الشيخ: نسأل الله العافية، هذا وقد حمى النبيَّ ﷺ ونصره ودافع دونه بكلِّ ما يستطيع، لكن هذا ما نفعه لما مات على دين قومه، لما مات على الكفر بالله ما نفعه في الآخرة، إنما خُفف عنه بعض العذاب، وهذا يُبين معنى قوله سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، هذا العمل العظيم الذي فعله لما كان لغير الله؛ حميةً لقومه، حميةً لابن أخيه، ولم يكن لله وحده، ولم يوحد الله، ولم يسلم؛ كان هباءً منثورًا: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وهو القائل:
لقد علمتُ بأنَّ دين محمد | من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبَّةٍ | لوجدتني سمحًا بذاك مُبينا |
لكن خاف الملامة؛ يلومون أسلافه وأشياخه الذين ماتوا على الباطل، نسأل الله العافية.
وفي البيت الآخر:
فواللـــــه لــــولا أن أجــــيء بســــبةٍ | تجــرّ علــى أشــياخنا فـي المحـافل |
لكنــــا اتبعنــــاه علـــى كـــل حالـــة | مــن الدهــر جــدًّا غــير قـول التَّهـازل |
فترك اتباعه لأجل ألا يُقال أن أشياخه كانوا على ضلالٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الشيخ: وهذا أيضًا من أحاديث إخراج العُصاة من النار، وهذا هو المقام المحمود المذكور في قوله : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، هذا المقام المحمود يحمده فيه الأولون والآخرون؛ لكونه شفع في راحة الناس من كرب الموقف، والقضاء بينهم، فيُخرج الله بشفاعته من النار خلقًا كثيرًا، وهكذا بشفاعة الأنبياء والمؤمنين والأفراط والملائكة، ويبقى في النار بقية من أهل التوحيد لما يخرجوا بهذه الشفاعات، فيُخرجهم الله جلَّ وعلا برحمته، وهم آخر مَن يخرج من النار من العُصاة، ثم بعد هذا تُطبق على أهلها، فلا يخرج منهم أحد، ويُنادي المنادي: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س: ما خطيئة نوح؟
ج: جاء في روايةٍ أخرى أنه سأل ربَّه نجاة ولده: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45- 46].
الشيخ: تكلَّم على حتى لا يبقي في النار.. لأنه جاء في رواية ..... بقية، كأنَّ المقصود -والله أعلم- حسب علمه ﷺ ما يبقى فيها حسب علمه إلا مَن حبسه القرآن أو من أمته.
الطالب: قَوْله: حَتَّى مَا يبْقى مَا بَقِيَ في رواية الكشميهني: ما بقي، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَتَّى أَرْجِعَ فَأَقُولَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: " إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ" كَذَا أَبْهَمَ قَائِل: "أَيْ: وَجَبَ"، وَتَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهُ قَتَادَةُ أَحَدُ رُوَاتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَسَعِيدٍ: فَأَقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَعِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ مِثْلُ مَا ذَكَرْتُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ مُدْرَجٌ فِي الْمَرْفُوعِ؛ لِمَا تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ فَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآن، مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ: مَنْ أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: "أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ"، وَفِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ: "إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَقُولُ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، وَقَالَ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].
وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً الْحَدِيثَ، وَهُوَ الَّذِي فَصَّلَهُ هِشَامٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَسَبَقَ سِيَاقُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُفْرَدًا.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ بَعْدَ رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ، مِنْ رِوَايَتِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ثُمَّ أَقُومُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ لِي: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي إِخْرَاجِهِمْ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْعُصَاةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23].
وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا فِي أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ تَخْصِيصُ الْمُوَحِّدِينَ بِالْإِخْرَاجِ، وَلَعَلَّ التَّأْيِيدَ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَخَّرُ بَعْدَ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ حَتَّى يَخْرُجُوا بِقَبْضَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، فَيَكُونُ التَّأْيِيدُ مُؤَقَّتًا.
وَقَالَ عِيَاضٌ: اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ جَوَّزَ الْخَطَايَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ مَا ذُكِرَ، وَأَجَابَ عَنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا قَبْلَهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكَبِيرَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، وَيُلْتَحَقُ بِهَا مَا يُزْرِي بِفَاعِلِهِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا يَقْدَحُ فِي الْإِبْلَاغِ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْفِعْلِ: فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى فِي النِّسْيَانِ، وَأَجَازَ الْجُمْهُورُ السَّهْوَ، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ التَّمَادِي.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الصَّغَائِرِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهَا مُطْلَقًا، وَأَوَّلُوا الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: أَنَّ الصَّادِرَ عَنْهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَأْوِيلٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، أَوْ بِسَهْوٍ، أَوْ بِإِذْنٍ، لَكِنْ خَشُوا أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَقَامِهِمْ؛ فَأَشْفَقُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ أَوِ الْمُعَاتَبَةِ.
قَالَ: وَهَذَا أَرْجَحُ الْمَقَالَاتِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ قَالُوا بِعِصْمَتِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَنْزَعَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِالذُّنُوبِ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ الْكُفْرُ، وَمَنْزَعُنَا أَنَّ أُمَّةَ النَّبِيِّ مَأْمُورَةٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَوْ جَازَ مِنْهُ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ لَلَزِمَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ عِيَاضٌ: وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَا يَخْرُجُ عَمَّا قُلْنَاهُ؛ لِأَنَّ أَكْلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ كَانَ عَنْ سَهْوٍ، وَطَلَبَ نُوحٍ نَجَاةَ وَلَدِهِ كَانَ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَمَقَالَاتِ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَأَرَادَ بِهَا الْخَيْرَ، وَقَتِيلَ مُوسَى كَانَ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ جَوَازُ إِطْلَاقِ الْغَضَبِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُظْهِرُ مِنِ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَمَا يُشَاهِدُهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ مِنَ الْأَهْوَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِثَالُهَا وَلَا يَكُونُ. كَذَا قَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالْغَضَبِ لَازِمُهُ، وَهُوَ إِرَادَةُ إِيصَالِ السُّوءِ لِلْبَعْضِ، وَقَوْلُ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ: نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي أَيْ: نَفْسِي هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُشْفَعَ لَهَا.
الشيخ: كل هذا تأويل لا وجهَ له عند أهل السنة، فالله يغضب غضبًا يليق بجلاله، يغضب يوم القيامة، ويغضب في الدنيا غضبًا يليق بجلاله سبحانه، لا يُشابه غضب المخلوقين، هكذا الرضا، وهكذا المحبة، وهكذا الكراهة، وهكذا بقية الصفات كلها حق، وكلها تليق بالله على الوجه الذي أراده ، لا يعلم كيفيتها إلا هو ، هذا قول أهل السنة والجماعة في جميع الصفات؛ أنه لا يجوز تأويلها، فما قاله النووي أو قاله غيرُه -الحافظ أو غيره- كله ليس بشيءٍ، صوابه أنها تُمرّ على ظاهرها كسائر آيات الصفات وأحاديثها على الوجه اللائق بالله ، ومن آثار الغضب: الانتقام والعقوبات.
س: لماذا لما أتوا آدم لم يُحوِّلهم إلى الرسول محمد مباشرةً؟
ج: الله أعلم.
الطالب: وَقَوْلُ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ: نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي أَيْ: نَفْسِي هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُشْفَعَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ إِذَا كَانَا مُتَّحِدَيْنِ..
الشيخ: ما تكلَّم على مَن حبسه القرآن ..؟ الظاهر والله أعلم ..... أنها في اعتقاده، أو من أمته ﷺ، فأقول: أولئك ناسٌ بقوا في النار حبستهم ذنوبهم، ثم يُخرجهم الله من النار بفضله وإحسانه؛ لأنهم ماتوا على التوحيد وعلى الحقِّ.
