بَاب المُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ»
6131 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ - أَوْ بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ - فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلاَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي القَوْلِ؟ فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
الشيخ: وهذه قاعدة، لا مانع من كون ولي الأمر والمسؤول وغيرهم ممن يبتلى بالناس لا مانع أن ينبسط لهم بالقول إذا كان يتقى شرهم، ولهذا لما استأذن قال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو قال: بئس ابن العشيرة بيَّن حاله أنه ليس بشيء، وأنه مذموم؛ فلما دخل ألان له القول، فقالت له عائشة في ذلك، فقال: يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس -أو قال ودعه الناس- اتقاء شره بعض الناس قد يُتقى شره بالكلام اللين؛ لأنه لو خوطب بخشونة لتكلم بشيء لا ينبغي، نسأل الله السلامة.
الشيخ: شف شرح الباب؟
الطالب: (قَوْلُهُ: بَابُ الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ) هُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَأَصْلُهُ الْهَمْزُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الدَّفْعُ بِرِفْقٍ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ عَلَى غَيْرِ شَرْطِهِ، وَاقْتَصَرَ على إِيرَاد مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَمَا ورد فِيهِ صَرِيحًا حَدِيث لِجَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مداراة النَّاس صَدَقَة أخرجه ابن عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِي سَنَدِهِ يُوسُفُ بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ بن عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ بن أَبِي عَاصِمٍ فِي آدَابِ الْحُكَمَاءِ بِسَنَدٍ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، قَوْلُهُ: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِنَّا لَنُكَشِّرُ بِالْكَافِ السَّاكِنَةِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، قَوْلُهُ: فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ السَّاكِنَةِ وَالنُّونِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: بِالْقَافِ الساكنة قبل اللَّامُ الْمَكْسُورَةُ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مِنَ الْقِلَا بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَهُوَ الْبُغْضُ، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ جزم ابن التِّينِ، وَمِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُزَّمِّلِ مِنَ الْكَشَّافِ، وَهَذَا الْأَثر وَصله ابن أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَنَضْحَكُ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ اللَّعْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّينَوَرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ جُبَيْرَ بْنَ نُفَيْرٍ، وَرَوَيْنَاهُ فِي فَوَائِدِ أَبِي بَكْرِ بن الْمُقْرِئ مِنْ طَرِيقِ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنَّا لَنُكَشِّرُ أَقْوَامًا.. فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَ اللَّفْظَ الْمُعَلَّقَ سَوَاءً وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا وَالْكَشْرُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ ظُهُورُ الْأَسْنَانِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عِنْدَ الضَّحِكِ، وَالِاسْمُ الْكِشْرَةُ كَالْعِشْرَةِ، قَالَ ابن بَطَّالٍ: الْمُدَارَاةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ: خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلنَّاسِ، وَلِينُ الْكَلِمَةِ، وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُدَارَاةَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ فَغَلَطَ؛ لِأَن المداراة مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَالْمُدَاهَنَةُ مُحَرَّمَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ مِنَ الدِّهَانِ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى الشَّيْءِ وَيسْتر بَاطِنه، وفسرها الْعلمَاء بِأَنَّهَا مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ، وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكُ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى تألُّفه وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ ذكر حديثين تقدما أَحدهمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ: اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَوْضِعِ شَرْحِهِ فِي بَابِ: مَا يَجُوزُ مِنَ اغْتِيَابِ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَالنُّكْتَةُ فِي إِيرَادِهِ هُنَا التَّلْمِيحُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ الْمُدَارَاةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ أُدَارِيهِ عَنْ نِفَاقِهِ وأخشى أَن يفْسد عَليّ غَيره، وَالثَّانِي حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَقْبِيَةٌ وَفِيهِ قِصَّةُ أَبِيهِ مَخْرَمَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ: وَكَانَ فِي خُلُقِهِ شَيْءٌ، وَقَدْ رَمَزَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِهِ عَقِبَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّهُ الْمُبْهَمَ فِيهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَى ذَلِكَ قَبْلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرَّ رَجُلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُاللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ كَأَنَّ لَهُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً، أخرجه النَّسَائِيّ، وَشرح ابن بَطَّالٍ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ كَانَ مُنَافِقًا وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ مَأْمُورًا بِالْحُكْمِ بِمَا ظَهَرَ لَا بِمَا يَعْلَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا لَا مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَلَا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي مَخْرَمَةَ مَا قِيلَ لِمَا كَانَ فِي خُلُقِهِ مِنَ الشِّدَّةِ فَكَانَ لِذَلِكَ فِي لِسَانِهِ بَذَاءَةٌ، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ فَكَانَ إِسْلَامُهُ ضَعِيفًا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَهْوَجَ، فَكَانَ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: قَدْ خَبَّأْتُ، وَقَوْلُهُ: قَالَ أَيُّوبُ، هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ: بِثَوْبِهِ وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَالْمَعْنَى أَشَارَ أَيُّوبُ بِثَوْبِهِ لِيُرِي الْحَاضِرِينَ كَيْفِيَّةَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ كَلَامِهِ مَعَ مَخْرَمَةَ، وَلَفْظُ الْقَوْلِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ، وَقَوْلُهُ: رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَابِ فَرْضِ الْخُمُسِ وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ أَيْضًا، قَوْلُهُ: وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ إِلَخْ أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيقِ بَيَان وصل الْخَبَر وَأَن رِوَايَة ابن عُلَيَّةَ وَحَمَّادٍ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمَا الْإِرْسَالَ؛ لَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَوْصُولٌ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ وصل رِوَايَة حَاتِم هَذِه فِي الشَّهَادَات.
الشيخ: في شيء زاد ما تكلم على قوله: مزررة بالذهب؟
الطالب: قَوْله: (مزررة) من التزرير، وَهُوَ جعلك للثياب أزراراً. قَوْله: (بِالذَّهَب) يتَعَلَّق بالمزررة. قَوْله: (فَقَسمهَا فِي نَاس) أَي: قسم النَّبِي ﷺ، الأقبية الْمَذْكُورَة بَين نَاس، وَكلمَة: فِي، بِمَعْنى بَين، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (الْفجْر:29) أَي: بَين عبَادي. قَوْله: (وَاحِدًا) أَي: ثوبا وَاحِدًا من الأقبية لأجل مخرمَة، وَكَانَ غَائِبا. قَوْله: (فَلَمَّا جَاءَ) أَي: مخرمَة، قَالَ ﷺ: خبأت هَذَا لَك وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: قد خبأت.
الشيخ: نعم.
بَاب لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لاَ حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ.
6133 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.
