وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] أي فجزاكم غما على غم، كما تقول العرب: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان.الشيخ: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ غم الهزيمة وغم ما نزل من القتال والجراحات، يعني أصابهم أمران غم عظيم وهم كبير لما أصابهم من الهزيمة، والغم العظيم لما أصابهم من القتل من جماعة كبيرة من أعيانهم، فهما مصيبتان ولكنها تكفير وتمحيص.
وقال ابن جرير: وكذا قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ [طه:71] أي على جذوع النخل، قال ابن عباس: الغم الأول: بسبب الهزيمة، وحين قيل قتل محمد ﷺ، والثاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي ﷺ: اللهم ليس لهم أن يعلونا وعن عبدالرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل قتل محمد ﷺ، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، رواهما ابن مردويه، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، وذكر ابن أبي حاتم، عن قتادة نحو ذلك أيضا.
وقال السدي: الغم الأول: بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني: بإشراف العدو عليهم، وقال محمد بن إسحاق: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم، وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد، والثاني: ما أصابهم من القتل والجراح، وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه.
وعن السدي: الأول: ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني: إشراف العدو عليهم، وقد تقدم هذا القول عن السدي.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح، يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم، وخلافكم أمر نبيكم ﷺ غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم.
الشيخ: والمعنى الإشارة إلى أنها نوع من الغم ما وقع من الهزيمة وما وقع من صياح الشيطان قتل محمد عليه الصلاة والسلام حتى أغم المسلمين وآذاهم وما حصل من القتل والجراحات .... الجبل حتى أعان الله المسلمين عليهم وجاءت أمور متتابعة نبهه عليها بغم على غم؛ لأسباب الفشل والتنازع تخلف الرماة عن أمره ﷺ، فلما حصل ما حصل تتابعت العقوبات وهذا يدل على أن الإخلال بأمر الله وعدم الثبات وعدم الاعتصام بحبل الله ولزوم الطريق السوي الذي رسمه الله لعباده يسبب على أهله مشاكل، وإن كانوا من خير الناس، وإن كانوا أفضل الناس، هذا يوجب للمؤمنين أن يحذروا نقمة الله وألا يغتروا بإيمانهم ومنزلتهم عند الله، فإن الله جل وعلا حليم وشديد الانتقام لمن عصاه وخالف أمره فقد يعاقبه عقوبة معجلة، وإن كان عزيزًا عليه تأديبًا وتعليمًا وتكفيرًا وإظهارًا للأمر الذي يجب أن يلاحظ ويعتنى به، فقد يعاقب بعض أحبابه ليمحصهم ويكفر سيئاتهم ويكونوا عبرة لغيرهم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بكونه مسلمًا أو مؤمنًا أو ... لله بأعماله الطيبة ويتساهل بأمر الله ويرتكب معاصي الله ويخل بأسباب النصر.
وقوله تعالى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم وَلَا مَا أَصَابَكُمْ من الجراح والقتل، قاله ابن عباس وعبدالرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبدالله بن مسعود، قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان.
وقال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، وهكذا رواه في المغازي معلقا، ورواه في كتاب التفسير مسندا عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة، قال، رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي أيضا، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، وعن قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس، الحديث، وهكذا روي عن الزبير وعبدالرحمن بن عوف.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبدالله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال الله، فإن الله يقول: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله وينجز له مأموله، ولهذا قال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ كما قال في الآية الأخرى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [الفتح:12] إلى آخر الآية.
وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم يقولون في تلك الحال هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا لقول معتب، رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أي هذا قدر قدره الله وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه، وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي عما كان منهم من الفرار إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله: ولقد عفا عنكم ومناسب ذكره هاهنا.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال: لقي عبدالرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبدالرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان، قال: فقال عثمان: أما قوله إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وأما قوله إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله ﷺ حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله ﷺ بسهم، ومن ضرب له رسول الله ﷺ بسهم فقد شهد، وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب، لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ أي عن إخوانهم إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا للتجارة ونحوها أَوْ كَانُوا غُزًّى أي كانوا في الغزو لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا أي في البلد ما ماتوا وَمَا قُتِلُوا أي ما ماتوا في السفر، وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم، ثم قال تعالى ردا عليهم: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.الشيخ: وهذا كله من الجهل العظيم هذا نشأ عن الجهل من أولئك الكفرة حتى قالوا هذه المقالة القبيحة وقالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا هيهات هيهات فإن الموت مكتوب على العباد ومتى جاء الأجل لن يمنعه مانع لا إقامته بين أهله ولا سفره إلى أي مكان ولا تحصنه بالجنود والقصور فالموت ماضٍ على العباد وعلى غيرهم حسبما قدره الله ولهذا قال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] وقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] والبروج المشيدة وهي القصور والحرس الكثير والقوات المتنوعة وغير ذلك، كل هذا لا يمنع الموت، ولكن لجهل هؤلاء الكفرة قالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لو كانوا ما سافروا ولا غزوا كان حصلت لهم الحياة، وهذا من الجهل العظيم؛ فإن الله جل وعلا منفذٌ أمره في عباده أينما كانوا فقد يموت بين أهله ويسلم وهو غاز وقد ... المسافر ويموت المقيم، فليس الأمر بأيديهم ولكنه بيد الله ، وإنما الواجب عند نزول المصائب أن يقول المؤمن: إنا لله وإنا إليه راجعون قدر الله وما شاء فعل، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ولهذا قال الرب : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155، 156] إِنَّا لِلَّهِ إنا ملك لله يتصرف فينا كيف شاء ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أي إليه المآل والمصير فإما إلى الجنة وإما إلى النار وقال النبي ﷺ: ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلفه خيرًا منها قالت أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: لما مات أبو سلمة وقلت هذه المقالة: قلت في نفسي من يكون خير من أبي سلمة فقدر الله أن تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام بعده، فأخلفها الله خيرًا من أبي سلمة بأضعاف كثيرة، فالإنسان يقول الدعاء ويسأل ربه خيرًا والله يقدر ما يشاء .
وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.الشيخ: وهذا يعني أن الموت في سبيل الله له شأن عظيم كالقتل في سبيل الله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157] يعني ما يحصل للميت في سبيل الله والمقتول في سبيل الله، والمغفرة والرحمة خير من الدنيا كلها، وما جمعه أهلها لأنها فانية مهما جمع صاحبها من الأموال فهو زائل عنها أو هي زائلة عنه، ولكن ليس له إلا ما قدم من الأعمال الصالحة التي يجد ثوابها عند ربه، ويجد عاقبتها لا تنتهي، بل نعيم دائم وخير دائم أبد الآباد .
وقد جاء في بعض الروايات أن الموت في سبيل الله شهادة كالقتل في سبيل الله، وهذا يدل على فضل الموت في سبيل الله، وأن فيه خيرًا عظيمًا لمن أخلص الله نيته للقتل في سبيل الله.
ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله ، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فقال تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
يقول تعالى مخاطبا رسوله، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينا، لولا رحمة الله بك وبهم، وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يقول فبرحمة من الله لنت لهم، وما صلة، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] وبالنكرة كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي برحمة من الله، وقال الحسن البصري هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].الشيخ: وهذه الآية تعم مخاطبته للكفار ومخاطبته للمؤمنين وأن الله بعثه لينًا رحيمًا عطوفًا محسنًا، ولهذا لا يفر الناس منه بل يطلبوه ويسمعوا لما يقول ويتعظوا بمن سبقت له الهداية ويتذكر فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] الآية عامة وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وإن كان السياق يقتضي أنه في أهل الإيمان لكن المعنى يعم، ولهذا جعله الله لينًا رؤوفًا رحيمًا يخاطب الناس بما بعثه الله به يدعوهم إلى الخير وينذرهم من الشر ويصبر على أذاهم، مثل ما قال الله في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] والنبي ﷺ كان يلين القول ويجادل بالتي هي أحسن كما قال الله جل وعلا: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لكنه مع أهل الإيمان أكثر حلمًا وأكثر عناية ورأفة ورحمة بأهل الإيمان تقديرًا لإيمانهم واتباعهم له وترغيبًا لهم في الخير وتقوية لإيمانهم وجبرًا لمصابهم إذا نزلت به مصيبة، وإلى غير ذلك فهو يرعاهم ويعتني بهم ويلطف بهم عليه الصلاة والسلام ويرحمهم ويعفو ويصفح ويشاور عليه الصلاة والسلام، وذلك للتأليف والتقريب وجمع القلوب وإبعاد الوحشة والتمحيص حتى يهدأ القلب وحتى ينتفعوا بما يراد من وعظهم وتذكيرهم، وحتى يروا سيرته ويتأسوا به عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا من المصالح التي كان يرعاها عليه الصلاة والسلام، وهكذا ينبغي للدعاة بعده في آثارهم والدعاة بعده إلى الخير والهدى وأن يعلموا الناس الخير ويتأسوا بما كان عليه عليه الصلاة والسلام حتى يذكروا الناس من حولهم وحتى يسمع الناس قولهم وحتى ينتفعوا بدعوتهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة، حدثنا بقية، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحبراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله ﷺ فقال يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين له قلبي تفرد به أحمد.
ثم قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] والفظ الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك غليظ القلب، أي لو كنت سيء الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبدالله بن عمرو: "إني أرى صفة رسول الله ﷺ في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي، حدثنا عمار بن عبدالرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض حديث غريب.
ولهذا قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ولذلك كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون: ولكن نقول اذهب، فنحن معك، وبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك مقاتلون.الشيخ: هكذا يكون الصدق في الاتباع، بنو إسرائيل قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولم يحسنوا الأدب، أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لما شاورهم قالوا: ما نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك رضي الله عنهم وأرضاهم.
وشاورهم أيضا أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، وقال ﷺ في قصة الإفك أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها، وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين.
الشيخ: وهذه المشورة أيضاً جعلها الله من صفات المؤمنين ومن خصالهم الحميدة كما قال : وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] فهي من صفات أهل الإيمان لأن العقل الواحد قد يخطئ كثيرًا فإذا انضمت إليه عقول من أهل التجارب والإيمان والبصائر صار ذلك أقرب إلى الحق، ولذلك شرع الله لولاة الأمور من ملوك وأمراء وكل من يلي أمور الناس أن يشاور في الأمور التي قد تشتبه وقد يخفى أمرها، أما ما فيه النص وما حكم به النص فليس فيه المشاورة، ليس هناك مشاورة في إقامة الحد على من يجب عليه الحد، ولا فيمن يجب عليه القصاص ولا في أداء الفرائض .. وإنما المشاورات في أمور قد يخفى أمرها وقد تخفى عاقبتها أو يساء تطبيقها أو ما أشبه ذلك من الأمور التي قد يخفى بعض شأنها فتكون فيها المشاورة حتى يجتمع الرأي على ما هو الأولى والأفضل والأحسن والأصلح كما يحدث في وقت الحرب، وكالقتال أول النهار أو آخر النهار أو في الليل أو في النهار، وكالتشاور في الأمور التي ليس فيها نص فيها اشتباه وليس فيها نص من القرآن ولا من السنة واضحة، فيشاور أهل العلم، يشاور ولي الأمر أهل العلم وأهل البصائر والتجارب في هذه الأشياء التي اشتبه أمرها. وهذا الذي وقع من النبي ﷺ من هذا ... فإن التشاور يوم الأحزاب لأن الكفار حاصروا المدينة وضيقوا على المدينة يوم الأحزاب وكانوا عشرة آلاف مقاتل والمسلمون أقل منهم وقد تحصنوا بالخندق وكانت مكيدة عظيمة نفع الله بها المسلمين فخاف النبي ﷺ أن يكون هذا فيه مشقة على الناس ولاسيما الأنصار وهم أهل البلد فشاورهم أن يرد هؤلاء عنهم بشيء من المال إلى وقت آخر حتى يفتح على المسلمين بقوة أكثر، وأبى السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رؤساء الأنصار ..... إلا عن ضيافة أو بالثمن، ثم نعطهم أموالنا، ليس لهم إلا السيف، فصبروا وفتح الله عليهم وأذل المشركين وسلط عليهم الريح العظيمة وجنودًا من عنده حتى رجعوا عن آخرهم خاسئين لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال، وسلط الله عليهم الريح حتى قلعت خيامهم وأكفأت قدورهم وأشغلتهم في أنفسهم حتى انصرفوا راجعين إلى مكة والمسلمون في غاية من السلامة والعافية.
