لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فِي مَرِيضٍ طَلَّقَ: "لاَ أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَتُهُ". وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "تَرِثُهُ". وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ؟ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ.
5259 - حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلاَنِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَسْطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ المُتَلاَعِنَيْنِ".
الشيخ: يعني أنهما يحضران ويلاعن بينهما ولي الأمر أو نائبه، وتكون الفرقة والتلاعن، كل واحد يلعن نفسه، يعني يسبها، فالزوج يقول: عليه لعنة الله، وهي تقول: عليها غضب الله، واللعن السب ولو بغير صيغة اللعن، فيقول كل واحد: أشهد بالله كذا، الرجل يقول: أشهدت بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها، ويكرر هذا أربع مرات، ويقول في الخامسة: وأن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين، وهي تقول: أشهدت بالله لقد كذب عليّ هذا الرجل، أربع مرات، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، نسأل الله العافية.
س: الفرقة مؤبدة؟
الشيخ: نعم مؤبّدة، لا تحل له أبداً؛ لأنه رماها بشيء عظيم، إن كان صادقًا فهذه عقوبة لها، وإن كان كاذبًا فعقوبة له، نسأل الله العافية.
س: هل تُغلَّظ الشهادة؟
الشيخ: ما في تغليظ، مثل ما قال الله خمس مرات، ما في زيادة.
س: ذكر أنه طلقها ثلاثًا، هل يقال أن من السُّنة كذلك أن يطلق الملاعِن ثلاثًا أم تكون تَبِين من دون طلاق؟
الشيخ: هذا بيَّنه: أن هذا الطلاق لا محل له؛ لأن الرسول ﷺ تركه ولم ينبهه؛ لأنه لا محل له، فالفُرْقة قد تمت بالتلاعن، فصار في غير محله، ولهذا قال قبل أن يأمره ﷺ، احتج به بعض أهل العلم على جواز الطلاق بالثلاث، قالوا: ليس ببدعة؛ لأن الرسول ﷺ سكت عنه، فدل ذلك على جواز التطليق بالثلاث، ولكن خالفهم آخرون فقالوا: إنه جاء في حديث محمود بن لبيد النهي عن هذا لما سمع الطلاق الثلاث غضب عليه وقال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!، وابن عمر في الصحيحين لما سأله رجل عن الطلاق قال: "أما إنْ كنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك بما أمرك به من طلاق امرأتك"، واحتج بهذا أحمد وجماعة على تحريم الطلاق بالثلاث، وأن الواجب تقييد السنة؛ يطلق واحدة فقط، ثم إذا احتجت إلى طلقة طلق الثانية، ثم الأخيرة تكون هي الفاصلة، لا يستعجل فيما أباح الله له.
س: إن طلق واحدة ثم انتهت العدة؟
الشيخ: تحرم عليه إلا بنكاح جديد، بنكاح جديد، بشروط يعني.
س: كذلك إن طلق اثنتين؟
الشيخ: وهكذا الاثنتين نعم.
س: تحصل البينونة بدون طلاق كالتلاعن؟
الشيخ: نعم بمجرد اللعان يحصل الفُرقة.
س: طلّقها بكلمة واحدة؟
الشيخ: من هو؟ سهل؟
الطالب: نعم.
الشيخ: ظاهره أنه طلّقها ثلاث، وأطلق ظاهرها أنه في جملة واحدة، ويحتمل أن يكون في كلمات، ولكن بكل حال ليس في .....
س: هل اللعن والغضب مترادفان؟
الشيخ: لا، لكن كلها سب للناس، إذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله أو قاتله الله أو أهلكه الله، كله يُسمى "سب"، يُسمى "لعن".
س: هل تقع الثلاث باللفظ الواحد؟
الشيخ: فيه خلاف بين أهل العلم؛ المؤلف وجماعة يوقعونها تبعًا لعمر؛ تعزيرًا للناس، والقول الآخر الذي قاله جماعة من التابعين ومن بعدهم أنها لا تقع إلا واحدة إذا كانت بكلمة واحدة، إذا قال: هي طالق بالثلاث ما تقع إلا واحدة، هذا هو الصواب، أنه ثبت عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يجعل الطلاق ثلاثًا واحدة في عهده ﷺ، وهكذا في عهد الصديق فهذا إذا كان بكلمة واحدة، أما إذا قال: طالق ثم طالق ثم طالق وقعت الثلاث عند الجميع، إلا خلاف شاذ في القول بأنه لا يقع إلا واحدة، واختاره الشنقيطي رحمه الله، وهو قول ليس بجيد ولا نعلم له سندًا من السلف، إنما الخلاف الحقيقي فيما إذا قال: هي طالق بالثلاث، بلفظ واحد يعني، أو مطلقة بالثلاث، أو أنت طالق بالثلاث، هذا هو محل الخلاف، والجمهور على أنها تقع أيضًا، كما أمضاه عمر رضي الله عنه وأرضاه تعزيرًا للناس قال: "أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" فأمضاه عليهم، وقال آخرون من أهل العلم: أنها واحدة كما كانت في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وأول خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الأقرب والأظهر؛ لحديث ابن عباس: "كان الطلاق على عهد النبي ﷺ وعلى عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة"، وقال عمر: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" فأمضاه عليهم رحمه الله، وتابعه الجمهور في هذا، تابعه الأئمة الأربعة والجمهور.
س: لو قال قائل: كيف كانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام واحدة وكذلك في عهد أبي بكر وتكون في عهد عمر بثلاث؟
الشيخ: هذا اجتهاد للخليفة الراشد رآه عقوبة للمطلِّق لما استعجل، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ فالذين أخذوا بقول عمر من هذا الباب.
س: لكن فعل الرسول ﷺ نص، لا اجتهاد مع النص؟
الشيخ: هو المُقدّم، وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذا البحث في إعلام الموقعين، وفي إغاثة اللهفان، وطوَّل في هذا، وزاد المعاد أيضاً.
س: قول ابن الزبير في مريض طلق: "لا أرى أن ترث مبتوتته"؟
الشيخ: إذا طلقها في طلاق الثلاث يعني... لكن الصواب عند الجمهور أنه إذا طلّقها، ولو مبتوتة، إذا طلّقها بقصد حرمانها من الميراث؛ يقع الطلاق، ومع هذا يُعاقب بإرثها أيضاً كما فعل عمر وعثمان، ورثوّا المبتوتة لما طلقها في المرض، متهمين له بأنه قصد حرمانها من الميراث.
.......................