الطالب: في الكلام السابق على قوله: قَوْلُهُ: ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: فَأَحُدُّ لَهُمْ حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ ثَانِيًا فَأَسْتَأْذِنُ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَحُدُّ لَهُمْ حَدًّا ثَالِثًا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ.
وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَشُكَّ، بَلْ جَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ فِي الرَّابِعَةِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ الْحَسَنَ حَدَّثَ مَعْبَدًا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَأَقُومُ الرَّابِعَةَ، وَفِيهِ قَوْلُ اللَّهِ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُخرج من النَّار مَن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ.
فَعَلَى هَذَا، فَقَوْلُهُ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ وَبَعْضَ الْعُصَاةِ مِمَّنْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِي حَقِّهِ التَّخْلِيدُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْعُصَاةُ فِي الْقَبْضَةِ، وَتَبْقَى الْكُفَّارُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّخْلِيدِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ الْمَذْكُورِينَ الْبَقَاءَ فِي النَّارِ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَن تقدّمهم.
الشيخ: يعني بعد إخراج مَن أذن له في إخراجهم، هذا تأويل آخر غير هذا، يمكن أن يُقال: أنه يبقى في النار أناس من غير أمته، أو لم يظهر له، ولم يعلم أنهم من أهل التوحيد، ولكن الله علم ما في قلوبهم، فإنه لا يعلم إلا ما علَّمه الله.
س: بالنسبة للعُصاة الذين يدخلون النار ويطهرون منها، كيف حالهم في القبر؟
ج: أقسام، هم أقسام، والله أعلم بحالهم: منهم مَن يُعذَّب، ومنهم مَن لا يُعذَّب، ومنهم مَن يُعذَّب بعض الأحيان، ومنهم مَن يُترك، الله جلَّ وعلا جعلهم في برزخ يقال لهم: ..... الشائبتين، ذكر أحوال أهل الإيمان وسلامتهم، وذكر الكفار وعذابهم، وأما أهل الشائبتين -وهم العُصاة- ففي غالب النصوص السكوت عنهم في حال القبر، وفي بعض النصوص بيان ما يُصيبهم في القبر؛ كالذي عُذِّب في القبر بسبب عدم تنزهه من البول، والذي عُذِّب بسبب النميمة، نسأل الله العافية.
والحاصل أنهم على خطرٍ من العذاب في النار وفي القبر جميعًا، لكن ليسوا من الكفار، الكفَّار عذابهم مُحتَّم، أما العُصاة فهم قد يُعفى عن بعضهم لحسناتٍ وأعمالٍ صالحات؛ عمل صالح قد رجح بسيئاته، وقد يكون يُعذَّب بعض الوقت ويُعفى عنه، قد يُؤجل عذابه إلى النار، فهم تحت مشيئة الله ، تفصيل أمرهم إلى الله.
س: ............؟
ج: أول الرسل إلى أهل الأرض بعدما وقع الشرك فيها هو نوح مثلما قالوا: ..... أنت أول رسول أرسل الله إلى أهل الأرض، يعني بعدما وقع الشرك، أما آدم فهو رسول ونبي بالنسبة إلى نفسه وذُريته قبل وقوع الشرك.
6566- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ الحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، يُسَمَّوْنَ: الجَهَنَّمِيِّينَ.
6567- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ -وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ لَهَا: أو هَبِلْتِ؟! أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى.
6568- وَقَالَ: غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَاب قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِع قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا –يَعْنِي: الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ حارثة من جملة المشهود لهم بالجنة، مع العشرة، ومع ثابت بن قيس، ومع عكاشة، وأشباههم، وهو حارثة بن سُراقة الذي قُتل يوم بدرٍ رضي الله عنه، تكلم على "هبلت"؟
س: عمران بن حصين أبوه صحابي؟
ج: نعم، حُصين بن عبيد.
الشيخ: تكلم على "هبلت" وإلا ما تكلَّم؟
الطالب: ما تكلَّم.
س: ..............؟
ج: لأجل أنهم دخلوا جهنم، يعني: جاء في النصوص أنهم بعد ذلك يسألون ربَّهم أن يمحو عنهم هذا الاسم، فيُمحى عنهم هذا الاسم بعد ذلك.
الطالب: قوله: أو هَبِلْتِ الهمزة للاستفهام، واو العطف .....، وهبلت على صيغة المجهول والمعلوم ...... والمعلوم من هبلته أمه إذا .....
الشيخ: يكفي، نعم.
6569- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ؛ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَة.
6570- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ.
الشيخ: تكلَّم على ...؟ وهذا يدل على فضل التوحيد، وأنه أعظم الأعمال وأفضلها، وأنه مَن مات على التوحيد الخالص فهو أسعد الناس بشفاعة النبي ﷺ، وهذا موافقٌ لقوله في حديث أنس: إني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئًا يعني: للعُصاة.
الطالب: وَقَوْلُهُ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: قَالَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أحْمَد، وَصَححهُ ابنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ: لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ الْمَسْؤول عَنْهَا هُنَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ ﷺ: أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ كَذَا مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ مَنْ يَكُونُ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ دُونَهُ.
الشيخ: يكفي، نعم، العيني زاد شيئًا؟
الطالب: ما زاد شيئًا.
الشيخ: نعم.
6571- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا -أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا- فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي -أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي- وَأَنْتَ المَلِكُ؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً.
6572- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ العَبَّاسِ : أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: "هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟".
الشيخ: ما كمَّله؟
الطالب: لا.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: قَوْلُهُ: "هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؟" هَكَذَا ثَبَتَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِحَذْفِ الْجَوَابِ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسَدَّدٌ فِي "مُسْنَدِهِ" بِتَمَامِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، بِلَفْظِ: "فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، قَالَ: نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُقَدَّمِيِّ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: "الدَّرَكَةُ" بِزِيَادَةِ هَاءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَمَضَى أَيْضًا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ لِمُسَدَّدٍ، فِيهِ سَنَدٌ آخَرُ إِلَى عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ الْمَذْكُور، وَالله أعْلَم.
الشيخ: انظر كلامه على ..... أول حديث أول ما قرأت؟
الطالب: قَوْلُهُ: (كَأَنَّهُمُ الثَّعَارِيرُ) بِمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ، وَاحِدُهَا: ثُعْرُورٌ، كَعُصْفُورٍ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: وَمَا الثَّعَارِيرُ؟) سَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: الضَّغَابِيسُ) بِمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ بعْدهَا مُهْملَة، أما الثعارير فَقَالَ ابنُ الْأَعْرَابِيِّ: هِيَ قِثَّاءٌ صِغَارٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَيُقَالُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَدَلَ الْمُثَلَّثَةِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ الرَّاوِي: وَكَانَ عَمْرُو ذَهَبَ فَمُهُ –أَيْ: سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ- فَنَطَقَ بِهَا ثَاءً مُثَلَّثَةً، وَهِيَ شِينٌ مُعْجَمَةٌ.
وَقِيلَ: هُوَ نَبْتٌ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ كَالْقُطْنِ، يَنْبُتُ فِي الرَّملِ، يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ وَلَا يَطُولُ، وَوَقَعَ تَشْبِيهُهُمْ بِالطَّرَاثِيثِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَهِيَ بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ، هِيَ الثُّمَامُ -بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ- وَقِيلَ: الثُّعْرُورُ: الْأَقِطُ الرَّطْبُ.
وَأَغْرَبَ الْقَابِسِيُّ فَقَالَ: هُوَ الصَّدَفُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ فِيهِ الْجَوْهَرُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: كَأَنَّهُم اللُّؤْلُؤ، ولا حُجَّة فِيهِ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ التَّشْبِيهِ تَخْتَلِفُ، وَالْمَقْصُودُ الْوَصْفُ بِالْبَيَاضِ وَالدِّقَّةِ.
