كِتَابُ الْبُيُوعِ
بَابُ شُرُوطِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهُ
784- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
785- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺيَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ.
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
786- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ أَوْ يَتَتَارَكَانِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
787- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: يقول رحمه الله: كتاب البيوع.
لما فرغ المؤلفُ من العبادات، اصطلح كثيرٌ من الفقهاء قديمًا وحديثًا على أن يذكروا جملةً في العبادات، وجملةً في المعاملات، وجملةً في النكاح والطلاق والعدة وما يتعلق بذلك، وجملةً من الأحاديث فيما يتعلق بالدَّعاوى والخصومات والجنايات وغير ذلك؛ ولهذا يُسمون: ربع العبادات، ربع المعاملات، يعني: أنهم حصروا ما يتعلق بالأحكام في أربعة أقسام، كل قسم يُسمَّى: ربعًا، بالنسبة إلى التقسيم، وهذا اصطلاح.
وقد يُقسم إلى أكثر من ذلك:
- فالعبادات قسم.
- والمعاملات من البيع والشراء والتِّجارات والمساقاة والشركات وغير ذلك قسم، ويلتحق بذلك الأوقاف والوصايا والهبات والمواريث.
- وقسم يتعلق بالنكاح والطلاق والعدة ونفقات الزوجات، وما يلتحق بذلك من الظهار والإيلاء وغير ذلك.
- وقسم رابع فيما يتعلق بالجنايات والديات والخصومات.
ولا مشاحة في الاصطلاح، لو قسمت إلى أكثر من ذلك لا مشاحة.
فالحاصل أنَّ هذا شروع في القسم الثاني، وهو ما يتعلق بالمعاملات.
والبيوع جمع: بيع، جمعه لتنوعه، فإنه أنواع، البيوع أنواع مختلفة بحسب اختلاف عين المبيع وعين الثمن؛ فلهذا صارت أنواعًا متعددة، وهي تنحصر في تسعة أنواع: نوع منها غير صحيح، وثمانية صحيحة إذا توافرت شروطها، وهي مبنية على أنَّ البيع مُبادلة مال بمال، "هذا البيع: مبادلة مال بمالٍ على وجه العوض غير ربا وقرض" فالمعاملات الربوية والقروض لا تُسمَّى: بيعًا؛ لأنَّ القرض يُقصد منه .....، والربا محرم باطل، فالمراد بالمعاملات والبيوع التي ليس فيها ربا، وليست مرادًا بها القرض يعني: هي مبادلة مال بمال على وجه طلب الفائدة والربح والمنفعة، لا على وجه .....
والحكمة في ذلك والله أعلم: أن الناس محتاجون، كل واحدٍ محتاج لما في يد صاحبه من متاعٍ حتى تستقيم هذه الدنيا، وقد لا يسمح صاحبُه بذلك، فشرع الله البيع والمعاوضة حتى يتمكن الإنسانُ من حاجته من أخيه: قد يحتاج إلى منزلٍ، قد يحتاج إلى مركوبٍ، قد يحتاج إلى سلاحٍ، وليس كل أحدٍ يسمح بهذا الشيء تبرعًا، فمن حكمة الله أن شرع البيع والمعاوضة حتى يتمكن كل واحدٍ من قضاء حاجته التي عند أخيه: من طعامٍ، أو لباسٍ، أو سلاحٍ، أو غير ذلك.
والصور تسع مبنية على ضرب ثلاث في ثلاث، فإنَّ المبيع إما أن يكون عينًا، وإما أن يكون دينًا، وإما أن يكون منفعةً. هذه ثلاث، والثمن كذلك: إما أن يكون عينًا، أو دينًا، أو منفعةً. هذه الثلاث، ثلاث في ثلاث بتسع.
هذه صور البيع: تسع صور، منها واحدة لا تصحّ وهي: دين بدينٍ، لا تصح، والبقية تصح بشروطها: عين بعين، عين بدينٍ، عين بمنفعةٍ، دَين بعينٍ، دَين بدينٍ، دَين بمنفعةٍ، منفعة بعينٍ، منفعة بدينٍ، منفعة بمنفعةٍ. هذه تسع، منها صورة واحدة وهي: دَين بدَين، هذا الكالئ بالكالئ لا يصحّ عند الجميع، بيع الدَّين بالدَّين لا يصح عند الجميع، وهو بيع الكالئ بالكالئ، والبقية صحيحة إذا توافرت فيها الشروط؛ ولهذا قال: باب شروطه وما نُهي عنه. يعني: باب ذكر ما جاء من الأحاديث في الشروط، وما جاء في المنهي عنه من المبيعات، فإنَّ الأحاديث جاءت فيها شروط، وجاء فيها ذكر أشياء لا تُباع، يُنهى عن بيعها.
فالمؤلف يريد أن يذكر بعض الأحاديث الواردة في هذا وفي هذا، والشروط نبَّه عليها العلماءُ، جمعوها في سبعة شروط تُعرف بالاستقراء من الأحاديث والآيات، وأهمها التراضي: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
الحديث الأول: حديث رفاعة بن رافع الأنصاري : أن النبي ﷺ سُئل: أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور.
هذا يُبين لنا أنَّ البيع مما شرعه الله ، وأنَّ ما ينتج عنه كسبه طيب ومباح إذا كان بيعًا مبرورًا، يعني: قد استوفى شروطه، وانتفت موانعه، فهو بيع مبرور، ومن ذلك: ما يخلو من الكذب والغش، كما في الحديث الصحيح: البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركةُ بيعهما.
فالبيع المبرور المستوفي للشروط، السَّليم من الكذب والغشّ؛ من الكسب الطيب، عمل الرجل بيده هذا من الكسب الطيب: كالنجارة، والخرازة، والحدادة، والزراعة، والكتابة، وأشباه ذلك من أعمال الرجل بيده.
اختلف العلماءُ: أيها أطيب؟ فقال قومٌ: الزراعة. وقال قوم: التجارة. وقال قوم: الصناعة. وأرجحها وأقومها عمل الرجل بيده، هو أحسن شيءٍ، وأحلّ شيءٍ، ويدخل فيه الزراعة؛ فإنها من عمل الرجل بيده، إذا كان يتولاها بنفسه هي من عمل الرجل بيده، وإن كان يتولاها الوكلاء والنُّواب لم تكن عملًا بيده، ولكنها عمل نوابه، فكأنه عمل يده؛ لأن النائب يقوم مقامه بالأجرة أو بالتَّبرع، فهو قائم مقامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر رحمهم الله: وأعلاها في الحقيقة -أعلى كسب اليد- الغنيمة؛ فإنها كسب النبي ﷺ، وقد أحلَّها الله لهذه الأمة: المغانم، فهي أحسن الأكساب؛ لحديث: وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي، فهي أحسن الأكساب، وهي من عمل الرجل بيده.