الشيخ: هذا من ..... نبوته عليه الصلاة والسلام؛ لأن المؤمن عنده من الذكاء والفطن والتحرز من أسباب الشر ما يجعله لا يلدغ من جحر مرتين، فإذا لدغ منه تحرز منه بعد ذلك، وهكذا إذا لدغ من إنسان، وأوذي من إنسان تحرز منه؛ لأنه يأخذ حذره، ولا يعود إلى أسباب الأذى الذي أصابه من الشخص أو من المكان؛ لأن عنده من الإيمان والبصيرة والفطنة والتعليم الشرعي ما يجعله يحذر أسباب الشر، والله سبحانه يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فالمؤمن يأخذ حذره من أسباب الشر، ويبتعد عن أسباب الشر، وقد يلدغ ولكن لا يعود إلى المكان الذي لدغ منه مرة أخرى؛ بل لا يكون عنده من الغفلة ما يجعله يعود، ولهذا قال معاوية: لا حكيم إلا ذو تجربة، فالتجارب تجعله يضع الأمور في مواضعها، فالمؤمن بما أعطاه الله من البصيرة والإيمان والعلم يضع الأمور في مواضعها.
أيش قال الشارح على الترجمة؟
الطالب: (قَوْلُهُ: بَابُ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ) اللَّدْغُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ: مَا يَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ، وَاللَّذْعُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ، وَالْجُحْرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، قَوْلُهُ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حَكِيمَ إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِوَزْنِ عَظِيمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا حِلْمَ، بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، إِلَّا بِتَجْرِبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا لِذِي تَجْرِبَةٍ، وَهَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا حِلْمَ إِلَّا بِالتَّجَارِبِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ، قَالَهَا ثَلَاثًا، وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَححهُ ابن حبَان، قَالَ ابن الْأَثِيرِ: مَعْنَاهُ لَا يَحْصُلُ الْحِلْمُ حَتَّى يَرْتَكِبَ الْأُمُورَ وَيَعْثُرَ فِيهَا فَيَعْتَبِرُ بِهَا وَيَسْتَبِينُ مَوَاضِعَ الْخَطَأِ وَيَجْتَنِبُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى: لَا يَكُونُ حَلِيمًا كَامِلًا إِلَّا مَنْ وَقَعَ فِي زَلَّةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ خَطَأٌ فَحِينَئِذٍ يَخْجَلُ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَسْتُرَ مَنْ رَآهُ عَلَى عَيْبٍ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ عَلِمَ نَفْعَهَا وَضَرَرَهَا فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْحَلِيمِ بِذِي التَّجْرِبَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَكِيمِ بِخِلَافِهِ، وَأَنَّ الْحَلِيمَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ تَجْرِبَةٌ قَدْ يَعْثُرُ فِي مَوَاضِعَ لَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهَا الْحِلْمُ بِخِلَافِ الْحَلِيمِ الْمُجَرِّبِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ أَثَرِ مُعَاوِيَةَ لِحَدِيثِ الْبَابِ، وَالله تَعَالَى أعلم.
قَوْله عَن ابن الْمُسَيَّبِ، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أخرجه الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ فِيهِ، وَخَالَفَهُمْ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ وَهُمَا ضَعِيفَانِ؛ فَقَالَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، أخرجه ابن عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنْ زَمعَة وابن أَبِي الْأَخْضَرِ وَاسْتَغْرَبَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُعَافَى قَالَ: وَأَمَّا زَمْعَةُ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا أَبُو نُعَيْمٍ، قُلْتُ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ وَرَوَاهُ عَنْ زَمْعَةَ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو أَحْمد الزبيرِي، أخرجه ابن مَاجَهْ، قَوْلُهُ: لَا يُلْدَغُ هُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيْ: لِيَكُنِ الْمُؤْمِنُ حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَوْلَاهُمَا بِالْحَذَرِ، وَقَدْ رُوِيَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ فِي الْوَصْل فَيتَحَقَّق معنى النَّهْي عَنهُ، قَالَ ابن التِّينِ: وَكَذَلِكَ قَرَأْنَاهُ، قِيلَ: مَعْنَى لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا أَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَتَنَاوَلُ هَذَا فَيُمْكِنُ، وَإِلَّا فَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّغْفِيلِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفِطْنَةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا نُكِبَ مِنْ وَجْهٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ، قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْأَكْثَرُ، وَمِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْخَبَرِ، فَأَخْرَجَ ابن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ قَالَ: قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ مِنْ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ: مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ قَالَ: أَوْفَى عَنِّي دَيْنِي، ثُمَّ قَالَ: يَا ابن شِهَابٍ تَعُودُ تُدَانُ، قُلْتُ: لَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: لَا يُعَاقَبُ فِي الدُّنْيَا بِذَنْبٍ فَيُعَاقَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْكَامِلِ الَّذِي قَدْ أَوْقَفَتْهُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ حَتَّى صَارَ يَحْذَرُ مِمَّا سَيَقَع،ُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُغَفَّلُ فَقَدْ يُلْدَغُ مِرَارًا، قَوْلُهُ: مِنْ جُحْرٍ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ: وَاحِدٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: مِنْ جُحْرِ حَيَّةٍ، وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّة، قَالَ ابن بَطَّالٍ: وَفِيهِ أَدَبٌ شَرِيفٌ أَدَّبَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ وَنَبَّهَهُمْ كَيْفَ يَحْذَرُونَ مِمَّا يَخَافُونَ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ: الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ حَذِرٌ أَخْرَجَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَوَّلُ مَا قَالَهُ لِأَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ شَاعِرًا فَأُسِرَ بِبَدْرٍ فَشكى عَائِلَةً وَفَقْرًا فَمَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَطْلَقَهُ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، فَظَفِرَ بِهِ بِأُحُدٍ فَقَالَ: مُنَّ عَلَيَّ، وَذَكَرَ فَقْرَهُ وَعِيَالَهُ، فَقَالَ: لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، وَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَأَخْرَجَ قِصَّتَهُ ابن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي بِغَيْر إِسْنَاد، وَقَالَ ابن هِشَامٍ فِي تَهْذِيبِ السِّيرَةِ بَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ حِينَئِذٍ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ وَصَنِيعُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْثَال مُشكل على قَول ابن بَطَّالٍ أَنَّ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلَ مَنْ قَالَ ذَلِك، وَلذَلِك قَالَ ابن التِّينِ إِنَّهُ مَثَلٌ قَدِيمٌ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا السَّبَبُ يُضَعِّفُ الْوَجْهَ الثَّانِي، يَعْنِي: الرِّوَايَةَ بِكَسْرِ الْغَيْن عَلَى النَّهْيِ، وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ: بِأَنَّهُ يُوَجَّهُ بِأَنْ يَكُونَ ﷺ لَمَّا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الْمَيْلَ إِلَى الْحِلْمِ جَرَّدَ مِنْهَا مُؤْمِنًا حَازِمًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، يَعْنِي: لَيْسَ مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الْحَازِمِ الَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ أَنْ يَنْخَدِعَ مِنَ الْغَادِرِ الْمُتَمَرِّدِ فَلَا يَسْتَعْمِلُ الْحِلْمَ فِي حَقِّهِ بَلْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا، قَالَ: فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ الْجُودَ لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا.