5260 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاَقِي، وَإِنِّي نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ القُرَظِيَّ،
الشيخ: كلها الزُّبير، إلا هذا، المعروف من أسماء العرب الزُّبير بالضم، إلا هذا الزَّبير.
وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ.
الشيخ: وهذا يبين معنى قوله جل وعلا: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] وأن النكاح هنا يشتمل الأمرين: العقد والجماع، لا بدّ منهما؛ فلا تحل للأولى إلا بعد العقد والجماع جميعاً، فلا يكفي مجرد العقد، ولا يكفي مجرد الوطء، لا بدّ منهما جميعاً، فلو وُطئت بعد الأول وطء شبهة أو زنا لم تحل، ولو نكحت بدون وطء لم تحل، فلا بدّ من الأمرين: أن تنكح زوجًا غيره نكاحًا يكون فيه الجماع، ولذا قال ﷺ: حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
س: هل المُحَلِّل يكون النكاح صحيحًا؟
الشيخ: المحلل لا، نكاحه باطل ما يجوز، هذا التيس المستعار لا يُحلها للزوج الأول، نكاحه فاسد ولا يُحلها للزوج الأول، ويجب أن يعاقب.
بَاب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]
5262 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا».
5263 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنِ الخِيَرَةِ، فَقَالَتْ: «خَيَّرَنَا النَّبِيُّ ﷺ، أَفَكَانَ طَلاَقًا؟!» قَالَ مَسْرُوقٌ: "لاَ أُبَالِي أَخَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً، بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي".
الشيخ: يعني ليس بطلاق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28].
س:.....
الشيخ: ليس بطلاق.
س: التخيير هذا خاص بالنبي ﷺ أم عام؟
الشيخ: ما هو بخاص إذا خير أزواجه واختاره ليس بطلاق.
س:.....
الشيخ: يعني إن أردتني فلا بأس، وإن أردتن الطلاق فطلقت، هذا المعنى.
الشيخ: والمقصود من هذا أن الألفاظ الدالة على الطلاق غير لفظ الطلاق، إذا نوى بها الطلاق صار الطلاق، سراح أو فراق أو غير ذلك من الألفاظ الدالة على هذا المعنى، كالحقي بأهلك، أو اذهبي، أو ما أشبه ذلك، إذا أراد به الطلاق فهو طلاق، وإن كان ما أراد به الطلاق فليس بطلاق، فلو قال: اذهبي لأهلك، غضبان عليها، أو روحي لأهلك أو ما أشبه ذلك وهو ما أراد الطلاق؛ فليس بطلاق.
س:.....
الشيخ: هذا إذا وكّلها (اختاري لنفسك) قصدها تختار إذا أرادت الطلاق تختار نفسها كالكناية.
شف كلام أول ترجمة.
الطالب: (قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ)
كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَلِلْأَكْثَرِ مَنْ أَجَازَ، وَفِي التَّرْجَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ لَمْ يُجِزْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْمَنْعِ: مَنْ كَرِهَ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى، وَهِيَ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ لَهُ بِحَدِيثِ: أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الطَّلَاقِ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْجَعَ ظَهْرَهُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
الشيخ: وهذا مما يؤيد أنه يرى التحريم مثل ما ذكره ابنه عبدالله قال: "إن كنت طلقتها ثلاث فقد عصيت ربك فيما أمرك من طلاق.." وهو يؤيد رواية محمود بن لبيد الذي طلق ثلاثًا فغضب عليه النبي ﷺ وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ رواه النسائي، قال الحافظ رحمه الله: ورواته ثقات، المقصود أن هذا القول قول جيد ويتأيّد في المعنى بأنه تعجّل للفراق، ولا ينبغي أن يتعجّل فراق المبتوت، بل ينبغي له التريث وعدم العجلة.
الطالب: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَوْقَعَهَا مَجْمُوعَةً.
الشيخ: يعني من جوّز التحريم وعدم التحريم، يحتمل أنه أراد الإيقاع وعدم الإيقاع.
الطالب: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِذَا أَوْقَعَهَا مَجْمُوعَةً لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشِّيعَةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
الشيخ: وهو قول جماعة من أصحاب ابن عباس، ورواية عن ابن عباس أيضاً وطاووس والمزني وجماعة.
الطالب: وَطَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ طَلَاقٍ مَنْهِيٍّ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ، وَهُوَ شُذُوذٌ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى وُقُوعِهِ مَعَ مَنْعِ جَوَازِهِ، وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ أُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ؛ لَكِنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الصَّحَابَةِ فَلِأَجْلِ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ مَخْرَمَةَ بن بكير يَعْنِي ابن الْأَشَجِّ عَنْ أَبِيهِ. اهـ، وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ مَحْمُودٍ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ هَلْ أَمْضَى عَلَيْهِ الثَّلَاثَ مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ إِيقَاعَهَا مَجْمُوعَةً أَوْ لَا، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَزِمَ وَقد تقدم فِي الْكَلَام على حَدِيث ابن عُمَرَ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً: "عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ"، وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخْرَى نَحْوُ هَذِهِ عِنْدَ عَبْدِالرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابن عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ فَقَالَ: "يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابن عَبَّاس يَا ابن عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ".
الشيخ: وهذا مثل ما قال ابن عمر وهذه الرواية المشهورة عنه، وأما الروايات الأخرى خالف فيها عمر ولم يوقعه.
الطالب: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد لَهُ متابعات عَن ابن عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَاللُّزُومِ مَنْ قَالَ إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ الْمَغَازِي، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ: كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فَارْتَجِعْهَا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الَّذِي فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَشَيْخَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ كَحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَرْدُودًا، وَالثَّانِي: معارضته بفتوى ابن عَبَّاسٍ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاس أَنه كَانَ عِنْده هذا الحكم عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ ظَهَرَ لَهُ، وَرَاوِي الْخَبَرِ أَخْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا رَوَى، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَةِ الرَّاوِي لَا بِرَأْيِهِ لِمَا يَطْرُقُ رَأْيَهُ مِنِ احْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَمَسَّكَ بِمُرَجِّحٍ فَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْمَرْفُوعِ؛ لِاحْتِمَالِ التَّمَسُّكِ بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ وَلَيْسَ قَوْلُ مُجْتَهِدٍ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ، الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ أَلْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَالَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فبهذه النُّكْتَة يقف الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث ابن عَبَّاسٍ.
الشيخ: لكن رواية أبي داود ضعيفة؛ لأن فيها مجاهيل، والمؤلف رحمه الله تساهل في هذا.
