بَاب السِّحْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:102]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، وَقَوْلِهِ: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]، وَقَوْلِهِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، وَقَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89]: تُعَمَّوْنَ.
5763- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أُشْعِرْتُ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؛ أَتَانِي رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُؤوسَ نَخْلِهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ.
تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ، وَأَبُو ضَمْرَةَ، وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ هِشَامٍ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، يُقَالُ: المُشَاطَةُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ، وَالمُشَاقَةُ: مِنْ مُشَاقَةِ الكَتَّانِ.
الشيخ: أيش قال الشارح على هذا؟
الطالب: قَوْلُهُ: (بَابُ السِّحْرِ) قَالَ الرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ: السِّحْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ:
أَحَدهَا: مَا لَطُفَ وَدَقَّ، وَمِنْهُ: "سَحَرْتُ الصَّبِيَّ" خَادَعْتُهُ، وَاسْتَمَلْتُهُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَمَالَ شَيْئًا فَقَدْ سَحَرَهُ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الشُّعَرَاءِ "سِحْرَ الْعُيُونِ"؛ لِاسْتِمَالَتِهَا النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ: "الطَّبِيعَةُ سَاحِرَةٌ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15] أَيْ: مَصْرُوفُونَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي بَابٍ مُفْرَدٍ.
الثَّانِي: مَا يَقَعُ بِخِدَاعٍ وَتَخْيِيلَاتٍ لَا حَقِيقَة لَهَا، نَحْو مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُ مِنْ صَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَتَعَاطَاهُ بِخِفَّةِ يَدِهِ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، وَقَوله تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف:116]، وَمِنْ هُنَاكَ سَمَّوا مُوسَى: سَاحِرًا، وَقَدْ يَسْتَعِينُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ: كَالْحَجَرِ الَّذِي يَجْذِبُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّى: الْمِغْنَطِيسُ.
الثَّالِث: مَا يَحْصُلُ بِمُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ، بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102].
الرَّابِع: مَا يَحْصُلُ بِمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ، وَاسْتِنْزَالِ رُوحَانِيَّاتِهَا بزعمهم، قَالَ ابنُ حَزْمٍ: وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ.
الشيخ: واحده: طلسمة.
الطالب: وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مِنَ الطَّلْسَمَاتِ: كَالطَّابِعِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ صُورَةُ عَقْرَبٍ فِي وَقْتِ كَوْنِ الْقَمَرِ فِي الْعَقْرَبِ، فَيَنْفَعُ إِمْسَاكُهُ مِنْ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ، وَكَالْمُشَاهَدِ بِبَعْضِ بِلَادِ الْغَرْبِ، وَهِيَ سَرْقُسْطَةُ، فَإِنَّهَا لَا يَدْخُلُهَا ثُعْبَانٌ قَطُّ إِلَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ.
وَقَدْ يَجْمَعُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ: كَالِاسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ، وَمُخَاطَبَةِ الْكَوَاكِبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى بِزَعْمِهِمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي "الْأَحْكَامِ" لَهُ: كَانَ أَهْلُ بَابِلَ قَوْمًا صَابِئِينَ، يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَيُسَمُّونَهَا: آلِهَةً، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا الْفَعَّالَةُ لِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ، وَعَمِلُوا أَوْثَانًا عَلَى أَسْمَائِهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ هَيْكَلٌ فِيهِ صَنَمُهُ يتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُهُ بِزَعْمِهِمْ مِنْ أَدْعِيَةٍ وَبَخُورٍ، وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ عُلُومُهُمْ أَحْكَامَ النُّجُومِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ السَّحَرَةُ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ سَائِرَ وُجُوهِ السِّحْرِ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى فِعْلِ الْكَوَاكِبِ؛ لِئَلَّا يُبْحَثَ عَنْهَا وَيَنْكَشِفَ تَمْوِيهُهُم. انْتَهَى.
ثُمَّ السِّحْرُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُسْحَرُ بِهَا، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ السَّاحِرِ، وَالْآلَةُ تَارَةً تَكُونُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي فَقَطْ: كَالرُّقَى، وَالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْمَحْسُوسَاتِ: كَتَصْوِيرِ الصُّورَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَسْحُورِ، وَتَارَةً بِجَمْعِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ أَبْلَغُ.
وَاخْتُلِفَ فِي السِّحْرِ: فَقِيلَ: هُوَ تخبيلٌ فَقَط، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الِاسْتِرَابَاذِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّة، وابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ، وَطَائِفَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ. انْتَهَى.
لَكِنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ: هَلْ يَقَعُ بِالسِّحْرِ انْقِلَابُ عَيْنٍ أَوْ لَا؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ، مَنَعَ ذَلِكَ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لَهُ حَقِيقَةً، اخْتَلَفُوا: هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فَقَطْ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ الْمِزَاجَ فَيَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، أَو يَنْتَهِي إِلَى الإحالة بِحَيْثُ يصير الجادّ حَيَوَانًا مَثَلًا وَعَكْسُهُ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الشيخ: يعني ...... حصل به مرضٌ، وحصل به تأثرٌ، ولهذا قال في قصة الزوجين: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، فهو أقسام: فيه التَّخييل، كما قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف:116]، وفيه الحقيقة: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وأنه يقع من تغيير في القلوب، فإنه يعمل أشياء تُقبح صورة الرجل عند زوجته، أو صورتها عند زوجها، أو المحبّ عند محبوبه، أو أشياء أخرى تحصل بها تغييرات، لكن لا يصير الحجر بها حيوانًا، ولا الحيوان حجرًا، لا، وإنما تكون أمراض وأشياء في القلوب وفي النفوس: من تكدّرات واختلاف في أنواع المرض الذي ينشأ عن هذا الشيء بأسباب الشياطين، وخدمة الشياطين، ودعوتهم من دون الله، وبأسباب ما يقع من عباداتهم من دون الله، فيحصل من هذا شرٌّ كثيرٌ، تارةً من طريق النفس، وتارةً بالطرق الأخرى، وهذا الذي عليه الجمهور.
س: .............؟
ج: هذا ما له أصل، ولا دليلَ عليه.
س: وليس له شاهدٌ من الواقع؟
ج: ولا شاهدَ، نعم.أو
الطالب: وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إِلَى الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَاقِعِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ.
وَنَقَلَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ قَوْمًا أَنْكَرُوا السِّحْرَ مُطْلَقًا، وَكَأَنَّهُ عَنَى الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ تَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَإِلَّا فَهِيَ مُكَابَرَةٌ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ، وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَنَفَى بَعْضُهُمْ حَقِيقَتَهُ، وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِوُرُودِ النَّقْلِ بِإِثْبَاتِ السِّحْرِ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ نُطْقِ السَّاحر بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ، أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ، أَوْ مَزْجٍ بَيْنَ قُوًى عَلَى تَرْتِيبٍ مَخْصُوصٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ مِنْ مَزْجِ بَعْضِ الْعَقَاقِيرِ بِبَعْضٍ حَتَّى يَنْقَلِبَ الضَّارُّ مِنْهَا بِمُفْرَدِهِ بِالتَّرْكِيبِ نَافِعًا.
وَقِيلَ: لَا يَزِيدُ تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]؛ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَهْوِيلٍ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ: أَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ بِمُعَانَاةِ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لِلسَّاحِرِ مَا يُرِيدُ، وَالْكَرَامَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا تَقَعُ غَالِبًا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَتَمْتَازُ عَنِ الْكَرَامَةِ بِالتَّحَدِّي.
وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا يَظْهَرُ إِلَّا مِنْ فَاسِقٍ، وَأَنَّ الْكَرَامَةَ لَا تَظْهَرُ عَلَى فَاسِقٍ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي زِيَادَاتِ "الرَّوْضَةِ" عَنِ الْمُتَوَلِّي نَحْوَ ذَلِكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَالِ مَنْ يَقَعُ الْخَارِقُ مِنْهُ: فَإِنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالشَّرِيعَةِ، مُتَجَنِّبًا لِلْمُوبِقَاتِ؛ فَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ سِحْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ أَحَدِ أَنْوَاعِهِ؛ كَإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: السِّحْرُ حِيَلٌ صِنَاعِيَّةٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالِاكْتِسَابِ، غَيْرَ أَنَّهَا لِدِقَّتِهَا لَا يتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا آحَادُ النَّاسِ، وَمَادَّتُهُ الْوُقُوفُ عَلَى خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ، وَالْعِلْم بِوُجُوهِ تَرْكِيبِهَا، وَأَوْقَاتِهِ، وَأَكْثَرُهَا تَخْيِيلَاتٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَإِيهَامَات بِغَيْرِ ثُبُوت، فَيَعْظُمُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَن سحرة فِرْعَوْن: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، مَعَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا حِبَالًا وَعِصِيًّا.
ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ لِبَعْضِ أَصْنَافِ السِّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الْقُلُوبِ: كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَإِلْقَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي الْأَبْدَانِ بِالْأَلَمِ وَالسَّقَمِ، وَإِنَّمَا الْمَنْكُورُ أَنَّ الْجَمَادَ يَنْقَلِبُ حَيَوَانًا أَو عَكسه بِسحر السَّاحر وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ [البقرة:102] كَذَا لِلْأَكْثَرِ.
الشيخ: حديث قصة عائشة، المتن.
الطالب: قَوْلُهُ: (سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بني زُرَيْقٍ) بزاي قبل الرَّاء مصغر.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ: لَبِيدٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ مُهْملَة، ابن الْأَعْصَمِ، بِوَزْنِ أَحْمَرَ بِمُهْمَلَتَيْنِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَام بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ.
