بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
6473- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ: مُغِيرَةُ، وَفُلانٌ، وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ -كَاتِبِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى المُغِيرَةِ: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ المُغِيرَةُ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلاةِ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قَالَ: وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ.
وَعَنْ هُشَيْمٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الحَدِيثَ عَنِ المُغِيرَةِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
الطالب: في زيادة هنا: ثلاث مرات؟
الشيخ: نعم؟
الطالب: .....
الشيخ: يعني زيادة "وجاءت" في غير الصحيح، رواها النسائي ...... وأحمد .....، أيش قال عليها العيني؟ أيش قال الحافظ؟
الطالب: قوْلُهُ: (فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بَاشَرَ الْكِتَابَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فقد أخرجه ابن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ، فَدَعَا غُلَامَهُ وَرَّادًا فَقَالَ: اكْتُبْ، فَذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ زَادَ فِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ هُنَا: "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِخَطِّي، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ مَنْ كَتَبَ لِمُعَاوِيَةَ صَرِيحًا، إِلَّا أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَمَّرَهُ عَلَى الْكُوفَةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ، أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَكَانَ كَاتِبُ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ عُبَيْدَ بْنَ أَوْسٍ الْغَسَّانِيَّ.
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَاعْتَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْعُمْدَةَ حِينَئِذٍ عَلَى الَّذِي بَلَّغَ الْكِتَابَ، كَأَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَمَرَهُ أَنْ يُوَصِّلَ الْكِتَابَ، وَأَنْ يُبَلِّغَ مَا فِيهِ مُشَافَهَةً.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ عَنْ مَجْهُولٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَ مَنْ أَرْسَلَهُ وَمَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَتَجِيءُ فِيهِ مَسْأَلَةُ التَّعْدِيلِ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَالْمُرَجَّحُ عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ.
الشيخ: تقدم البحثُ فيه في الصلاة، ذكر المؤلفُ أنَّ عبد بن حميد والنَّسائي وأحمد زادوا فيه: "ثلاثًا"، وأما في الصحيح ........ كأنها غير مُعتمدة.
المقصود من هذا أنه يُستحب أن يقول بعد الصلاة إذا سلَّم -بعد الاستغفار- ثلاثًا، وبعد قوله: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" عملًا بحديث ثوبان في مسلمٍ: كان إذا انصرف من صلاته قال: أستغفر الله –ثلاثًا- اللهم أنت السلام، ويقول بعد هذا: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، زاد أحمد رحمه الله والنسائي وابن حميدٍ بإسنادٍ جيدٍ في هذا الحديث: "ثلاث مرات"، لا إله إلا الله ثلاث مرات.
وزاد أيضًا ابن حميد: يُحيي ويُميت، كل هذا ثابت عنه عليه الصلاة والسلام، فإذا كرر ثلاثًا كان أفضل، وإذا قالها ثلاثًا بعض الأحيان، وبعض الأحيان مرة؛ فلا بأس، كله طيب، والزيادة من الثقة مقبولة، والشارع قد عرف من عادته التكرير في كثير من المسائل عليه الصلاة والسلام، ثم يقول بعدها: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجد، منك الجد.
وفي رواية ابن الزبير عند مسلم يقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ينبغي أن يجمع بين هذا وهذا، يأتي المؤمن بهذا وهذا: ما في حديث المغيرة، وما في حديث ابن الزبير، وما في حديث ثوبان، فهي كلها ثبتت عنه عليه الصلاة والسلام.
س: زيادة: بيده الخير؟
ج: جاءت في بعض الروايات، لكنها خارج الصحيح، وذكرها المؤلفُ في "الفتح" فيما تقدَّم بإسنادٍ جيدٍ، بعض الروايات.
س: ...........؟
ج: هذا جاء بعد المفروضة المكتوبة يعني.
بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ ومَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]
6474- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ.
الشيخ: وهذا خبرٌ عظيمٌ يدل على خطر اللسان وخطر الفرج، وأن مَن عافاه الله من شرِّ لسانه وشرِّ فرجه تمَّت له السعادة، ولهذا قال: مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة يعني: مَن يضمن لي أن يسلم من شرِّ لسانه وشرِّ فرجه فيكون من أهل الجنة والسعادة بضمانته ﷺ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
وهذا يحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: كثرة الذكر والتَّدبر لكتاب الله عزَّ وجل، وما يترتب على الذكر من الخير.
والثاني: اجتناب مجالس اللغو؛ مجالس القيل والقال، ومجالس الغفلة؛ لأنَّ هذا يضرُّه، ومجالس الشُّبَه، والأشياء التي تجرُّه إلى الزنا، ويبتعد عن أسباب الزنا، وأسباب اللغو في القول، ويجتهد في حفظ لسانه بذكر الله، وتذكر ما وعد الله به الذاكرين، والكفّ عن محارم الله، فيكون هذا عونًا له على حفظ فرجه وحفظ لسانه.
ذكر عندك لحييه ذكر اللُّغتين وإلا الفتح فقط.
الطالب: قَوْلُهُ: لَحْيَيْهِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَالتَّثْنِيَةِ، هُمَا العظمان فِي جَانِبَيِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: اللِّسَانُ وَمَا يَتَأَتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَبِمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ: الْفَرْجُ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ اللَّحْيَيْنِ: الْفَمُ. قَالَ: فَيَتَنَاوَلُ الْأَقْوَالَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَسَائِرَ مَا يَتَأَتَّى بِالْفَمِ مِنَ الْفِعْلِ. قَالَ: وَمَنْ تَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ أَمِنَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
كَذَا قَالَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَقِيَ الْبَطْشُ بِالْيَدَيْنِ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ أَصْلٌ فِي حُصُولِ كُلِّ مَطْلُوبٍ، فَإِذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا فِي خيرٍ سلم.
وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَعْظَمَ الْبَلَاءِ عَلَى الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ وَفَرْجُهُ، فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهُمَا وُقِيَ أَعْظَمَ الشَّرِّ.
الشيخ: انظر "القاموس" اللّحي.
الشيخ: وهذا: فلا يُؤذِ جاره، وفي اللفظ الآخر: فليُكْرِم جاره، وفي لفظٍ آخر: فليُحْسِن إلى جاره، فالمؤمن مأمورٌ بهذه الأمور: بالإحسان إلى جاره، وإكرامه، وعدم أذاه، كل هذا واجبٌ، مع أنه ينبغي له، بل يجب عليه أن يحفظ لسانه؛ فيقول خيرًا أو يصمت.
6476- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعَ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي: النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: الضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، جَائِزَتُهُ، قِيلَ: مَا جَائِزَتُهُ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
6477- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ.
الشيخ: أبعد مما؟
الطالب: نعم.
الشيخ: أيش عندك؟
الطالب: أبعد ما.
الشيخ: ما عندك: المغرب؟ وأيش قال الشارحُ عليه؟
الطالب: قَوْلُهُ: أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ بِلَفْظِ: أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابن بَطَّالٍ.
وَشَرَحَهُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ لَفْظُ بَيْنَ يَقْتَضِي دُخُولَهُ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ، وَ الْمَشْرِقِ مُتَعَدِّدٌ مَعْنًى؛ إِذْ مَشْرِقُ الصَّيْفِ غَيْرُ مَشْرِقِ الشِّتَاءِ، وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ كَبِيرٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اكْتَفَى بِأَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، مِثْلَ: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81].
قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ: بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرب، قَالَ ابنُ عَبْدِالْبَرِّ: الْكَلِمَةُ الَّتِي يَهْوِي صَاحِبُهَا بِسَبَبِهَا فِي النَّارِ هِيَ الَّتِي يَقُولُهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ الجائر. وَزَاد ابن بَطَّالٍ: بِالْبَغْيِ، أَوْ بِالسَّعْيِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْقَائِلُ ذَلِكَ، لَكِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى ذَلِكَ، فَيُكْتَبُ عَلَى الْقَائِلِ إِثْمُهَا، وَالْكَلِمَةُ الَّتِي تُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ وَيُكْتَبُ بِهَا الرِّضْوَانُ هِيَ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِ مَظْلمَةً، أَوْ يُفَرِّج بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَنْصُرَ بِهَا مَظْلُومًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي الْأُولَى: هِيَ الْكَلِمَةُ عِنْدَ ذِي السُّلْطَانِ يُرضيه بهَا فِيمَا يُسْخط الله.
قَالَ ابنُ التِّينِ: هَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ غَيْرِ ذِي السُّلْطَانِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ.
وَنقل عَن ابن وَهْبٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّلَفُّظُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشُ، مَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْجَحْدَ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدِّينِ.
الشيخ: الصواب العموم، وليس خاصًّا عند السلطان، الصواب العموم، فهذا وعيدٌ شديدٌ، وتحذيرٌ أكيدٌ من إطلاق الكلام الذي يضرُّ مطلقًا، فقد يتكلم بكلمةٍ لا يتبين فيها، ولا يُلقي لها بالًا، فيزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، نسأل الله العافية.
وهذا ليس خاصًّا عند السلطان، ولكن ما كان عند السلطان يكون أشدّ؛ لأنَّ الضَّرر الذي يحصل من عند السلطان قد يكون أغلب وأكثر، فالواجب الحذر من شرِّ ورطات اللِّسان، ولهذا تقدم: مَن يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن له الجنة، فالكلام الرديء يضرُّ مطلقًا، وفي اللفظ الآخر: إنَّ العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها يعني: ما يتثبَّت فيها، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، نسأل الله العافية.
أيش قال العيني عند قوله: إنَّ العبد؟
الطالب: قَوْله: ليَتَكَلَّم بِاللَّامِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَرٍّ: يتَكَلَّم بِدُونِ اللَّام.
قَوْله: مَا يتَبَيَّن فِيهَا أَي: لَا يتدبر فِيهَا، وَلَا يتفكَّر فِي قُبحها وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا، وَتُطلق الْكَلِمَة وَيُرَاد بهَا الْكَلَام، كَقَوْلِهِم: كلمة الشَّهَادَة، ويُروى: وليتكلّم بِالْكَلِمَةِ مَا يتَّقي فِيهَا.
قَوْله: يزل بهَا أَي: بِتِلْكَ الْكَلِمَة، وَهَذَا كِنَايَة عَن دُخُول النَّار.
قَوْله: أبعد مِمَّا بَين الْمشرق كِنَايَة عَن عظمها ووسعها.
س: .............؟
ج: هذا من التَّنبيه، وأن المشرق له مقابل وهو المغرب، فالشارع قد يكتفي بأحد المتقابلين عن الآخر، مثل: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] يعني: والبرد، ولهذا في رواية مسلم: أبعد مما بين المشرق والمغرب، نسأل الله العافية، يعني: بُعدًا واسعًا، نسأل الله العافية.
س: يهوي في النار سبعين خريفًا؟
ج: هذه رواية أخرى.
س: صحيحة؟
ج: نعم صحيحة.
الطالب: "القاموس" يقول: اللِّحية بالكسر: شعر الخدين والذقن، ج: لحى ولحى، والنسبة: لحوي، ورجل ألحى ولحياني: طويلها، أو عظيمها.
الشيخ: ............
س: الجار إذا نُصح ولم يقبل النُّصح، هل ينقل من المكان هذا إذا استطاع وإلا يصبر عليه؟
ج: يعمل بالأصلح؛ إن كان في بقائه في محله خيرٌ فيصبر على نصحه، ويُذكر الناس، ويدعو إلى الله، وإن كان في انتقاله إلى محلٍّ آخر أصلح انتقل.
الشيخ: أيش قال على يهوي؟
الطالب: قَوْلُهُ: يَهْوِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، قَالَ عِيَاضٌ: الْمَعْنَى يَنْزِلُ فِيهَا سَاقِطًا، وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ: ينزل بهَا فِي النَّار؛ لِأَن دركات النَّارِ إِلَى أَسْفَلَ، فَهُوَ نُزُولُ سُقُوطٍ، وَقِيلَ: أَهْوَى مِنْ قَرِيبٍ، وَهَوَى مِنْ بَعِيدٍ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ بِلَفْظِ: لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.
الشيخ: العيني زاد شيئًا؟
الطالب: ما ذكر.
الشيخ: نسأل الله العافية، المقصود من هذا كله أنَّ الواجب على المؤمن حفظ لسانه، والحذر من شرِّه، فإن تكلَّم يتكلم بخيرٍ يرفعه الله به الدَّرجات، ويكتب له به الرضا، ويحذر أن يكون كلامه شرًّا: من غيبةٍ، أو نميمةٍ، أو سبٍّ للدين، أو لعنٍ، أو غير هذا مما يضرُّه، نسأل الله العافية.
س: ............؟
ج: الظاهر أنه الملك الذي يكتب عليه سيئاته وحسناته، ملكان: ملك الحسنات، وملك السيئات، يحتمل أنه يشملهما، ويحتمل أنَّ المراد جنس ..... رقيب عتيد .....، فكلاهما رقيب، وكلاهما عتيد، وكلاهما مُعدّ لهذا الشيء، ملك كاتب الحسنات، وملك كاتب السيئات.
بَاب البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
6479- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
الشيخ: وهذا مُختصر من الحديث الصحيح: سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ذكر هنا هذا الرجل السابع: ذكر الله ففاضت عيناه، لم يذكر: خاليًا، وإنما جاء في الحديث: خاليًا؛ لأنه إذا صار خاليًا صار أقرب إلى الإخلاص والصدق في بكائه، وإلا ليس شرطًا؛ فإذا ذكر الله عن إخلاصٍ وصدقٍ وخشية الله فهو موعودٌ بهذا الخير؛ ولهذا في الأحاديث الأخرى الدلالة على ذلك من غير شرطٍ: كحديث عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله، وهذا معناه كثير في الأحاديث، وهو يدل على أنَّ البكاء من خشية الله، والفرق منه، وتذكر عذابه ونقمته على أعدائه، وتذكر نعيمه وإحسانه وجوده وكرمه لأوليائه؛ هذا من أسباب دخول الجنة والكرامة، وأن يكون من هؤلاء السبعة الذين يُظلهم الله في ظله، وفي اللفظ الآخر: في ظلِّ عرشه.