ومن هنا يظهر أنه ينبغي للمؤمن أن يكون له كسب، وأن يعتني بالكسب بيده؛ حتى يأكل حلالًا، ويلبس حلالًا، ويشرب حلالًا، ويتصدق بحلالٍ، والصناعات كلها من عمل الرجل بيده، سواء كان مباشرةً أو بوكيله أو نائبه؛ لأنه عمل الرجل بيده، والمكاسب متعددة متنوعة: كالتجارات، والصناعات، ولكن كلها لا بدَّ فيها من التَّحري: في الصدق، وعدم الغشّ والكذب، واستيفاء الشروط، بحيث يكون المبيعُ قد استوفى الشروط، والثمن كذلك، والبائع كذلك ممن يجوز تصرفه، إلى غير ذلك من الشروط المعروفة، فإذا استوفى البيعُ الشروطَ فهو من الكسب الحلال والتِّجارة الرابحة.
والحديث الثاني حديث جابر: أنَّ النبي ﷺ خطب يوم الفتح وقال: إنَّ الله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
الحديث هذا يُبين لنا أنَّ هذه محرمات، وأنَّ الله ورسوله "حرَّم" أفرد الفعل لأنَّ التحريم في الحقيقة إلى الله، والرسول مبلغ؛ فلهذا جاء إفراد الفعل "حرم"، وذكر الشارحُ في روايةٍ: "حرما"، ولا يُستنكر ذلك؛ لأنهما اثنان: فالله محرم، والرسول مُبلغ.
وفي حديث أنسٍ في "الصحيحين": إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فالله هو الأصل ، والرسول مُبلغ.
فإنَّ الخمر والميتة والخنزير هذا محرم بإجماع المسلمين، ليس في هذا إشكال، وهكذا بيع الأصنام؛ لأنَّ بيعها وسيلة إلى الإعانة على عبادتها من دون الله، وعبادتها أعظم الذنوب، وأكبر الجرائم، فحرم الله بيعها لأنه وسيلة إلى الشرك.
والأصنام جمع: صنم، وأصح ما قيل فيه: إنه ما نُحت على صورةٍ. هذا هو الصنم، ويُطلق عليه الوثن، قال الجوهري: إنه الوثن. وليس بجيدٍ؛ فالصنم هو ما نُحت على صورةٍ، والوثن أعمّ من ذلك؛ فيُطلق على الأصنام أنها أوثان، ولا يقال للوثن كالشجرة والحجر: أنه صنم، إلا إذا كانت له صورة: كصورة أسد، أو نمر، أو إنسان، أو ما أشبه ذلك.
فقيل له بعد ذلك، سُئل عن شحوم الميتة، قيل له: إنها يُطلى بها السفن، ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال: لا، هو حرام.
هذا اختلف فيه العلماءُ: هل مراد هو حرام يعني: هذا التصرف، أو المراد البيع، يعني: لا يجوز ذلك، يعني: لا تُباع، فهو حرام بيعها، أو المعنى: لا يُفعل بها هذا لأنها حرام؛ ولأنَّ هذا وسيلة إلى بيعها؟
على قولين: بعض أهل التَّحقيق رجَّح أنَّ المراد هو النَّهي عن البيع، وأما هذه الأشياء فلا بأس بها؛ لأنها أموال عظيمة قد تنجس فيستصبح بها، ويُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود؛ لئلا تضيع.
وقال آخرون: بل يعود على الجميع: على البيع، وعلى هذه الأشياء، وأنها لا تجوز؛ لأنَّ شحوم الميتة محرمة، واستعمالها في هذه الأمور وسيلة إلى بيعها، كما فعل اليهود؛ فتحرم من باب تحريم الوسائل لخبثها ونجاستها، فلا يجوز بيعها، ولا يجوز استعمالها في هذا الاستعمال، وهو ظاهر السياق، ظاهر السياق منع استعمال الشحوم في هذه الأشياء؛ لأنَّ استعمالها لهذا وسيلة إلى بيعها، فيحرم بيعها، فتتلف إتلافًا من غير أن تُستعمل .....؛ لأنَّ دهن الجلود والاستصباح بها وسيلة إلى التَّلطخ بها، ووسيلة إلى بيعها.
فلهذا الأرجح عندي والأقرب عندي المنع، وأنه يُمنع بيعها، وهذه التَّصرفات أيضًا، وأنَّ الحديث يعمّ هذا وهذا.
وفي هذا تحذير من عمل اليهود -قبَّحهم الله- وأنهم أهل الحيل والمكر، فإنهم لما حرَّم عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وقالوا: ما بعنا شحمًا، بعنا ذوبًا! وهذا من أقبح الحيلة، وكذلك لما حرَّم عليهم الصيد يوم السبت نصبوا الشباك يوم الجمعة، ثم أخذوا الصيد يوم الأحد وقالوا: ما صدنا يوم السبت! وهذه من حيلهم؛ ولهذا روى ابن بطة رحمه الله بسندٍ جيدٍ عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهودُ؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
فاليهود قوم بهت، وقوم مكر وحيل، فلا يجوز التَّشبه بهم، ومن المصائب أنَّ الأمة تشبَّهت بهم إلا مَن عصم الله في الحيل والمكر واستحلال ما حرَّم الله بأدنى الحيل، نسأل الله السلامة.
والحديث الثالث: حديث عبدالله بن مسعود الهذلي، أحد علماء الصحابة وكبارهم ، يقول أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله ربُّ السلعة أو يتتاركان.
هذا الحديث أعلَّه بعضُهم بالاضطراب، وأنَّ في بعضه: سلعةً قائمةً، وفي بعضه: سلعةً تالفةً.
وبكل حالٍ، فهو طرقه يشدّ بعضُها بعضًا، وهو موافق للأدلة والقواعد الشرعية، فإذا اختلفوا وتنازعوا ولا بينةَ فإنَّ القول قول رب السلعة فيما يدَّعيه، أو يتفاسخان ويتتاركان، فإما أن يقبل قوله، وإما الفسخ.
فإذا باعه سلعةً بعشرة آلاف مثلًا، وقال المشتري: لا، اشتريتها منك بتسعةٍ. ولا بينة، فالقول قول رب السلعة، يحلف أنه باعها بعشرةٍ، وإلا فيتفاسخان.
قال العلماء: وله على المشتري اليمين. وهذا مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى: من حديث ابن عباسٍ الصحيح: لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه، وفي اللفظ الآخر: ولكن البينة على المدَّعي، واليمين على المنكر.
فعلى هذا يتحالفان: فإما أن يقبل قول البائع ويأخذ السلعة بما قال البائع، وإما أن يحلف ضدّ قول البائع، وأنه ما اشتراها بعشرةٍ، وإنما اشتراها بتسعةٍ، ويتفاسخان إن لم يرضَ البائع بقوله.
هذا هو أحسن ما قيل في هذا الحديث، وأولى ما قيل في هذا الحديث، وهو موافق للقواعد الشرعية، ولو لم يصحّ الحديث لكان هذا هو الجواب، فكيف وقد جاء هذا الحديث في المقام مُوافقًا للأصول والقواعد؟ فهو ماشٍ على القواعد: إما أن يقبل قوله -يعني: بيمينه على القاعدة- وإما أن يحلف المشتري ويتفاسخان، وترجع السلعةُ إلى صاحبها.
