11 من قوله: ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا..)

 وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله، ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم، ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله سبحانه جعلهما سببًا لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرًا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، وكقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة، وصلة
ثم قال تعالى: وَالْيَتَامَى، وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم، والحنو عليهم، ثم قال: وَالْمَسَاكِينِ وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، وتزول به ضرورتهم، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.
وقوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى يعني الذي بينك وبينه قرابة وَالْجَارِ الْجُنُبِ الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وميمون بن مهران، والضحاك، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، وقتادة، وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى يعني الجار المسلم، وَالْجَارِ الْجُنُبِ يعني اليهودي، والنصراني، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وقال جابر الجعفي عن الشعبي، عن علي، وابن مسعود: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى يعني المرأة، وقال مجاهد أيضًا في قوله: وَالْجَارِ الْجُنُبِ يعني الرفيق في السفر، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فلنذكر منها ما تيسر، وبالله المستعان.
الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمدًا يحدث عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أخرجاه في الصحيحين من حديث محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن داود بن شابور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وروى أبو داود، والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة، عن بشير أبي إسماعيل، زاد الترمذي: وداود بن شابور، كلاهما عن مجاهد به، ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي عن مجاهد وعائشة، وأبي هريرة عن النبي ﷺ.
الحديث الثالث: قال أحمد أيضًا: حدثنا عبد الله بن يزيد، أخبرنا حيوة، أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح به، وقال حسن غريب.
الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: لا يشبع الرجل دون جاره، تفرد به أحمد.
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظبية الكلاعي، سمعت المقداد بن الأسود يقول: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله، ورسوله، وهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله ﷺ: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره، قال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله، ورسوله، فهي حرام، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا، وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.   قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك.
الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا هشام عن حفصة، عن أبي العالية، عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي ﷺ، فإذا به قائم، ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال الأنصاري: لقد قام رسول الله ﷺ حتى جعلت أرثي لرسول الله ﷺ من طول القيام، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال: ولقد رأيته؟ قلت: نعم. قال أتدري من هو؟
قلت: لا، قال: ذاك جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام.
.......
الشيخ: وهذا أصله في الصحيحين، أصله في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وهذا يدل على عظم حق الجار، وأن حقه عظيم، وأن الواجب على الجيران أن يتواصوا بالخير، وأن يعرف كل واحد حق أخيه، من جهة الإكرام، والإحسان، وكف الأذى من القول، والفعل، ولهذا قال عليه الصلاة، والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، وفي اللفظ الآخر: فلا يؤذ جاره، فالجار له حق وشأن عظيم يجب أن يراعى من كل واحد من الجيران لأخيه، سواء كان قريبًا، أو أجنبيًا، وإذا كان الجار قريبًا كان له حقان: حق الجوار، وحق القرابة، وإن كان مسلمًا صارت له حقوق ثلاثة: حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، وينبغي للمؤمن أن يراعي هذه الحقوق، ويعنى بها أينما كان.
وفي هذا من الفوائد أن جبرائيل عليه الصلاة والسلام قد يأتي إلى النبي بصورة رجل من بني آدم فيكلمه كما يكلمه الإنسان كما في هذا الحديث، وقف معه طويلاً يوصيه بالجار، وكما في قصة سؤاله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلامات الساعات في حديث عمر، وفي حديث أبي هريرة جاء إلى النبي ﷺ، وهو جالس مع أصحابه في صورة إنسان شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لم يعرفه أحد من الصحابة، جاء في صورة غريب لا يعرف بينهم فسأل الأسئلة العظيمة، وقد يأتي في صورة دحية ابن خليفة الكلبي، وقد يأتي في صور أخرى، والله على كل شيء قدير جل وعلا فيمكنه من هذا التشكل، وهذا التصور كما يشاء ، أما صورته التي خلقه الله عليها فهي صورة عظيمة له ستمائة جناح، طول الجناح منها مد البصر، رآه ﷺ في صورته التي خلقه الله عليها مرتين: مرة عند سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، ومرة رآه في الأفق بين السماء، والأرض وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]
 الحديث السابع: قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا أبو بكر يعني المدني، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل من العوالي، ورسول الله ﷺ وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز، فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال: وقد رأيته؟ قال: نعم. قال: لقد رأيت خيرا كثيرا، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه، تفرد به من هذا الوجه، وهو شاهد للذي قبله.