ثم ... بعد هذا أذلهم الله فلم يغزوا النبي ﷺ بعد ذلك بل غزاهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد هذا عام الحديبية بقصد العمرة ولم يقدر ذلك وتم الصلح ثم غزاهم النبي ﷺ عام الفتح سنة ثمان فتح الله عليه مكة ودخل أهل مكة في دين الله أفواجًا، وتبعهم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، وانتهت الحروب بينه وبينهم ولله الحمد والمنة.
....
وقد روى الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.الشيخ: يعني هم أخص الناس أخص المشاورين وأفضل المشاورين، وليس المراد اختصاصهما، لو صح الحديث يعني المراد أنهما أولى الناس بالمشاورة.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواريي رسول الله ﷺ ووزيريه، وأبوي المسلمين.الشيخ: والحديث الذي رواه الحاكم سنده جيد لأن سعيد بن أبي مريم ..... على شرط الشيخين، لكن شيخ المؤلف الحاكم وشيخ شيخه محل نظر. وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبدالحميد عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله ﷺ، قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكماالشيخ: يعني الأمور المشتبهة التي ليس فيها نص، وهذا السند فيه ضعف؛ لأن شهرًا فيه كلام إذا انفرد.
وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله ﷺ عن العزم؟ فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم وقد قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان، عن عبدالملك بن عمير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال المستشار مؤتمن.الشيخ: وهذا سند عظيم جيد.
ورواه أبو داود والترمذي، وحسنه النسائي من حديث عبدالملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر عن شريك، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ المستشار مؤتمن تفرد به.
وقال أيضا: حدثنا أبو بكر، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه تفرد به أيضا.
وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
وقوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وهذه الآية كما تقدم من قوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] ثم أمرهم بالتوكل عليه، فقال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.الشيخ: وفي هذه الآية الكريمة الدلالة على أن النصر بيده سبحانه، وأن الخلائق الذين إذا اجتمعوا على أن ينصروا أحدًا والله خاذله فلن ينصروه، ولو اجتمعوا على أن يخذلوه والله ناصره فلن يخذلوه. المقصود أنه جل وعلا هو الناصر لعباده المؤمنين وهو الخاذل لأعدائه ولهذا قال : إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] والمعنى الحث على التوكل عليه والاستقامة على أمره والأخذ بالأسباب التي شرع كما قال في الآية الأخرى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126] وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] وهو يكرر جل وعلا أن النصر بيده حتى تعلق القلوب به جل وعلا، وحتى تطمئن إليه وتتوكل عليه وتعتمد عليه وتأخذ بالأسباب التي شرعها ، وحتى تقطع التعلق بغيره كائنًا من كان ولهذا قال هنا: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ يعني توكلوا عليه وعظموه واستنصروا به وخذوا بما شرع، واستقيموا على ذلك، فهذا هو طريق النصر، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ لو اجتمع الناس على نصركم والله خاذلكم فلن ينصروكم، وبهذا تطمئن قلوب المؤمنين، وتنصرف إلى ما شرع وتبتعد عما يغضبه ، وتعلم أن كل الأمور بيده جل وعلا لا راد لقضائه ولا معاقب لحكمه .