الطالب: الرَّابِعُ أَنَّهُ مَذْهَبٌ شَاذٌّ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأجِيب بِأَنَّهُ نقل عَن عَليّ وابن مَسْعُودٍ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ مِثْلُهُ، نقل ذَلِك ابن مُغِيثٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ لَهُ وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ، وَنَقَلَ الْغَنَوِيُّ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ كَمُحَمَّدِ بْنِ بقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالسَّلَامِ الْخُشَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَنَقله ابن الْمُنْذر عَن أَصْحَاب ابن عَبَّاسٍ كَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَيُتَعَجَّبُ من ابن التِّينِ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّحْرِيمِ مَعَ ثُبُوت الِاخْتِلَاف كَمَا ترى، ويقوى حَدِيث ابن إِسْحَاقَ الْمَذْكُورَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ"، وَمِنْ طَرِيقِ عبدالرَّزَّاق عَن ابن جريج عَن ابن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عمر؟ قَالَ ابن عَبَّاسٍ: نَعَمْ، وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمِ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَاحِدَةً؟ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ وَقَالَ بَدَلَهُ: عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً؟.. الْحَدِيثَ، فَتَمَسَّكَ بِهَذَا السِّيَاقِ مَنْ أَعَلَّ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ ابن عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ جَوَابُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَبِهِ جزم زَكَرِيَّا السَّاجِي من الشَّافِعِيَّة ووجبوه بِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ إِذَا قَالَ لَهَا زَوْجُهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَ: ثَلَاثًا، لَغَا الْعَدَدَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، كَلَامٌ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهُ كَلِمَتَيْنِ وَتُعْطَى كُلُّ كَلِمَةٍ حُكْمًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعْنَاهُ أَنْتِ ذَاتُ الطَّلَاقِ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْوَاحِدَةِ وَبِالثَّلَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، الْجَوَابُ الثَّانِي: دَعْوَى شُذُوذِ رِوَايَةِ طَاوُسٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبَيْهَقِيِّ فَإِنَّهُ سَاق الرِّوَايَات عَن ابن عَبَّاس بِلُزُوم الثَّلَاث ثمَّ نقل عَن ابن الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُحْفَظْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا وَيُفْتِي بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى التَّرْجِيحِ وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْوَاحِد إِذا خالفهم، وَقَالَ ابن الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى الْإِجْمَاعِ؟ قَالَ: وَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -يَعْنِي الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَخْرَجَهُ- فَإِنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ الرَّجُلَ طَلَّقَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً وَلَمْ يَرُدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ بَلْ أَمْضَاهُ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ تَعَرُّضٌ لِإِمْضَاءِ ذَلِكَ وَلَا لِرَدِّهِ، الْجَوَابُ الثَّالِثُ: دَعْوَى النَّسْخِ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابن عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ويقويه مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْمَازِرِيُّ ادِّعَاءَ النَّسْخِ فَقَالَ: زعم بَعضهم أَن هذاالحكم مَنْسُوخٌ وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ عُمَرَ لَا يَنْسَخُ، وَلَوْ نَسَخَ وَحَاشَاهُ لَبَادَرَ الصَّحَابَةُ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ نُسِخَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَا يَمْتَنِعُ لَكِنْ يَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلرَّاوِي أَنْ يُخْبِرَ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُجْمِعُ الصَّحَابَةُ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قُلْنَا: إِنَّمَا يُقْبَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَاسِخٍ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ يَنْسَخُونَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَمَعَاذَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَأِ وَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ النَّسْخَ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، قُلْنَا: هَذَا أَيْضًا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْخَطَأِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَيْسَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الرَّاجِحِ، قُلْتُ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَسَخَ، أَيِ اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ.
الشيخ: بس.
وَقَالَ الحَسَنُ: "نِيَّتُهُ" وَقَالَ أَهْلُ العِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاَقِ وَالفِرَاقِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ، لِأَنَّهُ لاَ يُقَالُ لِطَعَامِ الحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ. وَقَالَ فِي الطَّلاَقِ ثَلاَثًا: لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
5264 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثًا، قَالَ: "لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ".
5265 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، وَإِنِّي تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً، لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الآخِرُ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ.
الشيخ: تقدم هذا، وأنه محل إجماع إلا ما يروى عن سعيد بن المسيب أنه اكتفى بالعقد؛ ولكنه قول مردود لهذا النص، وهو كالإجماع من أهل العلم أنه لا بدّ من أمرين -كما تقدم- النكاح والوطء جميعاً، فلو وطئت بعد طلاقها بشبهة أو بزنا لم تحل للزوج الأول، أو نكحت بعقد ولكن لم يطأها الزوج لم تحل، حتى يجتمع الأمران، حتى يحصل النكاح الشرعي مع الوطء، وهذا هو محل وفاق بين أهل العلم، ما عدا ما يروى عن سعيد بن المسيب؛ ولكنه قول مرجوح مردود بالنص، وأما قول الحسن: أنتِ علي حرام نيته، فهو قول جيد، والحسن: هو البصري، هو قول جيد: لقول النبي ﷺ: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا قال: أنتِ عليّ حرام قصده الطلاق صارت طلقة، وقال قوم: تكون ثلاثًا؛ ولكن الصواب أنها طلقة واحدة، كما نقول في الثلاث في كلمة واحدة أنها طلقة واحدة، فإن لم يرد بها الطلاق صارت ظهارًا تحرم عليه حتى يكفر كفارة الظهار، كما لو قال:أنتِ عليّ كظر أمي.
س: وإن أراد يمينًا؟
الشيخ: ما تصير يمينًا؛ لأنها ما هي معلّقة، بخلاف ما لو كانت معلقة: أنتِ علي حرام إنْ كلمت فلان أو دخلت بيت فلان، هذه الصواب تكون يمينًا إذا قصد المنع، أما المطْلقة فهي كالظهار، والمعلقة على نيته.
س:.......
الشيخ: هذا ما وصلها منه شيء.
س: طيب ما يستطيع؟
الشيخ: ما تحل حتى تتزوج زوجًا آخر غير هذا، هذا وجوده كعدمه، ولهذا قال لها النبي ﷺ: لا تحلين للأول.
س: إلا هنة واحدة؟
الشيخ: يعني أراد الجماع ولم يتيسر له، أراد الجماع واتصل بالفرج ولكن ما أولج.
س:.......