وَأَمَّا الضَّغَابِيسُ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: شَيْءٌ يَنْبت فِي أصُول الثّمام يُشْبِهُ الْهِلْيُونَ، يُسْلَقُ ثُمَّ يُؤْكَلُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ، وَقيل: ينْبت فِي أصُول الشَّجر وَفِي الإذخر، يَخْرُجُ قَدْرَ شِبْرٍ فِي دِقَّةِ الْأَصَابِعِ، لَا وَرَقَ لَهُ، وَفِيهِ حُمُوضَةٌ.
وَفِي "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" للحربي: الضغبوس من شَجَرَة عَلَى طُولِ الْإِصْبَعِ، وَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الضَّعِيفُ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فَقَالَ: هِيَ طُيُورٌ صِغَارٌ فَوْقَ الذُّبَابِ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِيمَا قَالَ.
تَنْبِيهٌ: هَذَا التَّشْبِيهُ لِصِفَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنْبُتُوا، وَأَمَّا فِي أَوَّلِ خُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ كَالْفَحْمِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا فَيَغْتَسِلُونَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ الْبِيضُ، وَالْمُرَادُ بعِيدَانِ السَّمَاسِمِ مَا يَنْبُتُ فِيهِ السِّمْسِمُ، فَإِنَّهُ إِذَا جُمِعَ وَرُمِيَتِ الْعِيدَانُ تَصِيرُ سُودًا دِقَاقًا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّفْظَةَ مُحَرَّفَةٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ السَّاسَمُ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ خَشَبٌ أَسْوَدُ، وَالثَّابِتُ فِي جَمِيعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِإِثْبَاتِ الْمِيمَيْنِ، وَتَوْجِيهُهُ وَاضِحٌ.
الشيخ: زاد العيني شيئًا؟ المقصود أنهم بعد خروجهم من النار قد امْتُحِشُوا واحتقروا ..... كعيدان السماسم بسبب حريق النار، ثم ينبتون كما تنبت الحبَّة كما تقدم، وعند ارتفاعهم يكونون كالضغابيس ..... شيئًا فشيئًا حتى يتم خلقهم.
بَاب الصِّرَاطُ جسْرُ جَهَنَّمَ
6573- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. ح، وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ، وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَبِهِ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: مِنْهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ، مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَرَ المَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلامَةِ آثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِن ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ، فَيَقُولُ: لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ، قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! فَلا يَزَالُ يَدْعُو، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لا يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّ، أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَوَ لَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى، حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا.
6574- قَالَ عَطَاءٌ: وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لا يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: حَفِظْتُ مِثْلُهُ مَعَهُ.
الشيخ: وهذا لا منافاةَ؛ فإنه قد يكون ﷺ أخبر بهذا، ثم أخبره الله بما هو أكثر فحفظه أبو سعيد: لك هذا وعشرة أمثاله، وهذا آخر مَن يخرج من النار، وآخر مَن يدخل الجنة، وهذا الصراط مَن جازه دخل الجنة، الصراط الذي نصبه الله على متن جهنم يمرون عليه على قدر أعمالهم: كلمح البصر، وكالبرق، وكالريح، وكأجاود الخيل ..... على حسب أعمالهم، فمنهم الموبق الذي تحبسه أعماله فيسقط، ومنهم المخردل الذي يُصيبه من ذلك ما يُصيبه ثم ينجو، فمَن جازه نجا، مَن جاز هذا الصراط الذي نُصب على متن جهنم نجا كما تقدَّم، ثم يُحبسون على قنطرةٍ هناك حتى ينقى بعضهم من بعضٍ، ويهذب ما عليهم من حقوقٍ، وينصف بعضهم من بعضٍ، فإذا انتهوا دخلوا الجنةَ وهم في غاية من صفاء القلوب، كما قال : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
فلا يمر هذا الصراط ولا يجوزه إلا أهل الإيمان، وأما غيرهم فلا يجوزوه، بل يُساقون إلى النار وراء معبوداتهم، فمَن كان يعبد الشمسَ مثّل له صورة الشمس فيسير وراءها، ومَن كان يعبد القمر كذلك، وهكذا مَن كان يعبد الأصنام والأنبياء وغيرهم تُمثّل لهم صورة مَن يعبدون حتى يتبعوه إلى النار، نسأل الله العافية.
وفي مجيء الله إليهم وكلماته معهم دلالة على حلمه وفضله وإحسانه، وأن الواجب على أهل الإيمان الإعداد لهذا اللقاء، والاستقامة على أمر الله، والمحافظة على حقِّه؛ حتى يفوزوا بهذا اللقاء العظيم، والنجاة من دار الهوان، فإتيانه إليهم وكشفه عن ساقه واتِّباعهم له كل هذه الصفات حقّ، ويجب إثباتها على الوجه اللائق بالله، وعلى الوجه الذي جاءت به النصوص، وهو إتيان يليق بالله، ومجيء يليق بالله، وكلام يليق بالله، لا يُشابه الخلق في شيءٍ من صفاته ، ومَن تأوَّله على غير ذلك فقد غلط، بل كما جاءت به النصوص كما أخبر به في كتابه العظيم: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فمجيئه شيء، ومجيء الآيات الأخرى شيء آخر، والله المستعان.
س: الصراط بعد الجسر أو قبله؟
ج: الصراط هو الجسر المنصوب على متن جهنم، من الأرض إلى فوق، يصعدون إلى الجنة، ومَن سقط سقط في النار -نسأل الله العافية- وهو مثلما قال النبيُّ ﷺ: مدحضةٌ مزلَّةٌ، لكن عليه كلاليب عظيمة، لا يعلم قدر عظمها إلا الله سبحانه وتعالى، تخطف الناس بأعمالهم، والسير ليس على قدر الأبدان والحسّ، لا، إنما هو على حسب الأعمال والقوة المعنوية العملية.
س: قوله: يأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها؟
ج: التي وعدهم بها: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، ساقه يعني .
س: في قوله الشهادة أنَّهم يُعرفون بآثار سجودهم؟
ج: هذا يدل على أنه يدخل النار بعض المصلين، يدخل النار ناسٌ من المصلين، دخولها بأعمال أخرى: كالزنا، أو السرقة، أو العقوق، أو الربا، وهم مصلون، حرَّم الله على النار أن تأكل آثار السجود، وفي اللفظ الآخر: يُعرفون بدارات وجوههم، فيُعذَّبون فيها ما شاء الله على قدر معاصيهم، ويُخرجهم الله .
وفيه ردٌّ على المعتزلة والخوارج الذين قالوا: الذي دخلها لا يخرج منها، هذا غلط، مَن دخلها من الكفار لا يخرج، وهم مُخلَّدون فيها أبد الآباد، لكن مَن دخلها من العُصاة الموحدين لا، لا يخلد فيها الخلود الدائم، لكنه قد يخلد خلودًا مُؤقتًا على قدر أعماله الخبيثة، ثم يُخرجه الله من النار إلى نهر الحياة، هذا ما هو عليه أهل السنة والجماعة قاطبةً، وهو الحق الذي لا ريبَ فيه، وقد صرح جمعٌ من أهل العلم من أهل السنة والجماعة بكفر المعتزلة والخوارج لهذه العقيدة الفاسدة، وبدَّعوهم، وأنكروا عليهم، نسأل الله العافية.
س: .............؟
ج: لا، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: ما يلزم من بقائهم الرؤيا، يُطفئ الله نورهم ويُساقون إلى النار، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: لا، ما يمرون، يُساقون إلى النار سوقًا.
س: ............؟
ج: الله أعلم، لكن اللفظ الآخر: "دارات الوجوه" عند مسلم.
بَاب فِي الحَوْضِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ [الكوثر:1].
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ.
6575- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ.
الشيخ: ومعنى "فرطكم" يعني: سابقكم، يسبقهم إلى الحوض، والفرط هو الذي يسبق جماعته وقومه ليُهيئ لهم النزول، فهو فرطهم ومتقدمهم في الحوض، حتى يقدموا عليه فيشربوا، اللهم صلِّ عليه وسلم.