وقال ابن جرير: وكذا قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ [طه:71] أي على جذوع النخل، قال ابن عباس: الغم الأول: بسبب الهزيمة، وحين قيل قتل محمد ﷺ، والثاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي ﷺ: اللهم ليس لهم أن يعلونا وعن عبدالرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل قتل محمد ﷺ، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، رواهما ابن مردويه، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، وذكر ابن أبي حاتم، عن قتادة نحو ذلك أيضا.
وقال السدي: الغم الأول: بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني: بإشراف العدو عليهم، وقال محمد بن إسحاق: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم، وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد، والثاني: ما أصابهم من القتل والجراح، وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه.
وعن السدي: الأول: ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني: إشراف العدو عليهم، وقد تقدم هذا القول عن السدي.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح، يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم، وخلافكم أمر نبيكم ﷺ غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم.
الشيخ: والمعنى الإشارة إلى أنها نوع من الغم ما وقع من الهزيمة وما وقع من صياح الشيطان قتل محمد عليه الصلاة والسلام حتى أغم المسلمين وآذاهم وما حصل من القتل والجراحات .... الجبل حتى أعان الله المسلمين عليهم وجاءت أمور متتابعة نبهه عليها بغم على غم؛ لأسباب الفشل والتنازع تخلف الرماة عن أمره ﷺ، فلما حصل ما حصل تتابعت العقوبات وهذا يدل على أن الإخلال بأمر الله وعدم الثبات وعدم الاعتصام بحبل الله ولزوم الطريق السوي الذي رسمه الله لعباده يسبب على أهله مشاكل، وإن كانوا من خير الناس، وإن كانوا أفضل الناس، هذا يوجب للمؤمنين أن يحذروا نقمة الله وألا يغتروا بإيمانهم ومنزلتهم عند الله، فإن الله جل وعلا حليم وشديد الانتقام لمن عصاه وخالف أمره فقد يعاقبه عقوبة معجلة، وإن كان عزيزًا عليه تأديبًا وتعليمًا وتكفيرًا وإظهارًا للأمر الذي يجب أن يلاحظ ويعتنى به، فقد يعاقب بعض أحبابه ليمحصهم ويكفر سيئاتهم ويكونوا عبرة لغيرهم أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بكونه مسلمًا أو مؤمنًا أو ... لله بأعماله الطيبة ويتساهل بأمر الله ويرتكب معاصي الله ويخل بأسباب النصر.
وقوله تعالى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم وَلَا مَا أَصَابَكُمْ من الجراح والقتل، قاله ابن عباس وعبدالرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبدالله بن مسعود، قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان.
وقال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، وهكذا رواه في المغازي معلقا، ورواه في كتاب التفسير مسندا عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة، قال، رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي أيضا، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، وعن قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس، الحديث، وهكذا روي عن الزبير وعبدالرحمن بن عوف.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبدالله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال الله، فإن الله يقول: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله وينجز له مأموله، ولهذا قال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ كما قال في الآية الأخرى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [الفتح:12] إلى آخر الآية.
وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم يقولون في تلك الحال هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا لقول معتب، رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أي هذا قدر قدره الله وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه، وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها، ثم قال تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي عما كان منهم من الفرار إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله: ولقد عفا عنكم ومناسب ذكره هاهنا.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال: لقي عبدالرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبدالرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان، قال: فقال عثمان: أما قوله إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وأما قوله إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله ﷺ حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله ﷺ بسهم، ومن ضرب له رسول الله ﷺ بسهم فقد شهد، وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب، لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ أي عن إخوانهم إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا للتجارة ونحوها أَوْ كَانُوا غُزًّى أي كانوا في الغزو لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا أي في البلد ما ماتوا وَمَا قُتِلُوا أي ما ماتوا في السفر، وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم، ثم قال تعالى ردا عليهم: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.الشيخ: وهذا كله من الجهل العظيم هذا نشأ عن الجهل من أولئك الكفرة حتى قالوا هذه المقالة القبيحة وقالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا هيهات هيهات فإن الموت مكتوب على العباد ومتى جاء الأجل لن يمنعه مانع لا إقامته بين أهله ولا سفره إلى أي مكان ولا تحصنه بالجنود والقصور فالموت ماضٍ على العباد وعلى غيرهم حسبما قدره الله ولهذا قال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] وقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] والبروج المشيدة وهي القصور والحرس الكثير والقوات المتنوعة وغير ذلك، كل هذا لا يمنع الموت، ولكن لجهل هؤلاء الكفرة قالوا: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لو كانوا ما سافروا ولا غزوا كان حصلت لهم الحياة، وهذا من الجهل العظيم؛ فإن الله جل وعلا منفذٌ أمره في عباده أينما كانوا فقد يموت بين أهله ويسلم وهو غاز وقد ... المسافر ويموت المقيم، فليس الأمر بأيديهم ولكنه بيد الله ، وإنما الواجب عند نزول المصائب أن يقول المؤمن: إنا لله وإنا إليه راجعون قدر الله وما شاء فعل، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ولهذا قال الرب : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155، 156] إِنَّا لِلَّهِ إنا ملك لله يتصرف فينا كيف شاء ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أي إليه المآل والمصير فإما إلى الجنة وإما إلى النار وقال النبي ﷺ: ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلفه خيرًا منها قالت أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: لما مات أبو سلمة وقلت هذه المقالة: قلت في نفسي من يكون خير من أبي سلمة فقدر الله أن تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام بعده، فأخلفها الله خيرًا من أبي سلمة بأضعاف كثيرة، فالإنسان يقول الدعاء ويسأل ربه خيرًا والله يقدر ما يشاء .
وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.الشيخ: وهذا يعني أن الموت في سبيل الله له شأن عظيم كالقتل في سبيل الله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157] يعني ما يحصل للميت في سبيل الله والمقتول في سبيل الله، والمغفرة والرحمة خير من الدنيا كلها، وما جمعه أهلها لأنها فانية مهما جمع صاحبها من الأموال فهو زائل عنها أو هي زائلة عنه، ولكن ليس له إلا ما قدم من الأعمال الصالحة التي يجد ثوابها عند ربه، ويجد عاقبتها لا تنتهي، بل نعيم دائم وخير دائم أبد الآباد .
وقد جاء في بعض الروايات أن الموت في سبيل الله شهادة كالقتل في سبيل الله، وهذا يدل على فضل الموت في سبيل الله، وأن فيه خيرًا عظيمًا لمن أخلص الله نيته للقتل في سبيل الله.
ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله ، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فقال تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ.