الحديث الثامن: قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ: الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقًا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقًا، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم قال البزار: لا نعلم أحدًا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك.
الحديث التاسع: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران، عن طلحة بن عبد الله، عن عائشة، أنها سألت رسول الله ﷺ فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا، ورواه البخاري من حديث شعبة به.
 الحديث العاشر: روى الطبراني، وأبو نعيم عن عبد الرحمن، فزاد: قال: إن رسول الله ﷺ توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه، فقال: ما يحملكم على ذلك؟ قالوا: حب الله ورسوله. قال: من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث، وليؤد الأمانة إذا ائتمن
الحديث الحادي عشر: قال أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، قال: قال رسول الله ﷺ: إن أول خصمين يوم القيامة جاران الحديث.
وقوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال الثوري، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، عن علي، وابن مسعود، قالا: هي المرأة، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، والحسن، وسعيد بن جبير في إحدى الروايات، نحو ذلك، وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة: هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وأما ابن السبيل، فعن ابن عباس، وجماعة: هو الضيف، وقال مجاهد، وأبو جعفر الباقر، والحسن، والضحاك، ومقاتل: هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر، وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق، فهما سواء، وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة، وعليه التكلان.

الشيخ: وهذا في قوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ دلالة على شرعية الإحسان للصاحب بالجنب سواء كان الزوجة، أو الرفيق بالسفر، أو في السفر، والحضر، أو الضيف، كله جدير بأن يحسن إليه قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ فالصاحب بالجنب يشعر بأن المراد به الذي يليك، ويقرب منك، ولهذا قال: بِالْجَنْبِ يعني الذي يصحبك، ويقرب منك، ولا ريب أن الزوجة هي أرفق النساء بالرجل، وأقرب الناس إليه، والله يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، ويقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] فهي جديرة بالإحسان إليها، كثير من الأزواج فظ غليظ لا يعرف الإحسان، ولا يعرف قدر النساء، وهذا من الأغلاط الكبيرة، بل الواجب على الزوج أن يعرف للزوجة قدرها وحقها، وأن يكون لطيفا، حسن العشرة، حسن الحديث، حسن الملاطفة، ولهذا قال: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وأبلغ من هذا، وأعظم قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وفي حديث معاوية بن حيدة القشيري لما قال: يا رسول الله ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت.
والرفيق كذلك له حق، الصاحب في السفر، والصاحب في الحضر، رفيقه الطيب المؤمن صاحب الخير جدير بأن تعرف له صحبته، وأن تقدر له قربه منك بالمعروف، والمواساة، والكلام الطيب، والإصغاء لحديثه، وغير هذا من وجوه حسن الصحبة.
أما الضيف فله شأن آخر، فإن إكرامه متعين حسب المعتاد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فليكرم ضيفه متفق على صحته.
فهذه الأنواع الأربعة كلها داخلة في الصاحب بالجنب، وأظهرها وأصوبها وأوسطها الزوجة، فهي أشد صحبة بالجنب، ثم يلي ذلك الرفيق المنازل في الحضر، والسفر، أما الضيف فله صحبة منفصلة في الغالب غير مستقرة، ولهذا جاءت فيه سنن خاصة، جاءت فيه سنن عظيمة تدل على وجوب إكرامه، ولكن هؤلاء الثلاثة ألصق الزوجة، والرفيق في السفر والحضر، والرفيق في السفر هم ألصق. 