الشيخ: وفي هذا دلالة على أنه لا يدري ما أحدث الناسُ بعده، لكن متى ..... يوم القيامة .. قيل له هذا الكلام: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، قال: فأقول: سُحْقًا، سُحْقًا لمن بدَّل بعدي، وفي اللفظ الآخر: فأقول كما قال العبدُ الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد [المائدة:117].
فهذا فيه الدلالة على أنَّ هناك مَن غيَّر وبدَّل بعده، وهم كثيرٌ في عهد الصحابة وبعد ذلك، ومنهم الذين قاتلهم الصحابةُ في عهد الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
س: معرفة الرسول ﷺ لهم ..؟
ج: غُرْلًا مُحجَّلين، نعم، هذه علامة الأمة.
6577- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ.
6578- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الكَوْثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ". قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
الشيخ: هذه إشارة إلى أن الكوثر فُسِّر بأمرين: أحدهما: أنه الخير الكثير، والثاني: أنه الحوض، وأنه نهر أُعطيه في الجنة، ولا منافاةَ، فقد أعطاه الله خيرًا كثيرًا: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، ومن جملة هذا الخير الكثير هذا النهر الذي هو الكوثر، وهو يصب منه ميزابان في الأرض يوم القيامة لإمداد الحوض الذي يرده الناس، وهو ماء من الجنة، ونازل من هذا النهر العظيم الذي أعطاه الله نبيَّه ﷺ في الجنة، وقد جاءت عدة روايات في مسافته، يجمعها أنَّ طوله شهر، وعرضه شهر، أن الله وسعه له وزاده له حتى صار بهذه المثابة، آنيته عدد نجوم السماء.
س: .............؟
ج: أوسع نعم، ما يُنافي ..... الأخص، لا يُنافي العام، لكن هو ﷺ ما فسَّره بهذا، لما سُئل عن الكوثر قال: نهر أعطانيه ربي في الجنة، فمَن قال من السلف أنه الخير الكثير تأوَّل قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، فهي أشياء كثيرة من الشفاعة ومن غيرها، هذا مما أعطاه الله، ومن ذلك الحوض.
6579- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلا يَظْمَأُ أَبَدًا.
6580- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ.
6581- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. ح، وحَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ –أَوْ: طِيبُهُ- مِسْكٌ أَذْفَرُ شَكَّ هُدْبَةُ.
س: هذا السير في ليلة المعراج؟
ج: لما عرج به، نعم.
6582- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الحَوْضَ، حَتَّى عَرَفْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ.
6583- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ.
6584- قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا: فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُحْقًا: بُعْدًا، يُقَالُ: سَحِيقٌ [الحج:31]: بَعِيدٌ، سَحَقَهُ وَأَسْحَقَهُ: أَبْعَدَهُ.
6585- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الحَبَطِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ القِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُحَلَّئُونَ عَنِ الحَوْضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى.
6586- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يَرِدُ عَلَى الحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى.
وَقَالَ شُعَيْبٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: فَيُجْلَوْنَ، وَقَالَ عُقَيْلٌ: فَيُحَلَّئُونَ، وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشيخ: وهذه الأحاديث يتأوَّلها الرافضةُ -قبَّحهم الله ولعنهم- على أصحاب النبي ﷺ المعروفين، فيقولون: منهم أبو بكر وعمر، ومنهم كذا، ومنهم كذا، كلهم ..... عن الصراط؛ لأنهم ارتدُّوا بسبب أنهم لم يعطوا عليًّا حقَّه، ولم يعطوا فاطمة حقَّها، وهذا من ظلمهم وجهلهم وكفرهم -نسأل الله العافية- فالرافضة من أخبث الناس، ومن أضلّ الناس، ومن أكفرهم، ومن أكثرهم عداوةً لأهل السنة والجماعة، حتى تأوَّلوا هذه النصوص على الصديق وعمر، وعلى العشرة، وغيرهم من أكابر الصحابة، وهي ..... في الذين ارتدُّوا من الأعراب وأشباههم، الذين عرفهم المسلمون، ومَن الذي قاتلهم إلا أبو بكر والصحابة؟! هم الذين قاتلوا أهلَ الردة، قاتل الله الرافضة وأبعدهم.
6587- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ الحِزَامِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي هِلالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى، ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِم القَهْقَرَى، فَلا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ.
6588- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي.
6589- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ.
6590- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ –أَوْ: مَفَاتِيحَ الأَرْضِ- وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا.
الشيخ: وهذه الخزائن فتحها الله على أصحابه وعلى أمته حتى قصروا القيصر، وكسروا كسرى، وأخذوا أموالهم وما عندهم وأنفقوها في سبيل الله ، فهذا من فضل الله على هذه الأمة؛ أن أعطاهم خزائن الأرض، وجعلها لهم، استعانوا بها على طاعته وجهاد أعدائه.
وقوله: ما أخاف أن تُشركوا بعدي قال العلماء: يعني الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لما أعطاهم الله من العلم والبصيرة والهُدى، فما خاف عليهم أن يرتدُّوا، يعني: أصحابه الذين عرفوا دينه، وتبصّروا في دينه، وجاهدوا معه، فهؤلاء قد عافاهم الله من ذلك، بخلاف الذين ليس عندهم من العلوم والبصيرة ما عندهم، فهؤلاء هم الذين ارتدوا على أعقابهم من جهات العرب ومَن كان معهم ممن شاركهم في الردة؛ لقلة بصيرته، وقلة علمه، وقلة إيمانه، وحدوث عهده بالإسلام، وليس داخلًا في ذلك أعيان الصحابة وخيارهم، بل هذا وقع لقومٍ أهل جدَّةٍ في الإسلام، وحدوث عهدٍ في الإسلام، وليسوا ممن تمكن الإسلامُ في قلوبهم، أما أولئك الأخيار فهم المراد بقوله: ما أخاف عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما قد وقع.
وبعض أهل العلم ذكر الرواية الأخرى: أن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم، يعني: أصحاب النبي ﷺ مثلما في هذه الرواية من حديث عقبة، ولهذا أخبر ﷺ أنَّ الشرك يقع في هذه الأمة، ولهذا قال ﷺ: لا تقوم الساعةُ حتى يلحق حيٌّ من أمتي المشركين، وحتى تعبد فئامٌ من أمتي الأوثان، وقال: لا تقوم الساعة حتى تضطرب آليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة رواه البخاري، وقال ﷺ: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة متفق عليه في أحاديث كثيرةٍ كلها دالة على وقوع الشرك والكفر، وارتداد الكثير من الناس، فوجب التوفيق بين الأحاديث بما قاله أهلُ العلم والإيمان؛ أن المراد بقوله: ما أخاف عليكم يعني: الصحابة الذين تمكنوا في الدين، وتبصَّروا، وعرفوا ما جاء به الرسول على بصيرةٍ، وصارت لهم بذلك البصيرة العظيمة، والنفوذ في الإسلام، حتى عصمهم الله مما وقع فيه جهلةُ الأعراب وحُدثاء العهد بالإسلام.
وهكذا جوابهم عن حديث: إنَّ الشيطان قد يئس قالوا: الشيطان غير معصومٍ، فقد ييأس منه الشيطان ويحصل، وقد يرجوه وما يحصل، فلما رأى ظهور الإسلام وانتشار الدين يئس أن يعود الناسُ إلى كفرهم الأول وضلالهم، ولكن هذا الذي يئس منه قد عاد الكثيرُ منه؛ فقد ارتدَّ كثيرٌ من الناس عن الإسلام، كما وقع في عهد الصديق، وقد وقع الشركُ في هذه الأمة كما أخبر به النبيُّ ﷺ، وقع هذا وهذا، وقع التَّحريش والإفساد من الشيطان، ووقع تزيين الكفر، حتى وقع هذا وهذا، فلا منافاة بين الروايات، ولا تعارض بين الروايات، ولكنه ﷺ بيَّن هذا وهذا، وأهل العلم والإيمان يضعون الأمورَ في مواضعها، وينزلون الأحاديث في منازلها، ويُفسِّرونها بما يدفع عنها ما قد يظنّ من التعارض والتَّخالف، والله المستعان.