بَاب الخَوْفِ مِنَ اللَّهِ
6480- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي البَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِي إِلَّا مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ.
الشيخ: وهذا مثلما قاله العلماء -ابن تيمية وغيره- هذا يدل على أنَّ الإنسان إذا جهل شيئًا من الدقائق التي قد تخفى على العامي وشبه العامي أنه لا يُؤاخذ بها؛ فإنَّ هذا رجلٌ خاف من سُوء عمله، وخاف من تقصيره، فقال لأولاده: إذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في البحر في يومٍ صائفٍ شديد الرياح؛ لعلي أسلم، يعني: لأني لم أعمل خيرًا، فإني إن لقيتُ ربي ليُعذِّبني، أو كما قال.
والمقصود من هذا خوفه من سُوء عمله، وظنَّ أنه بهذا العمل يفوت الله، فجمع الله أشلاءه، وهو العالم بأحواله ، وقال: لم فعلتَ هذا؟ قال: مخافتك ..... وغفر له ، فدلَّ على أن شدة الخوف الذي يحمل صاحبَه على مثل هذا جهلًا منه بعموم قُدرة الله، وعموم مشيئته ؛ أن هذا قد يُغفر له في الدقائق التي يجهلها، بخلاف مَن يتعرض لأمورٍ واضحةٍ ومنكرةٍ، فإنه لا عذرَ له.
6481- حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِالغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ، أَوْ قَبْلَكُمْ، آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا -يَعْنِي أَعْطَاهُ- قَالَ: فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا -فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ- وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي -أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِي- ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَأَذْرُونِي فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ -وَرَبِّي- فَفَعَلُوا، فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَبْدِي، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ –أَوْ: فَرَقٌ مِنْكَ- فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَحَدَّثْتُ أَبَا عُثْمَانَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ: فَأَذْرُونِي فِي البَحْرِ، أَوْ كَمَا حَدَّثَ.
وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشيخ: كذا وربي؟
س: يقول حفظك الله: وقال معاذ: حدثنا شعبة، عن قتادة: سمعتُ عقبة: سمعتُ أبا سعيدٍ، عن النبي. ما عندهم: عقبة.
الشيخ: والسند الذي قبله؟
الطالب: حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِالغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
الشيخ: "سمعتُ عقبة" قصده التَّصريح -تصريح قتادة بالسماع من عقبة- لأنه لم يلقَ أبا سعيدٍ، فقتادة بينه وبينه مسافة، ساقط عندكم: "سمعتُ عقبة"، والله المستعان.
تكلم على وربي في "الفتح" أو العيني؟
س: ...........؟
الشيخ: نعم، هذا مما جرى فيمَن قبلنا، وأقرَّه النبيُّ ﷺ، لم يُنكرها عليه الصلاة والسلام، ذكرها لنا وأقرَّها.
س: ..............؟
ج: ما يجوز العمل، لكن المقصود أن هذا الذي وقع منه الخوف من الله أنه حصلت له المغفرة بسبب جهله بسعة قدرة الله ، أما شرعنا فجاء بأنه يُغسَّل ويُصلَّى عليه ويُدفن، ولا يُسحق، ولا يُحرق، هذا ما يجوز في شرعنا؛ عدم التحريق بالنار، وعدم تحريق الميت، هذا العمل لا يزال عليه الهندوس الآن، نسأل الله السلامة.
س: ..............؟
ج: ما يُطاع، هذا يُخالف الشرع.
الطالب: قَوْلُهُ: فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَبِّي، هُوَ مِنَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ جَوَابُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ، أَيْ: قَالَ لِمَنْ أَوْصَاهُ: قُلْ: وَرَبِّي لَأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَأَخَذَ مِنْهُمْ يَمِينًا، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَيْضًا: فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ وَرَبِّي، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ الْمُخْبِرِ.
الشيخ: ماشٍ، نعم ............
بَاب الِانْتِهَاءِ عَنِ المَعَاصِي
6482- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاء، النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ.
الشيخ: وهذا مثلٌ عظيمٌ ضربه النبيُّ للأمة، وأن مثلهم كمثل جماعةٍ جاءهم النذير وقال لهم: رأيتُ العدوَّ بعيني، أو بعينيَّ، وأنا النَّذير العُريان أي: الذي لم يدَّخر وسعًا في الإنذار والتَّحذير، فأطاعه قومٌ وساروا على مهلهم ونجوا من شرِّ العدو، وعصاه آخرون فصبَّحهم العدو فاجتاحهم، فهكذا الأمَّة: منهم مَن أطاع الرسولَ ﷺ وسار على الطريق القويم فنجا وسلم وفاز بالكرامة والسَّعادة، وأكثرهم تخلَّف فصار بمثابة مَن صبَّحهم العدو واجتاحهم، فصار سبيًا لعدو الله الشيطان، ونصيبًا من نصب الشيطان، نسأل الله العافية.
ضبطه عندك بالإفراد؟
الطالب: قَوْلُهُ: بِعَيْنِي بِالْإِفْرَادِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالتَّثْنِيَةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَالتَّشْدِيدِ، قِيلَ: ذَكَرَ الْعَيْنَيْنِ إِرْشَادًا إِلَى أَنَّهُ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ.
الشيخ: والقاعدة إذا قال في المفرد المضاف يكون مُتعددًا، يعمُّ الأفراد، بعيني: يعني بعينيّ، بيدي: بيديّ، وهكذا إذا أُضيف المفردُ إلى المعرفة، نعم.
س: يعني المُراد الجنس؟
ج: الجنس نعم، المخلوق له عينان ......
الشيخ: وهذا مثلٌ آخر ضربه النبيُّ للناس عليه الصلاة والسلام، والله يقول جلَّ وعلا: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، فقد ضرب الله أمثالًا عظيمةً في القرآن، وهكذا النبيُّ ضرب أمثالًا، وهكذا المثل الثاني: مثلهم بإنسانٍ استوقد نارًا في البرية -في الصحراء- فجعلت هذه الجنادب وهذه الفراش -وهي الطيور الصغيرة- تقع في هذه النار، وهو ينزعهنَّ ويذبهنَّ ويحاول منعهنَّ، فيغلبنه حتى يقعن فيه، وهذا مُشاهد يُشاهده مَن أوقد نارًا في الصحراء.
قال: فإني آخذ بحجزكم يعني أقول: هلموا إليَّ، هلموا إليَّ، وأنتم تأبون إلا أن تقحموا في النار، وفي اللفظ الآخر: تتفلَّتون عليَّ.