الشيخ: الطعام حكمه حكم اليمين؛ لأن الطعام يحرم ويحل، أما المرأة فإذا حرمها يكون لها كفارة، والطعام لا يحرم بتحريمه ما أحله الله، لا يحرم بتحريم الناس له، فله الكفارة.
5266 - حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، سَمِعَ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: "إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ" وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
الشيخ:........ أنه لاغ؛ لكنه لولا أنه فسره بليس شيء، محرم يعني؛ حتى تكون الرواية الأخرى مفسرة؛ لأنه قال في الرواية الأخرى: "هو يمين يكفّرها" وليس بشيء، يعني: ليس بشيء محرم لها، لا يكون طلاقًا، ولكنه يمين يكفّرها على قول ابن عباس هنا، وهو قول جماعة من أهل العلم، وقول جماعة آخرون يكون ظهارًا.
5268 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ العَسَلَ وَالحَلْوَاءَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لاَ، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟
الشيخ: لأن المغافير رائحتها ما هي بزينة، وهو لا يحب الرائحة الكريهة عليه الصلاة والسلام، كان يحب الطيب، ولا يحب الرائحة غير الطيبة، وعائشة أرادت تنفيره من هذا العسل؛ لأن نحله قد رعى المغافير، وإذا رعى النحل المغافر قد تبدو رائحته في عسله، وهذا من كيد النساء، عفا الله عنهن.
فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ ذَاكِ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى البَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لاَ قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ لَهُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي.
الشيخ: هذه قصة ثانية، القصة الأول لزينب، والقصة الثانية لحفصة، وهذا أحسن ما يقال، أنهما قصتان.
س:.......
الشيخ: التعليق قصده المنع، قصده منعها، التعليق ليس قصده التحريم، قصده المنع، أنت حرام علي إنْ كلمت فلانًا إنْ دخلت على فلان، هذا له معنى اليمين، مثل: والله لا تدخلي على فلان، والله لا تكلمي فلان، هذا عند جمع من أهل العلم، اختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وجماعة، أما الجمهور لا يفرقون بين لو قال أنت حرام..... أو أنت حرام إنْ دخل رمضان، لا فرق عندهم، يعني إذا قال: أنت حرام إذا دخل رمضان؛ حَرُمت حتى يكفَر؛ لأن رمضان ما فيه حث ومنع، أما أبو العباس ابن تيمية وجماعة وهو مروي عن جماعة من السلف يفرقون بين هذا وهذا، ولهذا لما نذرت امرأة يقال لها ليلى بنت العجماء أن مالها صدقة وأن عبيدها أحرار وأن مالها في الكعبة ستفرقه بين فلان وفلان بين رقيق لها؛ أفتاها ابن عمر وزوجته صفية وزينب وأم سلمة وجماعة أفتوها بأن عليها كفارة يمين؛ لأن مقصودها المنع، ما هو مقصودها التقرب، جعلوا الطلاق مثل ذلك، إذا كان هذا في العتق والصدقة وهما محبوبان إلى الله فالطلاق المبغوض إلى الله أوْلى، هذا المقصود، ويحتجون أيضًا بقول ابن عباس: لا طلاق إلا عن وطر يريد بهذا أن الطلاق الذي عن شدة غضب وعن عدم عقل ما يكون طلاقًا، وهكذا طلاق المكره ليس بطلاق؛ لأنه ليس عن وطر، ليس عن قصد ورغبة وإنما مكره ملزم.
وهذا يفيدنا العلماء الذين ذكروا هذه الأشياء يفيدنا أن الواجب على الزوج أن يتحرز من النساء ولاسيما صاحب الضرات، لا يأمنهن، إذا كن أزواج النبي ﷺ وهن في القمة من الفضل ومع هذا جرى ما جرى منهن في حقه ﷺ؛ فلا ينبغي لعاقل أن يأمن النساء أن يكذبن ويقلن أشياء لا حقيقة لها، ولاسيما على الجارة يستحللن على الجارة ما لا يستحللن على غير الجارة، ويغرن من الجارة غيرة شديدة، فلا يؤمن، فينبغي التحرز من هذه الأشياء.
والذي يظهر من القصة أن العسل فيه شيء يعني شيء يحتمل، ولهذا تأثر النبي ﷺ بكلامهن، ولولا أن فيه شيء يحتمل الرائحة ظن أن قولهن صدق لما مال إلى ذلك وترك شربه من حفصة، فلعله كان هناك شيء من رائحة ظن أن عليه الصلاة والسلام أو اعتقد عليه الصلاة والسلام أنهن مصيبات.
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاَقَ بَعْدَ النِّكَاحِ" وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَالحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا لاَ تَطْلُقُ.
الشيخ: لأن الطلاق يكون بعد النكاح، فإذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق لم يقع شيء؛ لأنه طلق في غير ملكه وعلّق قبل أن يملك؛ فلا يؤثر لقوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49] جعل الطلاق بعد النكاح، ولقوله ﷺ: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك جاء هذا في عدة أحاديث.
س: بعضهم يتزوج وينوي يطلقها؟
الشيخ: هذه مسألة ثانية غير هذا، هذه مسألة إذا علق الطلاق بعد النكاح قبل أن يتزوج، أما المسألة الثانية هذه قد يتوهم بعض الناس أنها من المتعة إذا تزوجها بنية الطلاق إذا سافر من البلد أو أكمل دراسته؛ فالجمهور على حل هذا وأنه ليس من المتعة، المتعة لا بدّ من مشارطة، المتعة لا بدّ يكون شرط بينهما على يومين أو عشرة أو شهر هذه المتعة مشارطة، أما هذا في قلبه في نيته والنية معفو عنها: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
س: يعني يجوز ذلك؟
الشيخ: هذا الصواب، نعم الذي عليه الجمهور يجوز.
س: ما يقال من النصح أن يخبرهم.
الشيخ: لا ما هو لزوم، ينبغي ألا يخبرهم بشيء، الحمد لله له الخيار إذا تزوج له الخيار في الطلاق حتى ولو ما نوى هذا، إذا أراد الطلاق عند خروجه من البلد من يمنعه.
س: وجهة من يقول: يقع الطلاق إذا طلق قبل النكاح؟
الشيخ: يقولون: لأنه علقه على الزواج، فكأنه طلقها بعد النكاح، إذا تزوجتها فهي طالق.
س:.......