س: ..............؟
ج: المشهور عند أهل العلم أنه دعاء، دعا لهم دعاءه للميت، دعا لهم بالمغفرة والرحمة، كما يدعو للميت.
6591- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَذَكَرَ الحَوْضَ فَقَالَ: كَمَا بَيْنَ المَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ.
6592- وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ، سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ -قَوْلَهُ: حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالمَدِينَةِ. فَقَالَ لَهُ المُسْتَوْرِدُ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: الأَوَانِي؟ قَالَ: لا، قَالَ المُسْتَوْرِدُ: تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الكَوَاكِبِ.
6593- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي عَلَى الحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي! فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا. أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ [المؤمنون:66]: تَرْجِعُونَ عَلَى العَقِبِ.
الشيخ: فإذا كان في عهده ﷺ بعد وفاته ﷺ مَن ارتدَّ، فكيف بالقرن الخامس عشر وما بعده وما قبله؟ فهذا يُوجب للمؤمن الحذر، وسؤال الله الثبات على دينه، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشر فيه الشرُّ، وظهر فيه البلاء، وكثر فيه دعاةُ الكفر والضلال والزيغ والفساد، وقلَّ أهلُ الصبر والإيمان ولا حول ولا قوة إلا بالله -نسأل الله السلامة- كلما عظمت الفتنة وكثرت الذنوب صار الواجب على أهل الإيمان من سؤال الله والضَّراعة إليه أن يُثبتهم، صار الواجب أكثر، وصار الخوف أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. انظر كلامه على حديث عُقبة.
الطالب: ..... حدثنا عبدان: أخبرني أبي، عن شعبة، عن عبدالملك قال: سمعتُ جندبًا رضي الله عنه يقول: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: أنا فرطكم على الحوض.
الشيخ: تم، انظر كلامه على حديث عقبة.
الطالب: .......
الشيخ: ..... ظاهر، يعني: الناس يعرفهم ويعرفونه عليه الصلاة والسلام، وارتدُّوا في عهد الصديق، وهم يعرفونه ويعرفهم عليه الصلاة والسلام.
س: لكن ما يكونون صحابة؟
ج: لا، صحابة، الذين ارتدُّوا من الصحابة، من الأعراب، ولهذا قال: أُصيحابي.
س: مَن يستدل بمثل هذه الأحاديث على أنَّ الصحابة ليسوا جميعًا عدول، بل فيهم ..؟
ج: مَن ارتدَّ ما صار مسلمًا، هم أثنى عليهم، مَن بقي على صُحبته وإيمانه بقيت له العدالة، ومَن ارتدَّ زال عنه الإسلام والعدالة جميعًا.
الطالب: ..........
الشيخ: نعم، انظر كلامه عليه.
الطالب: الحَدِيث السَّادِس عشر:
[6590] قَوْله: (يزِيد) هُوَ ابن أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْيَزَنِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ هُوَ الْجُهَنِيُّ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَفِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافسَةِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّقَاقِ هَذَا.
س: ..............؟
ج: المنافسة: المسابقة والمسارعة إليه: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، لكن مرَّ ذكره في الحديث؟
الطالب: ......: ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها؟
الشيخ: هذا هو: تنافسوا الدنيا.
س: .............؟
ج: في الدنيا فتنتهم حتى صدَّتهم عن الحقِّ، نسأل الله العافية.
الطالب: العيني قال كلامًا في الترجمة، يقول: أي: دعا لهم بدعاء صلاة الليل، قاله الكرماني، وقيل: صلَّى صلاة الموتى، وهو ظاهر الحديث، وكان ذلك بعد موتهم بثمانية أعوام.
الشيخ: هذا فيه نظر، ولهذا قال: وقيل، تقدم عند أهل العلم أنه دعا لهم.
س: ..............؟
ج: هذا الأقرب؛ لأنه ما كان يُصلي على الموتى بعد ذلك، إنما ثبت عنه بعد الموت بشهرٍ، كما صلى على أم سعدٍ، ولم يثبت أنه صلى على أحدٍ بعد شهر، فيُحمل على ما يُوافق سنته المعروفة.
س: ................؟
ج: الحوض قبل الجنة، في الموقف يوم القيامة، ولهذا يأتي أناسٌ من الكفرة فيُذادون عنه، لو كان في الجنة ما جاءه إلا المؤمنون، هذا في الموقف يوم القيامة، في العرصات قبل أن يدخل أهلُ الجنة وأهل النار دورهم.
س: هل يُذاد عن حوضه أهلُ المعاصي؟
ج: لا، الكفار فقط.
س: بعد المرور على الصراط الدخول إلى الجنة مباشرةً أو في قنطرةٍ؟
ج: تقدم لكم حديث أبي سعيدٍ ..... قنطرة قبل دخولهم الجنة، يُحاسب فيها المؤمنون فيما بينهم، ويتقاصُّون فيما بينهم، المؤمنون فقط، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة، تقدَّم هذا الحديث.
بسم الله الرحمن الرحيم
82- كِتَابُ القَدَرِ
بَاب فِي القَدَرِ
6594- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِالمَلِكِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ- قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ: بِرِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ -أَوْ: الرَّجُلَ- يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، قَالَ آدَمُ: إِلَّا ذِرَاعٌ.
الشيخ: المعنى أنَّ كلًّا يرجع إلى ما سبق في علم الله، فالخواتيم مُعلَّقة بالسوابق، الخواتم مُعلَّقة بالسوابق، فمَن سبق في علم الله أنه من أهل الجنة يسَّر الله له أعمال أهل الجنة، ومَن سبق في علم الله أنه من أهل النار يسَّر الله له أعمال أهل النار، ولهذا كان ذات يوم بين أصحابه ينتظرون دفن بعض الموتى، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، وفي اللفظ الآخر: قد عرف مقعدَه من الجنة، ومقعده من النار، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكلٌّ مُيسَّر لما خُلق له، أما أهل السعادة فيُيسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشَّقاوة فيُيسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5- 10]، فالأمور بسوابقها وخواتمها.
والواجب على العاقل والمكلَّف أن يجتهد في طاعة الله، وأن يحذر ما نهى الله عنه، فقد أعطاه الله سمعًا وبصرًا وعقلًا، وألزمه ما ينفعه، وجعله يعرف الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر، وهداه النَّجدين، وهما الطريقان: طريق الشر، وطريق الخير، وأعطاه عقلًا يُمَيِّز به بين النافع والضار، والهدى والضلال، والخير والشر، وغير ذلك، فالواجب عليه أن ينتبه لهذا الأمر، وأن يبذل وسعه في معرفة الخير والأخذ به، وفي معرفة الشر وتركه، مع سؤال الله الهداية والتوفيق، والضَّراعة إليه في صلاح قلبه، وصلاح عمله، وحُسن خاتمته، والله المستعان.
وفي اللفظ الآخر: فيما يبدو للناس، فالمعنى كله واضح، الإنسان قد تكون أعماله في غالب حياته أعمال أهل الجنة، ثم يُبتلى بأعمال أهل النار بأسبابٍ اقترفها، فيختم بعمل أهل النار، وقد يكون ظاهره أعمال أهل النار بمعاصٍ وسيئات اقترفها، أو بالكفر والضلال، ثم يمنّ الله عليه بالهداية والدخول في الإسلام، أو بالتوبة النصوح، فيلحق بأهل الجنة، والله المستعان.
6595- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ، مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
بَاب جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ
وقوله: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ.
6596- حَدَّثَنَا آدَمُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ -أَوْ: لِمَا يُسِّرَ لَهُ-.
