعُ؟
ج: الأمر قريب، بدأ الأكل أو بدأ الدعاء الأمر كله طيب.
س: ذكر الشارحُ رواية تسحَّروا ولو بجرعة ماءٍ قال عند ابن حبان؟
ج: راجع ابن حبان.
س: ركعتا مسجد قباء تُعتبر مع تحية المسجد أو تختلف؟
ج: سنة للزيارة.
س: غير تحية المسجد؟
ج: تحية المسجد هذه للإنسان الذي يريد أن يجلس في المسجد، يُصلي التَّحية، أما الذي قصد الصلاة فيه فهذه تُسمَّى: تحية، وتُسمَّى: سنة الزيارة للمسجد؛ لأنه ما جاء للتحية، جاء للصلاة.
س: النية تجمع بينهما؟
ج: ولو ما نوى تحية المسجد يأتي ليُصلي.
س: نهي الرسول ﷺ عن الوصال يُحمل على ماذا؟
ج: الكراهة.
س: في كفَّارة الظهار وكفَّارة مَن جامع في نهار رمضان لها وقت متَّسع أم لا بد على الفور؟
ج: لا، الواجب على الفور مع القُدرة.
س: إذا لم يجد ستين مسكينًا؟
ج: حتى يجد، يلتمس على شوية شوية حتى يحصلهم.
س: يجوز أنه يُعطيها لواحدٍ؟
ج: لا، لا، على شوية حتى يُحصِّلهم: على واحد، وعلى اثنين، وعلى ثلاثة حتى يُكمل الستين.
أَبْوَابُ مَا يُبِيحُ الْفِطْرَ وَأَحْكَام الْقَضَاءِ
بَابُ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ
1677- عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
1678- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ".
1679- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ.
1680- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَعِب الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ".
1681- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ، حَتَّى إذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ -وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ- أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَهُ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَلَا تَارِيخِ الْخُرُوجِ.
1682- وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ مِنِّي قُوَّةً عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ قَوِيُّ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضِيلَةِ الْفِطْرِ.
1683- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَا: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَصُومُ الصَّائِمُ، وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1684- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، فَكَانَتْ عَزْمَة فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي السَّفَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث بمجموعها تدل على جواز الصيام في السفر، وأن الفطر أفضل، وأنه رخصة من الله، والله يُحب أن تُؤتى رُخصه، كما يكره أن تُؤتى معصيته؛ ولهذا لما سأل حمزةُ بن عمرو الأسلمي الرسولَ ﷺ عن الصوم في السفر قال: إن شئتَ فصُمْ، وإن شئتَ فأفطر، وفي اللفظ الآخر عند مسلم: هي رخصة من الله، فمَن أحبَّ أن يأخذ بها فحسنٌ -يعني الفطر- ومَن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه، فدلَّ ذلك على أنَّ الفطر أفضل؛ لأنه أخذ بالرخصة، وأخذ بالتَّسهيل، ويدل على هذا ويُقويه قوله ﷺ: ليس من البرِّ الصومُ في السفر، فإذا اشتدَّ الحرُّ فليس من البر الصوم في السفر، قال هذا لما رأى الرجلَ الذي قد شقَّ عليه الصيامُ وظلَّلوا عليه، قال: ليس من البر الصوم في السفر، يعني ليس من البر الكامل الصوم في السفر، فدلَّ ذلك على أنه إذا اشتدَّ الحرُّ أو شقَّ على الإنسان فإنه يُكره له الصوم، ويُشرع له الإفطار، أو يجب عليه إذا خاف على نفسه.
وبالجملة فجميع الأحاديث التي جاءت في الباب يُفسر بعضُها بعضًا، وتدل على أنَّ الصوم جائزٌ في السفر، وأن الفطر أفضل، وأنه إذا اشتدَّ الحرُّ وشقَّ الصومُ فالسنة الفطر، وأن ليس من البرِّ أن يُصام في السفر مع المشقة، وهذا هو الجامع بين الأحاديث: ليس من البرِّ الصومُ في السفر يعني مع المشقة، مع الحرِّ، أما إذا لم تكن مشقَّة ولا حرّ فلا بأس، فقد صام النبيُّ وصام الصحابةُ، فلا حرج في ذلك.