وَوَقع فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: (رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفِ الْيَهُودِ، وَكَانَ مُنَافِقًا).
وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ نَظَرَ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا نظر إِلَى ظَاهر أمره.
وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ نِفَاقًا، وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي "الشِّفَاءِ" أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لَهُ: يَهُودِيٌّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، وَبَنُو زُرَيْقٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَشْهُورٌ، مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حِلْفٌ وَإِخَاءٌ وَوُدٌّ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ الْأَنْصَارُ فِيهِ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْوَاقِدِيُّ السَّنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السحر، أخرجه عَنهُ ابنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ جَاءَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ -وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ سَاحِرًا- فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْأَعْصَمِ، أَنْتَ أَسْحَرُنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ، فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مِن ابْتِدَاءِ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ، وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِن اسْتِحْكَامِهِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا فِي السِّحْرِ حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ فِي "جَامِعِ مَعْمَرٍ" عَنِ الزُّهْرِيِّ: "أَنَّهُ لَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ"، كَذَا قَالَ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مَوْصُولًا بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ) قَالَ الْمَازرِيُّ: أنكر بعضُ الْمُبْتَدِعَة هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَيُشَكِّكُ فِيهَا، قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدم الثِّقَة بِمَا شرعوه مِنَ الشَّرَائِعِ؛ إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ، وَأَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ!
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى عِصْمَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْمُعْجِزَاتُ شَاهِدَاتٌ بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ بَاطِلٌ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ لِأَجْلِهَا وَلَا كَانَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ أَجْلِهَا فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِمَا يَعْتَرِضُ الْبَشَرَ كَالْأَمْرَاضِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، مَعَ عِصْمَتِهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ.
قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنه وطئ زَوْجَاتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ تَخَيُّلُهُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَامِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا قد ورد صَرِيحًا فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا، وَلَفْظُهُ: "حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ"، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: "أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ".
قَالَ الدَّاوُدِيُّ: "يُرَى" بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَي: يظنّ.
وَقَالَ ابنُ التِّينِ: ضُبِطَتْ "يَرَى" بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مِنَ الرَّأْيِ، لَا مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الظَّنِّ، وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عِنْدَ عَبْدِالرَّزَّاقِ: "سُحِرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَائِشَةَ حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ"، وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ".
قَالَ عِيَاضٌ: فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ، لَا عَلَى تَمْيِيزِهِ وَمُعْتَقَدِهِ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابن سَعْدٍ: فَقَالَتْ أُخْتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ: إِنْ يكن نَبيًّا فسيُخْبَر إِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْرُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ.
قُلْتُ: فَوَقَعَ الشِّقُّ الْأَوَّلُ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَمَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك مِنْ جِنْسِ الْخَاطِرِ يَخْطِرُ وَلَا يَثْبُتُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّةٌ.
وَقَالَ عِيَاضٌ: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالتخيل الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ سَابِقِ عَادَتِهِ مِن الِاقْتِدَارِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا دَنَا مِنَ الْمَرْأَةِ فَتَرَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَعْقُودِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "حَتَّى كَادَ يُنْكِرُ بَصَرَهُ" أَيْ صَارَ كَالَّذِي أَنْكَرَ بَصَرَهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا رَأَى الشَّيْءَ يُخَيَّلُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ، فَإِذَا تَأَمَّلَهُ عَرَفَ حَقِيقَتَهُ.
وَيُؤَيِّدُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ: صَوْنُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا يَمْنَعُ إِرَادَتَهُمْ كَيدَهُ، فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَرِهِ مَا يُدْخِلُ نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ ضَرَرِ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ: مِنْ ضَعْفٍ عَنِ الْكَلَامِ، أَوْ عَجْزٍ عَنْ بَعْضِ الْفِعْلِ، أَوْ حُدُوثِ تَخَيُّلٍ لَا يَسْتَمِرُّ، بَلْ يَزُولُ، وَيُبْطِلُ اللَّهُ كَيْدَ الشَّيَاطِينِ.
وَاسْتَدَلَّ ابن الْقَصَّارِ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جنس الْمَرَض بقوله فِي آخر الحَدِيث: أما أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ. وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي "الدَّلَائِلِ": "فَكَانَ يَدُورُ وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعُهُ"، وَفِي حَدِيث ابن عَبَّاس عِنْد ابن سَعْدٍ: مَرِضَ النَّبِيُّ ﷺ وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ .. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ –أَوْ: ذَاتَ لَيْلَةٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَأَظُنُّهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، فَقَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يَشُكَّ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ أَخْرَجَهُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، فَيُحْمَلُ الْجَزْمُ الْمَاضِي عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى -شَيْخَ الْبُخَارِيِّ- حَدَّثَهُ بِهِ تَارَةً بِالْجَزْمِ، وَتَارَةً بِالشَّكِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَأَذْكُرُهُ مِن الِاخْتِلَافِ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ نَوَادِرِ مَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ؛ أَنْ يَخْرُجَ الْحَدِيثُ تَامًّا بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ بِلَفْظَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: ذَاتَ يَوْمٍ بِغَيْرِ شَكٍّ.
وَذَاتَ بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا مُقْحَمَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْي مَنْ يُجِيزُهُ.
قَوْلُهُ: "وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا"، كَذَا وَقَعَ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي "بَدْءِ الْخَلْقِ": "حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا"، وَكَذَا عَلَّقَهُ الْمُصَنِّفُ لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ فِي "الدَّعَوَاتِ"، وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنْ قَوْلِهَا: "عِنْدِي" أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا بِي، بَلِ اشْتَغَلَ بِالدُّعَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّخَيُّلِ؛ أَيْ: كَانَ السِّحْرُ أَضَرَّهُ فِي بَدَنِهِ، لَا فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، بِحَيْثُ إنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ وَدَعَا عَلَى الْوَضْعِ الصَّحِيحِ وَالْقَانُونِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "فَدَعَا، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا"، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ عِنْدَ أَحْمد وابن سَعْدٍ: "فَرَأَيْتُهُ يَدْعُو".
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاء عِنْد حُصُول الْأُمُور المكروهات، وتكريره والالتجاء إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي دَفْعِ ذَلِكَ.
الشيخ: وهذه سنته ﷺ: التجأ إلى الدعاء، والإلحاح فيه، والإكثار منه، وتكراره عليه الصلاة والسلام، وهكذا ينبغي لأتباعه، يفزعون إلى الدعاء، والجدّ في ذلك، والتكرار، والضَّراعة إلى الله، والصدق، والإخلاص، مع تعاطي الأسباب الأخرى.
الطالب: قُلْتُ: سَلَكَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَسْلَكَيِ التَّفْوِيضِ وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَوَّضَ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ، فَاحْتَسَبَ الْأَجْرَ فِي صَبْرِهِ عَلَى بَلَائِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَمَادَى ذَلِكَ وَخَشِيَ مِنْ تَمَادِيهِ أَنْ يُضْعِفَهُ عَنْ فُنُونِ عِبَادَتِهِ جَنَحَ إِلَى التَّدَاوِي، ثُمَّ إِلَى الدُّعَاءِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَقَامَيْنِ غَايَةٌ فِي الْكَمَالِ.
قَوْلُهُ: أُشْعِرْتُ أَيْ: عَلِمْتُ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابن عُيَيْنَةَ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَيْ: أَجَابَنِي فِيمَا دَعَوْتُهُ، فَأَطْلَقَ عَلَى الدُّعَاءِ: اسْتِفْتَاءً؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ طَالِبٌ، وَالْمُجِيبَ مُفْتٍ، أَوِ الْمَعْنَى: أَجَابَنِي بِمَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ كَانَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُوَ فِيهِ؛ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنِي بِمَرَضِي أَيْ أَخْبَرَنِي.
قَوْلُهُ: أَتَانِي رَجُلَانِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: "قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: أَتَانِي رَجُلَانِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَمُرْجَأ بْنِ رَجَاءٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ –كِلَاهُمَا- عَن هِشَام: أَتَانِي ملكان، وسمَّاهما ابن سَعْدٍ فِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعَةٍ: "جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ"، وَكُنْتُ ذَكَرْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ ذَلِكَ احْتِمَالًا.
قَوْلُهُ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي لَمْ يَقَعْ لِي أَيُّهُمَا قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، لَكِنَّنِي أَظُنُّهُ جِبْرِيلَ؛ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ وَجَدْتُ فِي "السِّيرَةِ" لِلدِّمْيَاطِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَفْضَلُ.
ثُمَّ وَجَدْتُ فِي حَدِيثِ زيد بن أَرقم عِنْد النَّسَائِيِّ وابن سَعْدٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا.
فَدَلَّ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ عَلَى أَنَّ الْمَسْؤُولَ هُوَ جِبْرِيلُ، وَالسَّائِلُ مِيكَائِيلُ.
قَوْله: فَقَالَ أَحدُهمَا لصَاحبه فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ بَعْدَ بَابٍ: فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي، وَكَأَنَّهَا أَصْوَبُ، وَكَذَا هُوَ فِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَوَقَعَ بِالشَّكِّ فِي رِوَايَةِ ابن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ كَذَا للْأَكْثَر، وَفِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَة: مَا بَال الرجل؟ وَفِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: مَا تَرَى؟ وَفِيهِ إشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَامِ، إِذْ لَوْ جَاءَا إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ لَخَاطَبَاهُ وَسَأَلَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِصِفَةِ النَّائِمِ وَهُوَ يَقْظَانُ، فَتَخَاطَبَا وَهُوَ يَسْمَعُ، وَأَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: "فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ ذَاتَ يَوْمٍ"، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
وَوَقع فِي حَدِيث ابن عَبَّاس عِنْد ابن سَعْدٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا: فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ وَهُوَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ: مَطْبُوبٌ أَيْ: مَسْحُورٌ، يُقَالُ: "طُبَّ الرَّجُلُ" بِالضَّمِّ، إِذَا سُحِرَ، يُقَالُ: كَنَّوا عَنِ السِّحْرِ بِالطِّبِّ تَفَاؤُلًا، كَمَا قَالُوا للديغ: سليم.