الشيخ: يعني كل شيء في محله، الحلم في محله مطلوب، والجود في محله مطلوب، والعفو في محله مطلوب، وإذا كان في غير محله ليس بمطلوب.
الطالب: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الصَّحَابَة: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَ: وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا مَحْضًا، لَا يُفْهَمُ هَذَا الْغَرَضُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ بِصِيغَةِ النَّهْيِ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: احْتَرِسُوا مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ فَلَهُ عِلَّتَانِ، وَصَحَّ مِنْ قَوْلِ مطرف التَّابِعِيّ الْكَبِير أخرجه مُسَدّد.
س: .......
الشيخ: لا، لكن معناه صحيح احترسوا من الناس بسوء الظن يعني الظن الذي في محله.
س: متى يكون الجود مذمومًا؟
الشيخ: إذا كان في غير محله: يعطيه من يستعين به على المعاصي، أو يعطيه السفهاء يلعبون بالأموال، أو الجود في غير محل الجود في شراء ما حرم الله أو في إضاعة الأموال، إنما يكون الجود في محل للمحتاجين والفقراء والمساكين؛ في إقامة المشاريع الخيرية، قضاء دين المدينين، صرف الأموال للجهاد في سبيل الله، إعتاق الرقاب، وأشباه ذلك مما هو ممدوح شرعًا.
س:......
الشيخ: على ظاهره إذا كانوا محلًّا للتهمة، يعني: احترز منهم حتى لا يعاملهم إلا على حذر.
بَاب حَقِّ الضَّيْفِ
6134 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَلاَ تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ،
الشيخ: الزَّوْرُ هو الضيف، يعني الزائر، فالنفس لها حق، والجسد له حق، والزوجة لها حق، وهكذا الضيف نعم.
بَاب إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ
وَقَوْلِهِ: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ [الذاريات:24] قَالَ: أَبُو عَبْدِاللَّهِ: يُقَالُ: هُوَ زَوْرٌ، وَهَؤُلاَءِ زَوْرٌ وَضَيْفٌ، وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، مِثْلُ: قَوْمٍ رِضًا وَعَدْلٍ. يُقَالُ: مَاءٌ غَوْرٌ، وَبِئْرٌ غَوْرٌ، وَمَاءَانِ غَوْرٌ، وَمِيَاهٌ غَوْرٌ.
وَيُقَالُ: الغَوْرُ الغَائِرُ لاَ تَنَالُهُ الدِّلاَءُ، كُلَّ شَيْءٍ غُرْتَ فِيهِ فَهُوَ مَغَارَةٌ (تَزَّاوَرُ): تَمِيلُ، مِنَ الزَّوَرِ، وَالأَزْوَرُ: الأَمْيَلُ.
[مناقشة غير واضحة.....]
الشيخ: وفي رواية لم يأت بها المؤلف وهي عند مسلم: مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُحسِنْ إلى جارِه من رواية أبي شريح.
الشيخ: وهذان الحديثان العظيمان فيهما هذه الأمور الثلاثة: إكرام الضيف، وإكرام الجار، وحفظ اللسان، فجاء في الجار ثلاثة ألفاظ: فليكرم جاره، فليحسن إلى جاره فلا يؤذ جاره، اللفظ الأول: مأمور بإكرام الجار والإحسان إليه وعدم إيذائه كما جاءت به السنة، ولهذا في رواية عائشة يقول ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننته أنه سيورثه فالجار أمره عظيم ومهم، فالواجب على المسلم أن يُعنى بجاره وأن يحذر إيذاءه بقول أو فعل، وليحرص على إكرامه والإحسان إليه بالقول والفعل، ثم اللسان أمره خطير، ولهذا أمر بحفظه إلا أن يقول خيرًا، وإما أن يصمت حتى يسلم، ثم ذكر إكرام الضيف كذلك، وبه رواية جملة رابعة عند مسلم: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه فصلة الرحم، وإكرام الضيف، وإكرام الجار، وحفظ اللسان من موجبات الإيمان، ومن مقتضى الإيمان الواجب، ومن كماله.
س: إذا كان الجار كافرًا لا يصلي؟
الشيخ: ولو، لا يؤذى، يُدعى إلى الله، ويُوجه إلى الخير، ولكن لا يُؤذى ما دام أنه في عهد وأمان.
س: وُجِّه إلى الخير وأصبح يهزأ بالدين ويسب ويلعن؟
الشيخ: يرفع أمره إلى ولاة الأمور فيعاقبونه بما يستحق، إذا كان يستهزئ بالدين لا يُترك، لكن الكلام .... لا يتكلم فيما يتعلق بالدين، له أمان وله عهد؛ لأن الجيران أقسام: جار مسلم له حقان، وجار مسلم قريب له ثلاثة حقوق: حق الجوار والإسلام والقرابة، وجار كافر له حق واحد وهو حق الجوار، أما إذا سب الدين أو خرج منه ما ينقض عهده؛ يُقتل، على ولي الأمر أن يقتله إذا ظهر منه ما يوجب قتله، لكن هذا إذا كان كافًّا أذاه وله عهد وله أمان ومستأمن فيعطى حقه من جهة الإحسان إليه، وهذا من أسباب دخوله في الإسلام، إذا أحسن إليه ورأى من المسلمين إكرام الجار؛ كان هذا من أسباب دخوله في الإسلام وتعظيمه للإسلام ورغبته فيه.
س:......
الشيخ: الجار: يعتبر جارًا كل من كان أقرب إلى الباب، والجيران كثيرون، جاء في بعض الروايات ما يدل على أنهم أربعون دارًا، والجيران يكثرون لكن أحقهم بالإكرام والإحسان أقربهم بابًا كما في حديث عائشة، قالت: إن لي جارين إلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا رواه البخاري رحمه الله.
6137 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ.
6138 - حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
الشيخ: وهذا جاء رواية (فليصل رحمه) تكون مخرجة في الصحيحين.
س:......
الشيخ: ما له داع، المعروف من القواعد الشرعية: ما لم يحصل فتنة، إذا كان له قوة أو يعرفون أنهم إذا طلبوا حق الضيف أعطوهم إياه أو عندهم قوة يستطيعون بها أخذ حق الضيف بدون فتنة وبدون شر أكبر، أما إذا كان أخذ حق الضيف يترتب عليه ما هو أشر؛ معروف في القاعدة الشرعية ترك ما يفضي إلى شر.