فالمقصود أنه ﷺ بدعوته للناس، وإرشاده للناس، وبيانه للناس حكم الله وشرع الله؛ فهو بمثابة الذي يذبّ هذه الدواب وهذه الجنادب وهذا الفراش الذي يقع في النار، والناس أكثرهم مثل الفراش هذا، أكثرهم لا عقولَ له، وإن كان يأكل ويشرب ويلبس الثياب ويتكلم، ولكنه مثل الفراش يأبى إلا اتباع هواه وشيطانه، إلا اتباع شهوته، إلا اتباع نفسه الأمَّارة بالسوء، يأبى إلا أن يُخالف الناصحين، ويأبى إلا أن يُخالف المهتدين، فلا يزال به هواه ونفسه الأمَّارة بالسوء وشيطانه حتى يقع في النار، ويعصي ولي الأمر وأهل الدعوة إلى الحق، وهذه حال أكثر الخلق: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]، هذه حال أكثر الخلق، هم الذين قال الله فيهم سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، قد غفلوا عن الله، وعن الدار الآخرة، وعن كلِّ ما يُنجيهم من عذابه، ليس لهم هَمٌّ إلا حظّهم العاجل من أكلٍ وشربٍ ونكاحٍ وغير هذا من حظوظهم العاجلة، نسأل الله السلامة.
فالعاقل إذا سمع هذه الأمثال يحذر ويسأل ربَّه العافية والهداية، ويُحاسب نفسه دائمًا؛ لعله ينجو من شرِّ هذه الفتنة العظيمة، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
س: قوله: إني أنا النذير العريان؟
ج: يعني المبالغة في النَّذارة، فإن بعض النذر إذا خاف ألا يفطنوا له، خلع رداءه من على جسده، وجعل يلوي به هكذا حتى يفطنوا له، ولهذا ما على جسده شيء، ما عليه إلا الإزار، كان يحمله حتى الحرص على خلع الإزار، وأخذ إزاره يلوي به.
المقصود أنه النذير العُريان، يعني: مبالغ في النَّذارة، حمله شدة الحرص على أن يخلع ثوبه الذي عليه ويلوي به: الحذر، الحذر، النجاء، النجاء. تكلم على أنا النذير العريان؟
الطالب: قَوْلُهُ: وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ قَالَ ابن بَطَّالٍ: النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ: رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمٍ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَوْمَ ذِي الْخَلَصَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ وَيَدَ امْرَأَتِهِ، فَانْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَحَذَّرَهُمْ، فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي تَحْقِيقِ الْخَبَرِ.
قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى ذَلِك يَعْقُوب بن السِّكِّيتِ وَغَيْرُهُ، وَسَمَّى الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ: عَوْفَ بْنَ عَامِرٍ الْيَشْكُرِيَّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَتُعُقِّبَ بِاسْتِبْعَادِ تَنْزِيلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ عُريَانًا.
وَزعم ابنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ النَّذِيرَ الْعُرْيَانَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَامر بن كَعْبٍ، لَمَّا قَتَلَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ أَوْلَادَ أَبِي دَاوُدَ -وَكَانَ جَارَ الْمُنْذِرِ- خَشِيَتْ عَلَى قَوْمِهَا، فَرَكِبَتْ جَمَلًا وَلَحِقَتْ بِهِمْ وَقَالَتْ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ.
وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ لَمَّا أَصَابَتْهُ الرَّمْيَةُ بِتِهَامَةَ وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ وَقَدْ سَقَطَ لَحْمُهُ.
وَذَكَرَ أَبُو بِشْرٍ الْآمِدِيُّ أَنَّ زَنْبَرًا -بِزَايٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ ثمَّ مُوَحَّدَة- بن عَمْرٍو الْخَثْعَمِيَّ كَانَ نَاكِحًا فِي آلِ زُبَيْدٍ، فأرادوا أَن يغزوا قَوْمَهُ، وَخَشوا أَنْ يُنْذِرَ بِهِمْ؛ فَحَرَسَهُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَصَادَفَ مِنْهُمْ غِرَّةً فَقَذَفَ ثِيَابَهُ وَعَدَا، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدْوًا، فَأَنْذَرَ قَوْمَهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ جَيْشًا، فَسَلَبُوهُ وَأَسَرُوهُ، فَانْفَلَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْش فَسَلَبُونِي، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا، فَتَحَقَّقُوا صِدْقَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَتَّهِمُونَهُ فِي النَّصِيحَةِ، وَلَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِالتَّعَرِّي، فَقَطَعُوا بِصِدْقِهِ لِهَذِهِ الْقَرَائِنِ.
فَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِنَفْسِهِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ مَثَلًا بِذَلِكَ؛ لِمَا أَبْدَاهُ مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ، تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَا يَأْلَفُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَايَا لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، أُتِيتُمْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُرْيَانَ مِنَ التَّعَرِّي، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ رَوَاهُ بِالْمُوَحَّدَةِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاهُ الْفَصِيحُ بِالْإِنْذَارِ، لَا يُكَنَّى، وَلَا يُوَرَّى، يُقَالُ: "رَجُلٌ عُرْبَانُ" أَيْ: فَصِيح اللِّسَانِ.
الشيخ: لكن الصواب هو هذا المعروف: "عريان" بالياء.
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:
لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا
6485- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
6486- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا.
الشيخ: وهذا المعنى ظاهر: لو يعلم الناسُ ما يعلم الرسلُ ما عند الله من النَّعيم العظيم لأوليائه، والعذاب الشديد لأعدائه؛ لضحكوا قليلًا، ولبكوا كثيرًا؛ خوفًا من شدة العذاب، نسأل الله العافية.
الطالب: الحديث السابق ما قرأناه.
الشيخ: نعم.
الشيخ: وهذا تقدم في أول كتاب الإيمان: المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه يعني: المسلم الكامل والمهاجر الكامل: مَن سلم الناسُ من شرِّه، والمهاجر: مَن هجر ما نهى الله عنه.
بَاب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
6487- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ.
الشيخ: والمعنى أنه جعل الحجابَ هكذا، يعني: بين العبد وبين النار أن يتَّبع شهواته، فإذا تبع شهواته صار إلى النار؛ لأنَّ فيها المباح، وفيها المحرم، فإذا تبع شهواته ولم يُفرِّق بين الحلال والحرام جرَّه هذا إلى النار، نسأل الله العافية، وحُجبت الجنة بالمكاره فيما يكره الإنسانُ، فإذا جاهد نفسه وألزمها الحقَّ وإن كرهت، وحملها على الخير: من الجهاد، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وأداء ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، والوقوف عند حدود الله؛ صار إلى الجنة والسعادة، جاء حُجِبَتْ، وجاء حُفَّت، كله جاء بالنص.
س: ............؟
ج: حجاب بين الجنة والنار، وأما حُفَّت ظاهر المعنى: جعل أمامها هذا الشيء.
بَاب الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ
6488- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ.