الشيخ: نعم، والصواب مثل ما قال الجمهور لا يصح، وبعض الفقهاء فرّق: يُروى عن مالك وجماعة قال: إن كان بالتعميم لم يصح، وإن كان بالإفراد صح، فإن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق؛ لم يصح؛ لأن هذا سد على أسباب النكاح، أما إن كانت معينة إذا تزوجت فلانة.. إذا تزوجت من بني فلان فهي طالق فيصح؛ لأن هذا لا يحجر عليه بقية النساء، وهذا تفريق بغير حجة، مجرد رأي، والصواب أنه لا يصح مطلقًا.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِي، وَذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ .
الشيخ: والمعنى إذا قال: أختي أو أمي، وقصده التودُّد وأنها أخته في الله؛ لم يقع شيء، لا تكون محرّمة عليه؛ لأن بعض الأزواج قد يتساهل ويقول: يا أمي أو يا بنتي، للتودُّد والتعطُّف، وليس هذا من التحريم في شيء؛ لكن يكره أن يقال لها هذا الكلام، أما إذا قال لها: أنت أختي، يعني قصده: في الله، إذا دعت الحاجة إلى هذا، أو من باب إخبارها بحكم الشرع؛ فهذا ما يكون ظهارًا ولا تحريمًا.
س: وإذا قصد؟
الشيخ: صار ظهارًا، إذا قال: أنت أختي، يعني محرمة عليّ؛ صار ظهارًا .
س: وإذا قصد طلاقًا؟
الشيخ: الظاهر أنه على نيته، مثل إذا قال: أنتِ علي حرام، سواء بسواء.
س: أخوان من الرضاع تزوجا جاهلين الرضاع، فهل مجرد العلم يكفي للفُرقة أم لا بد من التطليق؟
الشيخ: لا، يكفي الفراق، إذا علم أنها أخته من الرضاع أو عمته أو خالته؛ كفى وبطل النكاح، ولا حاجة إلى .....
س:.......
الشيخ: ما يحتاج طلاق، لا.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَتَلاَ الشَّعْبِيُّ: لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وَمَا لاَ يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ المُوَسْوِسِ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ وَقَالَ عَلِيٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ ﷺ يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، فَعَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ: "لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ".
الشيخ: وهذا هو الصواب، المجنون محل إجماع، والمعتوه طلاقه لا يقع بإجماع المسلمين، وإنما الخلاف في السكران إذا كان عامدًا، أما لو كان غير عامد ما يقع طلاقًا، كالمجنون، لو أن إنسانًا سُقي ما يسكره ولا يعلم -خُدع ولم يعلم- لا يقع طلاقا؛ لأنه ليس بآثم.
س: بالإجماع؟
الشيخ: ما أظن فيه خلاف، إذا كان هكذا ما أعلم فيه خلافًا، ولم أتتبع هذا الشيء، ولكن ظاهره كالمجنون، يعني يلزم على القاعدة أنه لا يكون محل خلاف إلا إن يُظَنّ أنه كاذب ما خُدع. أما إذا كان عامدًا فهذا الأكثرون يرون أنه يقع ولا تكون المعصية مانعة من وقوعه، وثبت عن عثمان الخليفة رضي الله عنه وأرضاه وجماعة إلى أنه لا يقع، وقال: يكفيه حده الشرعي الجلد، ولا يفرّق بينه وبين أهله؛ لأنه لا عقل له، وهذا هو الصواب، الصواب أنه لا يقع، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وآخرون من أهل العلم؛ لأنه لا عقل له فهو يشبه المجنون، وكونه عاصيًا لا يجعل معصيته تحرّمه من نسائه، العاصي حده معروف وهو جلده وتأديبه الحد الشرعي، فلا يُجمع عليه بين الجلد وبين فراق نسائه.
س: سكر حمزة قبل التحريم؟
الشيخ: قبل التحريم؛ لأنه قُتل يوم أحد، والتحريم كان قبل فتح مكة بقليل.
الشيخ: وهذا يقع كثيرًا، الموسوسون في هذا كثيرون، يركب ويطلق، ويمشي ويطلق، موسوس طأ طأ طأ طالق وهكذا، والعياذ بالله يُبتلون بأمر يجعلهم كالمجانين، نسأل الله السلامة، والموسوس الذي ما عنده ضبط لنفسه ما يملك نفسه من الوسواس في صلاته وفي وضوئه وفي امرأته، سأل جماعة من الشباب عن هذا، عندهم الأعاجيب في هذا، نسأل الله السلامة، إن قام فهو يطلق، وإن جلس فهو يطلق، طأ طأ طالق، وهكذا عند قيامه وقعوده وفي نومه، نسأل الله العافية.
أيش قال عن عقبة بن عامر؟
الطالب: قَوْلُهُ: وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: "لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ" أَيْ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَلَا مُؤَاخَذَةَ بِمَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ، كَمَا سَيَأْتِي.
الشيخ: العيني موجود.
الطالب: نعم يا شيخ.
الشيخ: أيش قال العيني؟
الطالب: قوله: عُقْبة، بضم العين وسكون القاف: ابن عامر ابن عبس الجهني من جهينة ابن زيد بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة، وقال أبو عمر: سكن عقبة بن عامر مصر وكان واليًا عليها وابتنى بها دارًا، وتوفي في آخر خلافة معاوية، قلت: ولي مصر من قبل معاوية سنة أربع وأربعين، ثم عزله بمسلمة بن مخلد، وكان له دار بدمشق بناحية قنطرة سنان من باب توما، وذكر خليفة بن خياط قتل أبي عامر عقبة بن عامر الجهني يوم النهروان شهيدًا، وذلك في سنة ثمان وثلاثين، قال أبو عمر: هذا غلط منه، وقال الواقدي: شهد صفين مع معاوية وتحول إلى مصر وتوفي آخر خلافه معاوية ودفن بالمقطم، وقال الكرماني: عقبة بن عامر الجهني الصحابي الشريف المقري الفرضي الفصيح، هو كان البريد إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بفتح دمشق، ووصل إلى المدينة في سبعة أيام ورجع منها إلى الشام في يومين، ونصف بدعائه عند قبر النبي ﷺ، بذلك.
الشيخ: كلام الكرماني هذا ليس بشيء؛ لأن الدعاء عند قبر النبي ﷺ ما هو من المشروعات، إنما المشروع عند قبر النبي: السلام عليكم فقط، عليه الصلاة والسلام.
ثم أيضاً ما ذكر عمن نقله!
الطالب: وإنما قال: لا يجوز طلاق الموسوس؛ لأن الوسوسة حديث النفس، ولا مؤاخذة بما يقع في النفس.
الشيخ: هذا من كلام الحافظ.