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
يقول تعالى مخاطبا رسوله، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: أي شيء جعلك لهم لينا، لولا رحمة الله بك وبهم، وقال قتادة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يقول فبرحمة من الله لنت لهم، وما صلة، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155] وبالنكرة كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون:40] وهكذا هاهنا قال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي برحمة من الله، وقال الحسن البصري هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].الشيخ: وهذه الآية تعم مخاطبته للكفار ومخاطبته للمؤمنين وأن الله بعثه لينًا رحيمًا عطوفًا محسنًا، ولهذا لا يفر الناس منه بل يطلبوه ويسمعوا لما يقول ويتعظوا بمن سبقت له الهداية ويتذكر فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] الآية عامة وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وإن كان السياق يقتضي أنه في أهل الإيمان لكن المعنى يعم، ولهذا جعله الله لينًا رؤوفًا رحيمًا يخاطب الناس بما بعثه الله به يدعوهم إلى الخير وينذرهم من الشر ويصبر على أذاهم، مثل ما قال الله في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] والنبي ﷺ كان يلين القول ويجادل بالتي هي أحسن كما قال الله جل وعلا: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لكنه مع أهل الإيمان أكثر حلمًا وأكثر عناية ورأفة ورحمة بأهل الإيمان تقديرًا لإيمانهم واتباعهم له وترغيبًا لهم في الخير وتقوية لإيمانهم وجبرًا لمصابهم إذا نزلت به مصيبة، وإلى غير ذلك فهو يرعاهم ويعتني بهم ويلطف بهم عليه الصلاة والسلام ويرحمهم ويعفو ويصفح ويشاور عليه الصلاة والسلام، وذلك للتأليف والتقريب وجمع القلوب وإبعاد الوحشة والتمحيص حتى يهدأ القلب وحتى ينتفعوا بما يراد من وعظهم وتذكيرهم، وحتى يروا سيرته ويتأسوا به عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا من المصالح التي كان يرعاها عليه الصلاة والسلام، وهكذا ينبغي للدعاة بعده في آثارهم والدعاة بعده إلى الخير والهدى وأن يعلموا الناس الخير ويتأسوا بما كان عليه عليه الصلاة والسلام حتى يذكروا الناس من حولهم وحتى يسمع الناس قولهم وحتى ينتفعوا بدعوتهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة، حدثنا بقية، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحبراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله ﷺ فقال يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين له قلبي تفرد به أحمد.
ثم قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] والفظ الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك غليظ القلب، أي لو كنت سيء الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبدالله بن عمرو: "إني أرى صفة رسول الله ﷺ في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي، حدثنا عمار بن عبدالرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض حديث غريب.
ولهذا قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ولذلك كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون: ولكن نقول اذهب، فنحن معك، وبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك مقاتلون.الشيخ: هكذا يكون الصدق في الاتباع، بنو إسرائيل قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولم يحسنوا الأدب، أما أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لما شاورهم قالوا: ما نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك رضي الله عنهم وأرضاهم.
وشاورهم أيضا أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، وقال ﷺ في قصة الإفك أشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها، وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين.
الشيخ: وهذه المشورة أيضاً جعلها الله من صفات المؤمنين ومن خصالهم الحميدة كما قال : وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] فهي من صفات أهل الإيمان لأن العقل الواحد قد يخطئ كثيرًا فإذا انضمت إليه عقول من أهل التجارب والإيمان والبصائر صار ذلك أقرب إلى الحق، ولذلك شرع الله لولاة الأمور من ملوك وأمراء وكل من يلي أمور الناس أن يشاور في الأمور التي قد تشتبه وقد يخفى أمرها، أما ما فيه النص وما حكم به النص فليس فيه المشاورة، ليس هناك مشاورة في إقامة الحد على من يجب عليه الحد، ولا فيمن يجب عليه القصاص ولا في أداء الفرائض .. وإنما المشاورات في أمور قد يخفى أمرها وقد تخفى عاقبتها أو يساء تطبيقها أو ما أشبه ذلك من الأمور التي قد يخفى بعض شأنها فتكون فيها المشاورة حتى يجتمع الرأي على ما هو الأولى والأفضل والأحسن والأصلح كما يحدث في وقت الحرب، وكالقتال أول النهار أو آخر النهار أو في الليل أو في النهار، وكالتشاور في الأمور التي ليس فيها نص فيها اشتباه وليس فيها نص من القرآن ولا من السنة واضحة، فيشاور أهل العلم، يشاور ولي الأمر أهل العلم وأهل البصائر والتجارب في هذه الأشياء التي اشتبه أمرها. وهذا الذي وقع من النبي ﷺ من هذا ... فإن التشاور يوم الأحزاب لأن الكفار حاصروا المدينة وضيقوا على المدينة يوم الأحزاب وكانوا عشرة آلاف مقاتل والمسلمون أقل منهم وقد تحصنوا بالخندق وكانت مكيدة عظيمة نفع الله بها المسلمين فخاف النبي ﷺ أن يكون هذا فيه مشقة على الناس ولاسيما الأنصار وهم أهل البلد فشاورهم أن يرد هؤلاء عنهم بشيء من المال إلى وقت آخر حتى يفتح على المسلمين بقوة أكثر، وأبى السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رؤساء الأنصار ..... إلا عن ضيافة أو بالثمن، ثم نعطهم أموالنا، ليس لهم إلا السيف، فصبروا وفتح الله عليهم وأذل المشركين وسلط عليهم الريح العظيمة وجنودًا من عنده حتى رجعوا عن آخرهم خاسئين لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال، وسلط الله عليهم الريح حتى قلعت خيامهم وأكفأت قدورهم وأشغلتهم في أنفسهم حتى انصرفوا راجعين إلى مكة والمسلمون في غاية من السلامة والعافية.