الشيخ: وهذا من جوامع الكلم، ومن عظيم ...... الله ، فإنه ليس بين العبد وبين الجنة إلا أن يموت على الإيمان، وليس بينه وبين النار إلا أن يموت على الكفر، هذه لحظة واحدة أقرب من شراك نعله، فإذا فاضت الروحُ على الإيمان فهو من أهل الجنة، وإن فاضت الروحُ على الكفر صار من أهل النار، نسأل الله العافية.
س: ............؟
ج: ظاهر، أقول: ظاهر، كلّ ما خلا الله باطل، يعني: ما لا يتعلَّق بالله، وإيمانه، وتقواه، والقيام بحقِّه، والدَّعوة إليه؛ ضائع وباطل، ما ينفع صاحبه، بل يضرّه.
بَاب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلا يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
6490- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ.
الشيخ: وذلك ليعلم فضلَ الله عليه، ولهذا في الرواية الأخرى: لئلا تزدروا نعمةَ الله عليكم، فإذا نظر الإنسانُ إلى مَن فُضِّل عليه في خَلْقٍ: من جمالٍ، أو قوةٍ، أو نحو ذلك، أو في خُلُقٍ، أو في مالٍ، فلينظر إلى مَن دونه في ذلك؛ حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، وأنَّ الله فضَّله على كثيرٍ، فإذا رأى مَن هو قوي عظيم في جسمه وهو دونه، فلينظر إلى مَن هو ضعيف أقلّ منه، على فراشه مريض أو نحوه؛ حتى يعرف أن الله فضَّله على جماعةٍ كثيرةٍ، وإذا رأى مَن أعطاه اللهُ المالَ الكثيرَ وهو دونه، فلينظر إلى مَن هو دونه في الفقر والحاجة؛ حتى يعرف أنَّ الله فضَّله على ناسٍ كثيرين.
أما الخُلُق: فله شأنٌ آخر، الخُلُق بضم الخاء واللام، ويُقال: الخُلْق بالتسكين، فهذا من شأن الأعمال الصالحة، هذا شأنه شأن الأعمال الصالحة، فليُنافس وليُسارع إذا نظر إلى مَن فُضِّل عليه في الخلق: في الجود والكرم، والسماحة، والعفو، والحلم، ونحو ذلك، فلينافس وليقتدِ به، وليتخلَّق بالأخلاق الفاضلة، كما إذا نظر في العبادات، والحج، والعمرة، والجهاد، ونحو ذلك، فليُنافس في هذا الخلق، وهو داخلٌ في قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، وفي الآية الأخرى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].
ففي أعمال الخير يُسارع ويُنافس ويتأسَّى بالأعلى، ويقتدي بالأعلى، وفي أمور الدنيا، وفي أمور الجسم –الخلق- ونحو ذلك، ينظر إلى مَن دونه؛ حتى يعرف قدر نعمة الله عليه ، ولا يقل: إني مغبونٌ! مبخوسٌ! فربما أفضى به الأمرُ إلى أن يُسيئ ظنه بربه، ويقول: ظلمني ربي! أعطى فلانًا، وأعطى فلانًا، ولم يُعطني! فهذا من البلاء العظيم، والفساد الكبير، وانحراف الفطرة.
بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ
6491- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالوَارِثِ، حَدَّثَنَا جَعْدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.
الشيخ: وهذا يدل على جوده وكرمه ، وأنه سبحانه لطيف كريم، جواد عظيم، فالإنسان بين هذه الأمور الأربعة: قد يهمّ بحسنةٍ فيعملها أو لا يعملها، الحال الثاني: يهمّ بها فيعمل بها، الحال الثالثة: يهمّ بسيئةٍ فيعملها أو لا يعملها، الرابعة: أن يهمَّ بها فيعملها، بيَّن الله جلَّ وعلا على لسان نبيه ﷺ أحكام هذه الأمور، وأنه إذا همَّ بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنةً، صار هذا الهمُّ حسنةً، فإذا همَّ أنه يزور أخاه في الله، أو همَّ أنه يتصدق، أو همَّ أنه يصل رحمه، أو همَّ أنه يعود مريضًا، ولكن ما فعل، حال حائلٌ؛ فإنها تُكتب له حسنة وإن لم يعمل، فإن همَّ بهذه الحسنة فعملها كتبها الله له عشر حسناتٍ، إلى سبعمئة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
والحسنات تختلف في عِظمها وعِظم ثوابها وعدم ذلك، فليست حسنة التوحيد مثل حسنة غيرها، وليست حسنة الجهاد في سبيل الله مثل حسنة الصَّدقة بدرهمٍ أو درهمين أو عشرة أو عشرين أو ما أشبه ذلك، فإنها تختلف الحسنات.
الحال الثالث: أن يهمَّ بسيئةٍ فلا يعملها؛ تُكتب له حسنة.
والحال الرابع فيه تفصيلٌ دلَّت عليه السنة، فالهمُّ بالسيئة له أحوال ثلاث كما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة:
فالحال الأولى: أن يهمَّ بها ولا يعمل، ويتركها تشاغلًا عنها أو كسلًا عنها، فهذا لا شيء عليه، لا تُكتب عليه.
الحال الثانية: أن يهمَّ بها ثم يتركها خوفًا من الله -من أجل الله- فهذا تُكتب له حسنة، كما في الرواية الأخرى: إنما تركها من جرَّائي يعني: من أجلي، تُكتب له حسنة.
والحال الثالثة: أن يهمَّ بها ويجتهد ويحرص على أن يعمل بها، ولكن يُحال بينه وبينها، يعني: يعجز، فهذا تُكتب عليه سيئة؛ لأنه حاول فعلها، وبذل وسعه، فتُكتب عليه؛ لما ثبت في "الصحيحين" عن النبي ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، صار بعمله وجدِّه وحرصه على القتل آثمًا بذلك، وصار كالقاتل، وتُوعد بالنار؛ لأنه أراد قتل صاحبه وحاول، لكن غُلب، فباءا جميعًا بالإثم.
والحال الرابعة: أن يهمَّ بالحسنة ويعملها، فهذا تُكتب عشر حسنات، إلى سبعمئة ضعفٍ، إلى أضعاف كثيرة.
أيضًا الحال الرابعة: أن يهمَّ بالسيئة فيعملها، تُكتب له سيئة واحدة، هذا من لطفه وجوده .
ومن هذا الباب: قوله جلَّ وعلا في قصة يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24] على الصحيح همَّ لكن لم يعمل، فكتب الله له حسنة ذلك وثواب ذلك.
أما قول مَن قال: همَّ أن يضربها، أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس بشيءٍ عند أهل العلم ......
س: .............؟
ج: إذا اجتهد في فعلها، وبذل المستطاع، ولكن حِيل بينه وبين ذلك، مثل الذي أراد قتل صاحبه، ومثل الذي نقر البيتَ ودخل، ولما أراد السرقة حيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك.
س: .............؟
ج: شرع فيها، ولهذا قال: القاتل والمقتول في النار.