والحديث الرابع حديث أبي مسعودٍ : أبو مسعودٍ هذا هو الأنصاري عقبة بن عمرو البدري الأنصاري ، يقول أنَّ النبي ﷺ نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
هذه الثلاث من أخبث الأشياء؛ ولهذا في حديث رافع بن خديج: ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، فهو شاهد لهذا، فالكلب لا يُباع مطلقًا، ولو كان كلب صيدٍ أو ماشيةٍ أو زرعٍ؛ لعموم الحديث، وأما حديث الاستثناء: إلا كلب صيدٍ فليس بجيدٍ عند أهل العلم، ولا يقوى على تخصيص هذا الحديث.
"ومهر البغي" البغي -بالتَّشديد- هي الزانية، فما يُدفع لها ليس حلالًا لها؛ لأنه في مقابل ما حرَّم الله عليها من الزنا، فليس لها أكله، وليس لها استعماله، بل يجب عليها صرفه في جهة خيرٍ، ولا يُردّ على الزاني؛ لئلا يجمع بين العوض والمعوض، فالزاني لا يحلّ أن يُدفع إليه ويُعاد إليه كما قال ابنُ القيم رحمه الله، ولا تأكله هي؛ لأنه خبيث، فيُصرف في جهةٍ من جهات البرِّ: كالصدقة في الفقراء والمساكين، وأشباه ذلك مما تُصرف فيه الأموال الضَّائعة والأموال المجهولة، والأموال التي حرَّمها الله، ولا تُرد إلى أربابها.
وهكذا حلون الكاهن لا يُصرف إلى صاحبه، ولا يُعطاه الكاهن، بل هو محرم؛ لأنه في مقابل دعوى علم الغيب، وهو كذاب يكذب على الناس، ويستحلّ أموالهم بغير حقٍّ، فهذا الحلوان الذي يُعطى إياه سُمي: حلوانًا من الحلاوة، يعني: يأخذه بسهولةٍ من دون كلفةٍ، مجرد أنه قال له: يكون كذا، ويكون كذا، ويُولد لك كذا، ويحصل لك كذا، من كذبه وحيله ومكره، فلا يحلّ هذا العوض، بل هو باطل ومحرم، ولا يُعاد إلى الباذل؛ لأنه إعانة له على الإثم والعدوان، وأن يعود إلى مثل هذا، ولكن يُصرف في بعض جهات الخير كما قال ابنُ القيم رحمه الله، وهو كلام حسن، كلام جيد، والله أعلم.
س: ............؟
ج: يُرد على صاحبه، البيع باطل، بيع باطل يُرد على صاحبه.
س: ............؟
ج: لا بأس بالكرامة، جاء في بعض الأحاديث لا بأس بالكرامة، ولكن لا يكون بيع وشراء.
س: .............؟
ج: إذا اصطلحوا لا بأس، مثلما قال النبيُّ، أو يتتاركان، إذا اصطلحوا لا بأس، هذا فيه الصلح، إذا اصطلحوا لا بأس.
س: .............؟
ج: إذا أصلحوا بينهم وتراضوا لا بأس، ما يُجبرون، فقط بالتراضي.
س: ..............؟
ج: الكلام واحد، إذا اصطلحوا ما في شيء، سواء خمسين أو مئة أو عشرة، كلها واحد، الصلح جائز بين المسلمين ما لم يكن فيه حرام.
س: .............؟
ج: لا يعمل في الربا، ولا يأخذ الربا أصلًا، لكن لو فعله عن جهلٍ، دخل عليه عن جهلٍ يصرفه في وجوه البرِّ، مثل: الفقراء والمساكين وإصلاح الطرقات ودورات المياه وأشباه ذلك، أما أنه يتعمد: يتَّفق معهم على الربا ويقول: أفعل كذا، لا يجوز، نسأل الله العافية.
س: ............؟
ج: محل نظرٍ، اختلف العلماءُ في هذا، قيل: إنه منسوخ بالأحاديث الكثيرة الصَّحيحة التي فيها جمع الضميرين، والنبي ﷺ قد فعل ذلك أيضًا: "ومَن أطاعهما فقد رشد، ومَن يعصيهما فقد غوى" .....، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، إنَّ الله ورسوله ينهيانكم، قيل: إنَّ هذه الأحاديث الكثيرة فيها جمع بين الضَّميرين، فيكون ذاك منسوخًا، ويكون نهى عنه النبي أولًا، أو لأنه نهى عن ذلك لئلا يظنّ أن المعصية إنما تكون لهما جميعًا، لا لواحدٍ منهما، وهذا في المعصية فقط، والأقرب والله أعلم أنه منسوخ؛ لأنَّ الأحاديث الكثيرة فيها التَّثنية، أو شاذّ على الاصطلاح الثاني؛ لأنَّ القاعدة: إذا روى الثقةُ الأحاديثَ التي هي أثبت منه يكون شاذًّا، وهو أولى من النَّسخ، الشذوذ أولى من النَّسخ.
س: ...............؟
ج: المشهور عند العلماء: لنجاستها وخبثها، الخمر نجسة، والميتة نجسة، والخنزير نجس، وقد اعترض على هذا بأنه لا يلزم من ذلك التَّحريم، ولكن المشهور عند العلماء هو هذا، وعلى هذا قالوا: كل نجسٍ لا يُباع بناءً على هذا.
س: ..............؟
ج: بجامع العلة، يعني: نجسة، وقال قومٌ: بل الجماع أنها محرمة؛ لما فيها من العلل والفساد، حرم بيعها لما فيها من مضرةٍ على آكل الميتة، ومضرة على آكل الخنزير، ومضرة على شارب الخمر، لا لمجرد النَّجاسة فقط، بل للمضارِّ التي تجتمع عليها هذه الأمور، والقول قوي، له قوته.
س: .............؟
ج: لا، ما يجوز بيعه، لكن إذا كسره صاحبه لا بأس يُكسر، أما أن يُباع على حاله ما يجوز، لكن إذا كسره، والواجب تكسيره، ولا يقرّ، يجب أن يُكسر ثم يبيع كسره.
788- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ﷺ، فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ.
789- وَعَنْهُ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَبَاعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
790- وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ وَرَضِيَ عَنْهَا: أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهَا، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: فِي سَمْنٍ جَامِدٍ.
791- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَايِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِالْوَهْمِ.
792- وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ، فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ: إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ.