وَقَالَ ابن الْأَنْبَارِيِّ: الطِّبُّ مِنَ الْأَضْدَادِ؛ يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ: طِبٌّ، وَالسِّحْرُ مِنَ الدَّاءِ وَيُقَالُ لَهُ: طِبٌّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبَّ. قَالَ أَبُو عبيدٍ: يَعْنِي سحر.
قَالَ ابن الْقَيِّمِ: بَنَى النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ مَرِضَ، وَأَنَّهُ عَنْ مَادَّةٍ مَالَتْ إِلَى الدِّمَاغِ، وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهُ، فَغَيَّرَتْ مِزَاجَهُ، فَرَأَى اسْتِعْمَالَ الْحِجَامَةِ لِذَلِكَ مُنَاسِبًا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُحِرَ عَدَلَ إِلَى الْعِلَاجِ الْمُنَاسِبِ لَهُ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُهُ.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَادَّةَ السِّحْرِ انْتَهَتْ إِلَى إِحْدَى قُوَى الرَّأْسِ حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ السِّحْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مِن انْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ -وَهُوَ أَشَدُّ السِّحْرِ- وَاسْتِعْمَالُ الْحَجْمِ لِهَذَا الثَّانِي نَافِعٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا هَيَّجَ الْأَخْلَاطَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي عُضْوٍ كَانَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ نَافِعًا فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا قِيلَ لِلسِّحْرِ: طِبٌّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الطِّبِّ الْحِذْقُ بِالشَّيْءِ، وَالتَّفَطُّنُ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ من عِلَاجِ الْمَرَضِ وَالسِّحْرِ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَنْ فِطْنَةٍ وَحِذْقٍ أُطْلِقَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا الِاسْمُ.
قَوْلُهُ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، أَمَّا الْمُشْطُ: فَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَبِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُضَمُّ ثَانِيهِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ فَقَطْ، وَهُوَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُسَرَّحُ بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُطْلَقُ الْمُشْطُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى، مِنْهَا الْعَظْمُ الْعَرِيضُ فِي الْكَتِفِ، وَسَلَامَيَاتُ ظَهْرِ الْقَدَمِ، وَنَبْتٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ: مُشْطُ الذَّنَبِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سُحِرَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَحَدَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ.
قُلْتُ: وَفَاتَهُ آلَةٌ لَهَا أَسْنَانٌ، وَفِيهَا هِرَاوَةٌ يُقْبَضُ عَلَيْهَا، وَيُغَطَّى بِهَا الإناة، قَالَ ابن سِيدَهْ فِي "الْمُحْكَمِ": إِنَّهَا تُسَمَّى الْمُشْطُ، وَالْمُشْطُ أَيْضًا: سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ الْبَعِيرِ تَكُونُ فِي الْعَيْنِ وَالْفَخِذِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالْمُشْطِ هُنَا هُوَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "فَإِذَا فِيهَا مُشْطُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمِنْ مُرَاطَةِ رَأْسِهِ"، وَفِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ: "مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَمِنْ أَسْنَانِ مُشْطِهِ"، وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: "فَعَمَدَ إِلَى مُشْطٍ"، وَمَا مُشِطَ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ شَعْرٍ فَعَقَدَ بِذَلِكَ عُقَدًا.
قَوْلُهُ: وَمُشَاطَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُ الِاخْتِلَافِ: هَلْ هِيَ بِالطَّاءِ أَوِ الْقَافِ؟ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ حَيْثُ بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: وَجُفَّ طَلْع نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْجُرْجَانِيِّ -يَعْنِي فِي الْبُخَارِيِّ- وَالْعُذْرِيِّ، يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ بِالْفَاءِ، وَلِغَيْرِهِمَا بِالْمُوَحَّدَةِ.
قُلْتُ: أَمَّا رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ هُنَا فَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ، وَلِغَيْرِهِ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَأَمَّا رِوَايَتُهُ فِي "بَدْءِ الْخَلْقِ" فَالْجَمِيعُ بِالْفَاءِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابن عُيَيْنَة للْجَمِيع، وللمُستملي فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْفَاءِ، وَلِلْجَمِيعِ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي "الدَّعَوَاتِ" بِالْفَاءِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رِوَايَتُنَا -يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ- بِالْفَاءِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْبَاءِ -يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ- وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الطَّلْعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالذَّكَرِ فِي قَوْلِهِ: طَلْعَةُ ذَكَرٍ، وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ. انْتَهَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا هُنَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، عَلَى أَنَّ لَفْظَ "ذَكَرَ" صِفَةٌ لِجُفٍّ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي بِالْفَاءِ هُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ، وَهُوَ لِلْغِشَاءِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ، وَبِالْمُوَحَّدَةِ دَاخِلَ الطَّلْعَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الْكُفْرِيُّ، قَالَهُ شَمِرٌ. قَالَ: وَيُقَالُ أَيْضًا لِدَاخِلِ الرَّكِيَّةِ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا: جُفٌّ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَطْعِ، يَعْنِي: مَا قُطِعَ مِنْ قُشُورِهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: الْجُفُّ بِالْفَاءِ شَيْءٌ يُنْقَرُ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ.
قَوْلُهُ: قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ فِي بِئْر ذروان زَاد ابنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: تَحْتَ رَاعُوفَةٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا بَعْدَ بَابٍ، وَذَرْوَانُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَحَكَى ابنُ التِّينِ فَتْحهَا، وَأَنَّهُ قَرَأَهُ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ بِالسُّكُونِ أشبه، وَفِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ مِثْلُهُ، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ لَكِنْ بِغَيْرِ لَفْظِ "بِئْرٍ"، وَلِغَيْرِهِ: "فِي ذَرْوَانَ".
وَذَرْوَانُ: بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بِئْرُ ذَرْوَانَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ: "بِئْرُ ذِي أَرْوَانَ"، ثُمَّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ، فَصَارَتْ "ذَرْوَانُ"، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْبَكْرِيَّ صَوَّبَ أَنَّ اسْمَ الْبِئْرِ "أَرْوَانُ" بِالْهَمْزِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: "ذَرْوَانَ" أَخْطَأَ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ عَلَى مَا وَجَّهْتُهُ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَن وهيب، وَكَذَا فِي رِوَايَته عَن ابن نُمَيْرٍ: "بِئْرُ أَرْوَانَ"، كَمَا قَالَ الْبَكْرِيُّ، فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَصِيلِيِّ كَانَتْ مِثْلَهَا، فَسَقَطَتْ مِنْهَا الرَّاءُ.
وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ: "فِي بِئْرِ ذِي أَوَانَ" بِغَيْرِ رَاءٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ مَسْجِدُ الضِّرَارِ.
قَوْلُهُ: "فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ" وَقَعَ فِي حَدِيث ابن عَبَّاس عِنْد ابن سَعْدٍ: فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا الْبِئْرَ، وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: فَدَعَا جُبَيْرَ بْنَ إِيَاسٍ الزُّرَقِيَّ -وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا- فدلَّه عَلَى مَوْضِعِهِ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَاسْتَخْرَجَهُ.
قَالَ: وَيُقَالُ: الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ قَيْسُ بْنُ مُحْصَنٍ الزُّرَقِيُّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَعَانَ جُبَيْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَبَاشَرَهُ بِنَفسِهِ، فنسب إِلَيْهِ.
وَعند ابن سَعْدٍ أَيْضًا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا يَهُورُ الْبِئْرُ؟".
فَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ مَنْ أُبْهِمَ بِهَؤُلَاءِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَجَّهَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ فَشَاهَدَهَا بِنَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَلَفْظُهُ: "فَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْبِئْرِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ". وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "فَنَزَلَ رَجُلٌ فَاسْتَخْرَجَهُ"، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الطَّلْعَةِ تِمْثَالًا مِنْ شَمْعٍ -تِمْثَالُ رَسُول اللَّهِ ﷺ- وَإِذَا فِيهِ إِبَرٌ مَغْرُوزَةٌ، وَإِذَا وُتِرَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَكُلَّمَا نَزَعَ إِبْرَةً وَجَدَ لَهَا أَلَمًا، ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَهَا رَاحَةً.
وَفِي حَدِيث ابن عَبَّاسٍ نَحْوُهُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ: "فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ"، وَفِيهِ: "فَأَمَرَهُ أَنْ يَحِلَّ الْعُقَدَ وَيَقْرَأَ آيَةً، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحِلُّ حَتَّى قَامَ كَأَنَّمَا نشط من عقالٍ".
وَعند ابن سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ مُعْضِلًا: "فَاسْتَخْرَجَ السِّحْرَ مِنَ الْجُفِّ مِنْ تَحْتِ الْبِئْرِ، ثُمَّ نَزَعَهُ فَحَلَّهُ، فَكشفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ".
قَوْلُهُ: كَأَنَّ مَاءَهَا فِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ: وَاللَّه لَكَأَنَّ مَاءَهَا أَيِ: الْبِئْرَ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ بِضَمِّ النُّونِ، وَتَخْفِيفِ الْقَافِ، وَالْحِنَّاءُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ بِالْمَدِّ، أَيْ أَنَّ لَوْنَ مَاءِ الْبِئْرِ لَوْنُ الْمَاءِ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الْحِنَّاءُ.