ثم ... بعد هذا أذلهم الله فلم يغزوا النبي ﷺ بعد ذلك بل غزاهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد هذا عام الحديبية بقصد العمرة ولم يقدر ذلك وتم الصلح ثم غزاهم النبي ﷺ عام الفتح سنة ثمان فتح الله عليه مكة ودخل أهل مكة في دين الله أفواجًا، وتبعهم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، وانتهت الحروب بينه وبينهم ولله الحمد والمنة.
....
وقد روى الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.الشيخ: يعني هم أخص الناس أخص المشاورين وأفضل المشاورين، وليس المراد اختصاصهما، لو صح الحديث يعني المراد أنهما أولى الناس بالمشاورة.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواريي رسول الله ﷺ ووزيريه، وأبوي المسلمين.الشيخ: والحديث الذي رواه الحاكم سنده جيد لأن سعيد بن أبي مريم ..... على شرط الشيخين، لكن شيخ المؤلف الحاكم وشيخ شيخه محل نظر. وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبدالحميد عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله ﷺ، قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكماالشيخ: يعني الأمور المشتبهة التي ليس فيها نص، وهذا السند فيه ضعف؛ لأن شهرًا فيه كلام إذا انفرد.
وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله ﷺ عن العزم؟ فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم وقد قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان، عن عبدالملك بن عمير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال المستشار مؤتمن.الشيخ: وهذا سند عظيم جيد.
ورواه أبو داود والترمذي، وحسنه النسائي من حديث عبدالملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر عن شريك، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ المستشار مؤتمن تفرد به.
وقال أيضا: حدثنا أبو بكر، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه تفرد به أيضا.
وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
وقوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وهذه الآية كما تقدم من قوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] ثم أمرهم بالتوكل عليه، فقال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.الشيخ: وفي هذه الآية الكريمة الدلالة على أن النصر بيده سبحانه، وأن الخلائق الذين إذا اجتمعوا على أن ينصروا أحدًا والله خاذله فلن ينصروه، ولو اجتمعوا على أن يخذلوه والله ناصره فلن يخذلوه. المقصود أنه جل وعلا هو الناصر لعباده المؤمنين وهو الخاذل لأعدائه ولهذا قال : إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] والمعنى الحث على التوكل عليه والاستقامة على أمره والأخذ بالأسباب التي شرع كما قال في الآية الأخرى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126] وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] وهو يكرر جل وعلا أن النصر بيده حتى تعلق القلوب به جل وعلا، وحتى تطمئن إليه وتتوكل عليه وتعتمد عليه وتأخذ بالأسباب التي شرعها ، وحتى تقطع التعلق بغيره كائنًا من كان ولهذا قال هنا: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ يعني توكلوا عليه وعظموه واستنصروا به وخذوا بما شرع، واستقيموا على ذلك، فهذا هو طريق النصر، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ لو اجتمع الناس على نصركم والله خاذلكم فلن ينصروكم، وبهذا تطمئن قلوب المؤمنين، وتنصرف إلى ما شرع وتبتعد عما يغضبه ، وتعلم أن كل الأمور بيده جل وعلا لا راد لقضائه ولا معاقب لحكمه .