الشيخ: هذا حديث جابرٍ رضي الله عنه وأرضاه، وهو جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري، صحابي وأبوه صحابي رضي الله عنهما، قُتل يوم أحد والده ، كان له جملٌ قد أعيا في بعض أسفار النبي ﷺ، فلحقه النبيُّ ﷺ، وكان النبيُّ ﷺ كثيرًا ما يكون في مُؤخر الجيش؛ يُلاحظ الجيش، ويرفق بهم عليه الصلاة والسلام، ويُلاحظ مَن كان عنده تعبٌ أو إعياء أو كذا؛ حتى لا يشقّ عليه، فأدرك جابرًا في مُؤخر القوم، فقال: ما لك؟ فأخبره عن بعيره، فنزل النبيُّ ﷺ وحجن بعيره بعصا في يده، فسار سيرًا جيدًا حتى صار في مقدم القوم، ثم قال: بعنيه، فقال: هو لك، كما في الرواية الأخرى: هو لك يا رسول الله، قال: لا، بعنيه، فلم يزل يُماكسه فيه حتى باعه عليه عليه الصلاة والسلام، واشترط جابرٌ حملانه إلى أهله، يعني: ظهر البعير حتى يصل إلى أهله، فوافق النبيُّ ﷺ على ذلك، فلما وصل إلى المدينة أتى بالبعير، فنقده النبي الثَّمن، وأمر بلالًا أن يرجح له ويزيده، ثم أعطاه الثمن، وأعطاه المبيع بعد ذلك -البعير- هذا له قصة قد ساقها مسلمٌ بعدة طرقٍ رحمة الله عليه، وعني بهذا الحديث جيدًا.
والخلاصة أنَّ الرسول ﷺ ماكسه واشتراه ..... لفائدة الأمة؛ لتعلم الأمةُ جواز مثل هذا، وأنه لا بأس أن يسوم الرئيسُ من المرؤوس، وأن يشتري الرئيسُ من المرؤوس، وأن يُماكسه، وأن يتكلم معه في السلعة، إلى غير ذلك مما قد يحتاجه في البيع والشراء، وأنه لا حرجَ في ذلك.
والمماكسة هي المكاسرة، يُسمونها -الناس- اليوم: يُكاسره، يعني: يخفضه في الثمن، ينزله في الثمن بعض الشيء؛ لتعلم الأمةُ أنَّ هذا شيء لا حرجَ فيه، بشرط ألا يكون هذا الرئيسُ ممن يُخشى شرّه، وممن يُؤمن، ولا يخشى لو ماكسه صاحبُ السلعة شرًّا، ومعلوم أنَّ الرسول ﷺ خير الخلق وأفضلهم وأكملهم إنصافًا وعدلًا، وقد أعطاه جابر البعير فلم يقبل، هذا يدل على أنَّ المماكسة بشرطها لا حرجَ فيها، ولا بأس فيها.
وفيه دلالة على علمٍ من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، وأنَّه رسول الله حقًّا، جمل أعيا، ضعيف، تعبان، فلما حجنه صار مع الجيش، حجنه ودعا له فصار مع الجيش، صار في مقدم الجيش حتى وصل إلى المدينة.
وفيه من الفوائد: جوده ﷺ وإحسانه، فإنه أعطى جابرًا البعير، وأعطاه الثمن جميعًا، قال: خذ جملك ودراهمك، وقال: أتراني ماكستُك لآخذ جملك، إنما أراد من ذلك التَّشريع للأمة عليه الصلاة والسلام، فأعطاه البعير، وأعطاه الثمن وأرجح له أيضًا في الثمن، هذا من باب الجود والكرم، ومن باب حُسن القضاء، قال ﷺ: إن خيار الناس أحسنهم قضاءً.
وفيه من الفوائد: أنه لما أتى قال ..... قال: نعم، فأمره أن يعقل جمله وأن يدخل المسجد فيُصلي ركعتين، فدلَّ ذلك على شرعية صلاة الركعتين للقادم من السفر في المساجد، وأن الأفضل لمن قدم من سفرٍ أن يقصد أحد المساجد فيُصلي فيه ركعتين؛ لفعل النبي ﷺ، ولأمره جابرًا، قال: ادخل فصلِّ ركعتين.
والحديث الثاني: حديث جابر أيضًا في قصة الذي أعتق غلامًا له عن دبرٍ، معنى "عن دبرٍ" يعني: وصية بعد الموت، قال: هو عتيق بعد موتي.
احتجَّ بهذا العلماءُ على أنَّ الوصية لا تلزم، وأن له الرجوع، مَن أوصى له الرجوع في الوصية؛ لأنَّ الرسول ﷺ أمره .....، فدلَّ ذلك على جواز بيع الموصى به، وأنه لا بأس بالرجوع في الوصية، في روايةٍ: أن الرجل كان عليه دَيْنٌ. وفي روايةٍ: فاحتاج فباعه النبيُّ وأعطاه وقال: خُذْ دَينك.
فالحاصل أنَّ المعلق على الموت له حكم الوصية، فيجوز بيع الموصى به والتَّصرف فيه، سواء كان عبدًا أو بعيرًا أو نقودًا أو غير ذلك، فإذا قال: إذا متُّ فلفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، أو ثلثي كذا، أو ربعي، أو خمسي، له الرجوع عن الوصية كما يشاء، عنها أو عن بعضها؛ لحديث جابرٍ هذا.
والحديثان الثالث والرابع: حديث ميمونة وحديث أبي هريرة في قصة السمن والفأرة.
في حديث ميمونة: أنَّ الرسول ﷺ لما وقعت الفأرةُ في السَّمن قال: ألقوها وما حولها، وكلوا سمنَكم من غير تفصيلٍ، ولم يذكر فيه كونه جامدًا أو مائعًا.
واحتجَّ بهذا مَن قال: أنه يُلقى النَّجس، القطعة النَّجسة من فأرةٍ وغيرها وما حول ذلك، والسمن السَّليم الذي ليس فيه رائحة ولا تغير يبقى طاهرًا.
وقال آخرون -وهم الأكثر- إنه يُفرَّق كما في الرواية الثانية، السمن الجامد في رواية أبي هريرة: إن كان مائعًا فلا تقربوه، ففرَّقوا بين الجامد والمائع: فإن كان جامدًا أُلقيت وما حولها، وهذا ظاهر ..... واضح، إن كان مائعًا وجبت إراقته، ولا يصلح ولو كان كثيرًا؛ لأنه لا يتميز ما حولها مما ليس بحولها، وقد تعمّ نجاستها السَّمن كلها، فهذا يقتضي أن يُترك كله.
ولكن البخاري رحمه الله وأبا حاتم الرازي -محمد بن إدريس الرازي- حكما على رواية أبي هريرة بالوهم، وأنَّ الصواب رواية الزهري عن ابن عباسٍ عن ميمونة، رواية ميمونة، لا رواية أبي هريرة، وأنَّ بعض الرواة غلط فرواه عن الزهري إلى أبي هريرة، فجعله من مسند أبي هريرة، والصواب أنه من مسند ميمونة، لا من مسند أبي هريرة.
وقد بسط الكلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث، وطول فيه، واختار رحمه الله أنه لا فرق بين الجامد وبين المائع، وأنه يُلقى ما حولها، وأن المائع -الدهن وأشباهه- قريب من الجامد؛ لأنه ليس له الميعان الكلي القوي، فإذا كان السمنُ لم يتغير ولم تظهر فيه رائحة ولم يتغير طعمه بالنَّجاسة أُلقيت وما حولها، لكن الجامد يكون ما حولها قليلًا.