وقوله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ، وصية بالأرقاء؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، فلهذا ثبت أن رسول الله ﷺ جعل يوصي أمته في مرض الموت، يقول: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معد يكرب، قال: قال رسول الله ﷺ: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، ورواه النسائي من حديث بقية، وإسناده صحيح، ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: «فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله ﷺ قال: كفى المرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوتهم رواه مسلم. وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق رواه مسلم أيضًا، وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة، أو لقمتين، أو أكلة، أو أكلتين، فإنه ولي حره، وعلاجه أخرجاه، ولفظه للبخاري، ولمسلم: فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلا، فليضع في يده أكلة، أو أكلتين. وعن أبي ذر ، عن النبي ﷺ قال: هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم أخرجاه.
الشيخ: وهذا كله وصية بالأرقاء، وأنه أوصاهم بهذا ﷺ عند وفاته، فقال: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم يعني الزموها، واستقيموا عليها، وهكذا ما ملكت أيمانكم يعني أحسنوا إليهم، فالله أوصى بهم خيرًا؛ لأنهم قد يستضعفون قد يمتهنون قد يؤذون بالضرب، وغيره، فالواجب على السيد أن يعتني بالرقيق في قوته، وكسوته، وحاجاته، وألا يكلفه ما يغلبه ما يضره، فإذا كلفه شيئًا لا يستطيعه فليعاونه، أو يكلف من يعاونه في ذلك، والكمال والتمام أن يكون أكله مما يأكل، ويلبس مما يلبس، يعني يكون لبس الرقيق من جنس لبس السيد، وأكله كذلك. هذا هو الكمال، وإذا أطعمه ما يليق بأمثاله، وكساه ما يليق بأمثاله فلا حرج، ولا بأس؛ وإن كان طعام السيد فوق ذلك، ولبسه فوق ذلك، لكن الكمال والتمام الإحسان، والمواساة أن يطعمه مما يطعم، وأن يلبسه مما يلبس كما في حديث أبي ذر، ويلتحق بهذا ما يملك من البهائم فإنها أيضاً يجب الإحسان إليها، وعدم ظلمها، من الإبل، والبقر، والغنم، وغير ذلك، عليه أن يحسن إليها، وأن لا يجوعها، وأن لا يكلفها ما يضرها، فلا يحملها ما لا تستطيع من الأحمال، ولا يضربها بغير حق، ولا يجيعها، فإما أن يطعمها ما يكفيها، وإما أن يبيعها، وإما أن يذبحها إن كانت تؤكل كالإبل، والبقر، والغنم، ولو كانت لا تؤكل كالحمير، والبغال: إما أن يطعمها ما يكفيها، وإما أن يبيعها، فهذه لها من الرعاية أيضاً، هذه الأمور كما يراعي الرقيق وإن كان الرقيق أشد وأولى بالعناية لكن هذه أيضاً لها شأنها، ولها حقها.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، أي مختالًا في نفسه، معجبًا متكبرًا فخورًا على الناس، يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض، قال مجاهد في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا يعني متكبرًا فخورًا، يعني يعُد ما أعطى، وهو لا يشكر الله تعالى، يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمة، وهو قليل الشكر لله على ذلك.
الشيخ: وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا التحذير من الاختيال، والتكبر، والتعاظم، ولو كنت ملكًا، ولو أعطيت كمال قارون ليس أن تتكبر، بل عليك أن تتواضع، وتعرف قدر نفسك، وتؤدي الشكر الذي أوجبه الله عليك، وإياك والضحك على الناس، والتعاظم، وأن تظن أنك فوق الناس؛ لأنك أعطيت مالاً، أو جاه، أو وظيفة، أو نحو ذلك، لا عليك بالتواضع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد فالناس بنو آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فليتق الله المرء وليحذر مما تزينه نفسه من الكبر، والخيلاء، والتعاظم، والفخر على الناس، ونسيان حق المنعم، ونسيان أصله، وفصله، وحاله، وضعفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
وقال ابن جرير: حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي، قال: لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالًا فخورًا، وتلا: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] الآية، ولا عاقًا إلا وجدته جبارًا شقيًا، وتلا: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور، وقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، عن الأسود بن شيبان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقائه، فلقيته، فقلت: يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله ﷺ حدثكم: إن الله يحب ثلاثة، ويبغض ثلاثة؟  فقال: أجل، فلا أخالك أكذب على خليلي ثلاثًا؟ قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال: المختال الفخور، أو ليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل، ثم قرأ الآية: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أهيب عن خالد، عن أبي تميمة، عن رجل من بني هجيم، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة، والله لا يحب المخيلة.