س: فهما في الوزر سواء؟
ج: هذا في حديثٍ آخر، هذا إذا كان الإنسانُ آتاه الله مالًا ولم يُعطه علمًا، فهو يتخبَّط في ماله، فلا يصل فيه رحمه، ولا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يعرف لله حقًّا، هذا في أخبث المنازل، والثاني: مَن لم يُعطَ علمًا ولا مالًا، فهو يقول: لو أُعطيتُ مالًا لعملتُ مثل عمل فلانٍ، قال: هذا بنيَّته، فهما في الوزر سواء ...... رواه الترمذي وغيره.
بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ
6492- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلانَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ المُوبِقَاتِ". قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ.
الشيخ: وهذا فيه الحذر من مُحقرات الذنوب التي يحتقرها الإنسان، فإنها تجتمع على العبد حتى تُهلكه -نعوذ بالله- ولهذا قال أنس: "إنكم لتعملون أعمالًا هي في أعينكم أدقّ من الشعر، كنا نعدّها في عهد النبي من الموبقات" يعني: نعدّها من المهلكات، وأنتم تحتقرونها! هذا فيه الحذر.
وجاء عنه ﷺ أنه قال: إياكم ومُحقرات الذنوب؛ فإنَّ لها من الله طالبًا، وفي لفظٍ: فإنها تجتمع على العبد حتى تُهلكه، ثم ضرب لهذا مثلًا بالركب ينزلون منزلًا، فيحضر صنيعهم طعامهم، فيأتي هذا بعودٍ، ويأتي هذا ببعرةٍ، ويأتي هذا بكذا، فيُوقدون نارًا، ويُنضجون صنيعهم، فهكذا من جمع السيئات -وإن كانت صغائر- تجتمع عليه حتى تكون عظائم، وحتى تُهلكه، نسأل الله السلامة.
أيش قال عليه الشارحُ؟
الطالب: قَوْلُهُ: (بَابٌ مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ) التَّعْبِيرُ بِالْمُحَقَّرَاتِ وَقَعَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ: إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَنَحْوُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ من حَدِيث ابن مَسْعُود.
وَعند النَّسَائِيِّ وابن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا، وَصَححهُ ابن حبَّان.
قَوْلُهُ: "إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا" كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَامِ التَّأْكِيدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ السَّرَخْسِيِّ وَالْمُسْتَمْلِي بِحَذْفِهَا وَبِحَذْفِ الضَّمِيرِ أَيْضًا، وَلَفْظُهُمَا: "إِنْ كُنَّا نَعُدُّ"، وَلَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: "إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا"، وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ.
قَوْلُهُ: "مِنَ الْمُوبِقَاتِ" بِمُوَحَّدَةٍ وَقَافٍ، وَسَقَطَ لَفْظُ "مِن" لِلسَّرَخْسِيِّ وَالْمُسْتَمْلِي أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ) هُوَ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ، أَيِ: الْمُوبِقَة هِيَ الْمُهْلِكَةُ.
الشيخ: يكفي.
س: معنى: مُحقّرات؟
ج: التي يحتقرها الإنسانُ، يعني: يراها صغيرةً ويجترئ عليها، مثل: سرقة المال القليل الذي لا يُوجب قطع اليد، ومثل: مُلامسة النساء، ومثل: النظر إلى بعض النساء وهن غير محارم، وأشباه ذلك التي ليس فيها وعيد بغضبٍ ولا لعنٍ ولا نارٍ ولا حدٍّ في الدنيا، الجمهور على أنَّ هذه هي الصغيرة المحقّرة.
بَاب الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ، وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
6493- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ الأَلْهَانِيُّ الحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
الشيخ: وهذا من جنس ما جاء في حديث ابن مسعودٍ في "الصحيحين" لما ذكر حال الطفل وأطواره قال: إنَّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فالمعنى: الأعمال بالخواتيم، الإنسان قد يكون ظاهره الخير وهو منافق، أو نحو ذلك، ثم يتبين أمره ويموت على حاله من النفاق، وقد يكون مُظهرًا للخير، ولكن في قلبه أشياء مثلًا لا تزال به حتى سبق في علم الله وأظهر الشرَّ والمعاصي ومات على ذلك، أو ارتدَّ عن الإسلام ومات على ذلك، إلى غير ذلك، نسأل الله العافية.
المقصود أن الواجب الحذر، ولهذا كان السلفُ يخشون الخاتمة، كانت تُخيفهم السابقة واللاحقة، ويحذرون السابقة واللاحقة: ما سبق في علم الله، وما يُختم للعبد به، ولهذا يخافون كثيرًا: ماذا يحكم الله في أمرهم؟ ولكن من سنته الغالبة أنَّ مَن أظهر الخير صدقًا ختم الله له به، ومَن أظهر الشر صدقًا ختم له به -نسأل الله العافية- لكن قد يقع للإنسان خلافُ ذلك، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
س: .............؟
ج: يحتمل هذا، ويحتمل هذا، يحتمل أنه يحمل على هذا، وأن هذا هو المراد، ويحتمل أنهم نوعان: نوع يتظاهر بهذا ويتظاهر بهذا، ونوع ليس في الحقيقة قاصدًا للنار، ولكن قد يُبتلى بأعمال سيئةٍ تسوء بها خاتمته ..... مضى في علم الله ، وبعض أهل العلم حمله على هذا، حمل حديث ابن مسعودٍ على هذا.
س: ...............؟
ج: يعني: هذا يظهر منه أنه منافق، أو مُرائي بالأعمال التي يُظهرها، وإن كان ليس مُنافقًا بالباطن، ولكن جرَّه الرياء وجرَّه التساهل حتى ساءت خاتمته، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: يعني: قتل ناسًا كثيرين من المشركين، وأعجب الناس بنشاطه في القتال، فكان فيما سبق من علم الله أنه يقتل نفسه -نسأل الله العافية- وهذا من باب الوعيد، إذا كان ما هو منافق يكون من باب الوعيد، أما إن كان منافقًا فجاء في بعض الروايات أنه سُئل هذا أو غيره: أنا لم أُقاتل لدينكم، وإنما قاتلتُ لحماية قومي. فظهر نفاقه، نسأل الله العافية.
س: ............؟
ج: يعني: ينصح ويدعوه إلى الخير: الدين النَّصيحة.
بَاب العُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلَّاطِ السُّوءِ
6494- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.
تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، أَوْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَقَالَ يُونُسُ، وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشيخ: وفي الرواية الأخرى التصريح بالترتيب: ثم سُئل: أي الناس أفضل؟ فقال ﷺ: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قيل: ثم مَن؟ قال: رجلٌ مؤمنٌ في شعبٍ من الشِّعاب يعبد الله، ويدع الناس من شرِّه، قال كثيرٌ من أهل العلم أنَّ هذا محمولٌ على أوقات الفتن وأوقات فساد المدن والقرى، وأما إذا صلحت الأمور، وصارت المدن والقرى صالحة؛ فكونه مع المسلمين وفي جماعتهم أولى وأفضل وأبعد عن الشرِّ، لكن عند تغير الأحوال تكون العزلةُ أفضل.