س: من أخذ منه بدون علمه؟
الشيخ: لا يضر، كما يأخذ العبد نفقته والزوجة نفقتها من دون علم، يجتهد في هذا ويتحرى الواجب ويأخذه إذا كان لا يترتب عليه شر أكبر.
س: يأخذه من أدنى الناس أو من أميرهم؟
الشيخ: من الذي نزل عليه، الطائفة التي نزل عليها.
س:......
الشيخ: أسبوع يعني كل أسبوع، الجمعة، ويقال: السبت للأسبوع، يعني: إذا كان لا يسمح بالثلاثة أيام في كل شهر يعني من كل أسبوع؛ لأنه أخف من صيام يوم وفطر يوم، المقصود أنه ﷺ أمره بما هو الأسهل والأرفق به، فلما شدد قال: صم صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهذا أفضل الصيام وأعظم الصيام؛ لكن إذا الإنسان أخذ بثلاثة أيام أرفق به؛ لأنه قد يحصل له أشغال، قد يكبر سنه ويعظُم عليه الأمر، فالأخذ بالأرفق أوْلى.
أيش قال على شرح الباب؟
الطالب: قَوْلُهُ: بَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَقَوله تَعَالَى: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ ضَيْفٍ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ أَضْيَافٌ، وَالْكَثْرَةِ ضُيُوفٌ وَضِيفَانٌ، قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: يُقَالُ هُوَ زَوْرٌ وَضَيْفٌ وَمَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ؛ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلَ قَوْمِ رِضًا وَعَدْلٍ، وَيُقَالُ: مَاءٌ غَوْرٌ وبئر غور وَمَاآن غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ، قُلْتُ: ثَبَتَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ الْمُسْتَمْلِي وَالْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَطْ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْفَرَّاءِ قَالَ: فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًاالْعَرَبُ تَقُولُ: مَاءٌ غَوْرٌ وَمَاآنِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ، وَلَا يَجْمَعُونَ غَوْرًا وَلَا يُثَنُّونَهُ، فَلَمْ يَقُولُوا: مَاآن غَوْرَانِ وَلَا مِيَاهٌ أَغْوَارٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْرِ يُقَالُ: هَؤُلَاءِ زَوْرُ فُلَانٍ وَضَيْفُ فُلَانٍ مَعْنَاهُ أَضْيَافُهُ وَزُوَّارُهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَأُجْرِيَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِمْ: قَوْمٌ عَدْلٌ، وَقَوْمٌ رِضًا وَمُقْنَعٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الزَّوْرُ جَمْعُ زَائِرٍ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٌ، قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الصِّحَاحِ، قَوْلُهُ: وَيُقَالُ الْغَوْرُ الْغَائِرُ لَا تَنَالُهُ الدِّلَاءُ.
الشيخ: بعده.
الطالب: قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ: (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ: رُوِيَ جَائِزَتُهُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ أَيْ يُكْرَمُ جَائِزَتَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، قَوْلُهُ: وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، قَالَ ابن بَطَّالٍ: سُئِلَ عَنْهُ مَالِكٌ فَقَالَ: يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ضِيَافَةٌ، قُلْتُ: وَاخْتَلَفُوا هَل الثَّلَاث غير الأول أَو بعد مِنْهَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِالْبِرِّ وَالْإِلْطَافِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ يُقَدِّمُ لَهُ مَا حَضَرَهُ وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَتُسَمَّى الْجِيزَةُ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ أَنْ يُتْحِفَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْبر على مَا بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة، وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُقَدِّمُ لَهُ مَا يَحْضُرُهُ فَإِذَا مَضَى الثَّلَاثُ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِمَّا يُقَدِّمُهُ لَهُ يَكُونُ صَدَقَةً، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِالْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ بِلَفْظِ: الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُكْرِمُهُ قَالَ: جَائِزَتُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ زَمَانُ جَائِزَتِهِ أَيْ بِرُّهُ، وَالضِّيَافَةُ يَوْمُ وَلَيْلَةٌ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَرِوَايَةُ عَبْدِالْحَمِيدِ عَلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ أَيْ قَدْرَ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ. انْتَهَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَجَائِزَتُهُ بَيَانًا لِحَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُسَافِرَ تَارَةً يُقِيمُ عِنْدَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يُزَادُ عَلَى الثَّلَاثِ بِتَفَاصِيلِهَا، وَتَارَةً لَا يُقِيمُ فَهَذَا يُعْطَى مَا يَجُوزُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَعَلَّ هَذَا أَعْدَلُ الْأَوْجُهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتَدَلَّ بِجَعْلِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ صَدَقَةً عَلَى أَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا وَاجِبٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِتَسْمِيَتِهِ صَدَقَةً التَّنْفِيرُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ خُصُوصًا الْأَغْنِيَاءَ يَأْنَفُونَ غَالِبًا مِنْ أَكْلِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَجْوِبَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبِ الضِّيَافَةَ فِي شَرْحِ حَدِيث عقبَة، وَاسْتدلَّ ابن بَطَّالٍ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: جَائِزَتُهُ، قَالَ: وَالْجَائِزَةُ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَائِزَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَطِيَّةَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ وَهِيَ مَا يُعْطَاهُ الشَّاعِرُ وَالْوَافِدُ فَقَدْ ذَكَرَ فِيِ الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهَا جَائِزَةً بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَائِزَةِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَبْلُ، قُلْتُ: وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْعَطِيَّةِ لِلشَّاعِرِ وَنَحْوِهِ جَائِزَةً فَلَيْسَ بِحَادِثٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ ﷺ لِلْعَبَّاسِ: أَلَا أُعْطِيكَ أَلَا أَمْنَحُكَ أَلَا أُجِيزُكَ فَذَكَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالهَا كَذَلِك لَيْسَ بحادث.
س:......
الشيخ: معروف نعم، ألا أمنحك ألا أجيزك إن صح؛ لأجل قوله: ألا أجيزك.