س: ذكر الموسوس هنا، الموسوس يخرج ألفاظًا وليس من حديث النفس؟
الشيخ: يعني حكمه حكم حديث النفس، هذا مقصوده، بس ما كمّل البحث، لو قال: وحديثه وإن صرح به فهو حكمه حكم حديث النفس، لكن أتم البحث، لكن هذا مراده، مراده أن الكلمات التي تقع منه من جنس حديث النفس، ما هي مضبوطة يعني.
وعقبة بن عامر ثبت عنه في الصحيحين أن.... سأله عن الركعتين وهو أمير على مصر في آخر خلافة معاوية في الصحيحين عن ركعتين قبل المغرب قال: كنا نفعلها في عهد النبي ﷺ بعد الأذان قبل صلاة المغرب، فقال له السائل: ما يمنعك اليوم؟ قال: الشغل، كان منعه الشغل عن كونه يصليها قبل المغرب، يعني يأتي وقد اجتمع الناس فيقيم؛ لأن الأمير هو إمام الناس.
الشيخ: وهذا احتج به من يقول أن الطلاق المعلّق على المنع يقع، لكن الشيخ تقي الدين وابن القيم أجابوا أن هذا ليس بصريح، قد يكون أراد الطلاق.
س:.......
الشيخ: يعني أنتِ طالق إن فعلتِ كذا، يعني ما يقع ولو بدأ به، رد على من قال إذا بدأ به ....... فلا فرق .. إذا قال: أنت طالق إنْ قمت أو إنْ قمت فأنت طالق سواء بالشرط أو بدأ بالطلاق فالطلاق معلّق؛ لأن الكلام واحد متصل، لكن إذا قال: أنتِ طالق إذا دخل رمضان؛ تُقيّد، أو قال: إذا دخل رمضان فأنت طالق؛ قُدِّم الشرط، كله واحد لا فرق بين التقديم والتأخير.
الشيخ: هذا كلام مضبوط، كلام الزهري كلام مضبوط.
الشيخ: هذا على القول بأن الثلاث تمضي.
الشيخ: يعني له نيته، إذا أراد الطلاق فهو طلاق، وإن أراد أنها تذهب عندهم مثل ما قال كعب بن مالك: اذهبي إلى أهلك أو الحقي بأهلك؛ فهو على نيته.
الشيخ: هذا كلام عظيم.
س: معنى عن وطر؟
الشيخ: يعني عن قضاء حاجة، عن رغبة، يخرج المكره وشديد الغضب؛ فإنه لم يطلق عن وطر، بل عن إلجاء.
س:.......
الشيخ: العتق يعني، ما يكون .. العتق إلا إذا كان أراد به وجه الله.
س: تكلم على الوطر الحافظ وإلا العيني؟
الطالب: قَوْله: وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: "الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ" أَيْ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالنُّشُوزِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ دَائِمًا، وَالْوَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: الْحَاجَةُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَلَا يُبْنَى مِنْهَا فِعْلٌ.
الشيخ: أيش قال الشارح على: وقال علي؟
الطالب: قَوْلُهُ: وَقَالَ عَلِيٌّ: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنِ ثَلَاثَة عَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَعَن الصَّبِي حَتَّى يدْرك وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ" وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أبي ظبْيَان عَن ابن عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ وَهِيَ حُبْلَى فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "أَمَّا بَلَغَكَ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ وُضِعَ عَن ثَلَاثَة..." فَذكره، وَتَابعه ابن نُمَيْرٍ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فَصَرَّحَ فِيهِ بِالرَّفْع، أخرجه أَبُو دَاوُد وابن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا؛ لَكِنْ لم يذكر فيهمَا ابن عَبَّاسٍ، جَعَلَهُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ عَلِيٍّ، وَرُجِّحَ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَأَخَذَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ الْجُمْهُورُ؛ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي إِيقَاعِ طَلَاقِ الصَّبِي، فَعَن ابن الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ إِذَا عَقَلَ وَمَيَّزَ، وَحَدُّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ وَيُحْصِيَ الصَّلَاةَ، وَعِنْدَ عَطَاءٍ: إِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةُ: إِذَا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ عَلِيٌّ: "وَكُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ" وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ عَنْ عَلِيِّ بن الْجهد عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: "كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ" وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ صرح فِي بَعْضهَا سَماع عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: "الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ" وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالْمُرَادُ بِالْمَعْتُوهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا هَاءٌ: النَّاقِصُ الْعَقْلِ؛ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، وَفِيهِ خِلَافٌ قديم: ذكر ابن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ الْمُحَبِّرَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ مَعْتُوهًا فَأمرهَا ابن عُمَرَ بِالْعِدَّةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَعْتُوهٌ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَسْمَعِ اللَّهَ اسْتَثْنَى لِلْمَعْتُوهِ طَلَاقًا وَلَا غَيره، وَذكر ابن أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ.
الشيخ: والصواب مثل ما قال علي، والحديث هذا... المؤلف رحمه الله غريب يعني، الحديث هذا جاء عن عائشة بسند جيد: رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ غير رواية علي، ما ذكرها هنا، المقصود: الصواب مثل ما جاء في الحديث لا طلاق لهذا ولا لهذا، المعتوه: ضعيف العقل، ما يُعد مع العقلاء، مجنون لكن لا يصرع، والنائم معروف قد يطلق في نومه، والعجب أنه يوجد من يسأل الآن: طلقت في نومي، ويسأل: هل يقع الطلاق؟ لا يقع الطلاق من نائم بلا شك.
وأما الصبي فهو محل نظر، وظاهر الحديث أنه لا يقع؛ لأن عقله ضعيف، قد يقدَّم على الطلاق بغير بصيرة، والنبي ﷺ قال: حتى يبلغ حتى يدرك، وبعض أهل العلم علَّقوا في عقله: إذا عقل وميَّز يقع الطلاق، وفي هذا نظر، في وقوع طلاق الصبي نظر، وظاهر الحديث يمنع ذلك، فكما أنه لا يأثم في الأمور الأخرى ولا تعتق عبيده؛ لضعفه في تصرفاته، فكيف يُفرَّق بينه وبين زوجته، فالأظهر -والله أعلم- والأقرب أنه لا يقع إلا إذا بلغ؛ لظاهر الحديث، وللمعنى أيضاً.
الشيخ: ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا طلق في نفسه وعزم على الطلاق: لا يقع الطلاق حتى يتلفظ أو يكتب، وما دام في نفسه لا يقع الطلاق، ولا يقع العتق حتى يتكلم.