قَالَ ابنُ التِّينِ: يَعْنِي أَحْمَرَ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غُسَالَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي تُعْجَنُ فِيهِ الْحِنَّاءُ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ ابن سَعْدٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: "فَوَجَدَ الْمَاءَ وَقَدِ اخْضَرَّ"، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الدَّاوُدِيِّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ مَاء الْبِئْر قد تغيَّر: إِمَّا لردائه بِطُولِ إِقَامَتِهِ، وَإِمَّا لِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي الْبِئْرِ.
قُلْتُ: وَيَرُدُّ الْأَوَّلَ أَنَّ عِنْد ابن سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَ الْبِئْرَ الْمَذْكُورَةَ، وَكَانَ يَسْتَعْذِبُ مِنْهَا، وَحَفَرَ بِئْرًا أُخْرَى، فَأَعَانَهُ رَسُول الله ﷺ فِي حفرهَا.
قَوْله: وَكَأن رُؤُوس نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِينِ كَذَا هُنَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي "بَدْء الْخلق": "نخلها كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين"، وَفِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ وَأَكْثَر الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ: "كَأَنَّ نَخْلَهَا" بِغَيْر ذكر رُؤُوس أَولًا، والتَّشبيه إِنَّمَا وَقع على رُؤُوس النَّخْلِ، فَلِذَلِكَ أَفْصَحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَابِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي غَيْرِهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: فَإِذَا نَخْلُهَا الَّذِي يَشْرَبُ من مَائِهَا قد التوى سعفه كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ وَقَعَ تَشْبِيهُ طَلْعِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي الْقُرْآنِ بِرُؤوسِ الشَّيَاطِينِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ طَلْعَهَا فِي قُبْحِهِ بِرُؤوسِ الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْقُبْحِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ مَنْ قَالَ: "فُلَانٌ شَيْطَانٌ" أَرَادَ أَنَّهُ خَبِيثٌ، أَوْ قَبِيحٌ، وَإِذَا قَبَّحُوا مُذَكَّرًا قَالُوا: "شَيْطَانٌ"، أَوْ مُؤَنَّثًا قَالُوا: "غُولٌ".
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ: شَيْطَانًا، وَهُوَ ثُعْبَانٌ قَبِيحُ الْوَجْه.
وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد نَبَاتًا قَبِيحًا قِيلَ: إِنَّهُ يُوجَدُ بِالْيَمَنِ.
قَوْلُهُ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا اسْتَخْرَجْتُهُ" فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَة: فَقَالَ: لَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَهُ، وَأَنَّ سُؤَالَ عَائِشَةَ إِنَّمَا وَقَعَ عَنِ النُّشْرَةِ، فَأَجَابَهَا بِلَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سُوءًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَنْ أُثَوِّرَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ التَّعْمِيمُ فِي الْمَوْجُودِينَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: خَشِيَ مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإِشَاعَتِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَذَكُّرِ السِّحْرِ وَتَعَلُّمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَصْلَحَةِ خَوْفَ الْمَفْسَدَةِ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ: عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ قَابِلٌ أَيْضًا لِلتَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تُطْلَقُ عَلَى أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأُمَّةِ الدَّعْوَة، وعَلى مَا هُوَ أَعَمُّ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ لَا يُثِيرَ عَلَيْهِ شَرًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ الْإِغْضَاءَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا صَدَرَ.
وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ: وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا، نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: مَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَشَدُّ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ: "فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَاعْتَرَفَ، فَعَفَا عَنْهُ".
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "فَمَا ذكر رَسُول اللَّهِ ﷺ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَ بِهِ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ".
وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: "فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُبُّ الدَّنَانِيرِ"، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ قَوْلُ ابن شِهَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يقْتله، وَأخرج ابنُ سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَنُقِلَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَتَلَهُ. وَمِنْ ثَمَّ حَكَى عِيَاضٌ فِي "الشِّفَاءِ" قَوْلَيْنِ: هَلْ قُتِلَ أَمْ لَمْ يُقْتَلْ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا حُجَّةَ عَلَى مَالِكٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ قَتْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُثِيرَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِتْنَةً، أَوْ لِئَلَّا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا رَاعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ مَنْعِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، حَيْثُ قَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
قَوْلُهُ: "فَأَمَرَ بِهَا" أَيْ بِالْبِئْرِ "فَدُفِنَتْ"، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ هِشَامٍ، وَأَوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَقِبَ رِوَايَةِ ابن نُمَيْرٍ، وَقَالَ: لَمْ يَقُلْ أَبُو أُسَامَةَ فِي رِوَايَتِهِ: "فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ".
قُلْتُ: وَكَأَنَّ شَيْخَهُ لَمْ يَذْكُرْهَا حِينَ حَدَّثَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، كَمَا فِي الْبَابِ بَعْدَهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي مُرْسَلِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَهَا.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ) هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو ضَمْرَةَ) هُوَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، وَسَتَأْتِي رِوَايَتُهُ مَوْصُولَةً فِي كتاب "الدَّعْوَات".
قَوْله: (وابن أَبِي الزِّنَادِ) هُوَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَلَمْ أَعْرِفْ مَنْ وَصَلَهَا بعد.
قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث وابن عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ: وَمُشَاقَةٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِلَّا لَاتَّحَدَتِ الرِّوَايَاتُ، وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي "بَدْء الْخلق"، وَرِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ تَأْتِي مَوْصُولَةً بَعْدَ بَابٍ.
وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي "الْأَطْرَافِ" تَبَعًا لِخَلَفٍ: أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ فِي الطِّبِّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مُحَمَّد –كِلَاهُمَا- عَن ابن عُيَيْنَةَ، وَطَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ مَا هِيَ فِي الطِّبِّ فِي شَيْءٍ مِنَ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْمُسْتَخْرَجِ" مِنْ طَرِيق الْحُمَيْدِيِّ، وَقَالَ بَعْدَهُ: "أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ"، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَبُو مَسْعُودٍ فِي أَطْرَافِهِ الْحُمَيْدِيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَيُقَالُ: الْمُشَاطَةُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ) هَذَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ قَالَ ابنُ قُتَيْبَةَ: الْمُشَاطَةُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي سَقَطَ مِنَ الرَّأْسِ إِذَا سُرِّحَ بِالْمُشْطِ، وَكَذَا مِنَ اللِّحْيَةِ.
قَوْلُهُ: (وَالْمُشَاطَةُ مِنْ مُشَاطَةِ الْكَتَّانِ) كَذَا لأبي ذَرٍّ، كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الشَّعْرِ إِذَا مُشِطَ، وَبَيْنَ الْكَتَّانِ إِذَا سُرِّحَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: "وَالْمُشَاقَةُ"، وَهُوَ أَشْبَه، وَقِيلَ: الْمُشَاقَةُ هِيَ الْمُشَاطَةُ بِعَيْنِهَا، وَالْقَافُ تُبْدَلُ مِنَ الطَّاءِ؛ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ. وَاللَّهُ أعلم.
الشيخ: هذا بحثٌ عظيمٌ، ولهذا قرأناه؛ لأنَّ بعض المتأخرين ابتلوا بالتأثر بأقوال الملاحدة، وزعموا أن خبر السحر منكر، وعرفتم مما تقدم أنَّ الصواب أنه صحيح، وأن الرسول ﷺ لم يتأثر بذلك إلا بأشياء يسيرة فيما يتعلق بينه وبين أهل بيته، وأما ما يتعلق بالبلاغ والبيان فالله قد عصمه وعافاه من ذلك، ولم يقع شيءٌ يؤثر على البلاغ والبيان.
وفي هذا من الفوائد: أنه يقع للرسل مثل هذه الأشياء من باب الابتلاء والامتحان، لكنه لا يضرُّهم من جهة الرسالة.
وفيه من الفوائد: أنَّ مثل هذا إذا وُجد أنه يُقرأ عليه ويُتلف حتى يبطل السحر الذي فعله صاحبُ الجريمة، ولهذا استُخرج كما في الرواية الأخرى وأُزيل وحُلَّت العقد ودُفنت في البئر؛ حتى يموت خبرها.
س: ...............؟
ج: هذا يُروى عن الحسن البصري، والصواب أنه لا يحلّ السحر السحر، كما قال النبيُّ ﷺ ..... إنها من عمل الشيطان.
س: ...............؟
ج: التَّداوي بغير السحر نعم.
س: ...............؟
ج: الذي يظهر أنه لا بدّ من إتلافه؛ حتى يبطل، إتلافه إذا كان هناك معقود يبطل، إذا كان شيء ملصوق بعضه ببعض يبطل، ثم يتلف، أو يُحرق؛ لئلا يبقى له أثر.
س: ..............؟
ج: المعروف عن النبي ﷺ أنه تركه ولم يقتله، ولعلَّ هذا من باب التأليف والدَّعوة إلى الله ؛ ولأنه يهودي مشهور، وأما إذا فعله المسلم يُقتل، فإنَّ السحر ردَّة عن الإسلام، لا يقع إلا باستعانة الشياطين، فالساحر يُقتل كما فعل عمر.
س: ............؟
ج: الله أعلم، لكن المؤلف مال إلى ستة أشهر، وقيل: أربعين يومًا.
بَاب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنَ المُوبِقَاتِ
5764- حَدَّثَنِي عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: اجْتَنِبُوا المُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ.
الشيخ: اختصره المؤلفُ هنا، وذكره في مواضع كاملًا: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، نسأل الله العافية.