ويدل الحديث الأخير -حديث أبي سعيدٍ- وما جاء في معناه أنَّ المسافر إذا كان في جهادٍ ودنا من العدو يجب عليه الفطر؛ لأنه أقوى له؛ ولهذا لما دنوا قال: إنَّكم مُصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا، وفي اللفظ الآخر أنه بلغه أنَّ بعض الناس قد صام فقال: أولئك العُصاة، أولئك العُصاة، فدلَّ على أنه إذا كان عند الحاجة يجب الفطر: كالجهاد، وشدَّة الحرِّ الذي يخشى الإنسانُ منه يجب، وإن كان لا يخشى شرع وتأكَّد.
وبكل حالٍ فالفطر أفضل في السفر، والفطر أفضل مع المرض، ومَن أخذ بالعزيمة وصام مع المرض وصام مع السفر فلا حرج، ولكن الفطر أفضل في جميع الأحوال، إلا أنه إذا كان الصومُ يُضعف عن الأعمال الصَّالحة فإنه يُكره ويتأكَّد الفطر، فإن كان قد يضعف عن قتال العدو وعن جهاد العدو وجب الإفطار؛ لقوله ﷺ: فأفطروا؛ ولقوله للذين صاموا: أولئك العُصاة، أولئك العُصاة.
ويجب تفسير الأحاديث بعضها ببعضٍ، فإن السنة يُفسِّر بعضُها بعضًا، كما أنَّ القرآن يُفسِّر بعضُه بعضًا.
فالجمع بين الأحاديث هذه كلها الجمع بينها أنَّ الفطر أفضل في السفر، وأنه يتأكَّد مع الحرِّ، يتأكد الفطر والأخذ بالرخصة، وإذا شقَّ وخيف من المرض أو الموت وجب الإفطار، ووجب ترك الصوم، فالأحوال ثلاثة:
- تارةً يخشى من الصوم المرض والخطر فيجب الإفطار.
- وتارةً يشقُّ، ولكن لا يخشى منه، فهذا يُكره.
- وتارةً لا هذا، ولا هذا، لا مشقَّة، ولا خطر، فيُستحب استحبابًا فقط الفطر، والصوم جائز.
وعلى هذا تُنزل الأحاديث التي جاءت عن صومه ﷺ وصوم الصحابة وفطرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
س: لو كان السفرُ غير شاقٍّ الأفضل له الفطر؟
ج: نعم مطلقًا، الأفضل في السفر الفطر؛ لأن الرسول يقول: عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم، ويقول: ليس من البرِّ الصوم في السفر.
س: لو كان السفرُ بطائرةٍ، وزمن الرحلة ساعة، الأفضل له أن يُفطر أو يُمسك؟
ج: إن كانت البلد التي ينزل إليها يُقيم إقامةً تمنع من الصوم فإذا أمسك فلا بأس؛ حتى لا يضيع عليه اليوم، أما إن كان مُسافرًا يروح لعمرةٍ، يأخذ يومًا أو يومين، فهو مسافر، الأفضل له الفطر، وإذا نزل في بلدٍ وأحبَّ أن يصوم فلا بأس.
س: لو ما كانت هناك مشقَّة؟
ج: الأمر واسع، إن لم تكن هناك مشقة فإن أفطر فلا بأس، وهو الأفضل، وإن ترك فلا بأس.
س: الاستحباب متى يكون في الإفطار في حال السَّفر؟
ج: في حال السفر مُطلقًا الفطر أفضل، لكن مع الشدة يتأكَّد الفطر، ومع الخوف والمشقَّة الكبيرة يجب الفطر؛ لقوله ﷺ: ليس من البر الصوم في السفر.
س: يقطر في عيني في النهار عقب عملية؟
ج: ما يُخالف، القطرة في العين في النهار لا بأس بها، وإذا تيسر بالليل فهو أفضل وأحسن.
س: في الحديث إذا قال: عزيمةً، أو: عزمةً، معناه أنه واجب؟
ج: قد تكون في الواجب، وقد تكون في المتأكد، مثل: سجود التلاوة عزمة، وهي سنة، ما هي بواجبة.
س: للسفر حدٌّ محدود بالكيلو؟
ج: ثمانون كيلو تقريبًا.
س: وأقل منها ما نُفطر؟
ج: إذا كان أقل منها بقليلٍ فسهل: كيلوان، ثلاثة؛ لأنَّ السفر التَّحديدي تقريبي.
س: في الإطعام نُعطيهم إياه ناشفًا أو نؤكِّلهم؟
ج: كله طيب، إن أكَّلتهم فلا بأس، وإن أعطيتَهم ناشفًا فلا بأس.