واحتجَّ برواية عطاء مرسلًا: أنه قدر الكفّ، ولكن إذا كان مائعًا صار الذي حولها أكثر، تُلقى من حولها بصفةٍ أكثر من الجامد، فيحافّ ما حولها وما يقرب من ذلك ويُلقى، والبقية التي ليس فيها رائحة ولم يتغير طعمها ولا رائحتها تبقى، ولا سيما إذا كثر؛ لأنه يكون في أموالٍ عظيمةٍ، فلا ينبغي أن يُقال أنه يُتلف كله، لو كان ماءً مائعًا لما أُتلف ما دون القلتين عند الجمهور، فكيف بالمائعات من الدّهن والعسل وأشباهه فإنها أعظم؟!
فالحاصل أنَّ القول بأنه يُلقى ما حولها ولو كان مائعًا أقرب وأظهر من قول مَن قال: لا يُقرب كله. هذا هو الأقرب كما حقق ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه وبعض أهل العلم.
وذكر الشارحُ روايةً عند الطحاوي أنه قال: فإن كان مائعًا فاستصبحوا به، وهذه الرواية وإن قوَّاها الطحاوي كما زعم فهي تُعارض ما تقدم في رواية جابر في قصة الشحوم: أن النبي ﷺ لما قيل: إنها يُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا، هو حرام، ولم يستثنها، ولم يقل: لا بأس بذلك.
فهذا يدل على أنَّ الحكم بنجاسته لا يُستصبح به، ومَن قال: إنه يُستصبح به، وأنه يُستثنى قال: إنها قد تكون أموالًا طائلةً، وقد ينتفع بها الناس، والاستصباح نوع من الإتلاف، فكأنه أحرقه إحراقًا لا ينتفع به أحد، أو كأنه دفنه، ليس فيه -يعني- انتفاع كلي، ولكن هذا ليس بجيدٍ، فإنه إذا استُصبح به، وطُليت به السفن، ودُهنت به الجلود، وصار له شأنٌ، فإنَّ هذا وسيلة إلى أنه يُباع ويُقتنى ويُتلطخ به، فلا شكَّ أن الاستصباح به وسيلة إلى بيعه، وسيلة إلى الحيلة التي فعلها اليهود.
فالأقرب والأظهر والله أعلم هو أنه متى حُكم بنجاسته لظهور الرائحة الكريهة، أو لتغيره بطعمه، أو لونه، أو ريحه، فإنه كالماء ينجس كله، وحينئذٍ يجب إحراقه إحراقًا يتضمن إتلافه بالكلية والقضاء عليه، لا للانتفاع به.
ولا شكَّ أنَّ المقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ في جمع الروايات، فإنَّ ابن حبان رحمه الله زعم أنَّ الطريقين صحيحان، فيحتاج إلى عنايةٍ بالطرق، وإلى جمع رواية الطحاوي وما جاء في معناها، وأظنّ الشيخ تقي الدين رحمه الله اعتنى بهذا في رسالة .....، وهكذا الفتاوى أيضًا.
الحاصل أنَّ جمع كلام أهل العلم في هذه المسألة مهم جدًّا؛ فإن المقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ في هذا الشيء، وإن كان الأظهر والأقرب هو ما دلَّ عليه حديث جابرٍ المتقدم، لكن العناية بهذا وجمع ما ورد في هذا ربما يُستفاد منه شيء، والله أعلم.
س: هذه العلة هي النَّجاسة؟
ج: في مسألة الفأرة هي ما يظهر، شيء واضح أنها النَّجاسة، وربما يقال أنَّ ظهور رائحة الميتة فيه قد يضرّ الناس، أو يُؤثر على الناس، لكن الأقرب والله أعلم أنه وسيلة، الذي يظهر لي والله أعلم أنه وسيلة إلى استعمال المحرمات؛ لأنَّ الناس يتحيلون: إذا عرفوا أنَّ فيه منفعةً، وأنه يُباح أن يُطلى به السفن، ويُدهن به الجلود، وأن يُجعل في مصابيح الناس وفي بيوتهم ومساجدهم وغير ذلك شحُّوا به ولم يبذلوه إلا بمالٍ، فيكون وسيلةً إلى بيعه الذي حرَّمه الرسولُ ﷺ ونهى عنه وشدَّد فيه، وشدد على اليهود أيضًا في ذلك، فهذا هو الأقرب عندي: أن المنع يتوجه إلى الجميع.
كذلك حديث أبي الزبير عن جابرٍ: أن النبي سُئل عن ثمن السنور والكلب، فقال: زجر النبيُّ عن ذلك. هذا يدل على تحريم بيع الكلاب، وتقدم حديث أبي مسعودٍ في هذا: أن بيع الكلب حرام مطلقًا، ولو كان كلب صيدٍ أو ماشيةٍ أو زرعٍ، وكذلك السنور -وهو الهرّ، القط- لا يُباع أيضًا، وإن ذهب بعضُهم إلى جوازه، وحكاه بعضُهم عن الجمهور، ولكنه قول ضعيف ولو ذهب إليه الجمهور، فإنه ضعيف مصادم لهذه السنة الصحيحة، وأبو الزبير صرح بالسماع هنا؛ فلا يجوز العدول عن هذا الحديث.
أما حديث الهرة: في هرَّةٍ لها حبستها، قوله: هرة لها ما يدل على أنها تُباع وتُملك، فإنَّ النسبة تكون بأدنى مناسبةٍ، واللام لام الاختصاص، مثلما يُقال: كلب فلان، وهو محرم، فالنسبة والإضافة لا تقتضي التَّملك والبيع، ولا يُترك الصريح الواضح لأمرٍ محتملٍ ولشبهةٍ لا تثبت عند النقد والعناية.
فالحاصل أنَّ الهرَّ لا يُباع، أما كونه يُهدى ويُتبادل ويُستعمل في البيوت لا بأس، أما بيعه فلا.
كذلك إلا كلب صيدٍ هذه زيادة قال فيها النَّسائي: إنها مُنكرة. وقال فيها ابن حبان: إنها باطلة. هذه الزيادة، وهذا هو الصواب: أنَّ هذه الزيادة غير صحيحةٍ، وقد روى لها أحمد شاهدًا كذلك غير صحيحٍ عند أحمد أيضًا، وأبو الزبير رواها بالعنعنة عند النَّسائي، أما هنا فصرح بالسماع، وأبو الزبير عند العنعنة يُتَّهم بالتدليس، لا تقوم به الحجَّة في غير "الصحيحين".
فالحاصل أنَّ الرواية هذه غير صحيحةٍ، والصواب أنه لا يُستثنى من الكلاب شيء، والله أعلم.
س: .............؟
ج: ما أعلم مانعًا، ولا سيما وهو قول الجمهور، لكن الكلام فيه هل يحلّ أو ما يحلّ؟
س: .............؟
ج: لا، إذا كان جامدًا لا يُلقيه، يُعطيه، يتصدق به؛ لأنه من باب إضاعة المال، هذا خلاف السنة، إنما القصد في مسألة الشبهة في المائع، هذا محل الشبهة، أما الجامد فلا يُلقيه، يُعطيه المحاويج أو يبيعه.