بَاب هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرَ؟
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أَوْ: يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: "لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ».
5765- حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلا يَأْتِيهِنَّ".
قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا.
فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؛ أَتَانِي رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ -رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا- قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ البِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: هَذِهِ البِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ، قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلا –أَيْ: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا.
الطالب: فَبَيَّنَ الَّذِي فَسَّرَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: "أَفَلَا؟" كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرِ اللَّفْظَة فَذكره بِالْمَعْنَى، وَظَاهر هَذه اللَّفْظَة أَنَّهُ مِنَ النُّشْرَةِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لَوْ أَنَّكَ" تَعْنِي: تُنَشَّرُ، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ؛ حَيْثُ ذَكَرَ النُّشْرَةَ فِي التَّرْجَمَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّشْرِ، بِمَعْنَى: الْإِخْرَاجِ، فَيُوَافِقُ رِوَايَة من رَوَاهُ بِلَفْظ: "فَهَلا أخرجته؟"، وَيكون لَفْظ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: "هَلَّا اسْتَخْرَجْتَ"، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَخْرَجِ مَا حَوَاهُ الْجُفُّ، لَا الْجُفُّ نَفْسُهُ، فَيَتَأَيَّدُ الْجَمْعُ الْمُقَدَّمُ ذكره.
تَكْمِيل: قَالَ ابن الْقَيِّمِ: مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ وَأَقْوَى مَا يُوجَدُ مِنَ النُّشْرَةِ مُقَاوَمَةُ السِّحْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ: مِنَ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقِرَاءَةِ، فَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ، مَعْمُورًا بِذِكْرِهِ، وَلَهُ وِرْدٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَجُّهِ؛ لَا يُخِلُّ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ لَهُ.
قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي الْقُلُوبِ الضَّعِيفَةِ، وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثِّرُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجُهَّالِ؛ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ، وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ، وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ ﷺ لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِك، وَالله أعلم.
س: قوله: وأكره أن أُثير على أحدٍ شرًّا؟
ج: ما تعرَّض لها الشارح، وكأنَّ المقام فيه شيء من الحذف، وأن مُراده أن يفعل شيئًا يعلمه الناس، يعني: يصنع شيئًا بلبيد ومَن ساعد لبيدًا، وأحبّ أن يموت الأمر وينتهي؛ لما حصل له إخراج السحر والقضاء عليه.
الطالب: تعرَّض له قبل ذلك.
الشيخ: عندك؟
الطالب: قَوْلُهُ: «فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا» فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: «سُوءًا»، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَنْ أُثَوِّرَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ التَّعْمِيمُ فِي الْمَوْجُودِينَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: خَشِيَ مِنْ إِخْرَاجِهِ وَإِشَاعَتِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ: مِنْ تَذَكُّرِ السِّحْرِ، وَتَعَلُّمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمَصْلَحَةِ خَوْفَ الْمَفْسَدَةِ.
وَوَقع فِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ: عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ قَابِلٌ أَيْضًا لِلتَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ تُطْلَقُ عَلَى أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأُمَّةِ الدَّعْوَة، وعَلى مَا هُوَ أَعَمُّ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، فَأَرَادَ ﷺ أَنْ لَا يُثِيرَ عَلَيْهِ شَرًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ الْإِغْضَاءَ عَمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا صَدَرَ.
وَقَدْ وَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ: وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا.
نَعَمْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: مَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَشَدُّ.
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ: فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَاعْتَرَفَ، فَعَفَا عَنْهُ.
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: فَمَا ذكر رَسُول اللَّهِ ﷺ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَ بِهِ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ.
وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُبُّ الدَّنَانِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ قَوْلُ ابن شِهَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يقْتله.
الشيخ: والظاهر ..... مطابق للواقع؛ لأنَّ في القصة: أخرجه وقضي عليه، لكن ..... الشر غير مسألة قتله، وقتله شيء، والتنشر شيء ثانٍ.
بَاب السِّحْرِ
5766- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي، دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أُشْعِرْتُ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جَاءَنِي رَجُلانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ، مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ.
الشيخ: الجفّ الذي يُسميه الناسُ: الكافور، كافور الطلعة: الغشاء الذي يكون فيه الطلع، ويُقال له: كفّار أيضًا.
الشيخ: هذا أصرح، قال: أخرجت غير تنشرت، وكأنها أرادت بالتنشر إخراجه، يعني: لأن النشر حلّ السحر من المسحور، فإخراجه حلّ للسحر، فلهذا قال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وكرهتُ أن أُثير على الناس شرًّا؛ لأنَّ في إخراجه إشاعة، واضح فيه هذا المعنى.
بَاب إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا
5767- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ: إِنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ.
بَاب الدَّوَاءِ بِالعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ
5768- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ، أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَات عَجْوَة لَمْ يَضُرَّهُ سمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْم إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَ تَمَرَاتٍ.
5769- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَات عَجْوَة لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْم سمٌّ وَلا سِحْرٌ.
الشيخ: وفي إحدى روايات مسلم: مَن تصبَّح بسبع تمرات مما بين لابتيها، فهذا يدل على عموم تمر المدينة، وأنه يعمّ العجوة وغيرها.
س: .............؟
ج: يُرجى، لكن ظاهر النص أنه خاصٌّ بالمدينة، ولكن بالنظر إلى قرب المادة لما بين التمر ..... متقارب، كما في بعض الروايات: من تمر، يُرجى أنه إذا تصبَّح بتمرٍ آخر يُرجى أنه يكون ذلك يحصل به المقصود، لكن ما كان من المدينة يكون أكمل ومُتيقنًا.
انظر الشرح؟
الطالب: الباب الأخير؟
الشيخ: لا، أول ما قرأت.
الطالب: قَوْلُهُ: (بَابُ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ) أَيِ الْمُهْلِكَاتِ.
[5764] قَوْلُهُ: اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرَ، هَكَذَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَحَذَفَ لَفْظَ الْعَدَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا بِلَفْظِ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَيَجُوزُ نَصْبُ "الشِّرْكِ" بَدَلًا مِنَ "السَّبْعِ"، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ، وَالنُّكْتَةُ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى اثْنَتَيْنِ مِنَ السَّبْعِ هُنَا الرَّمْزُ إِلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ السِّحْرِ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ جُمْلَةُ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: ذِكْرُ الْمُوبِقَاتِ، وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَفَسَّرَهَا بِاثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فَاقْتَصَرَ عَلَى اثْنَتَيْنِ فَقَطْ.
وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْحَدِيثُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ سَبْعَةٌ، حَذَفَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا خَمْسَةً، وَلَيْسَ شَأْن الْآيَة كَذَلِك.
وَقَالَ ابنُ مَالِكٍ: تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حَذْفَ الْمَعْطُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرَ وَأَخَوَاتِهِمَا، وَجَازَ الْحَذْفُ لِأَنَّ الْمُوبِقَاتِ سَبْعٌ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَاقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثِنْتَيْنِ مِنْهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِالِاجْتِنَابِ، وَيَجُوزُ رَفْعُ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ عَلَى تَقْدِيرِ: مِنْهُنَّ.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ هَكَذَا تَارَةً، وَتَارَةً وَرَدَ بِتَمَامِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الَّذِي اخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيُّ نَفْسُهُ كَعَادَتِهِ فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ "الْوَصَايَا" فِي بَاب قَوْلِ اللَّهِ : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء:10]، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ -شَيْخِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ- بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَسَاقَهَا سَبْعًا، فَذَكَرَ بَعْدَ السِّحْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ .. إِلَخْ، وَأَعَادَهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ "الْمُحَارَبِينَ" بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ بِتَمَامِهِ، وَأَغْفَلَ الْمِزِّيُّ فِي "الْأَطْرَافِ" ذِكْرَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي تَرْجَمَةِ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أبي هُرَيْرَة.
الشيخ: وكان ينبغي للمؤلف أن يكمل -نعوذ بالله من العجز والكسل- كان ينبغي أن يُكملها: قتل النفس، وهكذا الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، لكن مِن عادته محبَّة الإحالة، وألا يُكرر، ولو ساق اللفظَ هنا لكان أجمل وأحسن وأنفع، ولا يضره شيء، والله المستعان. الذي بعده؟
الطالب: قَوْلُهُ: (بَابُ هَلْ يُسْتَخْرَجُ السِّحْرُ؟) كَذَا أَوْرَدَ التَّرْجَمَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ إِشَارَةً إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَصَدَّرَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مِنَ الْجَوَازِ إِشَارَةً إِلَى تَرْجِيحِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ .. إِلَخْ) وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ فِي كِتَابِ "السُّنَنِ" مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ الْعَطَّارِ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمِثْلُهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بِلَفْظِ: "يَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ"، فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ، وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ.
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي "التَّهْذِيبِ" مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا إِذَا كَانَ بِالرَّجُلِ سِحْرٌ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَنْ يُطْلِقُ عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ صَلَاحٌ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا سَاحِرٌ. قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ، وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ" عَنِ الْحَسَنِ رَفَعَهُ: النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ ابنُ الْجَوْزِيِّ: النُّشْرَةُ حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ السِّحْرَ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يُطْلِقُ السِّحْرَ عَنِ الْمَسْحُورِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
الشيخ: وهذا الذي عن أحمد وعن ابن المسيب محمول عند أهل العلم على الحلِّ الذي ليس فيه محذور شرعًا، أما الحلّ الذي فيه محذور شرعًا فلا، ولهذا قال ابنُ المسيّب: "إنما نهى الله عمَّا يضر، لا عما ينفع"، ومعلوم أنَّ تعاطي ما حرم الله مما يضرُّ، والنبي ﷺ أطلق: النشرة من عمل الشيطان، فالمراد بالنشرة المعهودة عندهم، (أل) للعهد المعروف، يعني التي هي من عمل الشيطان بتقربه إلى الشياطين، أو استخدامه لهم حتى يُعطوه ما طلب، والساحر معلوم أنه لا يحلّ ذلك إلا بخدمة الشياطين وطاعتهم فيما يُريدون، أما حلّ السحر بالأشياء الأخرى من الأدوية والقراءة والتَّعوذات فهذا أمرٌ معلومٌ لا بأس به. نعم.