وفي هذا المعنى يقول ﷺ: يُوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن، يُوشك يعني: يقرب عند تغيُّر الزمان، نسأل الله السلامة.
س: .............؟
ج: يعني: يدع إيذاء الناس: من غيبةٍ، أو نميمةٍ، أو ضربٍ، أو غير هذا من أنواع الشرِّ، إذا اعتزل صار بعيدًا عن الشرِّ، فإيذاء الناس أن يُؤذيهم أو يُؤذه جميعًا.
س: .............؟
ج: ما يُنافي هذا، لا بأس به، إسناده حسن، رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ لا بأس به، لكن هذا عند النفع، وعند حصول الفائدة، أما إذا كان يخشى على نفسه فبُعده أسلم؛ لأنَّ هذا الحديث أصحّ منه رواية البخاري، هذا أصح.
6495- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا المَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ المُسْلِمِ الغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.
بَاب رَفْعِ الأَمَانَةِ
6496- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِلالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.
الشيخ: وهذا من إضاعة الأمانة؛ إذا أُسندت الأمور إلى أهل الخيانة والفساد والمعاصي الظاهرة، فهذه علامة إضاعة الأمانة، وهذه علامة قُرب الساعة، فلهذا الواجب على ولاة الأمور وعلى كلِّ مَن عليه المسؤولية أن يُولِّي الأمورَ أهلها: من أهل الثقة، والأمانة، والغيرة لله، والصدق في علاج أمور المسلمين، وطلب الخير لهم، وحمايتهم من الشرِّ، فإذا أُسند الأمرُ إلى مَن ليس بهذه الصفة من الخونة وضُعفاء الدين ومَن لا يهمه إلا نفسه صار هذا من دلائل قُرب الساعة، وقُرب انقضاء الدنيا.
قال ......: قال أبو جعفر: حدثتُ أبو عبدالله فقال: سمعتُ ..... يقول: سمعتُ أبا عبيدٍ يقول: قال الأصمعي: سمعتُ ..... وغيرها، جذر قلوب الرجال أي: جذر الأصل من كل شيءٍ، والوكت: أثر الشيء ......
الشيخ: وهذا أيضًا من أمارات الساعة، ومما يُوجب للعاقل الحذر والحرص على أسباب بقاء الأمانة، يقول حذيفة : عن النبي ﷺ أنه كان يقول: "حدَّثنا رسولُ الله بحديثين رأيتُ أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدَّثنا عن الأمانة، وأنها نزلت في جذر قلوب الرجال"، الجذر: الأصل يعني، والجذر بالكسر، ويُقال بالفتح، جذر الشيء: أصله، يُكسر ويُفتح.
"ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة"، وهكذا وقع؛ فإنَّ الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالأمانة: بتوحيد الله، والدعوة إليه، وأداء الحقوق، والنهي عمَّا حرم الله، وهكذا خاتمهم محمد ﷺ جاء بذلك، فدعا الناسَ إلى توحيد الله، وهو أعظم الأمانات، وحذَّرهم من الشرك بالله، وهو أعظم الخيانات، وهدى الله على يديه مَن هدى، وتعلموا القرآن، وتعلموا السنة، وتبصَّروا في ذلك، ونفع الله بهم العباد، وهدى بهم الخلق، وفتحوا بلاد الله، وأرشدوا الناس إلى دين الله.
قال حذيفة: "ثم حدَّثنا عن نزعها" يعني: عند تغير الأحوال ينام الرجلُ النومةَ من ليلٍ أو نهارٍ فتُقبض الأمانة من قلبه، يعني: قبضًا يسيرًا بأسباب أعماله السيئة، بسبب انحرافه.
"فيظل أثرها كالوكت" الأثر اليسير الذي هو شقوق يسيرة في اليد ونحوها، ثم ينام النومة الأخرى وقد زاد شرُّه، وزادت أعماله السيئة، فتُقبض الأمانة من قلبه، يعني: بقيتها، "فيظل أثرها كأثر المجل" المجل: ما يقع في يد الإنسان بعد العمل؛ بعد عمل المسحاة والفاروع وأشباه ذلك يكون فيها خدوش -في يده- واضحة، فيُصبح الناس يتبايعون ليس فيهم أحدٌ يؤدي الأمانة، يعني: يقل فيهم مَن يُؤدي الأمانة حتى يُقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا، يتحدث الناس به لقلة الأمناء، فيقال عن رجلٍ: ما أعقله! ما أظرفه! ما أجلده! يتعجَّبون منه: من إظهاره لأداء الأمانة، وليس في قلبه حبَّة خردل من إيمانٍ، مع هذا المدح له هو معدوم الإيمان -نسأل الله العافية- لكنه يتظاهر بهذا الشيء.
"ولقد كنتُ فيما مضى لا أُبالي مَن بايعتُ، إن كان مسلمًا ردَّه عليَّ إسلامه، وإن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ردَّه عليَّ ساعيه" يعني: أميره، "أما اليوم" يعني: في عهد عثمان بعدما تغيرت الأحوال، "فلستُ أُبايع إلا فلانًا وفلانًا" يعني: الذين وثقتهم وعرفتُ دينهم.
فهذا يدل على أنه تغيرت الأحوال في عهد الخير لما كثر الناسُ، وانتشر الإسلام، ودخلت فيه الأمم الكثيرة، وبدا بعض التقصير، ولهذا قال حُذيفة ما قال.
فإذا كان هذا في ذاك العصر، فكيف بالحال الذي هو اليوم؟ حال القرن الخامس عشر الذي قد بَعُد كثيرًا عن عهد النبوة، فالأمر لا يزداد إلا شدة، ولكن هذا لا يُعطي اليأس، ولا يُوجب اليأس، ولكن يُوجب الحذر، ويُوجب العناية، ويُوجب الاجتهاد في الخير، والمسابقة إلى الخير، والثبات على الحقِّ، وألا يغترَّ الإنسانُ بالناس، بل يتثبت في الأمور، ولا يُخدع.
والأمانة أمانتان: أمانة هي حق الله الذي أوجب على عباده من توحيده وجميع ما أوجب من صلاةٍ وصومٍ وغير ذلك، فالواجب أداء هذه الأمانة كما أمر الله، وهكذا ما حرَّم: الواجب أداء الأمانة في الكفِّ عمَّا حرم الله بصدقٍ وإخلاصٍ.
والأمانة الثانية: حق الناس من ديونهم وودائعهم وعواريهم ورهونهم، وغير هذا مما يُعتبر أسرارهم، وغير هذا مما يُؤتمن عليه الإنسان، فالواجب على المؤمن أن يعتني بهذه الأمانة، وأن يُؤديها إلى أهلها؛ عملًا بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وحذرًا من قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، وتخلقًا بأخلاق المؤمنين الذين قال فيهم سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8].
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
س: .............؟
ج: ما في منافاة، تكون الغربة مع الطائفة المنصورة، يكون غريبًا، والطائفة المنصورة موجودة، لكنها قليلة بالنسبة لأهل الشر.