س: نصف صاع؟
ج: تُعشيه وتُغديه، أو تُعطيه نصف الصاع، هذا أو هذا.
س: عشاء وغداء؟
ج: عشاء واحد يكفيه، أو غداء واحد يكفيه.
س: مسافر وصل مكة وهو صائم، وأحبَّ أن يُؤدي العمرة بقوةٍ هل يُفطر؟
ج: كم يُقيم في مكة؟
س: يجلس أسبوعًا.
ج: لما قدم وهو صائم يُتمم، أما إذا كانت إقامته أربعة أيام فأقلّ فله الفطر.
س: لأداء العمرة فقط، ليوم العمرة، اليوم الذي يُؤدي فيه العمرة عند وصوله هل يُفطر؟
ج: إذا كانت نيته أن يُقيم في مكة أسبوعًا أو أكثر يبقى صائمًا، أما إذا كانت مدته في مكة أربعة أيام أو أقلّ فله الفطر.
س: لو كان في يوم سفره ينوي أن يُقيم أكثر من أسبوعٍ؟
ج: يُفطر، وإذا وصل يُمسك.
س: هل ثبت عن الرسول ﷺ أنه صام النافلة في السفر؟
ج: جاء الصوم مطلقًا في السفر، وفي رمضان صام الفرضَ في خروجه إلى مكة في عام الفتح، وأما قبل عام الفتح فكلها نافلة.
س: طعام أهل الكتاب: مَن خالطهم يعرف أنَّهم ما يذبحون، ألا يُقال أن الأصل أنه غير مذبوح؟
ج: الله يقول: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة:5]، إذا علمتَ أن طعامهم ذُبح للمسيح أو ذُبح بغير الذبح الشَّرعي فلا تأكل، أما إذا ما علمتَ فخذ برخصة الله التي قال فيها: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ هم اليهود والنَّصارى، أما إذا علمتَ أنهم ذبحوها بغير ذلك -ذبحوها بالخنق، ذبحوها للمسيح، ذبحوها لغير ذلك- فلا تأكل.
س: لا يسأل؟
ج: لا، ما يحتاج سؤالًا.
س: يجوز تغيير النية في النَّوافل، يعني: نوى أن يصوم اثنين أو خميس، وبعد ذلك تذكَّر أن يجعله مما فاته من قضاء رمضان؟
ج: يعني بعدما نوى وأصبح يجعلها فريضةً؟
س: نعم.
ج: لا، ما يصلح، الفريضة لا بدَّ أن ينوي من الليل.
س: وسنة الصلاة؟
ج: الصلاة إن كان نواها نافلةً وجعلها فريضةً ويُحب أن يقطعها فيقطعها ويبتدئ الفريضة ابتداءً من أوَّلها، من "الله أكبر".
س: يعني يخرج من الصَّلاة؟
ج: يخرج من النافلة، ويبتدئ الفريضة، وإلا يُكمل النافلة ثم يأتي بالفريضة، وهو أفضل.
س: الانتقال من الفريضة إلى النافلة يجوز؟
ج: عند الحاجة، إذا رأى مصلحةً، مثل: الذي يُريد أن يُصلي فريضةً وجاءوا جماعةً يقطعها ويُصلي معهم الفريضة، أو يُصلي ركعتين نافلةً ثم يُصلي مع الناس الفريضة.
س: التراويح يُسنُّ للإمام أن يقف عند آيةٍ ويدعو إذا كانت آية دعاءٍ؟
ج: هذا أفضل.
س: ولو بمُكبر صوتٍ يُسمع الناس في خارج المسجد؟
ج: ولو، النبي في صلاة الليل كان يقف عند كل آيةٍ ويدعو في تهجده في الليل عليه الصلاة والسلام، إذا كان ما يخشى أن يشقَّ على الناس، ولو ترك لا بأس.
س: إذا كانت النافلةُ مطلقةً هل يُحوِّلها إلى راتبةٍ؟
ج: يُكملها ثم يأتي بالراتبة بالنية من أصلها.
س: القصر وأنت عند جماعةٍ في بلدٍ أفضل أقصر أو أُصلي مع المُسلمين؟
ج: لا، صلِّ مع الناس، لا تُصلي وحدك، صلِّ مع الناس أربعًا.
بَابُ مَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ
1685- عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِم الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
1686- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى نَهْرٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، وَالنَّاسُ صِيَامٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ مُشَاةٌ، وَنَبِيُّ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، فَقَالَ: اشْرَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ، قَالَ: فَأَبَوْا، قَالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أَيْسَرُكُمْ، إنِّي رَاكِبٌ، فَأَبَوْا، فَثَنَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَخِذَهُ فَنَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ.