الشيخ: يعني من الخيلاء، وهذا يدل على أن الإسبال يعتبر من الخيلاء، وإن زعم صاحبه أنه لم يقصد ذلك، فهو بتعمده، وتركه ثيابه تتجاوز كعبه دليل على أنه قصد الخيلاء، ولهذا قال: وإياك والإسبال فإنه من المخيلة، والله لا يحب المخيلة، والمخيلة هي الخيلاء، وهي الكبر، أما من يتفلت ثوبه يتفلت إزاره من غير قصد منه ثم يتعاهده فهذا هو الصادق في أنه لم يقصد المخيلة، كما جاء في حديث أبي بكر، أما من يتعمد ذلك ويسحب ثيابه ثم يقول: ما أريد التكبر هذا يكذب، ولو فرض وجود ذلك عارضًا لكان وجوده أندر من النادر، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريم الإسبال مطلقًا، من هذا قوله ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار رواه البخاري في الصحيح، ولم يعلقه بقصد الخيلاء؛ لأنه من أسبل ثيابه فقصده الخيلاء شاء أم أبى، ثم هو قد عرض ثوبه، وملابسه للنجاسة، والأوساخ، ثم هو من الإسراف، والتبذير الذي لا وجه له.
وهكذا قوله ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب خرجه مسلم أيضًا فهذه الثلاثة الأحاديث كلها دالة على تحريم إسبال الثياب مطلقًا من إزار، أو سراويل، أو بشت، أو غير ذلك، وإذا كان أسبل بقصد الخيلاء، والكبر قصدًا صار الإثم أكبر، كما في قوله ﷺ: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة.

س: شيخ عنده أهيب عن خالد، عندها، وهيب بن خالد؟
الشيخ: محتمل، يحتاج مراجعة حط عليه إشارة.

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ۝ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ۝ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:37–39].
يقول تعالى ذامًا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب، واليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانهم من الأرقاء، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا، وقد قال رسول الله ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل، وقال: إياكم، والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا.
الشيخ: يعني وهذا غايته في الشر، كون البخيل يأمر بالبخل، فلا كفاه أنه يمسك بل أمسك وأمر غيره بالإمساك، فجمع بين الشرين، بين البخل بنفسه، وبين حث الناس على البخل، نعوذ بالله، وهذا منكر عظيم، وشر كبير، ولهذا قال ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل، والله يقول سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وأخبر ﷺ أن الشح أهلك من كان قبلنا إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم، وفي اللفظ الآخر: اتقوا الشح، فإنه أهلك من كان قبلكم يعني الماضون، والشح البخل مع الحرص، فكل شحيح بخيل، لا العكس، فالمقصود أن الشح أشد البخل، وهذا ينطبق على هؤلاء الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، نعوذ بالله، والبخل مسك المال وعدم إنفاقه في وجوهه.
س: إذا أمر بالفجور؟
الشيخ: سفك الدماء قتل النفس بغير حق لأجل طلب ماله، والفجور كفعل الفواحش إن كان المال يصرفونه في معاصي الله كالزنا، والفواحش، وشرب المسكرات، وأشباه ذلك، هذا من الفجور، يعني يمنعونها من الحق، ويصرفونها في الباطل.