بَاب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَوْلادِ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
الشيخ: وأخذ أهلُ العلم من هذا أنَّ أولاد المشركين –يعني: أطفالهم- حكمهم حكم أهل الفترات، يظهر فيهم علم الله يوم القيامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الله أعلم بما كانوا عاملين، وسوف يجري جزاؤهم على حسب أعمالهم كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فيوم القيامة يظهر علم الله فيهم، وذلك بالامتحان بإرسال مَن يمتحنهم يوم القيامة: كأهل الفترة الذين ما أدركوا رسولًا، ولا بلغتهم دعوة، فيُمتحنون يوم القيامة، ويُؤمرون، فإن أجابوا إلى ما طُلب منهم دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، فظهر علمُ الله فيهم، كما جاءت في ذلك الأحاديث عن رسول الله ﷺ: حديث الأسود بن سريع التميمي، وحديث أبي هريرة، وغيرهما، والأصل في هذا قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل [النساء:165].
6598- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
6599- أخبرنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟.
الشيخ: كذا ضُبط عندك: تنتجون، وإلا ضبطها: تُنتَجون؟ هذا من الأفعال التي تُستعمل بصيغة المفعول ..... الفاعل: تنتج وتزهى، كلمات معدودة.
الطالب: قال: قوله: تنتجون على صيغة بناء المعلوم.
الشيخ: تُنتِجون بناء المعلوم، تُنتِجون.
الطالب: وقال ابنُ التين: رويناه تُنتجون بضمِّ أوله من الإنتاج، يقال: أنتج إنتاجًا، قاله أبو علي، يُقال: أنتجت الناقة: إذا أعنتها على النتاج خرج ما قاله في المغربي: نتج الناقة ينتجها نتجًا: إذا ولي نتاجها حتى وضعت، فهو نتاج ..... وهو البهائم، كالقابلة للنساء.
الشيخ: فقط؟
الطالب: نعم.
الشيخ: مُقتضى كلامه الأول للمعلوم: تُنتجون .....
الطالب: وقال ابنُ التين: رويناه تُنتجون بضمِّ أوله، من الإنتاج.
الشيخ: تنتج هذا من الإنتاج، تنتجون: أنتج إنتاجًا للمعلوم، الأول مضموم على كل حالٍ، بخلاف الثالث: تنتَ أو تنتِ، الكلام في الحرف الثالث.
الشيخ: والمعنى أن الله جلَّ وعلا يجعل الأولاد على الفطرة، على الملة -ملة الإسلام- كما في الرواية الأخرى: على هذه الملة، فأبوا الطفل يُهودانه، أو يُنصرانه، أو يُمجسانه، إلى غير هذا من أنواع الديانات الباطلة، فالأصل على الفطرة، فلو مات قبل أن يفعل به أبواه شيئًا صار على الفطرة، كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله عزَّ وجل: إني خلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا خرَّجه مسلم في الصحيح.
فالأصل أنهم وُلدوا على الفطرة -على ملة الإسلام- لكن أبوا الطفل ومَن يقوم عليه يجرُّونه إلى اليهودية، أو النَّصرانية، أو غير ذلك بحسب التربية.
وإذا مات على الصغر صار يوم القيامة يُمتحن كما تقدَّم، وإن بلغ فهو على ما بلغ عليه إذا مات عليه، إن بلغ واعتنق الإسلامَ فله حكم المسلمين، وإن اعتنق غيرَه فله حكمه، إذا كانت الحجَّةُ قد قامت عليه، وإن كان من أهل الفترة يُمتحن أيضًا يوم القيامة: كالصغار من أولاد المشركين.
س: عفا الله عنك، المراد -بارك الله فيكم- أنه بفعلهما أو بإهمالهما له وعدم توجيهه للإسلام يُنصِّرانه ويُمجِّسانه؟
ج: كله داخلٌ: توجيههم، وإذا أهملاه وصار على ما هم عليه.
س: ............؟
ج: كما تُولد البهيمة، يعني: سليمة، صاحب الإبل والبقر ينتج أولاد إبله وغنمه سليمة، حتى يقطع أذنها أو غيرها للسمة أو لغير ذلك، أو تأتيها آفةٌ بعد ذلك، الغالب عليها بإذن الله السلامة، هذا هو الغالب على الأولاد؛ السلامة، فوجود التشويه والعيوب هذا خلاف الأصل.
وقال عند أهل السنة في أولاد المشركين، أما أولاد المؤمنين فهم تبع أهلهم، أولاد المؤمنين عند أهل السنة والجماعة تبع آبائهم وأمهاتهم.
بَاب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]
6600- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا.
الشيخ: والمعنى أنه ما يجوز للناس إذا خطب منهم إنسانٌ عنده زوجة يقولون: لا بدّ من طلاق زوجتك، ليس لهم هذا، ولا يجوز لهم أن يقولوا هذا الكلام، إذا خطب منهم فإما أن يُزوِّجوه، وإما أن يردُّوه، أما أن يقولوا: لا بدّ من طلاق زوجتك الأولى، هذا لا يجوز، ظلم منهم وعدوان، ليس لهم حقٌّ فيه، كلٌّ له رزقه، لها ما كتب الله لها، والأولى لها ما كتب الله لها، ولهذا قال: ولتنكح، فإنَّ لها ما قُدِّر لها، أما أن تقول: طلِّق فلانة، ما أنا موافقة حتى تُطلِّق فلانة، أو يقول وليُّها، أو هي، أو غير ذلك، لا يجوز ذلك؛ لأنَّ هذا تعرض لامرأةٍ بغير حقٍّ وظلم لها.
س: وإن شرط في العقد؟
ج: لا يجوز، الشرط باطلٌ.
س: ..............؟
ج: ...... بين الاستحباب والإباحة، ما له جواب في هذا.
س: ...............؟
ج: يُستحب لها أن تنكح أو تدع، أما التَّطليق لا.
الشيخ: والشاهد قوله: لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ، وفي اللفظ الآخر: مُسمَّى، يعني: الأمور مُقدَّرة، والآجال مُقدَّرة، فأمر ابنته أن تصبر وتحتسب لما يقضي الله من موت الطفل أو عدمه.
وفي الرواية الثانية: فأرسلت إليه تعزم عليه إلا أن يحضر عليه الصلاة والسلام، فقام ومعه جماعةٌ إليها، معه سعدٌ وأُبيٌّ ومعاذ وآخرون كما في الرواية الأخرى، قد دخل عليها، وعُرض عليه الصبي ونفسه تقعقع للخروج، قد دنا أجله، فلما رآه النبيُّ ﷺ ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له بعضُ الحاضرين -سعد أو غيره: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
ففي هذا فوائد:
منها: تواضعه ﷺ، وجبره لبناته، وحُسن مُعاملاته لبناته عليه الصلاة والسلام، ولهذا لما عزمت عليه قام إليها -نهض إليها- وذهب إليها بمن معه، فجبر خاطرها، وحضر طفلها، ثم أخذه ونظر إليه، فلما رأى نفسه في الخروج، وأن الموت قد دنا؛ بكى عليه الصلاة والسلام، وذرفت عيناه، وقال: إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء، فجمع بين وجوه الخير: سلَّاها وعزَّاها بقوله: لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى، فلتصبر ولتحتسب، وبكى عليه الصلاة والسلام؛ ليُبين أنَّ هذا من خلق المؤمن عند وجود المصائب، وعند وجود موت الأطفال والذرية، قد يبكي الإنسان وإن كان أعظم الخلق، وإن كان أفضلهم: كرسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم بيَّن أنها رحمة، وأنها ليست جزعًا ولا تسخطًا بقدر الله، ولكنها رحمة تقع في القلوب عند وجود المصائب.