1687- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ: فَعَطِشَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ، وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إلَيْهِ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
بَابُ مَنْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ هَلْ يُفْطِرُ فِيهِ، وَمَتَى يُفْطِرُ
1688- عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ إلَى حُنَيْن وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ: فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ، فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَوْ رَاحَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ النَّاسُ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قال شيخنا عبدالرزاق بن عبدالقادر: صوابه "خيبر" أو "مكة"؛ لأنه قصدهما في هذا الشهر، فأمَّا حُنين فكانت بعد الفتح بأربعين ليلة.
1689- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: "سُنَّةٌ"، ثُمَّ رَكِبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
1690- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيِّ فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ بَيْنَ الْبُيُوتِ؟ فَقَالَ أَبُو بُصْرَةَ: "أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تدل على جواز الفطر في السفر لمن خرج صائمًا من بلده، وفي أثناء الصوم، وهذا يختلف: فتارةً يشتد التَّأكد، وتارةً يكون أفضل فقط، وتارةً يجب كما تقدَّم، فالفطر في السفر له أحوال ثلاثة: أفضلية الفطر، وتارةً يتأكَّد الفطر ويُكره الصوم، والحال الثالث: يحرم الصَّوم.
أما الأفضلية: فكل سفرٍ الأفضل فيه الفطر، هذا هو الأفضل؛ لعموم الأحاديث الدالة على شرعية الفطر في السفر: ليس من البرِّ الصومُ في السفر، إنَّ الله يُحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فالسنة الإفطار والقصر في السفر مُطلقًا.
الثاني: إذا اشتدَّ الحرُّ كُره الصوم؛ ولهذا لما رأى رجلًا قد ظُلِّل عليه من شدَّة الحرِّ قال: ليس من البرِّ الصومُ في السفر، فالسنة لمن اشتدَّ عليه الحرُّ أن يُفطر، ولما شقَّ على الصحابة الصومُ أخذ قدحًا من ماءٍ وشرب والناس ينظرون حتى أفطروا، وقال للناس: أفطروا؛ فإنَّ الفطر أقوى لكم، تارةً يجب للقاء العدو والجهاد، أو عند شدة الحرِّ الذي يُخشى على الإنسان منه المرض أو الموت، هذا يجب؛ ولهذا لما خرج في رمضان إلى مكة ودنا من مكة قال: أيها الناس، أفطروا؛ فإنَّكم مُصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطر بعض الناس، ولم يُفطر بعض الناس، فقال: أولئك العُصاة، أولئك العُصاة، ثم سافروا مع النبي ﷺ كما قال أبو سعيدٍ بعد ذلك فصاموا، فدلَّ ذلك على أنَّ الصوم إذا شقَّ على الناس وصار تترتب عليه مضرَّة وجب الفطر، كحال الجهاد، وحال الشدة التي يُخشى على الإنسان منها.
أما متى يفطر؟ فإنه يُفطر إذا غادر البلد، إذا خرج من بلده -من قريته- أفطر، ولو رأى البيوت يُفطر، كان النبيُّ ﷺ إذا غادر المدينة أفطر وقصر، كما في ذي الحليفة، وهي في طرف المدينة، وهكذا أبو بصرة لما غادر بلده أفطر وهو يرى البيوت في فسطاط في مصر، حين خرج من قريته من الإسكندرية إلى قريةٍ أخرى، أو من القاهرة إلى قريةٍ أخرى، مسافة قصر أفطر، ولو كان يرى البلدان، متى غادر قريته وخرج منها أفطر، هكذا السنة، ولما قيل لعليٍّ رضي الله عنه لما أقبل إلى الكوفة وأراد أن يُصلي قصرًا، قالوا له: هذه الكوفة! قال: ألستَ تراها؟ قال: نراها، لكن حتى ندخلها، فإذا كانوا خارجها فلهم القصر، ولا يزالوا مُفطرين حتى يدخلوا، فإذا دخلوا أتموا وأمسكوا عن المفطرات.
والله جلَّ وعلا جعل الفطر والقصر رخصةً ورحلةً، فإذا استُغني عن ذلك بأن وصل إلى البلد وجب الإتمام، ووجب الصَّوم.
وفَّق الله الجميع.