س: هل ينطبق على تارك الصلاة في هذا العصر؟
ج: نعم، ينطبق عليهم وعلى غيرهم من المشركين والضّلال والمنافقين ..... وصفهم بالإسلام وهم بعيدون عنه.
الشيخ: هذا الحال في الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلةً: عند التفتيش وإرادة أن تُولي هذا القضاء، أو تولي هذا التدريس، أو تولي هذا أمانةً، أو نحو ذلك؛ تتعب، كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلةً جيدةً مناسبةً واطئةً، يعني: يمكن الحمل عليها، والركون إليها في حثِّ سيرها، .......، وعدم نفورها وإيذائها للراكب.
فالحاصل أن الإبل تختلف، فهكذا الناس يختلفون كإبل مئةٍ، لا تكاد تجد فيها راحلةً، يعني: يصعب عليك التماس الراحلة الذلول الهادئة التي يحذو رحلها، ويرتاح معها صاحبها، والله المستعان.
بَاب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ غَيْرَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ.
الشيخ: وهذا لأن الجزاء من جنس العمل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، ولهذا يقول ﷺ: مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن يُرائي يُرائي الله به، وهذا المتن جاء على لفظين: جاء بالماضي والمضارع، جاء مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن راءى راءى الله به، وجاء: مَن يسمع يُسمّع الله به، ومَن يُرائي يُرائي الله به، يعني: مَن يعمل لأجل السمعة: يقرأ، أو يتكلم بالكلام الطيب من أجل أن يُمدح ويُثنى عليه، أو يفعل ما يُرى ويُشاهد ليُثنى عليه، ويُرائي الناس به؛ فضحه الله يوم القيامة، وسمَّع به، وراءى به يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فضيحةً له على عمله السيئ، الذي لا يعلمه إلا الله، فإنَّ الرياء عمل القلوب، والقلوب إليه سبحانه، ففي هذا الحذر من الرياء والسمعة، والسمعة تكون في الأقوال، والرياء يكون في الأعمال المشاهدة.
فالواجب على المؤمن أن يخلص لله في عمله القولي والفعلي؛ حتى تكون أعماله كلها لوجه الله ، ليس فيها رياء للناس، ولا تسميع للناس، كالتسبيح والتهليل والاستغفار، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر -والنَّهي عن المنكر مما يُقال باللسان وما يسمع به- والصلاة والصَّدقات والجهاد، ونحو ذلك مما يُفعل ومما يُشاهد، فيجب أن تكون هذه الأعمال وهذه الأقوال لله وحده سبحانه، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، ذمَّه الناس أو مدحه الناس، علموا أو لم يعلموا.
بَاب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
6500- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ ﷺ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ.
الشيخ: وهذا الحديث فيه فوائد:
أولًا: تواضع النبي ﷺ، وأنه أردفه على الدابة، فبعض الناس يستنكف من ذلك، وهو أردفه على الدابة في هذا الحديث وفي غيره.
ومنها: تواضعه ﷺ من جهة المحادثة بينه وبين رديفه، والتلطف في ذلك، وأعظم من ذلك الفائدة العظيمة التي أخبر بها معاذًا بعدما سأله، وهي حق الله على العباد، وحق العباد على الله، وكونه سأل وكرر، كل هذا ليستعد معاذ للفائدة، ويحضر قلبه؛ حتى تكون الفائدة أرسخ في قلبه، وأثبت في قلبه، فإن الجواب بعد السؤال يكون أثبت في قلب المسؤول، ولا سيما مع التكرار أيضًا: يا معاذ، يا معاذ، أتدري.
وفي هذا بيان أنَّ حقَّ الله على عباده أن يعبدوه ، يعني: أن يُؤدُّوا حقَّه عن ذلٍّ وخضوعٍ، أن يعبدوه يعني: أن يُؤدوا حقَّه الذي أمرهم به من سائر الطاعات على وجه الذلِّ له والخضوع له، وعلى تخصيصه بذلك دون كلِّ ما سواه .
وهكذا يجب على العباد أن يعبدوا الله، سُميت الطاعات "عبادة" لأنها تُؤدَّى بالذل والخضوع، هكذا يجب على الناس أن يُؤدوها خاضعين ذليلين عن حبٍّ لله، ورغبةٍ فيما عنده ، ولهذا تقول العرب: طريق مُعبَّد، يعني: مُذلل، قد وطأته الأقدام، ويقولون: بعير معبَّد، يعني: مُذلل، قد شدَّ ورحل عليه.
فالعبادات التي أمر الله بها عباده هي طاعته، وترك ما نهى عنه، فالواجب أن تُؤدى هذه العبادات، يعني: هذه الطاعات، وهذه الأوامر، وأن تُترك هذه المحرمات عن ذلٍّ، وعن خضوعٍ، وعن تعبدٍ لله وإخلاص له .
ثم بيَّن حقَّ العباد عليه إذا أدوا حقه، وأنه سبحانه لا يُعذبهم، فمتى أدّوا حقَّه فلهم الجنة، وأنجاهم من النار، ولم يُعذبهم، وإنما العذاب لمن استكبر عن طاعة الله، وابتعد عن أمره ، فأما مَن أدَّى حقَّه فإنه لا يُعذّب.
وفرق بين الحقين: فحقه سبحانه حق افتراض، وحق إلزام لا بدّ منه، أما حقّهم عليه فهو حق تفضُّلٍ وإحسانٍ؛ ولهذا يقول ﷺ: واعلموا أنه لن يدخل الجنةَ أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه ومغفرةٍ، فالأعمال كلها من فضله، هو الذي وفَّق لها، وهدى لها، وجعلها أسبابًا لمغفرته، أسبابًا لرحمته، وهو الذي يتفضَّل بإدخال عباده المطيعين الجنة، وإنجائهم من النار، فحقه سبحانه حق إجلالٍ وإلزامٍ، وفرض لا بدّ منه على العباد، وحقهم عليه حق تفضلٍ وإحسانٍ منه ، إذ لو عذَّبهم لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، إنما يُعذِّبهم بذنوبهم، ولهذا يقول الشاعر:
ما للعباد حق واجب كلا | ولا سعي لديه ضائع |
إن عذّبوا فبعدله أو نُعّموا | فبفضله وهو الكريم الواسع |
وهو ذو الفضل والإحسان، فعلى المؤمن أن يستشعر هذا دائمًا، وأنه عبدٌ ذليلٌ، مأمورٌ، منهي، مربوب، ربه الذي خلقه وتفضَّل عليه حتى وفَّقه لطاعته، وحتى هداه لطاعته، ولولا فضله لما اهتدى، ولهذا مِنْ شِعر الصحابة مع النبي ﷺ في الخندق يوم الأحزاب يقولون:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا | ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينةً علينا | وثبِّت الأقدام إن لاقينا |
والنبي معهم ﷺ، فلولا الله الذي مَنَّ بالفضل ومَنَّ بالهداية لما اهتدى المهتدون: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].