س: .............؟
ج: لا، ما هو لازم يبين، إذا بيَّن .....
س: .............؟
ج: مثل الفأر، نوع من الفأر، الجرذ من الفأر، يقال له: الفأر الكبير.
س: طعن الجمهور في هذا الحديث: السنور، طعنوا بتدليس الزبير؟
ج: ما دلَّس، لا: سألتُ جابرًا، طعنهم ما له وجه.
س: .............؟
ج: أقول: ما أعلم له جوابًا صحيحًا إلا أن يحملوه على الكراهة .....، حملوه على الكراهة ولا وجهَ لها، الأصل في النَّهي التَّحريم.
س: .............؟
ج: غير صحيحٍ، نعم.
س: ..............؟
ج: لا، ما لهم ..... إلا إذا زاد على الثلث، فالوصية نافذة، إذا مات ولم يُغير الوصية نافذة إذا كانت في الثلث فأقلّ، أما إذا كان العبدُ مثلًا يُساوي أكثر ..... يُبعض، إذا كان مثلًا ما وراءه من التركة إلا ثلاثون ألفًا، والعبد يُساوي خمسة عشر ألفًا، ووراءه خمسة عشر ألفًا غير العبد، صار الجميع ثلاثين، التركة كلها ثلاثون، يعتق من العبد الثلث، قدر الثلث، يعني: عشرة آلاف، ويبقى الثلث رقًّا يُستسعى فيه.
س: ..............؟
ج: من باب أولى أنها لا تُباع لشرِّها وخبثها وعدم الفائدة منها: الأسد والنمر والفهد والذئب كلها لا تُباع، بيعها باطل من باب أولى.
س: الطيور التي تُتَّخذ للزينة ولا تُؤكل، هل يجوز الشِّراء؟
ج: إذا كانت في نفسها حلالًا ما فيها شيء، الأصل فيها الحلُّ، إلا ذا المخلب فقط، إذا اشتراها للأكل أو للزينة أو للقنية.
س: وإن كانت لا تُؤكل؟
ج: إن كان يُنتفع بها مثل: الصقر والشاهين ينتفع بها للصيد ..... لا بأس بها، مثلما يقتني الكلب للصيد، إن كان للصيد لا بأس، مثل: الصقر له مخلب، ولكن فيه فائدة للصيد، وهكذا العقاب إذا رُبي، أو الباز، أو الشاهين، المقصود الذي يمكن أن يُربَّى ويُستفاد منه.
س: .............؟
ج: نعم، الجمهور على جواز البيع والشَّرط.
س: .............؟
ج: ليس بالبعيد، الأظهر والله أعلم أنه من ذوات الأسباب.
.............
793- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ.
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ.
794- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَالَ: نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَقَالَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ، لِيَسْتَمْتِعْ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَوَهِمَ.
795- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا -أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ- وَالنَّبِيُّ ﷺ حَيٌّ، لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
796- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَعَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ.
797- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشيخ: هذا حديث بريرة في قصة بيع أهلها لها نفسها، كانت مُكاتبةً، كاتبها أهلُها على تسع أواقٍ، في كل عامٍ أوقية، فدخلت على عائشة تستعينها، فقالت لها عائشة: إن أحبَّ أهلك أن أعدّها لهم ويكون ولاؤُك لي فعلتُ. فذهبت إلى أهلها بريرة واستأذنتهم، فلم يأذنوا، فأمر النبيُّ ﷺ عائشة أن تشتريها وأن تشترط الولاءَ، وأخبر أنَّ الولاء لمن أعتق.
هذا الحديث عظيم جليل، وفيه فوائد متعددة:
منها: جواز بيع التَّقسيط، وأنه لا بأس أن تُباع الحيوانات بالتقسيط، أو غير الحيوانات من الأمور التي تُباع، فإنها بيعت بالتقسيط، باعوها على نفسها بالتقسيط، يعني: كاتبوها، والكتابة: بيع السيد عبده أو أمته على نفسه بثمنٍ مُؤجَّلٍ مُقسَّطٍ نجومًا، يُسمونه: كتابةً، من الكتب؛ وهو الضم والجمع، وهذا هو الغالب: أنهم يبيعونه نجمين أو أكثر.
ويجوز على الصحيح أن يُباع بثمنٍ مُؤجلٍ ولو غير منجومٍ، بل نجم واحد، إذا كان العبدُ قويًّا وله صنعة جيدة يستطيع أن يجمع الثمن في نجمٍ واحدٍ فليس هناك ما يمنع، والله قال: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، ولم يشترط النبيُّ ﷺ آجالًا، ولا القرآن لم يذكر آجالًا، إنما أمر بالكتابة، وهذا من باب التَّشوف في العتق والترغيب فيه.
والرب جلَّ وعلا لما شرع للعباد ما شرع من التَّملك للرقاب بالجهاد في سبيل الله، وبالإرث، وبالهبة، وبالشراء إذا كان مملوكًا؛ شرع لعباده مع ذلك أسباب العتق وتحرير الرقاب، فجعل العتقَ من أفضل القُربات، ومن أسباب العتق من النار، وجعله كفَّارة لأعمالٍ عديدةٍ: كالظهار، والفطر في رمضان، وكفَّارة اليمين، والقتل، كلها جعل فيها العتق الكفَّارة، هذا من فضله ؛ ليتحرر العبيد ويلتحقوا بإخوانهم الأحرار بطرقٍ شرعيةٍ.
ومن ذلك الكتابة، فإنها من أسباب العتق، فإنَّ العبد يشتري نفسه من سيده بمالٍ معلومٍ مُؤجلٍ يجمعه له من صنعته وأكسابه ويعتق نفسه، وهو سنة.
وذهب بعضُ أهل العلم إلى الوجوب، ولكن المشهور عند الجمهور أنه سنة، إذا طلب العبدُ من سيده المكاتبة وعلم فيه خيرًا كاتبه.
وفيه من الفوائد: أنه يجوز بيع المكاتب بثمنٍ منقودٍ، فهي مكاتبة، وباعها أهلها على عائشة بثمنٍ منقودٍ لتعتقها؛ لأنها قالت: أشتريها وأعتقها. والصحيح أنه يجوز بيع المكاتب مطلقًا، لكن إذا كان على مَن يعتقه فهذا أولى وأفضل؛ لأنه عبدٌ ما بقي عليه درهمٌ.
وفيه من الفوائد ما جاء في قصتها: أنَّ النبي ﷺ دخل وطلب طعامًا، فذكروا له أنَّ ما عندهم إلا بُرمة فيها لحم أُهدي لبريرة، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية، هذا من فوائد حديثها: أنه يجوز لمن تحرم عليه الصَّدقة أن يأكل من مال الفقير الذي جاء من الصَّدقة، فإذا تصدق على فقيرٍ ودعا إلى وليمةٍ جاز للأغنياء وبني هاشم أن يأكلوا من وليمته، وإن كانت من الصَّدقة التي جاءت إليه: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية.