وقوله تعالى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين، لا في مأكله، ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات:6، 7] أي بحاله، وشمائله، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وقال هاهنا: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.الشيخ: يعني بعض البخلاء يبخل على نفسه، وعلى غيره، يبخل في أداء الواجب فلا يؤدي الزكوات، ولا ينفق النفقات الواجبة، ومع ذلك يبخل عن نفسه، فثيابه خفيفة، ومأكله ضعيف، وهكذا عليه آثار الضعف والفقر، مع أن الله أنعم عليه ، فملابسه وهيأته ومأكله ومشربه وأثاثه وغير ذلك ينادي عليه بأنه فقير، مع أنه ذو مال، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه فإن إظهار الخير من الشكر الفعلي، وأن يكون حال من أعطاه الله المال في ملبسه، وفي مأكله، وفي حياته البيتية، وفي غير ذلك من شؤونه، كان شكرًا بالفعل معترفًا بالفعل بنعم الله ، لكن إذا فعل بعض الأحيان التقشف والبذاذة لأجل كسر النفس والتواضع في بعض الأحيان فهذا يثنى عليه، لكن كونه يعتاد مظاهر الفقراء وحالات الفقراء وقد أغناه الله فهذا معناه سؤال وشكاية بالفعل، وبخل بالفعل، نسأل الله العافية.
س: البخل بالفعل هل هو من كفر النعمة؟
الشيخ: نعم، هو من كفر النعمة.
ولهذا توعدهم بقوله: أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، والكفر هو الستر، والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها، ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه، وفي الحديث: إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه، وفي الدعاء النبوي: واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا.
وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد ﷺ، وكتمانهم ذلك، ولهذا قال تعالى: أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقاله مجاهد، وغير واحد، ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]، فإنه ذكر الممسكين المذمومين، وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة، وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله.
الشيخ: والآية تعم هؤلاء وهؤلاء البخلاء بالمال من شر الناس، والبخلاء بالعلم شر منهم، نعوذ بالله، من بخل بالعلم فجحده دخل في قوله: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فهو داخل في كتمان الحق، ومشابه لليهود في كتم العلم، فيكون من شر الناس، نعوذ بالله، فالبخل بخلان: بخل بالمال، وعدم صرفه في محله، وبخل بالعلم، وعدم نشره بين الناس، وكلا البخلين شر، وكلاهما مسيئ، ولكن بخل العلماء الذين جحدوا آيات الله، وجحدوا علمه، وكتموه، وأخفوه على الناس حتى ضلوا جريمتهم أعظم من جريمة أهل المال، نسأل الله العافية، وكلاهما مجرم، نعوذ بالله!.
فالواجب على أهل المال أن لا يمسكوا، وأن ينفقوا مما آتاهم الله فيما أوجب الله عليهم، والواجب على أهل العلم أن يبذلوا العلم، وأن ينشروه في الخطابة، والدعوة، والكتابة، والإفتاء حسب العلم، وأن لا يتشبهوا باليهود، فاليهود شر من قام بهذا من كتمان نبوة محمد ﷺ، وصفاته، وجحد ذلك، حتى كفروا به وهم يعلمون أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام، نسأل الله العافية.
وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار، وهم: العالم، والغازي، والمنفق المراؤون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا، وهو الذي أردت بفعلك.الشيخ: والمعنى في هذا أن الناس أقسام:
منهم المؤمنون الذين ينفقون أموالهم ليلاً ونهارًا، وفي سبيل الله، وابتغاء مرضاته، ولا يجحدون العلم، بل ينفقون المال، وينفقون العلم، وهؤلاء في خير المنازل، وأفضل المنازل.
والقسم الثاني: يجحدون هذا، وهذا، ويبخلون بالعلم، ويبخلون بالمال، فهم في شر المنازل.
وقسم ثالث: هم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، وعلمهم رئاء الناس، وشجاعتهم رئاء الناس، لا يقصدون وجه الله عزو وجل؛ فهؤلاء في شر المنازل نعوذ بالله! لأن أعمالهم لغير الله، وإنفاقهم لغير الله.
والسالمون من هذا هم القسم الرابع الناجون الذي أنفق أموالهم في سبيل الله، وأنفق علمه لله، واستعمل شجاعته، وما آتاه في سبيل الله، فأعماله لله، وهو سائر في سبيل الله، وعلى الطريقة التي رسمها سبحانه لعباده، فهؤلاء هم في خير المنازل، وأفضل المنازل.