س: هل يعني بعدما يخرج من البلد بكيلوات معينة؟
ج: متى يُغادر البيوت، غادر البناء، مثل المطار، مطار المدينة، ومطار الرياض، ومطار جدة، إذا غادر البيوت فقد سافر.
س: لو كان في نفس صالة المطار يُفطر؟
ج: ما دام خارج البلد نعم يُفطر ويقصر.
س: أثر أنس؟
ج: أثر أنس ضعيف، من رواية عبدالله بن جعفر المديني، وهو والد عليّ، وهو ضعيف، وأما حديث أبي بصرة فهو جيد، ولكنه قد ركب وسافر، إنما يشوف القرى الأخرى.
س: أثر أنس حسَّنتُموه وقلتُم أنَّ إسناده جيد في درس الفجر؟
ج: يحتاج [إلى] تأمل، أظن له طريق آخر، لكن في الحاشية الآن في إسناده عبدالله بن جعفر، والد علي بن المديني، ومعروف أنه ضعيف، لكن إن وُجد له سندٌ صحيحٌ فهذا قول قوي يقوى، لكن الأحاديث الصَّحيحة كلها تدل على أنَّ إفطاره وقصره كلها بعد سفره عليه الصلاة والسلام.
س: هل مجرد النية كافية في إفطار الصائم أم لا بدَّ أن يأكل؟
ج: الأفضل أن يتعاطى شيئًا، وإلا النية تُفطر عند قومٍ، ولا تُفطر عند قومٍ، فيها خلاف، لكن إذا أكل أو شرب يكون أكمل.
س: شخصٌ سافر إلى مكة لأداء العمرة وهو صائم، ثم طاف وسعى، ثم تعب بعد ذلك؟
ج: هو مُسافر أو مُقيم؟
س: مسافر، مثلًا يأخذ عمرةً ويرجع؟
ج: يُفطر ولو في مكة، ما دامت الإقامةُ يومًا أو يومين أو ثلاثًا أو أربعًا فله الفطر.
س: كيف تكون الصلاةُ في الطائرة؟
ج: على حسب حاله.
س: القبلة؟
ج: في الفريضة يدور معها –الطائرة- أما النافلة فجهة سيره.
س: بعض العلماء يرون أنَّ الإنسان إذا ذهب إلى عمرةٍ ووصل مكة وهو صائم فيرون أنه يُفطر ثم يُكمل المناسك، ما رأيكم في هذا؟
ج: هذا فيه تفصيل: إن كان يُريد إقامةً فيها أكثر من أربعة أيام لا يُفطر، وإن كانت إقامته يومين أو ثلاثًا ثم يرجع فله الفطر وله الصوم.
س: قول ابن عباس في الحديث السابق؟
ج: يعني الآخر فالآخر؛ لأنه هو الذي يظن أنه ناسخ أو مؤكد لما قبله.
س: كأنه يرى تحريم الصيام؟
ج: لا، فقط يرى أنَّ هذا هو الأفضل -الفطر.
س: قوله: "فلما استوى على راحلته" هذا يدل على أنه كان في المدينة أم خارج المدينة؟
ج: وهو في الطريق، أو وهو في السير.
س: بالنسبة لمَن نوى السفر: هل له أن يقصر ويجمع وهو في المدينة قبل أن يُسافر؟
ج: لا، يقصر إذا خرج عن بلده، إذا خرج عن البيوت.
س: ومَن فعله؟
ج: قد يحتج برواية أنسٍ، وفيها نظر، تحتاج إلى مزيد عنايةٍ من طرقٍ أخرى، لكن الأحوط للمؤمن أن لا يفعل إلا بعد الخروج، بعد أن يُغادر ميناء البلد.
س: مَن نوى السفر ثم أتاه عارضٌ وبقي في بلدٍ، هل يكون مُفطرًا؟
ج: لا يُفطر حتى يُغادر البلد، يبقى على صومه حتى يُغادر البلد.
س: حصل له عارضٌ في أثناء الطريق، يعني حول المزاحمية ورجع؟
ج: إذا رجع يُمسك.
س: إذا كان لم يُبيِّت النية من الليل؛ لأنه على نيَّة السَّفر؟
ج: ولو، يلزمه الإمساك، ويقضي إذا ما بيَّت النية، ولا يتساهل، ولا يتلاعب بالصيام.
س: صلاة الغائب على مَن تجب؟
ج: ما هي بواجبةٍ، صلاة الغائب من وجه الاستحباب، يكفي الذين صلَّوا عليه في بلده، إذا صلَّوا عليه في بلده يكفي.