الطالب: وَيُجَابُ عَنِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا، وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ، ثُمَّ الْحَصْرُ الْمَنْقُولُ عَنِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْحَلُّ بِالرُّقَى وَالْأَدْعِيَةِ وَالتَّعْوِيذِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النُّشْرَةُ نَوْعَيْنِ.
الشيخ: وهكذا قال ابنُ القيم: النشرة نوعان، كما ذكر المؤلفُ رحمه الله، وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب "التوحيد" نقله عن ابن القيم: أن النشرة نوعان: نوع جائز، ونوع مُحرَّم، نعم.
الطالب: قَوْلُهُ: "بِهِ طِبٌّ" بِكَسْرِ الطَّاءِ، أَيْ سُحِر، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ.
قَوْلُهُ: "أَوْ يُؤَخَّذُ" بِفَتْحِ الْوَاوِ مَهْمُوزٌ، وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، أَيْ: يُحْبَسُ عَنِ امْرَأَتِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى جِمَاعِهَا، وَالْأُخْذَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُولُهُ السَّاحِرُ، وَقِيلَ: خرزة يُرْقَى عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ الرُّقْيَةُ نَفْسُهَا.
قَوْلُهُ: "أَوْ يُحَلُّ عَنْهُ" بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: "أَوْ يُنَشَّرُ" بِتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ النُّشْرَةِ بِالضَّمِّ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِلَاجِ يُعَالَجُ بِهِ مَنْ يُظَنُّ أَنَّ بِهِ سِحْرًا أَوْ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُكْشَفُ بِهَا عَنْهُ مَا خَالَطَهُ مِنَ الدَّاءِ، وَيُوَافِقُ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الرُّقْيَةِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ.
وَيُؤَيِّدُ مَشْرُوعِيَّةَ النُّشْرَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْعَيْنُ حَقٌّ فِي قِصَّةِ اغْتِسَالِ الْعَائِنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُالرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي إِذَا وُطِئَتْ لَا تَضُرُّهُ"، وَهِيَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ فِي مَوْضِعِ عِضَاهُ، فَيَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ مِنْ كُلٍّ، ثُمَّ يَدُقُّهُ وَيَقْرَأُ فِيهِ، ثُمَّ يغْتَسل بِهِ.
وَذكر ابنُ بَطَّالٍ أَنَّ فِي كُتُبِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ أَخْضَرَ، فَيَدُقُّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِالْمَاءِ، وَيَقْرَأُ فِيهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْقَوَاقلَ.
الشيخ: القواقل يعني: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس] يعني: المبدوءة بـ"قل"، وهي السور الأربع، يعني يقرأها مع آية الكرسي في الماء الذي فيه السدر، الذي فيه سبع ورقات من السدر قد دُقَّت وجُعلت في الماء، يقرأ فيه القواقل وآية الكرسي، وأضاف بعضُهم آيات السحر المعروفة في سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة طه، ويقرأ ما تيسر من: اللهم ربَّ الناس، أذهب الباس، واشفِ أنت الشافي .. إلى آخره، بسم الله أرقيك .. إلى آخره، فإن هذا مُجرَّب ونافع بإذن الله لهؤلاء المسحورين، ونافع أيضًا لمن يُحبس عن زوجته، يشرب منه ما تيسر، ويتروّش بالباقي وينحلّ بإذن الله ما أصابه.
س: تحديد المؤلف بسبع ورقات؟
ج: هذا نُقل عن كتب الأقدمين، مجرَّب، والسبع لها مزية مثلما قال النبيُّ ﷺ: أريقوا عليَّ من سبع قربٍ لم تُحل أوكيتُها، سبع تمرات في قصة عجوة المدينة مَن تصبَّح بها، السبع لها شأن.
س: ...........؟
ج: الغالب أنَّ مرةً واحدة تكفي، ولكن إذا لم يزل المحذور يُعيد، يُكرر مرتين، ثلاثًا، أكثر حتى يزول البلاء.
الطالب: ثُمَّ يَحْسُو مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ عَنْهُ كُلَّ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِجَوَازِ النُّشْرَةِ: الْمُزَنِيُّ -صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ- وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى صِفَةِ النُّشْرَةِ فِي كتاب "الطِّبِّ النَّبَوِيِّ" لِجَعْفَرٍ الْمُسْتَغْفِرِيِّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي خَطِّ نَصُوحِ بْنِ وَاصِلٍ عَلَى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ تَفْسِيرِ قُتَيْبَةَ بْنِ أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ، أُخِذَ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيَحِلُّ لَهُ أَنْ ينشر؟ قَالَ: لَا بَأْس، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ. قَالَ نَصُوحٌ: فَسَأَلَنِي حَمَّادُ بْنُ شَاكِرٍ: مَا الْحَلُّ؟ وَمَا النُّشْرَةُ؟ فَلَمْ أَعْرِفْهُمَا، فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُجَامَعَةِ أَهْلِهِ، وَأَطَاقَ مَا سِوَاهَا، فَإِنَّ الْمُبْتَلَى بِذَلِكَ يَأْخُذُ حُزْمَةَ قُضْبَانٍ وَفَأْسًا ذَا قِطَارَيْنِ، وَيَضَعُهُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْحُزْمَةِ، ثُمَّ يُؤَجِّجُ نَارًا فِي تِلْكَ الْحُزْمَةِ، حَتَّى إِذَا مَا حَمِيَ الْفَأْسُ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ النَّارِ، وَبَالَ عَلَى حَرِّهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الشيخ: هذا غريبٌ، هذا من الغرائب. أعد: فقال حمَّاد بن شاكر.
الطالب: عَنْهُ قَالَ نَصُوحٌ: فَسَأَلَنِي حَمَّادُ بْنُ شَاكِرٍ: مَا الْحَلُّ؟ وَمَا النُّشْرَةُ؟ فَلَمْ أَعْرِفْهُمَا، فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُجَامَعَةِ أَهْلِهِ، وَأَطَاقَ مَا سِوَاهَا، فَإِنَّ الْمُبْتَلَى بِذَلِكَ يَأْخُذُ حُزْمَةَ قُضْبَانٍ.
الشيخ: قضبان! هذا مجمل ما هو مُبيّن.
الطالب: وَفَأْسًا ذَا قِطَارَيْنِ، وَيَضَعُهُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْحُزْمَةِ، ثُمَّ يُؤَجِّجُ نَارًا فِي تِلْكَ الْحُزْمَةِ، حَتَّى إِذَا مَا حَمِيَ الْفَأْسُ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ النَّارِ وَبَالَ عَلَى حَرِّهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الشيخ: هذا محل نظرٍ، وقد يكون لوجود القضبان بعدما أشعل بها النار وحميت الفأس قد يكون له أثر في البخار الذي يُصيبه عند البول، ما هو ظاهر، هذا الذي ذكره وهب بن منبه أوضح، وهو مُجرَّب، ما ذكره وهب بن منبه جرَّبناه كثيرًا وينفع؛ مسألة السدر.
س: وأطاق ما سواها؟
ج: يعني: ما عنده مانع من شؤونها كلها إلا الجماع: يُقبِّلها، ويشتهيها، وينام معها، ما عنده مانع سوى الجماع.
س: لعله يستطيع أن يُجامع غيرها؟
ج: ويتحمل كذلك، قد تكون له زوجة أخرى، وما سواها يحتمل: يعود على المجامعة، ويحتمل على المرأة.
الطالب: وَأَمَّا النُّشْرَةُ: فَإِنَّهُ يَجْمَعُ أَيَّامَ الرَّبِيعِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ وَرْدِ الْمُفَارَةِ وَوَرْدِ الْبَسَاتِينِ، ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي إِنَاءٍ نَظِيفٍ، وَيَجْعَلُ فِيهِمَا مَاءً عَذْبًا، ثُمَّ يَغْلِي ذَلِكَ الْوَرْد فِي الْمَاءِ غَلْيًا يَسِيرًا، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا فَتَرَ الْمَاءُ أَفَاضَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
الشيخ: أعظم الطبِّ من باب التَّجارب، أكثر الطبِّ من باب التَّجارب.
الطالب: قَالَ حَاشِدٌ: تَعَلَّمْتُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ بِالشَّامِ.
قُلْتُ: وَحَاشِدٌ هَذَا مِنْ رُوَاةِ الصَّحِيحِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُسْتَغْفِرِيُّ أَنَّ أَثَرَ قَتَادَةَ هَذَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"، وَأَنَّهُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مَا اكْتَفَى بِعَزْوِهِ إِلَى تَفْسِيرِ قُتَيْبَةَ بْنِ أَحْمَدَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَأَغْفَلَ أَيْضًا أَثَرَ الشَّعْبِيِّ فِي صِفَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَى مَا اتَّصَلَ بِنَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سِحْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى قَرِيبًا.