وفي الحديث أن رسول الله ﷺ، قال لعدي بن حاتم: إن أباك أراد أمرًا فبلغه. وفي حديث آخر: أن رسول الله ﷺ سئل عن عبد الله بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه، وإعتاقه؟ فقال: لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدينالشيخ: لأنه منكر ليوم القيامة، ومنكر للبعث والنشور، فمن مات على الكفر بالله لا تنفعه أعماله، ولا تنفعه نفقاته وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، ومَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5]، فالكافر لا تنفعه أعماله، والمنافق لا تنفعه أعماله، وإنما تنفع الأعمال من أنفق لله، وعمل لله، وتصدق بما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، نسأل الله السلامة.
والثلاثة الذين أشار إليهم المؤلف هم في قوله ﷺ: ثلاثة هم أول من تسعر بهم النار ثلاثة يوم القيامة يسألون عن أحوالهم: عالم، ومجاهد، ومتصدق.
فيسأل العالم القارئ ماذا عملت فيما أعطاك الله، أو فيما قرأت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم، وقرأت فيك القرآن، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ، فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار، نسأل الله العافية.
والثاني: المتصدق، يسأل ماذا عملت فيما أعطاك الله من المال؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال جواد، يعني ليقال سخي فقد قيل ذلك، فقد حصلت ما أردت من الرياء، فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار، نسأل الله العافية.
ويؤتى بالمجاهد فيسأل عن جهاده فيقول: إنك أمرت بالجهاد، وقد جاهدت في سبيلك، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ولكنك جاهدت ليقال هو جريء، يعني هو شجاع، فقد قيل ذلك، فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار، نسأل الله العافية.
فهؤلاء الثلاثة لعدم إخلاصهم وعدم تقواهم لله هم أول من تسعر بهم النار، نسأل الله العافية.
س: بالنسبة لعبد الله بن جدعان، هل هو خاص به؟
الشيخ: كل أشباهه لأنه مات في الجاهلية.
س: هؤلاء أهل الفترة؟
الشيخ: ظاهر الحديث أنه قد بلغه ما يوجب عليه اتباع الحق؛ لأن كثيرًا منهم قد بلغه دين إبراهيم، ثم ترك ذلك، وغير دين إبراهيم.
ولهذا قال النبي ﷺ: إن أبي وأباك في النار، واستأذن ربه في أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له، لأنهم ماتوا على الجاهلية، وأهل الجاهلية لا يستغفر لهم، ولا يدعا لهم؛ لأنهم ماتوا على ظاهر الكفر، فإن كان قد بلغته الدعوة فهو مع الكفار في النار، وإن كان لم تبلغه الدعوة يمتحن يوم القيامة على الصحيح، وإن أقر بالحق وأطاع الأمر دخل الجنة، وإن أبى دخل النار، فهؤلاء هم أهل الفترة، وهو امتحان خاص، نسأل الله السلامة.
س: حديث أبي وأبيك في النار هل هو صحيح؟
الشيخ: نعم رواه الإمام مسلم، وفي حديث أنه استأذن ربه ليستغفر لأمه، فلم يأذن له.
ولهذا قال تعالى: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية، أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سول لهم، وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح، ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا، ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل، وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الآية، أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله، وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص، والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها، وقوله: وكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه، ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا، والآخرة، عياذا بالله من ذلك.
الشيخ: يعني أنه العليم بأحوال عباده، هو العالم بأحوالهم، فهو يهدي من يشاء عن حكمة، ويوفقه، ويسهل له طريق الخيرية، ويضل من يشاء عن حكمة؛ لأنه لا يستحق الهداية، بل هو أولى بالخذلان والشقاء، فربك هو الحكيم العليم في جميع أعماله، في جميع أقواله، في شرعه وقدره، في جميع شؤونه ، ولهذا قال: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا كان الله بهم عليمًا فأضل من أضل، وهدى من هدى عن علم، وعن حكمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.