الطالب: قَوْلُهُ: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِي عِنْدَهُ، قَالَ ابن التِّينِ: هُوَ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَبِكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ، قَوْلُهُ: حَتَّى يُحْرِجَهُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مِنَ الْحَرَجِ وَهُوَ الضِّيقُ، والثواء بِالتَّخْفِيفِ وَالْمدّ: الْإِقَامَة بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: حَتَّى يُؤَثِّمَهُ أَيْ يُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ قد يغتابه لِطُولِ مَقَامِهِ أَوْ يَعْرِضُ لَهُ بِمَا يُؤْذِيهِ أَوْ يَظُنُّ بِهِ ظَنًّا سَيِّئًا، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ بِاخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِقَامَةِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ؛ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى يُحْرِجَهُ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ إِذَا ارْتَفَعَ الْحَرَجُ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِالْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَمَا يُؤَثِّمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ عِنْدَهُ لَا يَجِدُ شَيْئًا يُقَدِّمُهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَفِيهِ قِصَّةٍ لِسَلْمَانَ مَعَ ضَيْفِهِ حَيْثُ طَلَبَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا قَدَّمَ لَهُ فَرَهَنَ مَطْهَرَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِك ثمَّ قَالَ: الْحَمد لله ..، قَالَ ابن بَطَّالٍ: إِنَّمَا كُرِهَ لَهُ الْمَقَامُ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يُؤْذِيَهُ فَتَصِيرَ الصَّدَقَةُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الَّذِي فِي الثَّلَاثِ لَا يُسَمَّى صَدَقَةً فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لِئَلَّا يُؤْذِيَهُ فَيُوقِعَهُ فِي الْإِثْمِ بعد أَن كَانَ مأجورًا.
بَاب صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ
6139 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: صَدَقَ سَلْمَانُ أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ يُقَالُ: وَهْبُ الخَيْرِ.
الشيخ: وفي هذا نصيحة الضيف لمضيفه ولأخيه، وأن هذا هو الذي ينبغي للإخوة والأحبة أن يتناصحوا، وأن ينكر بعضهم على بعض ما يراه من شدة في العبادة أو تجاوزه في الأمور، ولهذا أنكر سلمان على أبي الدرداء في هذا؛ لأنه استمر في الصيام والقيام وأهمل أهله لشدة رغبته في العبادة، فقال له سلمان ما قال: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه ثم أبلغ النبي ﷺ فقال: صدق سلمان، صدق سلمان.
س: من الذي أبلغ النبي ﷺ؟
الشيخ: السياق محتمل، ولعلهما جميعًا، ظاهر السياق أنه أبو الدرداء الذي أخبره؛ لأنه قال: صدق سلمان.
أيش قال الشارح عليه؟
الطالب: (قَوْلُهُ: بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ، وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا تُرْجِمَ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ مَعَ بَقِيَّةِ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ.
قَوْلُهُ: أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبٌ السُّوَائِيُّ يَعْنِي بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ وَهْبُ الْخَيْرِ أَيْ: كَانَ يُقَالُ لَهُ: وَهْبُ الْخَيْرِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَوَقَعَ فِي التَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ حَدِيثُ سَلْمَانَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَفِيهِ قِصَّةُ سَلْمَانَ مَعَ ضَيْفِهِ حَيْثُ طَلَبَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا قَدَّمَ لَهُ فَرَهَنَ مَطْهَرَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ لَمَّا فَرَغَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَعْنَا بِمَا رَزَقَنَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: لَو قنعت مَا كَانَت مطهرتي مَرْهُونَة.
س: في رواية أن أبا الدرداء هو الذي سأل الرسول ﷺ ؟
الشيخ: ظاهر السياق أنه أبو الدرداء.
الطالب: في رواية أخرى قال له: صدق سلمان، وهو أفقه منك!
الشيخ: الله أعلم. نعم.
س: إذا رأى منكرًا عند المضيف ينصحه؟
الشيخ: ينصحه نعم. إذا رأى منكرًا عنده ينصحه، مثل ما نصح سلمان أبا الدرداء.
بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ الغَضَبِ وَالجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ
6140 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُالأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ: «دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ»، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ، فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي، وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ؟ لِمَ لاَ تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأُولَى لِلشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا.
بَاب قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: لاَ آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ
فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشيخ: وهذا مثل ما تقدم يدل على أن الذي ينبغي للضيف التسامح وألا يشدد في الأمور، وإذا كان صاحب البيت مشغولاً أو له حاجة ولم يحضر ينبغي أن يقبلوا قراهم، ويكتفوا بما عندهم من نائب صاحب المنزل كابنه أو أخيه أو خادمه أو نحو ذلك، فلا ينبغي التشديد، ولهذا لما شدّد جرى ما جرى؛ غضب أبو بكر الصديق، وغضب على ولده وحلف هذه اليمين، ثم عرف أنها من الشيطان فتركها وسمّى وأكل معهم، وأكلوا جميعًا، فالحاصل أنه مثل ما قال المؤلف ينبغي في مثل هذه الحالة عدم الغضب، وعدم الشدة مع الضيف، والتحمل على ما يقع من الضيف من تصرف، وينبغي للضيف أن يكونوا سمحين وأن يكونوا غير متشددين متى جاءهم القِرى قبلوا، سواء كان من صاحب المنزل أو من نائبه أو أخيه أو ابن عمه أو نحو ذلك؛ حتى لا يكون هناك شيء من الفتنة، فكان الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه فيه بعض الحدة إذا رأى شيئًا لا يعجبه رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا خاف منه عبدالرحمن وتغيب عنه، فالمقصود أن هذا يدل على أنه ينبغي للأضياف ألا يشددوا وأن يقبلوا قراهم ويتسامحوا في مثل هذه الأمور؛ حتى لا يحصل على أهل البيت شيء من الأذى، والله المستعان، ومثل هذه اليمين من الشيطان فيدعها ويكفر عنها ويأكل مع أضيافه تطييبًا لنفوسهم إذا شددوا.
س: الكراهة أخذها مما حصل؟
الشيخ: مما حصل نعم.
س: قوله: الأولى للشيطان؟
الشيخ: يعني يمينه التي حلفها، قال: والله لا آكل.
س: الغضب مكروه دائمًا لكن تخصيصه عند الضيف...؟
الشيخ: زيادة، يعني يتأكّد، يعني: لأن الضيف يتكدّر، الغضب بين أهل البيت يتكدّر، ولاسيما إذا كان بأسبابه.
س: كلمة يا غنثر كلمة سب؟
الشيخ: نعم كلمة سب، ما تكلم على غنثر؟
الطالب: قال: قوله غنثر: بضم الغين المعجمة والنون الساكنة وبفتح الثاء المثلثة وبالراء ومعناه الجاهل، وقيل: اللئيم، وقيل: السقيم، وروي "يا عنتر" بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق، وهو الذباب، وشبهه حين حقره بالذباب. انتهى.
الشيخ: المقصود أنها كلمة توبيخ.
بَاب قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: لاَ آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ
فِيهِ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
6141 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ، فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَتْ لَهُ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ - أَوْ عَنْ أَضْيَافِكَ - اللَّيْلَةَ، قَالَ: مَا عَشَّيْتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ - أَوْ عَلَيْهِمْ - فَأَبَوْا - أَوْ فَأَبَى - فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَبَّ وَجَدَّعَ، وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَأْتُ أَنَا، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَحَلَفَتِ المَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَوِ الأَضْيَافُ أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: «وَقُرَّةِ عَيْنِي، إِنَّهَا الآنَ لَأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَأْكُلَ، فَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا».