الشيخ: إنما هي أسباب، يعني: العزل لا يمنع قضاء الله، قد يغلبه الماء ويقع الولد، فالعزل من أسباب عدم الحمل، فإذا دعت الحاجةُ إلى ذلك: كفعله مع جاريةٍ خاف أن تحمل وهو يُريد بيعها، ومع زوجته للحاجة إلى ذلك؛ لكونها ذات أطفال صغار ويخشى على أولادها من مشقة الحمل، فيعزل وقتًا ما، ونحو ذلك، أو يضرّها الحمل لمرضٍ أصابها؛ فيعزل، فإذا فعل لمصلحةٍ ظاهرةٍ فلا بأس.
س: .............؟
ج: نعم، جاء في حديث ما يدل على ذلك، لا بدّ من إذن الحرَّة؛ لأنَّ لها نصيبًا في الولد.
الشيخ: تكلم على موسى؟
الطالب: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ) هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
الشيخ: انظر موسى بن مسعود في "التقريب".
س: قوله: "وإن كنتُ لأرى الشيء قد نسيتُه فأعرفه"؟
ج: من الخطبة، يقول: أنه خطبهم ﷺ خطبةً عظيمةً طوَّل فيها، حتى دخل أهلُ الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، يعني: أخبر ما يكون في مستقبل الزمان مما أوحى الله إليه، وعلم هذا من علمه، وجهله مَن جهله، ونسيه مَن نسيه، يقول: أنه تحدث بعض الأشياء أذكرها في خطبة النبي ﷺ كما يذكر الإنسانُ الشخصَ الذي رآه سابقًا ثم غاب عنه، نسيه ثم يراه، فإذا رآه؛ عرفه وذكر أنه صاحبه الذي رآه سابقًا.
س: ...............؟
ج: أنه يقع كذا، ويقع كذا، وسيكون كذا.
الطالب: موسى بن مسعود النَّهدي -بفتح النون- أبو حذيفة البصري، صدوق سيئ الحفظ، وكان يُصحِّف، من صغار التاسعة، مات سنة عشرين أو بعدها، وقد جاوز التسعين، وحديثه عند البخاري متابعات.
الشيخ: علامته؟
الطالب: علامته: البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
س: ..............؟
الشيخ: انظر كلامه على حديث حذيفة ...؟
الطالب: الْحَدِيثُ الرَّابِعُ:
[6604] قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ) هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ، وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: "لَقَدْ خَطَبَنَا" فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَامًا".
قَوْلُهُ: "إِلَّا ذَكَرَهُ" فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: "إِلَّا حَدَّثَ بِهِ".
قَوْلُهُ: "عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ" فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: "حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ"، وَزَادَ: "قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ" أَيْ: عَلِمُوا وُقُوعَ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ.
وَقَدْ سَمَّيْتُ فِي أَوَّلِ "بَدْءِ الْخَلْقِ" مَنْ رَوَى نَحْوَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ هَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ: كَعُمَرَ، وَأَبِي زَيْدِ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: وَغَيْرُهُمْ، فَلَعَلَّ حُذَيْفَةَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى بَعْضِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ كُلَّ فِتْنَةٍ كَائِنَةٍ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَمَا بِي أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَسَرَّ إِلَىَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يُحَدِّثُ بِهِ غَيْرِي"، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ غَيْرِي"، وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ، بَلْ يُجْمَعُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجْلِسَيْنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَعَمُّ مِنَ الْمُرَادِ بِالثَّانِي.
قَوْلُهُ: "إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ" كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ.
الشيخ: يكفي، انظر كلامه على أول حديث -حديث ابن مسعود- ..... "نطفة" في العيني، المعروف في الرواية ليس فيها "نطفة" عند الشيخين.
الطالب: قَوْلُهُ: (عَنْ عبدالله) هُوَ ابن مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: "سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ".
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضِيَّةً، وَهُوَ أَوْلَى لِتَعُمَّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ وَعَادَتِهِ، وَالصَّادِقُ مَعْنَاهُ: الْمُخْبِرُ بِالْقَوْلِ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ؛ يُقَالُ: صَدَقَ الْقِتَالُ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، وَالْمَصْدُوقُ مَعْنَاهُ: الَّذِي يُصْدَقُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، يُقَالُ: صَدَقْتُهُ الْحَدِيثَ.
الشيخ: صدقته يعني: أخبرته بالصدق، صدقته بالتَّخفيف.
س: الذي يصدق له القول؟
ج: يُصْدَق له يعني: يُخبر بالصدق، يعني يقال: صدقته، قلت: إنك صادق، وصدقته: أخبرته بالحقيقة، فإذا خفَّفتَ معناه أنك أخبرته بالحقيقة، وإذا ثقَّلتَ معناه أنك صدَّقتَه أنت فيما قال، قلتَ له: إنك صادق، وإذا قلت: صدقته، يعني: أخبرته بالشيء الذي يعتقد أنه صدق، ومن هذا قوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21] يعني: عاملوه بالصدق.
الطالب: يُقَالُ: "صَدَقْتُهُ الْحَدِيثَ" إِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِ إِخْبَارًا جَازِمًا، أَوْ مَعْنَاهُ: الَّذِي صَدَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعْدَهُ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَمَّا كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى بُطْلَانِ مَا ادَّعَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا بِهِ وَتَبَرُّكًا وَافْتِخَارًا، وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُ هَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، لَيْسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بُطْلَانِ شَيْءٍ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ، وَمَضَى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ اشْتُهِرَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ "الْعِلَلِ": كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَعْمَشَ تَفَرَّدَ بِهِ حَتَّى وَجَدْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ.
قُلْتُ: وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، وَقَعَ لَنَا فِي "الْحِلْيَةِ"، وَلَمْ ينْفَرد بِهِ زيد عَن ابن مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَعَلْقَمَة عِنْدَ أَبِي يَعْلَى، وَأَبُو وَائِلٍ فِي فَوَائِدِ تَمَّامٍ، وَمُخَارِق بْن سُلَيْمٍ وَأَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ –كِلَاهُمَا- عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ فِي كِتَابِ "الْقَدَرِ"، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ –كِلَاهُمَا- عَنْ عَبْدِاللَّهِ مُخْتَصَرًا، وَكَذَا لِأَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَنَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ فِي فَوَائِدِ الْعِيسَوِيِّ، وَخَيْثَمَةَ بْنِ عبدالرَّحْمَن عِنْد الْخطَّابِيّ وابن أَبِي حَاتِمٍ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنِ ابن مَسْعُودٍ.
وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ ابن مَسْعُودٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا: مِنْهُمْ أَنَسٌ، وَقَدْ ذُكِرَ عَقِبَ هَذَا، وَحُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي "الْقدر" لِابْنِ وَهْبٍ، وَفِي أَفْرَادِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي "مُسْنَدِ الْبَزَّارِ" مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعَائِشَةُ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَأَبُو ذَرٍّ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي "الطِّبِّ"، وَالطَّبَرَانِيّ ورباح اللَّخْمِيّ عِنْد ابن مرْدَوَيْه فِي "التَّفْسِير"، وابن عَبَّاسٍ فِي "فَوَائِدِ الْمُخْلِصِ" مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَعَلِيٌّ فِي "الْأَوْسَطِ" لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فِي "الْكَبِيرِ" بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَالْعُرْسُ بْنُ عَمِيرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.
الشيخ: قوله: يُجمع خلقُه في بطن أمِّه.
الطالب: قَوْلُهُ: يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخَيْهِ، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ آدَمَ فِي "التَّوْحِيدِ"، وَكَذَا لِلْأَكْثَرِ عَنِ الْأَعْمَشِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْهُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بطن أمه، وَكَذَا لأبي مُعَاوِيَة، ووكيع، وابن نمير.
وَفِي رِوَايَة ابن فُضَيْل وَمُحَمّد بن عبيدٍ عِنْد ابن مَاجَهْ: إِنَّهُ يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَفِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ مِثْلُ آدَمَ، لَكِنْ قَالَ ابن آدَمَ بَدَلَ أَحَدِكُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ بَعْدَ الِانْتِشَارِ.