س: إذا إنسانٌ مات في مصر وأردتُ أن أُصلي عليه صلاة الغائب هنا يجوز؟
ج: المشهور عن العلماء أنها خاصَّة بالنَّجاشي أو بمَن كان مثل النَّجاشي من أهل العلم والإمارة المدافعين عن الإسلام، أما عموم الناس لا، ما كان يُصلي على عموم الناس الغائبين، مات في مكة كثيرٌ وفي غير مكة ما صلَّى عليهم، إنما صلَّى على النَّجاشي لأنه رجلٌ له شأنٌ في المسلمين، حمى المسلمين وصانهم من الكفار، وقَبِلَ هجرتهم، وله شهرة في الإسلام، وهكذا مثله أمين صالح، أو عالم صالح له شهرة وله عمل فلا بأس أن يُصلَّى عليه صلاة الغائب، أما عموم الناس فما كان يُصلي عليهم النبيُّ ﷺ.
س: بعض الدول إذا مات حاكمٌ من الحُكَّام ولو أنه يحكم بغير ما أنزل الله يُصلون عليه؟
ج: هذا غلط، هذا غلط، لا يُصلَّى عليه إلا إذا كان من أهل الخير والعلم والفضل والنِّكاية في العدو والسبق الصالح في الإسلام، أما مَن سواه حتى لا يُدعا له ما دام يُشَكُّ في أمره.
س: هل صحَّ عن الرسول ﷺ مضاعفة الأجر في رمضان في الصَّدقة وفي الصلاة؟
ج: ظاهر النصوص، عموم النصوص أنها تُضاعف، على العمومات، ظاهرها أنَّ هذا الشهر تُضاعف فيه الحسنات بمجموع النُّصوص.
س: العمومات مثل أيش؟
ج: مجموع النصوص مثل: قوله ﷺ: يقول الله جلَّ وعلا: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمئة ضعفٍ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يعني مضاعفته أكثر.
س: عمومًا هذا الكلام، أي كنيسةٍ ..؟
ج: إذا احتاج إليها إما مضطرًا أو لشمسٍ، مثلما شرط عليهم عمر: إذا مروا أن يُفسحوا لهم، أما إذا كان ما له حاجة فتركهم أولى.
س: رأيكم الآن في أثر أنس أنه ضعيف؟
ج: ما جمعناها، حتى تُراجع أسانيده الأخرى، نُراجعه ونُعلمكم، ومَن جمعه منكم فلا بأس.
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَرِيضِ وَالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ
1692- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: وَعَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ.
1693- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى أُنْزِلَت الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَحْمَدَ.
1694- وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِنَحْوِ حَدِيثِ سَلَمَةَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلمُقيم الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ. مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد.
1695- وَعَنْ عَطَاءٍ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وهو الشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
1696- وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "أُثْبِتَتْ لِلْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
بَابُ جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ إذَا دَخَلَ بَلَدًا وَلَمْ يُجْمِعْ إقَامَةً
1691- عَن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ وَصَامَ، حَتَّى إذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ -الْمَاءُ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ- فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْهُ: أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، هَكَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ.
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث والآثار فيما يتعلق بصوم المسافر والمريض والشيخ والعجوز، دلَّت الآيةُ الكريمة وهي قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183- 184]؛ دلَّت على أنَّ الصائم مُخيَّر، وأن الله أوجب الصيام، فمَن لم يصم أطعم، ولكن الصيام أفضل؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وكان هذا في أول الإسلام؛ مَن صام فهو أفضل، ومَن أطعم أجزأه ذلك، ثم أنزل الله جلَّ وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعني حضره، شهده يعني حضره صحيحًا مُقيمًا فعليه الصيام: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فاستقرَّت الشريعةُ على هذا، وأن الصحيح المقيم يلزمه الصوم، ولا تُجزئه الكفَّارة، وأن المريض والمسافر لهما الفطر والقضاء في أيام أُخر.
وهكذا جاء حديثُ أنس بن مالك الكعبي في شأن الحبلى والمرضع، وأنهما كالمريض والمسافر؛ تُفطران وتقضيان؛ لما في الصوم مع الرضاع والحمل في بعض الأحيان من المشقَّة، وقال بعضُ السلف: إنهما تُطعمان مطلقًا. والصواب أنهما كالمريض، الله أسقط عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن المريض والحبلى والمرضع أسقط عنهم الصوم في وقت المرض والسفر والحبل والرضاع، وعليهم القضاء، فالحبلى والمرضع كالمريض، إذا شقَّ عليهما الصومُ أفطرتا وقضتا كالمريض.