الشيخ: وهذه بركة من الله جل وعلا، ومن آياته سبحانه وتعالى، بيت صالح وبيت خير أفضل البيوت بعد بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن يقع للغضبان ما يقع من غيره، ولهذا أراهم الله فضل هذا البيت، وما فيه من الخير العظيم، وكانوا لا يرفعون لقمة إلا ربا مثلها أكثر منها، بركة من الله، فأكلوا وهي كما كانت ثم رفعوها ... إلى بيت النبي فأكل منها ما شاء الله.
وفي هذا الباب الحديث الذي تقدم، حديث حذيفة: (فتنة الرجل في أهله وجاره وولده تكفّرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هذه فتنته في أهله، ما يقع بين الرجل وأهله، وبين الرجل وأضيافه، هو ما يقع في البيت؛ فهذه فتنة، وما يقع فيها من سب وجدع ونحو ذلك، تكفّره الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
س: فذكر أنه أكل منها، الضمير يعود إلى من؟
الشيخ : إلى النبي ﷺ، ظاهره النبي ﷺ.
بَاب إِكْرَامِ الكَبِيرِ، وَيَبْدَأُ الأَكْبَرُ بِالكَلاَمِ وَالسُّؤَالِ
6142 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى الأَنْصَارِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَصْغَرَ القَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: كَبِّرِ الكُبْرَ - قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي: لِيَلِيَ الكَلاَمَ الأَكْبَرُ - فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَتَسْتَحِقُّونَ قَتِيلَكُمْ - أَوْ قَالَ: صَاحِبَكُمْ - بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرٌ لَمْ نَرَهُ. قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ فِي أَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمٌ كُفَّارٌ. فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ قِبَلِهِ، قَالَ سَهْلٌ: فَأَدْرَكْتُ نَاقَةً مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ، فَدَخَلَت مِرْبَدًا لَهُمْ فَرَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرٍ، عَنْ سَهْلٍ: قَالَ يَحْيَى: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مَعَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرٍ، عَنْ سَهْلٍ، وَحْدَهُ.
الشيخ: وهذه مسألة القسامة المشهورة وفيها ما بيّنه النبي ﷺ وأنه إذا وجد قتيل بين قوم يتهمون به فإن أهل القتيل لهم أن يحلفوا خمسين يمينًا على واحد معين منهم أنه قتله فيدفع إليهم، فإن لم يحلفوا أبرأت الطائفة المتهمة بخمسين يمينًا منهم، يقسم خمسون منهم على أنهم لا قتلوه ولا علموا قاتلاً ويبرأون، والنبي ﷺ لما رأى ما قال الأنصار فداه من عنده عليه الصلاة والسلام؛ إطفاءً للفتن وكراهة لإبطال دم عبدالله بن سهل.
وفيه من الدلالة ما ترجم له المؤلف أن يتقدم الأكبر في الكلام .. لأن عبدالرحمن كان هو أخوه، ولكن كان صغيرًا وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ كانا أكبر، ولهذا قال له كبر، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة ثم تكلم عبدالرحمن في الموضوع، ومحيصة وحويصة كانا ابن عم القتيل فلهذا تكلما.
س:.......
الشيخ: كأنهما أبناء عم، اللهم إلا أن يكون لهما إخوة من الأم، وإلا هم بنو عم، أيش قال الشارح على.... ما تعرض العيني ولا الحافظ؟
الطالب: قال سيأتي شرحه في كتاب القسامة.
الشيخ: نعم.
[مناقشة غير واضحة...]
الشيخ: وهذا مثل ما تقدم، ينبغي لطالب العلم المشاركة في العلم وإبداء ما لديه، وإن كان في الحلقة أو في المجلس من هو أكبر منه فلا مانع من إبداء ما عنده عند البحث وعند السؤال، ولهذا قال عمر: لئن كنت قلتها أحب إليّ من كذا وكذا، والرسول ﷺ سألهم ليختبر ما عندهم من العلم، ولفتح باب الحوار والكلام، في هذا قال: إن شجرة كمثل المؤمن لا تَحُتُّ ورقها وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ثم بين لهم أنها النخلة عليه الصلاة والسلام.
س: في القسامة الذين يقسمون يقسمون على غلبة الظن أن هذا هو القاتل ؟
الشيخ: نعم على غلبة الظن حسب القرائن والعداوة والشحناء ونحوها، شرطها أن يكون هناك غلبة ظن، غالب الظن على أن القاتل هؤلاء.
س: إذا أقسم أولياء المقتول أقسموا على أن هذا هو القاتل هل يُقاد؟
الشيخ: نعم في الحديث الصحيح: يدفع إليكم صاحبكم، وفي اللفظ الآخر: وتستحقون دم صاحبكم.
س: .....
الشيخ: هذا الظاهر أنها معروفة بهذا، وقد يكون هناك شجر لا تحت، ولكن ما هو معروف وما هو مشهور، النخلة معروفة بهذا ثم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
س: ما يحصل القصاص بدون قسامة إلا بشهود؟
الشيخ: نعم لا بدّ من شاهدين عدل اثنين، لا يقام القصاص إلا بشاهدي عدل اثنين إلا في القسامة.
بَاب مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ
وَقَوْلِهِ: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:225] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ.
6145 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً.