وَقَوْلُهُ فِيهِ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْر) سُفْيَان هُوَ ابن عُيَيْنَةَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ سُفْيَانَ هَذَا فِي "مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ"، وَلَا ابن أَبِي عُمَرَ، وَلَا غَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: فِي جُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَاعُوفَةٍ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَهُوَ كَذَلِك لأَكْثر الروَاة، وَعكس ابنُ التِّينِ وَزَعَمَ أَنَّ "رَاعُوفَةً" لِلْأَصِيلِيِّ فَقَطْ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي لُغَةٍ أُخْرَى: "أُرْعُوفَةٌ"، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ: تَحْتَ رَعُوثَةٍ بِمُثَلَّثَةٍ بَدَلَ الْفَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ أُخْرَى مَعْرُوفَةٌ.
وَوَقَعَ فِي "النِّهَايَةِ" لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: زَعُوبَةٍ بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى رَاعُوفَةٍ. اهـ.
وَالرَّاعُوفَةُ: حَجَرٌ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ، لَا يُسْتَطَاعُ قَلْعُهُ، يَقُومُ عَلَيْهِ الْمُسْتَقِي، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ صَخْرَةٌ تُنْزَلُ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ، يَجْلِسُ عَلَيْهَا الَّذِي يُنَظِّفُ الْبِئْرَ، وَهُوَ حَجَرٌ يُوجَدُ صُلْبًا، لَا يُسْتَطَاعُ نَزْعُهُ، فَيُتْرَكُ.
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا: فَقِيلَ: لِتَقَدُّمِهَا وَبُرُوزِهَا، يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ يُرْعِفُ الْخَيْلَ، أَيْ يَتَقَدَّمُهَا. وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِي "تَهْذِيبِهِ" عَنْ شَمِرٍ قَالَ: رَاعُوفَةُ الْبِئْر: النَّظَافَة، وَهِي مِثْلُ عَيْنٍ عَلَى قَدْرِ حَجَرِ الْعَقْرَبِ فِي أَعْلَى الرَّكِيَّةِ، فَيُجَاوِزُ فِي الْحَفْرِ خَمْسَ قِيَمٍ وَأَكْثَرَ، فَرُبَّمَا وَجَدُوا مَاءً كَثِيرًا، قَالَ شَمِرٌ: فَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى النَّظَافَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ رُعَافِ الْأَنْفِ، وَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ طَيَّ الْبِئْرِ فَهُوَ مِنْ "رَعَفَ الرَّجُلُ" إِذَا سَبَقَ.
قُلْتُ: وَتَنْزِيلُ الرَّاعُوفَةِ عَلَى الْأَخِيرِ وَاضِحٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[5765] قَوْلُهُ: (فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ) إِلَى أَنْ قَالَ: (فَاسْتَخْرَجَ) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابن عُيَيْنَةَ، وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْرِجْهُ لِلنَّاسِ. وَفِي رِوَايَة ابن نُمَيْرٍ: أَفَلَا أَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذَا الْبَابِ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ذَكَرَ الْمُهَلَّبُ أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَلَفُوا عَلَى هِشَام فِي إِخْرَاج السحر الْمَذْكُور: فأثبته سُفْيَانُ، وَجَعَلَ سُؤَالَ عَائِشَةَ عَنِ النُّشْرَةِ، وَنَفَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَجَعَلَ سُؤَالَهَا عَن الِاسْتِخْرَاجِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ، وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو أُسَامَةَ.
قَالَ: وَالنَّظَرُ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ سُفْيَانَ؛ لِتَقَدُّمِهِ فِي الضَّبْط، وَيُؤَيِّدهُ أَن النُّشرة لم تقع فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ سُفْيَانَ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُهُمْ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ كَرَّرَ اسْتِخْرَاجَ السِّحْرِ فِي رِوَايَتِهِ مَرَّتَيْنِ، فَيَبْعُدُ مِنَ الْوَهْمِ، وَزَادَ ذِكْرَ النُّشْرَةِ، وَجَعَلَ جَوَابَهُ ﷺ عَنْهَا بِلَا بَدَلًا عَن الِاسْتِخْرَاجِ.
قَالَ: وَيَحْتَملُ وَجْهًا آخَرَ. فَذَكَرَ مَا مُحَصِّلُهُ أَنَّ الِاسْتِخْرَاجَ الْمَنْفِيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرُ الِاسْتِخْرَاجِ الْمُثْبَتِ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، فَالْمُثْبَتُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْجُفِّ، وَالْمَنْفِيُّ اسْتِخْرَاجُ مَا حَوَاهُ، قَالَ: وَكَأَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمهُ مَنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ السِّحْرِ.
قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ: "فَاسْتَخْرَجَ جُفَّ طَلْعَةٍ مِنْ تَحْتِ رَاعُوفَةٍ"، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "فَأَخْرَجُوهُ فَرَمَوْا بِهِ"، وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّ الَّذِي اسْتَخْرَجَ السِّحْرَ قَيْسُ بْنُ مُحَصِّنٍ، وكُلُّ هَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ، لَكِنْ فِي آخِرِ رِوَايَةِ عَمْرَةَ وَفِي حَدِيثِ ابن عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ وَجَدُوا وَتَرًا فِيهِ عُقَدٌ، وَأَنَّهَا انْحَلَّتْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِاسْتِكْشَافِ مَا كَانَ دَاخِلَ الْجُفِّ، فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَقُدِحَ فِي الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو إِسْنَاد كلٍّ مِنْهُمَا من ضعفٍ.
تَنْبِيهٌ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ مُخَالَفَةٌ فِي لَفْظَةٍ أُخْرَى؛ فَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ: "أَفَلَا أَخْرَجْتَهُ؟"، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ.
وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ: "أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟" بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحٌ، كَأَنَّهَا طَلَبَتْ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ ثُمَّ يُحَرِّقُهُ.
قُلْتُ: لَكِنْ لَمْ يَقَعَا مَعًا فِي رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ اللَّفْظَةُ مَكَانَ اللَّفْظَةِ، وَانْفَرَدَ أَبُو كُرَيْبٍ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ، فَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ رِوَايَتَهُ شَاذَّةٌ.
وَأَغْرَبَ الْقُرْطُبِيُّ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي "أَحْرَقْتُهُ" لِلَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ، قَالَ: وَاسْتَفْهَمَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنَ السِّحْرِ، فَأَجَابَهَا بِالِامْتِنَاعِ، وَنَبَّهَ عَلَى سَبَبِهِ؛ وَهُوَ خَوْفُ وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ لِأَجْلِ الْعَهْدِ، فَلَوْ قَتَلَهُ لَثَارَتْ فِتْنَةٌ.
كَذَا قَالَ، وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ تَعَيُّنِ قَتْلِهِ بِالْإِحْرَاقِ، وَإِنْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَابِتَةٌ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلَا -أَيْ تَنَشَّرْت؟) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلَّا. قَالَ سُفْيَانُ: بِمَعْنَى تَنَشَّرْت.
الشيخ: المقصود أنَّ الروايات اختلفت: هل استخرجه أو ما استخرجه؟
روى ابنُ عيينة -وهو أضبط الرواة- ذكر أنه استخرجه، وزال المحذور بذلك.
والرواية الثانية: أنه لم يُخرجه، وكره أن يقع للناس شرّ بذلك.
وجمع من جمع بين الروايتين بأنه استخرج الجفّ وما فيه، ولكنه لم يخرج ما في الجفّ، جمعًا بين الروايتين، بل أتلفه من غير أن يُخرج ما فيه، وهو محتمل، هذا الجمع محتمل.
ورواية ابن عيينة واضحة في أنه استخرجه؛ لأنه هو محل البلاء، واستخراجه مطلوب لإزالة الأذى، والظاهر -والله أعلم- أن إخراجه وإتلافه مما يبطل به أثره، على الرواية التي ذكرها ابنُ عيينة، نعم.
وهذا المقام في الحقيقة يحتاج إلى جمع الروايات، وجمع كلام الناس عليها، والمؤلف على كل حالٍ ذكر شيئًا طيبًا، ولكن لا يكفي، لو تيسر لأحدكم جمع الروايات في هذا في "مسلم" وفي "السنن" وفي غيرها، والعناية به، لكان حسنًا؛ لأنه مفيدٌ، ولأنَّ هذا الشيء واقع اليوم؛ لكثرة أهل الشر والفساد، واختلاط الناس بالسحرة، نسأل الله السلامة.
ولا أستبعد أن يكون قد ألَّف في هذا أحدٌ، لا أستبعد أن يكون قد ألَّف فيه بعضُ الناس.
بَاب لا هَامَةَ
5770- حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لا عَدْوَى، وَلا صَفَرَ، وَلا هَامَةَ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟!.
الشيخ: تقدَّم هذا، وتقدم الكلامُ في هذا، وأن النفي ليس للوجود، ولكن نفي لما يعتقده الكفَّار من أنَّ هذه الأمور تُعدي بطبعها، وأن الهامة تُؤثر، والصفر كذلك موجود، ويبطل ما هم عليه من الاعتقادات الباطلة، هم يعتقدونه في العدوى والهامة والصفر والطيرة والنّوء والغول، هذه الأمور الستة التي تقدَّمت كانوا يعتقدون فيها، فأبطل الله عقيدتهم، ولكنه موجود، الغول موجود، والطيرة موجودة، والهامة موجودة، والصفر موجود، ولكن المقصود نفي العقيدة الباطلة، وبيان أن العدوى أمر واقع، لكن ليست تعدي بطبعها، بل بأمر الله إذا شاء ذلك، فقد يُخالط الصحيحُ المريضَ والعكس ولا يقع شيء، إنما هذا شيء جعله الله سببًا، وقد لا يقع هذا السبب، وقد لا يحصل المطلوب، مثلما قال ﷺ: لا يُورد ممرضٌ على مُصحٍّ، فرَّ من المجذوم من باب اتِّقاء الأسباب، وليس هذا حتمًا، فقد أخذ النبيُّ المجذوم فأكل معه وقال: بسم الله، ثقةً بالله، وخالط من المرضى ما لا يُحصى عليه الصلاة والسلام.