وأما الصحيح المقيم فإنه يلزمه الصوم، استقرَّت الشريعةُ على أنه يلزمه الصوم، إلا إذا سافر فله الفطر، أو عرض له مرضٌ يشقُّ عليه الصوم فله الفطر، كما قال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعني فعليه عدَّة من أيام أُخَر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
وكان في شرع الصوم أولًا أنَّ مَن نام قبل أن يُفطر حرم عليه الأكل إلى الليلة الأخرى، فشقَّ على الناس ذلك، فنسخ الله ذلك ، وصار مَن غربت عليه الشمسُ فله الفطر مطلقًا، نام أو لم ينم، واستقرَّ الأمرُ على هذا؛ لقوله جلَّ وعلا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فإذا جاء الليلُ أُبيح الإفطار مطلقًا.
وفي هذا المعنى يقول ﷺ: إذا أقبل الليلُ من هاهنا وأدبر النهارُ من هاهنا وغربت الشمسُ فقد أفطر الصائم، فلو نام عند الغروب أو بعد الغروب قبل أن يأكل فإنَّ له الأكل وله الشرب، والحمد لله.
ومَن سافر في رمضان أو عرض له السفر في رمضان فله الفطر، سواء بدأه من بيته وسافر في رمضان، أو سافر في شعبان ثم أدركه رمضان فله الفطر.
ومن هذا سفر النبي ﷺ يوم الفتح، يعني سافر إلى مكة غازيًا لها في رمضان، فأفطر عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنَّ المسافر يُفطر في رمضان، وهكذا في البلد التي فتحها، ما لم يُجمع إقامةً، ما دام أقام لعارضٍ لا يدري متى ينتهي يُفطر، أو أجمع إقامة أربعة أيام أو أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم، وما دامت الإقامةُ أربعةً فأقل -كإقامة النبي ﷺ يوم حجَّة الوداع- فإنَّ له أن يُفطر، والنبي أقام يوم فتح مكة مدةً طويلةً، فإنه أقام بها تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأفطر بقية رمضان؛ لأنه مسافر، أقام لعارضٍ وهو إصلاح الأوضاع في مكة، تأسيس قواعد الإسلام في مكة، وتثبيت الإسلام في قلوب الناس، ثم رجع إلى المدينة عليه الصلاة والسلام.
وفَّق الله الجميع.
س: بالنسبة للفطر في اشتداد الحرِّ: المقصود به حرّ السفر؟
ج: في السفر في الفريضة، يعني إذا شقَّ عليه السنة أن يُفطر: ليس من البرِّ الصومُ في السفر، أما في الحضر فيلزمه الصوم، ولا يجوز له الفطر إلا إذا خشي على نفسه.
س: ما رأيكم في السفر بالليل هل فيه محذور أو مُخالفة للسنة؟
ج: ما أعلم فيه شيئًا، النبي عليه الصلاة والسلام سافر بالليل والنَّهار.
س: ورد: لو يعلم الراكبُ بالليل ما أعلم .. أو كما قال النبيُّ ﷺ؟
ج: لعلَّ المراد مثل: لو يعلم الناسُ ما في الوحدة، يعني الوحدة، أما إذا كانوا جماعةً فالنبي سافر في الليل مرات كثيرات، في غزوة مكة، وفي غيرها.
س: المقصود بالوحدة في السفر فقط أو في البيت والسَّكن؟
ج: حتى في البيت.
س: ألم يرد عن الرسول ﷺ أنه حثَّ على السير في الليل وقال أنَّ الأرض ..؟
ج: تُطْوَى لكم، نعم.
س: يدل ذلك على الاستحباب مُطلقًا؟
ج: نعم، يظهر من كلام النبي ﷺ أنَّ السفر في الليل فيه تسهيل على المسافر، وأنه لا يحسُّ بتعب السفر مع البرد؛ ولهذا فعله ﷺ مرات، وربما تأخَّر في النوم حتى آخر الليل، وربما ناموا عن صلاة الفجر حتى ما استيقظوا إلا ضُحًى بعد طلوع الشمس.
س: المُرضعة التي تخاف على نفسها، فعليها إطعامٌ مع صيامٍ، وإذا كانت تخاف على طفلها؟
ج: هذا التفصيل ما عليه دليل، إلا أنه يُروى عن بعض السلف، والصواب أنها مثل المريض، إذا خافت أفطرت وتقضي فقط.