6146 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، سَمِعْتُ جُنْدَبًا، يَقُولُ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
الشيخ: ويقال إنه لم يقل بيتًا مستقيمًا سوى هذا البيت؛ لأنه ما كان يعرف الشعر: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] لكن هذا بيت قاله جرى على لسانه مستقيمًا:
هل أنت إلا إصبع دميت.. وفي سبيل الله ما لقيت
تكلم الشارح على البيت؟
الطالب: قَوْلُهُ: فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ، هَذَانِ قِسْمَانِ مِنْ رَجَزٍ، وَالتَّاءُ فِي آخِرِهِمَا مَكْسُورَةٌ عَلَى وَفْقِ الشِّعْرِ، وَجَزَمَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّهُمَا فِي الْحَدِيثِ بِالسُّكُونِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَعَمَّدَ إِسْكَانَهُمَا لِيُخْرِجَ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الشِّعْرِ وَهُوَ مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ ضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الشِّعْرِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَحْرِ الْمُلَقَّبِ الْكَامِلَ، وَفِي الثَّانِي زِحَافٌ جَائِزٌ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَرَوَى دَمِيتِ وَلَقِيتِ بِغَيْرِ مَدٍّ فَخَالَفَ الرِّوَايَةَ لِيَسْلَمَ مِنَ الْإِشْكَالِ فَلَمْ يُصِبْ، وَقَدِ اخْتُلِفَ هَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ مُتَمَثِّلًا أَوْ قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِإِنْشَائِهِ فَخَرَجَ مَوْزُونًا، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدهُ أَن ابن أَبِي الدُّنْيَا فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ أَوْرَدَهُمَا لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَذَكَرَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا قُتِلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ فَأُصِيبَ إِصْبَعُهُ فَارْتَجَزَ وَجَعَلَ يَقُولُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَزَادَ:
يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي | هَذِي حِيَاضُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ |
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ لَقِيتِ | إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ |
وَهَكَذَا جَزَمَ ابن التِّين بِأَنَّهُمَا من شعر ابن رَوَاحَةَ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ رَافَقَ أَبَا بَصِيرٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَثَرَ بِالْحَرَّةِ فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجه آخر مَوْصُول بِسَنَد ضَعِيف، وَقَالَ ابن هِشَامٍ فِي زِيَادَاتِ السِّيرَةِ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ لِي بِعَبَّاسِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَنَا، فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَهُمَا، وَهَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ ابن رَوَاحَةَ ضَمَّنَهُمَا شِعْرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ قِصَّةِ مُؤْتَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي أَوَائِلِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ فِي الرَّجَزِ الْمَنْسُوبِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا |
وَأَنَّهُ نُسِبَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِابْنِ رَوَاحَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازُ تَمَثُّلِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادِهِ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَتَمَثَّلُ مِنْ شِعْرِ ابن رَوَاحَةَ: وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ، وَأَخْرَجَ ابن أبي شيبَة نَحوه من حَدِيث ابن عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ: أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا، فَيَقُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَيَقُولُ ابن رَوَاحَةَ: يَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا، فَيَقُولُهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وَإِمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي التَّارِيخِ عَنْ عَائِشَةَ:
تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى تَكُنْ فَلَقَلَّمَا | يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إِلَّا تَحَقَّقَا |
قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُعْرِبْهُ لِئَلَّا يَكُونَ شِعْرًا فَهُوَ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وَهَائِهِ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ، وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ فِي الْبَابِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكِيَ الشِّعْرَ عَنْ نَاظِمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ قَوْلُهُ ﷺ:
أَنا النَّبِي لَا كذب | أَنا ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبْ |
وَأَنَّهُ دَلَّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الْكَلَامِ مِنْهُ مَنْظُومًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ شِعْرًا، وَقَدْ وَقَعَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَكِنَّ غَالِبَهَا أَشْطَارُ أَبْيَاتٍ، وَالْقَلِيلُ مِنْهَا وَقَعَ وَزْنَ بَيْتٍ تَامٍّ، فَمِنَ التَّامِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ، تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ، وَكَذَلِكَ: .. السُّجُودِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا، يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ، وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا، وَالْوَاوُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى الْوَزْنِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي النَّظْمِ وَيُسَمَّى الْخَزْمُ بِالزَّايِ بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَمَّا الْأَشْطَارُ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا فَمِنْهَا: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ، فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ، كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا، حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ.
الشيخ: يكفي، المقصود أن هذا البيت هل قاله متمثِّلًا؟ أو أنه قاله قبله؟ أو قال مبتدأ عليه الصلاة والسلام وجرى على لسانه؟ .. قال بعضهم: إنه لم يقل بيتًا سواه مستقيمًا، وهذا الذي نقل عن ابن رواحة والوليد بن الوليد وغير ذلك يدل على أنه متمثل، ويحتمل أنه جرى على لسانه من غير أن يتمثل به عليه الصلاة والسلام.
س: الآن ذكر الآيات على أنها مثل أوزان الشعر؟
الشيخ: لكن ما هي مثل الشعر، متصل بعضها ببعض، ما هي مثل الشعر.
6147 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ، وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ.
6148 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى خَيْبَرَ، فَسِرْنَا لَيْلًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ: أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا، فَنَزَلَ يَحْدُو بِالقَوْمِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا | وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا |
فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا | وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا |
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا | إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا |
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا |
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ اليَوْمَ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا هَذِهِ النِّيرَانُ، عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ فَلَمَّا تَصَافَّ القَوْمُ، كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيًّا لِيَضْرِبَهُ، وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ، فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَاحِبًا، فَقَالَ لِي: مَا لَكَ فَقُلْتُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ: مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: قَالَهُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ - وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، قَلَّ عَرَبِيٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ.
الشيخ: وهذا لأنه ما تعمد، أصابه من غير قصد؛ فإنه أراد أن يضرب اليهودي وأرخى سيفه ونزله ليسفر له فطعن ركبته من غير قصد، ولهذا ما يكون قاتلاً لنفسه، إنما القاتل من تعمد ذلك.
س: قول عامر في شعره: فاغفر فداء لك؟
الشيخ: ما في شيء، المقاتلون كلهم فداء له سبحانه وتعالى، المقاتل في سبيل الله كذلك؛ لأن المقصود أفدي .... وما شرعت له وما جاء به رسولك، فالفداء لله فداء لدينه وفداء لشرعه.
س: قوله ما اقتفينا؟
الشيخ: كأن المراد: ما اقترفنا من ذنب، ما اقتفينا: كأنه مما لا يوافق الشرع.
الشيخ: سماهن قوارير؛ لأنهن على خطر يعني عند سماع الحداء، فقد يتأثرن، ولهذا قال: رويدًا بالقوارير، يعني النساء، وقيل: المراد لأنها قد ... الإبل في السير وتشتد في السير وربما شق عليهن أيضاً، أيش قال عليه الشارح؟
الطالب: قَوْلُهُ: رُوَيْدَكَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: رُوَيْدًا، وَفِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: أَرْفِقْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ: رُوَيْدَكَ أَرْفِقْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، رَوَيْنَاهُ فِي جُزْءِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَارِثُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ حُمَيْدٍ فَقَالَ: كَذَلِكَ سَوْقُكَ، وَهِيَ بِمَعْنَى: كَفَاكَ، قَالَ عِيَاضٌ: قَوْلُهُ رُوَيْدًا مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ أَيْ سُقْ سَوْقًا رُوَيْدًا أَوِ احْدُ حَدْوًا رُوَيْدًا، أَوْ على الْمصدر أَي أورد رُوَيْدًا مِثْلَ ارْفُقْ رِفْقًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ أَيْ سِرْ رُوَيْدًا، أَوْ رُوَيْدَكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيِ الْزَمْ رِفْقَكَ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ أَرْوِدْ رُوَيْدَكَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: رُوَيْدًا مِنْ أَرْوَدَ يُرْوِدُ كَأَمْهَلَ يُمْهِلُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ مِنَ الرَّوْدِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ بِرِفْقٍ رَادَ وَارْتَادَ وَالرَّائِدُ طَالِبُ الْكَلَأِ وَرَادَتِ الْمَرْأَةُ تَرُودُ إِذَا مَشَتْ عَلَى هَيِّنَتِهَا، وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: رُوَيْدًا تَصْغِيرُ رَوْدٍ وَهُوَ مَصْدَرُ فِعْلِ الرَّائِدِ وَهُوَ الْمَبْعُوثُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي مَعْنَى الْمُهْمَلَةِ إِلَّا مُصَغَّرًا.