فالحاصل أنَّ هذا النفي ليس لوجود هذه الأشياء، ولكن لنفي العقيدة الفاسدة، فالنوء لا يتصرف في الكون، الأنواء مخلوقة مسخرة، ليس لها تصرف، والغول كذلك -وهي مخبّلة الجن- لا تتصرف بإذنها، ولا بأمرها، بل بأمر الله ، والطيرة موجودة، كانوا يتشاءمون، والهام موجودة، وهي الطائر المعروف الذي يُقال له: البومة، كانوا يقولون: إذا وقع على بيت أحدٍ؛ خرب .. كل هذا لا أساسَ له، كذلك ما يتعلق بالصفر: الشهر، أو الداء الذي يكون في البطن، وأنه يُعدي، كل هذا غلط.
وهكذا قوله: لا عدوى، ولهذا قال النبي: مَن أعدى الأول؟! لما قال الأعرابيُّ ما قال، قال: مَن أعدى الأول؟!، الذي أنزل الجرب بالأول مَن هو؟ ما هناك خلطة، وليس هناك شيء، فالذي أنزله بالأول هو الذي أنزله بالأخير، ولكن أنت مأمور باتِّقاء الأسباب.
الشيخ: لا يُوردنَّ ممرضٌ على مُصحٍّ ما ضبطه الشارح ...؟
الطالب: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ كَذَا فِيهِ بِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ الْإِيرَادِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: لَا يُورِدُ، بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَكَذَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَابِ.
وَالْمُمْرِضُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ، هُوَ الَّذِي لَهُ إِبِلٌ مَرْضَى.
وَالْمُصِحُّ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، مَنْ لَهُ إِبِلٌ صِحَاحٌ.
الشيخ: هذا يدل على أنه للفاعل، نعم، يعني: لا يُورد صاحبُ الإبل المراض لا يُوردها على الإبل الصحاح، بل هذه لها وقت، وهذه لها وقت، لا تختلط.
وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ، قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ: لا عَدْوَى، فَرَطَنَ بِالحَبَشِيَّةِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ.
الشيخ: الظاهر أنه ما نسيه، لكن كأنه رأى أنَّ أحوال الناس ما تتحمله ..... بالعدوى ووقوع هذه الأشياء، فأخبرهم الشيء الذي يتضمن اتِّقاء أسباب الشر، والبُعد عن أسباب الشر، وهذا الذي تتحمله عقولهم، فأورد لهم الأحاديث هذه، وسكت عن ذاك؛ ليأخذوا بالأسباب، ويبتعدوا عن أسباب الخطر؛ لأن بعض الناس قد لا يعقل تلك المعاني ممن لا يُحسن الظنَّ بها، وربما شكَّ في دينه، وربما ابتُلي بشيءٍ فأراد أن يُخبرهم بالشيء الذي تتحمله عقولهم، وأراد من هذا الإصلاح فقط، والله أعلم.
الطالب: .........
الشيخ: كأنه تكلم بكلمةٍ حبشيَّةٍ معناها: لم أنس، أو كلمة معناها غير هذا المعنى: قولوا ما أقول لكم، أو ارووا عني ما أقول لكم، ودعوا سؤالي عني، محتملة، أيش قال على "فرطن بالحبشية"؟
الطالب: قَوْلُهُ: (فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَمَا رَآهُ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ حَتَّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ، حَتَّى رَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ، فَقَالَ لِلْحَارِثِ: أَتَدْرِي مَاذَا قُلْتُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِنِّي قُلْتُ: أَبَيْتُ.
قَوْلُهُ: (فَمَا رَأَيْتُهُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: "فَمَا رَأَيْنَاهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ"، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: "وَلَعَمْرِي، لَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ، فَمَا أَدْرِي: أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلْآخَرِ"، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو سَلَمَةَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَمَامَ التَّعَارُضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ "الْجُذَامِ"، وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا عَدْوَى نَهْيٌ عَنِ اعْتِقَادِهَا، وَقَوْلهُ: لَا يُورِدُ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْإِيرَادِ خَشْيَة الْوُقُوعِ فِي اعْتِقَادِ الْعَدْوَى، أَوْ خَشْيَةُ تَأْثِيرِ الْأَوْهَامِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجُذَامَ يُعْدِي يَجِدُ فِي نَفْسِهِ نَفْرَةً، حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهَا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ لَتَأَلَّمَتْ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى بِالْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ يُبَاعِدُ أَسْبَابَ الْآلَامِ، وَيُجَانِبُ طُرُقَ الأوهام، وَالله أعلم.
قَالَ ابنُ التِّينِ: لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْمَعُ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْمَع مِنَ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثَ مَنْ بَسَطَ رِدَاءَهُ ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ مَقَالَتِي، وَقَدْ قِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْسَى تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي قَالَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، لَا أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ النِّسْيَانُ أَصْلًا.
وَقِيلَ: كَانَ الْحَدِيثُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، فَسَكَتَ عَنِ الْمَنْسُوخِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى النَّهْيُ عَن الِاعْتِدَاءِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ أُجْلِبَ عَلَيْهِ إِبِلًا جَرْبَاءَ أَرَادَ تَضْمِينَهُ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ فِي إِسْقَاطِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَصَابَهَا مَا قُدِّرَ عَلَيْهَا وَمَا لَمْ تَكُنْ تَنْجُو مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَجْمَاءَ جُبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذَا عَلَى ظَنِّهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
فَأَمَّا دَعْوَى نِسْيَانِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْحَدِيثِ: فَهُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ بَيَّنَتْ ذَلِكَ رِوَايَةُ يُونُسَ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ فَمَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ فَبَعِيدٌ مِنْ مَسَاقِ الْحَدِيثِ، وَالَّذِي بَعْدَهُ أَبْعَدُ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا خَبَرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ عَنْ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا؛ جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِأَحَدِهِمَا، وَيَسْكُتَ عَنِ الْآخَرِ حَسْبَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي "الْمُفْهِمِ".
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَافَ اعْتِقَادَ جَاهِلٍ يَظُنُّهُمَا مُتَنَاقِضَيْنِ، فَسَكَتَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَكَانَ إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ حَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا.
الشيخ: وهذا هو الأقرب كما تقدَّم لما رأى حال الناس وتغيرت أحوالهم؛ لأنه عاش إلى تسعٍ وخمسين أو ثمانٍ وخمسين على الأقوال المعروفة: سبع أو ثمان أو تسع، لما رأى عقول ...... لا تتحمل رأى التحدث بالثاني، وهو اتِّقاء الأسباب.
الطالب: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي جَوَابِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَعْرَابِيِّ جَوَازُ مُشَافَهَةِ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي اعْتِقَادِهِ بِذِكْرِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ إِذَا كَانَ السَّائِلُ أَهْلًا لِفَهْمِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَاصِرًا فَيُخَاطَبُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُهُ مِنَ الْإِقْنَاعِيَّاتِ. قَالَ: وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْأَعْرَابِيِّ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ لِلطَّبَائِعِيِّينَ أَوَّلًا، وَلِلْمُعْتَزِلَةِ ثَانِيًا.
الشيخ: والخلاصة من هذا أنَّ الله جعل بعض الأسباب تُؤثر في الشيء الآخر عند المماسة والمخالطة، إما بنقل هذا الداء إلى المحل الثاني: إما نقل أجزاء منه، أو نقل الرياح، أو ما يتحات من المرض إلى ما يحصل للثاني عند التصاقه به، أو تمرغه بمكانه، فجعل الله جلَّ وعلا أن هذا الشيء إذا اتَّصل بهذا الشيء قد يُؤثر فيه: إما من نقل الريح واختلاطهم جميعًا، أو ما يتساقط من آثار المرض هذا فيتصل بالشخص الثاني، أو بأسبابٍ أخرى تجعل هذا المرض يوجد في الصحيح عند المخالطة والمقاربة، فأمر سبحانه وتعالى نبيَّه ﷺ بما يسدُّ الباب ويُباعد هذا الشيء؛ لأنَّ العبد مأمورٌ بتعاطي أسباب الصحة وأسباب السلامة، هذا هو القول المعتمد.
والقول الثاني: أنه نهى عن المقاربة؛ لئلا تقع أوهام وشكوك فيقع الإنسانُ في اعتقاد العدوى، فإذا تباعد عن هذه الأسباب تباعدت عنه الأوهام والشكوك التي قد تعتريه، فيظنّ وقوع العدوى، والمعنى الأول أصح، وأنها قد تقع بالاختلاط، قد يقع المرضُ في الصحيح وينتقل بإذن الله عزَّ وجل، وليس لازمًا كما تعتقده الجاهلية، بل قد يقع وليس بلازم، وأما الجاهلية فتعتقد أنَّ هذا هو السبب فقط، وأن المخالطة تؤثر لزومًا، وأن هذا الشيء يقع، وهذا ليس بحتمٍ، ليس بلازمٍ، كما تعتقد في الأنواء، وتعتقد في الغول، وتعتقد في الصفر، ونحو ذلك، فأبطل النبيُّ هذا كله، وبيَّن أنَّ الأمور بيد الله، وهو الذي يصرفها سبحانه وتعالى، فقد تقع المخالطةُ ولا يقع المحذور، وأما الصفر والنوء فشيء باطلٌ لا أساسَ له بالكلية.