س: لو قدرت المُرضعة على الصيام؟
ج: يلزمها الصيام.
س: رجلٌ كان يحمل معه عينات من الغائط والبول في قوارير للتحليل، ودخل المسجد وصلَّى وهما في جيبه، فما حكم صلاته؟
ج: إذا كان ناسيًا أو جاهلًا ما عليه شيء، أما إذا كان مُتعمِّدًا ما تصحُّ؛ لأنه حامل نجاسةٍ، أما إذا صلَّى وهو جاهل أو ناسٍ فالحكم الشرعي مثلما صلَّى النبيُّ في نعليه وفيها أذًى، فلما أخبره جبرائيل خلعهما ولم يُعد أول الصَّلاة.
طالب: هذه رسالة تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر، والرد على مَن ضعَّفه، تريد أن نقرأه عفا الله عنك؟
الشيخ: نعم.
الطالب: استدلَّ هذا الذي ضعَّف الأحاديث قال: وفي "جامع الترمذي" باب فيمَن أكل ثم خرج سفرًا، حدثنا قتيبة: حدثنا عبدالله بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعبٍ قال: أتيتُ أنسَ بن مالك في رمضان وهو يُريد سفرًا، وقد رُحلت له راحلتُه، ولبس ثياب السفر، فدعا بالطعام فأكل، فقلتُ: سنة؟ قال: "سنة"، ثم ركب.
وحدثنا محمد بن إسماعيل: حدثنا سعيد بن أبي مريم: حدثنا محمد بن جعفر: حدثني زيد بن أسلم: حدثنا محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعبٍ قال: أتيتُ أنس بن مالك في رمضان، فذكر نحوه.
قال أبو سعيدٍ: هذا حديثٌ حسنٌ، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير، مدني، ثقة، وهو أخو إسماعيل بن جعفر، وعبدالله بن جعفر هو ابن أبي نجيح، والد علي بن المديني، وهو كان يحيى بن معين يُضعِّفه، وقد ذهب أهلُ العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمُسافر أن يُفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر حتى يخرج من جدار المدينة، أو باب القرية، وهو قول إسحاق.
الشيخ: سند الثاني جيد، وسنده الضَّعيف بعبدالله بن جعفر.
الطالب: ذكر عفا الله عنك أثرًا آخر، قال: رواه كذلك إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب "الصيام" قال: حدثنا عيسى بن مينا، قال: حدثنا محمود بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن ابن المنكدر، عن محمد بن كعبٍ قال: أتيتُ أنس بن مالك في رمضان وهو يُريد سفرًا، فأكل، فقلتُ: سنة؟ فلا أحسبه إلا قال: "نعم".
فهذا لفظ رواية محمد بن جعفر، وقد شكَّ بعضُ الرواة في هذه اللَّفظة، وهو عمدة الاحتجاج، ولكن قد رواه الدَّارقطنيُّ في "سننه" عن أبي بكر النَّيسابوري، عن إسماعيل بن إسحاق بن سهل، عن ابن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، فذكره، ولم يشكّ في هذه اللَّفظة، بل قال: قلتُ: سنة؟ قال: "نعم".
الشيخ: على كل حالٍ ترك الفطر حتى يخرج خروجًا من الخلاف أولى، مثل القصر، لا يقصر حتى يخرج، من باب الخروج من الخلاف؛ لأنه قد يبدو له أن يرجع ويهون من السفر، يصبر حتى يخرج كالقصر يكون أحوط، من باب الاحتياط.
س: المُتابعة الثانية تُقوي ..؟
ج: نعم، السند الثاني هو سبب تصحيحنا له سابقًا، الأسانيد الأخرى تُقوي هذه الرواية عن أنسٍ رضي الله عنه.
س: بالنسبة لزكاة المال: نحن مُقيمون هنا وأهلونا، مثلًا نعرف بعض الناس الضِّعاف عندنا في مصر، فهل يجوز أن نبعث الزكاة وزكاة الفطر نبعثها خارج البلد؟
ج: لا، السنة هنا.
س: زكاة المال والفطر؟
ج: كلها في محلِّكم، وإن بعثت أجزأت، لكن في محلِّكم، ما دام هناك فقراء فالأولى أن يُخرجها المزكِّي في محلِّه، في فقراء بلده، فطرته وماله، والفطرة آكد في محلِّه.