س: كافر عزم على الإيمان ولم يتكلم؟
الشيخ: ما يصير مؤمنًا حتى يتكلم، حتى يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. إلا إذا كان ما يتكلم، أخرس، وعزم على الدخول في الإسلام بقلبه ونيته؛ فهو على ما عزم عليه.
س: لو كتب، وما تلفظ؟
الشيخ: ما أدري. الأقرب -والله أعلم- أنه لا بدّ من نطق، إذا كان ينطق، العلماء صرحوا بأنه إذا لم ينطق يكون كافرًا، والنبي قال: حتى يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا الكافر ما قال.
س:.......
الشيخ: الطلاق يقع، مثل لو كتب الدين، أو كتب غيره من الحقوق.
س: إذا نوى الأخرس الطلاق؟
الشيخ: الظاهر أنه إذا نوى الطلاق وهو أخرس وأشار بما يدل على ذلك فالإشارة تقوم مقام الكلام، لا بدّ من إشارة مع النية.
س: لو قال في مجلس لصاحبه: أريد أن أطلق زوجتي؟
الشيخ: ما يقع، إلا إذا قال: هي طالق أو طلقتها، أما قوله: أريد، ما يقع، سواء في مجلس أو ما في مجلس، جماعة يعني أو لوحده.
الشيخ: هذا تقدَّم.
5272 - وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ».
الشيخ: تكلم فيه.
الطالب: وَقَوْلُهُ: جَمَزَ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَبِزَايٍ، أَيْ: أسْرع هَارِبا.
الشيخ: فلما أذلقته؟
الطالب: قوله: (فلما أذلقته الحجارة) بالذال المعجمة وباللام والقاف، أي: أقلقته، يعني: بلغ منه الجهد حتى قلق، ويقال: أي أصابته بحدّها فعقرته، وذلق كل شيء: حده.
قوله: (جمز) بالجيم والميم والزاء، أي: أسرع هاربًا من القتل، يقال: جمز يجمز جمزًا من باب ضرب يضرب.
الشيخ: المؤلف في هذا -رحمه الله- انبسط كأنه كتبه وهو منشرح الصدر، انبسط في الطلاق أكثر من غيره، رحمه الله.
الطالب:.........
الشيخ: نعم.
الطالب: الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الَّذِي أقرّ بالزنى فَرُجِمَ ذَكَرَهَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ الزَّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟) فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يُعْمَلْ بِإِقْرَارِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ: هَلْ كَانَ بِكَ جُنُونٌ أَوْ هَلْ تُجَنُّ تَارَةً وَتُفِيقُ تَارَةً؟
الشيخ: يكفي، يُستفاد من هذا أيضًا أن من جاء تائبًا يعرض عنه لعله يرجع، ولعله يستتر بستر الله ولا يحتاج إلى حد؛ لأنه أعرض عنه مرات عليه الصلاة والسلام، إذْ جاء تائبًا نادمًا خائفًا.
الطالب: وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حِينَ الْمُخَاطَبَةِ مُفِيقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَ لَهُ الْخِطَابَ، وَالْمُرَادُ اسْتِفْهَامُ مَنْ حَضَرَ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، الحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْرَدَهَا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا أَيْضًا فِي الْحُدُودِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْآخِرَ قَدْ زَنَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيِ: الْمُتَأَخِّرَ عَنِ السَّعَادَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَرْذَلُ.
س: رجل عنده زوجتان، وإذا سئل عن فلانة يقول: هي مطلقة؟ وهي ليست مطلقة، وإنما هو خائف من ضرر الأخرى؟
الشيخ: يقع عليها الطلاق، إذا قال: هي مطلقة؛ يؤخذ بقوله.
س: يقول: أنا ما نويت؟
الشيخ: ولو ما نوى، ما دام صرَّح بالطلاق.
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]- إِلَى قَوْلِهِ - الظَّالِمُونَ [البقرة:229] وَأَجَازَ عُمَرُ الخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ الخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229] فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي العِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ: لاَ يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لاَ أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ.
5273 - حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: "لاَ يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ".
الشيخ: وهذا الحديث العظيم أصل عظيم في أمر الخلع والمخالعة، والخلع: هو فراق المرأة على مال تبذله لزوجها، يقال خلعها أخذًا من خلع القميص يعني خلعها من عصمته بطلقة حين تعطيه شيئًا من المال، وهذا يقع كثيرًا عند عدم المودة أو أسباب تجدّ تجعل المرأة تنفر من زوجها ولا تقوم بواجبه، والأصل أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ مما أعطاها شيئًا، إذا لم تناسبه طلقها ولم يأخذ شيئًا، كما قال تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229] كذلك قوله: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232] المقصود أن الرب عز وجل حرَّم على الزوج أن يأخذ مما أعطاها شيئًا إلا من وجه شرعي، فإذا ساءت العشرة بينهما بسبب كراهتها له وبغضها له وخشيتها ألا تقوم بحدود الله في حقه فإنها تبذل له شيئًا من المال ويفارقها، وهكذا امرأة ثابت بن قيس كرهت ثابتًا وقالت: "لا أعتب عليه"، وفي اللفظ الآخر: "لا أعيب عليه خلقًا ولا دينًا"؛ لأنه من الصلحاء والأخيار، ما أقول في خلقه ولا في دينه شيئًا، ولكني أكره الكفر في الإسلام .. فلهذا قال لها: أتردين عليه حديقته؟ والحديقة: بستان أعطاه إياها مهرًا، فقالت: نعم، فقال: اقبل الحديقة، فأخذ أهل العلم من هذا الحديث قالوا يشرع له في هذه الحال أن يقبل مهره وأن يطلقها، وقال قوم: بل يجب عليه؛ لقوله: اقبل، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وأفتى به جماعة من أهل العلم، والمشهور عند أهل العلم أنه مشروع ومستحب له أن يقبل، والقول بالوجوب قول قوي عند الحاجة إلى ذلك، عند سوء الحال؛ إذ الأصل في الأوامر الوجوب، هذا هو الأصل ولا تصرف عنه إلا بدليل، وليس هناك دليل واضح يدل على صرفه إلى السُّنية، والضرورة قد تدعو إلى الوجوب؛ لأن بعض الأزواج قد يتعسّر ويأبى ولو أعطته كل شيء ويعاندها ويأبى القبول؛ فحينئذ يتدخل الحاكم الشرعي في هذا الأمر فيلزم الزوج بالمفارقة والقبول عند عدم تيسُّر بقاء الزوجة، ينصحهما ويجتهد في التأليف بينهما وينصحها ويشير عليها ويخوفها من الله عز وجل، ويشير على الزوج بأن يرضيها بشيء، وعلى أوليائها كذلك؛ لعلهم يساعدون، فإذا كانت الحال لا حيلة فيها والمرأة مصممة على عدم الرجوع وأنها لا تستطيع البقاء معه فحينئذ يتوجه الإلزام، ولاسيما عند ظهور أسباب الخلاف، وعندما يعلم تقوى المرأة وخوفها من الله ، على كل حال القاضي له فيها النظر والعناية وتقوى الله في ذلك فإذا اتضح له وتوجه عنده إلزام الزوج ألزمه بالفراق وقبول المهر، ثم اختلف العلماء: هل يجوز أن يطلب زيادة؛ فذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يقبل الزيادة وأن يطلب الزيادة لكن يكره، فإذا كان أعطاها مثلاً عشرة آلاف ليس له أن يأخذ زيادة، تكفيه العشرة التي أمهرها إياها، ولا مانع أن يحسب ما أنفق مع المهر..... أو نفقة الوليمة؛ لأنها بأسبابها، فهي ملحقة بالمهر، وقال الجمهور: يجوز الزيادة مع الكراهة؛ لقول عثمان: الخلع دون عقاصها، يعني على كل شيء أعطته كل شيء حتى فارقها، وجاء في بعض الروايات حديث ثابت: اقبل الحديقة ولا تزدد ولا بأس بإسنادها، هذه الزيادة لا بأس بها، وهي حجة على القول بأنه لا تجوز له الزيادة؛ لأن طمع الناس لا حد له، فإذا سمح له بزيادة فإنه لا يقف عند حد حتى يُعجزها حتى يلجئها إلى البقاء معطلة محسرة لا ذات زوج ولا مطلقة؛ فالأقرب والأظهر أنه ليس له إلا ما قدَّم لها فقط، وقد وقعت لي هذه المسألة حين وليت القضاء مرتين، فألزمت الزوج بالفراق وأن يقبل حقه الذي دفعه إليها ويفارقها، وقد دعت الحاجة إلى أن يقبل حتى ألجأت الحالة إلى السجن، فأمرت بسجنه لطول الخلاف بينهما والنزاع، وبعد مدة يسيرة من السجن لا أذكرها الآن وافق على طلاقها، ولم يقبل منها شيئًا، وطلقها بدون شيء وترك المهر لها الذي كان قد أبى أن يقبل ترك المهر وطلقها.
فالمقصود أن غالب الأزواج في هذه الحالة يشدّدون ويأبون ويعاندون ويطلبون شيئًا خياليًّا كثيرًا فإذا تساهل معهم القاضي فإنهم لا يقفون عند حد، فالأظهر والأقرب أنه لا يُعطى إلا ما قدَّم إلا أن تسمح زوجته بشيء زائد من نفسها فلا بأس، ويلزم بذلك عند الحاجة إليه، ويحتج بهذه الرواية التي فيها: ولا تزدد، وبالمعنى أيضاً فإنه أعطاها شيئًا فرددته عليه فماذا يطلب بعد ذلك، والله الذي يجمع بين القلوب، والمعاشرة بالمعروف غير متيسرة؛ فلا معروف حينئذ ولا معاشرة، ولكن العداوة والبغضاء وتعطُّل الزوج إن كان عاجزًا لا يتزوج وتعطُّلها هي كذلك بأن تبقى بلا زوج، وهذا شيء لا تأتي به الشريعة الكاملة، والله ولي التوفيق.
س: لماذا سمّيت عدم محبتها لزوجها كفرًا في الإسلام؟
الشيخ: قد يكون معناها: كفر العشير، كانوا في الجاهلية ما يبالون، لكن مع البغضاء ما تقوم بواجبه، فتكفر العشير ولا تبالي، ويُحتمل معنى ثانٍ: تكره الكفر في الإسلام، يعني: أن ترجع إلى الكفر بعدما هداها الله إلى الإسلام بأسبابه، يعني: قد يلجئها إلى أن تكفر فتحرُم عليه.
س: إذا طلقها على شيء من المال يجوز له الرجعة بعدين؟
الشيخ: يجوز بنكاح جديد؛ لأنها تحرم عليه تَبِين منه بينونة صغرى، إذا طلقها طلقة واحدة بينونة صغرى، مثل التي خرجت من العدة طلقة واحدة وخرجت من العدة تحل له بنكاح جديد إذا رضيت بالعود إليه، إذا كان الطلاق واحدة أو اثنتين. أما إذا كان الطلاق الأخير هو آخر الثلاث لم تحل له إلا بعد زوج.
س: قوله: قال أبو عبدالله: لا يتابع فيه ابن عباس؟
الشيخ: أحد الرواة أيش قال الشارح.
الطالب: قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ، هُوَ الْبُخَارِيُّ، قَوْلُهُ: لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَيْ: لَا يُتَابَعُ أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ عَن ذكر ابن عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
الشيخ: يعني شيخ المؤلف أزهر، يعني الآخرون يرسلونه عن عكرمة وهو وصله.
الطالب: بَلْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ خُصُوصُ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَة وَلِهَذَا عقبَة بِرِوَايَة خَالِد وَهُوَ ابن عَبْدِاللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مُرْسَلًا، وَعَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا، وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الموصولة وَصلهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ.
س:.......
الشيخ: هذا من كلام طاوس، يعني بعض السفهاء يقول: ما يصير خلع إلا إذا قالت: لا أغتسل له من جنابة، يعني: لا أمكّنه من نفسي، أو إن مكّنته لا أغتسل من الجنابة، لكن معناه كناية أني لا أمكّنه من الوطء، المقصود إذا ساءت الحال بينهما ولو ما هي عنده ..
س: القول بأن الخلع ليس بطلاق؟
الشيخ: قول جماعة من أهل العلم، ويُروى عن ابن عباس وهو ليس بجيد، وقول الجمهور أوْلى؛ لأن النبي ﷺ قال: طلقها تطليقة صرَّح عليه الصلاة والسلام.
س: له أن يطلِّق أكثر واحدة أو ثلاثًا؟
الشيخ: لا، ما ينبغي له أن يطلق زيادة، السُّنة واحدة، وقول بعض الفقهاء: طلقها كذا وكذا، ليس له وجه؛ لأنها قد ترجع وقد يغيِّر الله الحال، وأيش الداعي لهذا، ولهذا النبي قال: طلقها تطليقة قيَّده؛ لأن الحال قد يغيرها الله بعد ذلك فلا يسد الطريق على نفسه.
س:...
الشيخ: تعتد عند أهلها؛ لأنه طلاقٌ بائن...