ومن فوائده: أنها خُيِّرت لما عتقت، خُيِّرت على زوجها مغيث، فاختارت نفسها، احتجَّ بذلك العلماءُ على أن الأمة إذا كانت تحت عبدٍ ثم عتقت خُيِّرت، والصحيح أنَّ زوجها عبد، فلما عتقت خُيِّرت، خيَّرها النبي ﷺ، فاختارت نفسها وفارقت زوجها مُغيثًا.
وقوله ﷺ: اشترطي لهم الولاء من العلماء مَن قال: أنَّ المراد توبيخهم في هذا الشَّأن؛ لأنهم قد علموا أنَّ هذا منهيٌّ عنه؛ فلهذا قال: اشترطي لهم الولاء، فإنَّ شرطك لهم لا يُؤثر، وهو باطل، ولا يُؤثر شيئًا، وهم قد علموا، فلا يضرّ ذلك.
ومنهم مَن قال: معنى اشترطي لهم يعني: عليهم، اللام بمعنى على، عليهم الولاء.
ثم خطب الناسَ عليه الصلاة والسلام وبيَّن لهم أنَّ الشروط التي ليست في شرع الله لا تجوز، قال: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله يعني: ليست في حكم الله، الكتاب يُطلق على الحكم، ما هو المراد نصّ القرآن، المراد كتاب الله، أي: حكمه، كما قال في قصة الربيع: كتاب الله القصاص، أي: حكم الله القصاص.
فالمقصود أن المراد بالكتاب هنا الحكم: ليس في حكم الله وشرعه.
قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق يعني: قضاء الله أحقّ بالاتباع، وشرطه أوثق من غيره، فيُؤخذ به، والولاء لمن أعتق لا لمن باع، فهذا يدل على أنَّ الولاء إذا حصل بالعتق -سواء كان العتقُ كفَّارةً أو تبرُّرًا أو على وجهٍ آخر- فالولاء لمن أعتق، ولاؤه وعصوبته لمن أعتقه، فهو يعقل عنه، ويرثه كسائر العصبة، ولا يكون لمن باعه.
والأقرب والله أعلم أنه حين قال: اشترطي لهم أنهم قد علموا، فإنَّ المحاورة طالت في مسألة بريرة، وقد علموا أن الولاء لا يصلح إلا لمن أعتق، فكونهم يُصرون على اشتراطه غلط ومنكر، فلا يُبالى به، فالذي يعلم الحكم الشَّرعي لا يضرّ الشرط الذي قال؛ من باب التَّوبيخ له، ومن باب إظهار بطلان شرطه ولو فعل، وأنَّ هذا الذي أُعطي إياه وأُنفق عليه لا وجهَ له، وهو باطل، ولو وافق المشتري عليه فهو باطلٌ.
والحديث الثاني: حديث ابن عمر، وحديث جابر في قصة أمهات الأولاد، كن يُبعن في عهد النبي ﷺ، كما قال جابر: كن يُبعن في عهد النبي ﷺ، فلما كان عمرُ وحصل ما حصل من كثرة السَّراري واستيلادهن رأى مع جماعة الصحابة ألا يُبعن؛ لأنَّ في بيعهن تفريقًا بينهن وبين أولادهن، وتعريضًا لأولادهن الأحرار للاسترقاق والأذى، فرأى ألا يُبعن، وأن يعتقهن أولادهن.
والحديث موقوف، هذا هو الصواب، وقد وافقه الصحابةُ على ذلك، وذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنهنَّ لا يُبعن بعد الاستيلاد، يكون أولادهن من أسباب العتق لهن إذا مات السيدُ، وقد أراد عليٌّ في خلافته أن يرجع عن هذا الشيء، قال: كنتُ وافقتُ عمر على هذا، ثم إني أرى أن يُبعن. فقال له عبيدة السلماني التابعي الجليل: يا أمير المؤمنين، رأيك في الجماعة أحبّ إليَّ من رأيك وحدك. فكفَّ عن ذلك وترك الأمر على ما هو عليه في عدم بيعهنَّ، ومضوا على هذا إلى يومنا هذا.
وحكاه بعضُهم إجماعًا، وليس بإجماعٍ، فيه بعض الخلاف، لكنه خلاف ليس بشيءٍ، الذي عليه جمهور أهل العلم -وهو كالإجماع- أنهن لا يُبعن؛ أخذًا بما رآه الصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم في هذا الموضوع.
وأما حديث جابرٍ في النَّهي عن بيع فضل الماء، وعن بيع ضراب الجمل، وحديث ابن عمر في النَّهي عن بيع عسب الفحل، فهذان الحديثان دلَّا على أن عسب الفحل لا يجوز بيعه، وهو الضِّراب، إذا احتاج الرجلُ إلى أخيه ليضرب جملُه ناقتَه، أو حصانُه فرسَه، أو حمارُه أتانَه، أو كبشُه نعجتَه، أو تيسُه العنزَ التي عنده، فلا ينبغي أن يأخذ عن هذا شيئًا؛ لأنَّ هذا من المرافق بين المسلمين، ومما ينبغي التَّسامح فيه، فلا يجوز أن .....، بل من عادة المسلمين التَّعاون في هذا الشيء، فهذا يأخذ جمل جاره للضراب، وهذا يأخذ حصان جاره، ويأخذ هذا حمار جاره، وكبش جاره، وثور جاره، لا ينبغي في هذا الثمن، ينبغي أن يكون هذا من باب المرافق بين المسلمين، والتعاون بين المسلمين من دون ثمنٍ.
وهكذا فضل الماء، يعني: فضل الماء عند بئرٍ جيدةٍ، ينبغي ألا يُمنع أخذ الماء منها، أو عنده مثلًا نهر جارٍ يمر على أرضه فلا يمنع جيرانه أن يأخذوا منه، وما أشبه ذلك مما يكون فيه فضل، أما إذا كان الماءُ بقدره فله المنع، لكن ما دام عنده فضلٌ فلا يمنع.
هذا كله إذا كانوا يسحبونه من محلِّه، أما إذا سحبه هو وجمعه هو في بركته أو في قربه أو في أوانيه ملكه بذلك، وليس لهم أخذه، إنما هذا من نفس الماء بمعدنه، إذا جذبه الجارُ سمح له أن يجذبه من دلوه، من مقره، أو يأخذه من النهر، فهذا لا يمنعه، أما شيء قد جذبه هذا في أوانيه أو قربه أو بركته فهو أولى به؛ لأنه قد حازه.
كذلك لا يلزمه أن يُمكن غيره من استعمال مكينته أو بكرته، وإنما هذا من مكارم الأخلاق، فإذا أراد الآخرُ أن يضع بكرةً يسحب منها الماء، أو مكينةً يسحب منها الماء الذي فيه فضل فهذا لا يُمنع؛ لأنَّ الرسول نهى عن بيع فضل الماء، ومن مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال: التَّسامح في هذه الأمور.