وَفِي قَوْلِهِ: خَلْقُ تَعْبِيرٌ بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْجُثَّةِ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُهُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا يَقُومُ بِهِ خَلْقُ أَحَدِكُمْ، أَوْ أُطْلِقَ مُبَالَغَةً، كَقَوْلِهِ: "وَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ"، جَعَلَهَا نَفْسَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي "الْمُفْهِمِ": الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنِيَّ يَقَعُ فِي الرَّحِمِ حِينَ انْزِعَاجِهِ بِالْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الدَّافِعَةِ مَبْثُوثًا مُتَفَرِّقًا، فَيَجْمَعُهُ اللَّهُ فِي مَحَلِّ الْوِلَادَةِ مِنَ الرَّحِمِ.
قَوْلُهُ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا زَادَ فِي رِوَايَةِ آدَمَ: أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ شُعْبَةَ بِالشَّكِّ، وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَوَكِيعٍ وَجَرِيرٍ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِغَيْرِ شَكٍّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَوْمٌ بِلَيْلَتِهِ، أَوْ لَيْلَةٌ بِيَوْمِهَا، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ آدَمَ، لَكِنْ زَادَ: نُطْفَةً بَيْنَ قَوْلِهِ: أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَرْبَعِينَ، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يُجْمَعُ هُوَ النُّطْفَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ الْمَنِيُّ.
الشيخ: وهذا يُبين أنها ما وقعت في الصحيح، زيادة نطفة لم تقع في الصحيح، وإن كان كثير ممن ينقل هذا الحديث يذكرها، حتى في بعض نسخ "الأربعين النووية"، وهي ليست في "الصحيحين" زيادة نطفة، ولكن المعنى صحيح أنها نطفة، كما في رواية أبي عوانة، أيش بعده؟
الطالب: وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ: الْمَنِيُّ، وَأَصْلُهُ الْمَاءُ الصَّافِي الْقَلِيلُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ إِذَا لَاقَى مَاءَ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ وَأَرَادَ اللَّهُ أن يَخْلُقَ مِنْ ذَلِكَ جَنِينًا هَيَّأَ أَسْبَابَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ قُوَّتَيْنِ: قُوَّةَ انْبِسَاطٍ عِنْدَ وُرُودِ مَنِيِّ الرَّجُلِ؛ حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ، وَقُوَّةَ انْقِبَاضٍ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ مِنْ فَرْجِهَا، مَعَ كَوْنِهِ مَنْكُوسًا، وَمَعَ كَوْنِ الْمَنِيِّ ثَقِيلًا بِطَبْعِهِ، وَفِي مَنِيِّ الرَّجُلِ قُوَّةُ الْفِعْلِ، وَفِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قُوَّةُ الِانْفِعَالِ، فَعِنْدَ الِامْتِزَاجِ يَصِيرُ مَنِيُّ الرَّجُلِ كَالْإِنْفَحَةِ لِلَّبَنِ، وَقِيلَ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قُوَّةُ فِعْلٍ وَانْفِعَالٍ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُ، وَبِالْعَكْسِ فِي الْمَرْأَةِ.
الشيخ: سبحان الحكيم العليم.
الطالب: وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّشْرِيحِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَلَدِ إِلَّا فِي عَقْدِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تُبْطِلُ ذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابنُ الْأَثِيرِ فِي "النِّهَايَةِ": يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجَمْعِ مكث النُّطْفَة فِي الرَّحِم، أَي: تمكس النُّطْفَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تُخَمَّرُ فِيهِ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لِلتَّصْوِيرِ، ثُمَّ تُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ ابن مَسْعُودٍ فَسَّرَهُ بِأَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهَا بَشَرًا طَارَتْ فِي جَسَدِ الْمَرْأَةِ تَحْتَ كُلِّ ظُفُرٍ وَشَعْرٍ، ثُمَّ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْزِلُ دَمًا فِي الرَّحِمِ، فَذَلِكَ جَمْعُهَا.
قُلْتُ: هَذَا التَّفْسِير ذكره الْخطَّابِيُّ، وَأخرجه ابن أَبِي حَاتِمٍ فِي "التَّفْسِيرِ" مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ. وَقَوْلُهُ "فَذَلِكَ جَمْعُهَا" كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ، أَوْ تَفْسِيرُ بَعْضِ رُوَاةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَظُنُّهُ الْأَعْمَشَ، فَظن ابنُ الْأَثِير أنه تَتِمَّة كَلَام ابن مَسْعُود، فأدرجه فِيهِ، وَلم يتَقَدَّم عَن ابن مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ خَيْثَمَةَ ذِكْرُ الْجَمْعِ حَتَّى يُفَسِّرَهُ.
وَقَدْ رَجَّحَ الطِّيبِيُّ هَذَا التَّفْسِيرَ فَقَالَ: الصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِ مَا سَمِعَ، وَأَحَقُّ بِتَأْوِيلِهِ، وَأَوْلَى بِقَبُولِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ، وَأَكْثَرُ احْتِيَاطًا فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يَتَعَقَّبَ كَلَامَهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ -رَفَعَهُ- مَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ، وَلَفْظُهُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ عَبْدٍ فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ كُلُّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ.
وَفِي لَفْظٍ: "ثُمَّ تَلَا: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]"، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ يَوْمِ السَّابِعِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي هَذَا زِيَادَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ يَحْصُلُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ فِيهِ ابْتِدَاءَ جَمْعِ الْمَنِيِّ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ جَمْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ ربيعَة، عَن ابن مَسْعُودٍ: أَنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تُقْضَى مِنْهَا النَّفْسُ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَحَادَرَتْ دَمًا فَكَانَتْ عَلَقَةً.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَذِنَ اللَّهُ فِي خَلْقِهَا، وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْهُ: "أَنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ"، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ، وَعِنْدَهُ وَعِنْدَ مُسْلِم مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ أبي الزبير، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ"، وَفِي نُسْخَة: "اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة"، وَفِي رِوَايَة ابن جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ: "اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ"، وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا، قَالَ: مِثْلَ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
وَفِي رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا يَأْذَنُ لَهُ لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً".
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل: "يدْخل الْمَلك على النُّطْفَة بعدمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ"، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنِ عَمْرٍو فَقَالَ: "خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً"، فَجَزَمَ بِذَلِكَ.
فحاصل الِاخْتِلَاف أن حَدِيث ابن مَسْعُودٍ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذِكْرِ الْأَرْبَعِينَ، وَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَغَالِبُهَا كَحَدِيثِ أَنَسٍ ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ لَا تَحْدِيدَ فِيهِ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ نَقَلَتِهِ؛ فَبَعْضُهُمْ جزم بالأربعين كَمَا فِي حَدِيث ابن مَسْعُودٍ، وَبَعْضُهُمْ زَادَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ بِضْعًا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ.
وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهَا الْقَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَة ابن مَسْعُودٍ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَابْتِدَاءِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، بَلْ أَطْلَقَ الْأَرْبَعِينَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي أَوَائِلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ الزَّائِدِ عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لَوْ كَانَتْ مَخَارِجُ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفَةً، لَكِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَى أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَضْبِطِ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ.
وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ الزِّيَادَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي إِحْضَارِ الشَّبَهِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَأَنَّ فِيهِ يَبْتَدِئ الْجَمع بعد الانتشار.
وَقد قَالَ ابنُ مَنْدَهْ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ بِكَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ، وَبِكَوْنِهِ فِي الرَّحِمِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الرَّحِمِ حَقِيقَةً، وَالرَّحِمُ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْله تَعَالَى: فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [الزمر:6] بِأَنَّ الْمُرَادَ ظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْبَطْنِ، فَالْمَشِيمَةُ فِي الرَّحِمِ، وَالرَّحِمُ فِي الْبَطْنِ.
الشيخ: أيش قال العيني؟
الطالب: ما زاد شيئًا.
الشيخ: نعم.