الشيخ: لعلها المهلة، يعني ارفق على مهلك.
الطالب: وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي مَعْنَى الْمُهْلةِ إِلَّا مُصَغَّرًا، قَالَ: وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ أَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ معنى التزويد فِي الْوَعِيدِ لَمْ يُنَوَّنْ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَوْلُهُ رُوَيْدًا أَيِ ارْفُقْ، جَاءَ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّقْلِيلُ، أَيِ ارْفُقْ قَلِيلًا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ تَصْغِيرِ الْمُرَخَّمِ وَهُوَ أَنْ يُصَغَّرَ الِاسْمُ بعد حرف الزَّوَائِدِ كَمَا قَالُوا فِي أَسْوَدَ سُوَيْدٍ فَكَذَا فِي أَرْوَدَ رُوَيْدٍ، قَوْلُهُ: سَوْقُكَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ سَيْرُكَ وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيِ ارْفُقْ فِي سَوْقِكَ أَوْ سُقْهُنَّ كَسَوْقِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: رُوَيْدًا أَيِ ارْفُقْ وَسَوْقُكَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ سَوْقًا وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِقَوْلِهِ ارْفُقْ سَوْقًا، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ سُقْ سَوْقًا، وقرأت بِخَط ابن الصَّائِغِ الْمُتَأَخِّرِ رُوَيْدَكَ إِمَّا مَصْدَرٌ وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، وَإِمَّا اسْمُ فِعْلٍ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ، وَسَوْقُكَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَدْوُكَ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَقَالَ ابن مَالِكٍ: رُوَيْدَكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَرْوِدْ أَيْ أَمْهِلْ وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ حَرْفُ خِطَابٍ.
الشيخ: بعده بالقوارير؟
الطالب: قَوْلُهُ: بِالْقَوَارِيرِ، فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ: رُوَيْدَكَ سَوْقُكَ وَلَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ، وَزَادَ حَمَّادٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ، فَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ وَلَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ، وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ وَهِيَ الزُّجَاجَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ الشَّرَابِ فِيهَا، وَقَالَ الرَّامَهُرْمُزِيُّ: كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِالْقَوَارِيرِ لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالنِّسَاءُ يُشَبَّهْنَ بِالْقَوَارِيرِ فِي الرِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ وَضَعْفِ الْبِنْيَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: سُقْهُنَّ كَسَوْقِكَ الْقَوَارِيرَ لَوْ كَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: شَبَّهَهُنَّ بِالْقَوَارِيرِ لِسُرْعَةِ انْقِلَابِهِنَّ عَنِ الرِّضَا وَقِلَّةِ دَوَامِهِنَّ عَلَى الْوَفَاءِ كَالْقَوَارِيرِ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الْكَسْرُ وَلَا تَقْبَلُ الْجَبْرَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الشُّعَرَاءُ ذَلِكَ، قَالَ بَشَّارٌ:
ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْتَ نِسْبَتَهُ | فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرِ |
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَلِمَةٍ لَو تكلم بهَا بَعْضكُم لعبتموها عَلَيْهِ، قَوْله: سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّكَلُّفِ وَمُعَارَضَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِل،ِ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ جَلِيًّا وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَارُورَةِ وَالْمَرْأَةِ، وَجه التَّشْبِيه مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِمَا ظَاهِرٌ لَكِنِ الْحَقَّ أَنَّهُ كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالسَّلَامَةِ عَنِ الْعَيْبِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ جَلَاءُ وَجْهِ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِمَا؛ بَلْ يَكْفِي الْجَلَاءُ الْحَاصِلُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَاصِلَةِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدُ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ مِثْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلَوْ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا بَلَاغَةَ لَهُ لَعِبْتُمُوهَا، قَالَ: وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَنْصِبِ أَبِي قِلَابَةَ، قُلْتُ: وَلَيْسَ مَا قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ بَعِيدًا؛ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ يَتَنَطَّعُ فِي الْعِبَارَةِ وَيَتَجَنَّبُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهَزْلِ وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الصَّحَابِيِّ لِغُلَامِهِ: ائْتِنَا بِسُفْرَةٍ نَعْبَثْ بِهَا، فَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَنْجَشَةُ أَسْوَدَ وَكَانَ فِي سَوْقِهِ عُنْفٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالْمَطَايَا، وَقِيلَ: كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْحُدَاءِ فَكَرِهَ أَنْ تَسْمَعَ النِّسَاءُ الْحُدَاءَ فَإِنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ يُحَرِّكُ مِنَ النُّفُوسِ فَشَبَّهَ ضَعْفَ عَزَائِمِهِنَّ وَسُرْعَةَ تَأْثِيرِ الصَّوْتِ فِيهِنَّ بِالْقَوَارِيرِ فِي سرعَة الْكسر إِلَيْهَا، وَجزم ابن بَطَّالٍ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: الْقَوَارِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عَلَى الْإِبِلِ الَّتِي تُسَاقُ حِينَئِذٍ فَأَمَرَ الْحَادِي بِالرِّفْقِ فِي الْحُدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَحُثُّ الْإِبِلَ حَتَّى تُسْرِعَ فَإِذَا أَسْرَعَتْ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى النِّسَاءِ السُّقُوطُ، وَإِذَا مَشَتْ رُوَيْدًا أُمِنَ عَلَى النِّسَاءِ السُّقُوطُ، قَالَ: وَهَذَا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْقَوَارِيرَ أَسْرَعُ شَيْءٍ تَكْسِيرًا فَأَفَادَتِ الْكِنَايَةُ مِنَ الْحَضِّ عَلَى الرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ فِي السَّيْرِ مَا لَمْ تُفِدْهُ الْحَقِيقَةُ لَوْ قَالَ: ارْفُقْ بِالنِّسَاءِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ اسْتِعَارَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَالْقَرِينَةُ حَالِيَّةٌ لَا مَقَالِيَّةٌ، وَلَفْظُ الْكَسْرِ تَرْشِيحٌ لَهَا، وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ بِالثَّانِي.
الشيخ: يكفي، يكفي، نعم.