وفي الحديث الآخر: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ، كانت العربُ قد تمنع فضل الماء، لا للشُّحِّ بالماء، لكن لئلا ينزل عندهم بغنمه أو إبله فيأكل من الكلأ الذي عندهم، فيمنعهم من فضل الماء حتى لا ينزل بقربهم؛ ليمنع فضل الكلأ، فمنع النبي ﷺ هذا؛ لأنَّ في منع فضل الماء منعًا لفضل الكلأ، ولا يجوز لا هذا ولا هذا، فالكلأ مُشترك، والماء مشترك، كما قال في الحديث الصحيح: الناس شُركاء في ثلاثٍ: الماء والكلأ والنار، والحديث رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسنادٍ جيدٍ.
فالناس شركاء في هذه الثلاثة: في الماء والكلأ والنار، فلا يمنع فضل هذه الأمور: فضل الماء، وفضل الكلأ، وفضل النار.
وينبغي للمسلمين أن يكونوا شيئًا واحدًا، متعاونين، متحابين في الله، يرفق بعضُهم ببعضٍ، ويُعين بعضُهم بعضًا، ولا يشحون بالشيء الذي لا يضرّهم ولا يُؤثر في حاجاتهم.
س: .............؟
ج: هذا الظاهر، ما أعلم فيه حديثًا مرفوعًا، كله من باب الاجتهاد، هذا الذي يظهر، ما أعلم في الباب شيئًا مرفوعًا إلا حديث ضعيف لا يُعول عليه.
س: .............؟
ج: الشيخ تقي يختار هذا رحمه الله، ولكن الأولى والأقرب متابعة السَّلف الصالح في هذا؛ لأنَّ هذا قد يضرّ.
س: ..............؟
ج: المشهور عند الجمهور أنه سنة فقط، حملوا الأمر على السنية، ويُروى عن عمر ما يدل على الوجوب في حقِّ السيد، عمر يُروى أنه ألزم أنسًا بمكاتبة سيرين، وقال: إن لم تفعل ضربتك بالدّرة. فأخذ من هذا بعضُ العلماء أنه يرى الوجوب ، وهو ظاهر القرآن: فَكَاتِبُوهُمْ [النور:33].
فالذي يظهر من القرآن أنَّ العبد إذا طلب المكاتبة ووقع فيه الشرط أنه يلزم أن يُكاتَب، ولكن الجمهور حملوه على السنة، ووجه ذلك والله أعلم قوله ﷺ: إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأنَّ هذا ماله، فلم يُؤذن بفراقه، والأدلة دلَّت على حُرمة المال، وأن الإنسان لا يُجبر على التَّصرف في ماله بغير حقٍّ، فهذا ماله، فلا يلزمه بإخراجه عن ملكه.
ومَن قال بالوجوب قالوا: هذا مُستثنًى، يجب أن يُلزم بإخراج الشيء الذي في ملكه إذا دعت إليه الحاجة، كما يُلزم بالإنفاق على أولاده وعلى زوجته وعلى رقيقه وعلى دوابه يُلزم بالكتابة أيضًا؛ من باب الخصوص من العموم.
س: ...............؟
ج: الآية فيها الإخبار: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ [النور:33]، الآية فيها الإخبار، لكن قد يُقال من حيث الأصول، من حيث القواعد: أنه مستحبٌّ له؛ لأنَّ سعيه بتخليص نفسه من الرقِّ أمر مطلوب، فإذا أيسر بذلك من جهة حرفته أو صنعته مثلما يستسعى إذا أعتق بعضه؛ لأنه مطلوب له أن يسعى في خلاص نفسه، القواعد الشرعية تقتضي استحباب ذلك، يعني: إذا وجد من نفسه قوةً أن يطلب من سيده المكاتبة.
س: .............؟
ج: مثلها مثل النَّهر الجاري، لا يمنع إذا كان عنده فضل.
س: خاصّ المنع بهذه الأمة؛ لأنَّ أم إسماعيل قالت: لا حظَّ لكم في الماء؟
ج: الله أعلم.
س: المكاتب الراجح السنية أو الوجوب؟
ج: الأكثرون على السنية.
س: لو أراد أن يسحب قليلًا أو كثيرًا ما يمنع؟
ج: ما دام لا يضرّ لا يمنع.
س: لو كان جارٌ له أراد أن يسحب ماءً لمزرعته؟
ج: إذا كان لا يضرّ لا يمنع؛ لأنَّ الرسول نهى عن بيع فضل الماء.
س: ............؟
ج: ظاهر النص عدم المنع إذا كان البئرُ قويًّا ولا يضرّه ذلك، فإذا وُجد نقص وضرر يُمنع.
س: .............؟
ج: الناس شُركاء في ثلاثٍ: في الماء والكلأ والنار، ما يضرّه الأخذ منها .....، ما يضرّه شيئًا.
س: .............؟
ج: كذلك الكلأ إذا كان قليلًا لا يأخذه، أما إذا كان كثيرًا فالحمد لله، لكن إن كانت لك روضة عظيمة وتمنع الناس لا.
س: ............؟
ج: يجوز، لكن ما لم يُفضِ إلى فتنةٍ، إذا تيسر أُخذ بالقوة من دون أن يُفضي إلى فتنةٍ أكبر.
س: .............؟
ج: بلى، هو هذا، مثل: قصة اشتراط حملانه إلى المدينة، وهذا كالإجماع -قول الجمهور- إنما خالف فيه الأحناف، وهو قول ضعيف، جمهور أهل العلم على جواز البيع والشرط، إنما الخلاف في الشَّرطين.
798 – وَعَنِ ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
799- وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
800- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
801- وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
802- وَعَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ: مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوكَسُهُمَا، أَو الرِّبَا.
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: "وعنه" أي: عن ابن عمر، هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إذا أُطلق ابن عمر فهو عبدالله، وعمر له أولاد، لكن عبدالله هو أفضلهم وأشهرهم، وكذلك إذا قيل: ابن عباس، فهو عبدالله، وله إخوة عدد، لكن عبدالله أفضلهم وأشهرهم، وهكذا ابن عمرو هو عبدالله، وله إخوة، وهو أشهرهم وأفضلهم، وهكذا ابن الزبير هو عبدالله، وله إخوة هو أفضلهم.
عن النبي ﷺ أنه نهى عن حبل الحبلة.
حبل الحبلة: حمل الحمل، وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجلُ يبتاع الجزور، وهي الناقة من الإبل الكبيرة إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها.
تنتج بصيغة المجهول، والمراد الفاعل، وهذا من الأفعال التي وقعت للعرب بصيغة المجهول، والمراد به الفاعل: تنتج ويفرع وتزهى وأشباهها، وقعت لهم هذه الكلمات بصيغة المجهول، والمراد بها الفاعل، المعنى: تنتج، ومعنى هذا أنهم يبيعون بيوعًا إلى أجلٍ مجهولٍ، فيقول: أبيعك هذه الجزور إلى أن تلد هذه النَّاقة، ثم يلد أحواضها. يعني: يكون لحواضها ولد، فهو أجلٌ مجهول لا يُدرى متى يحلّ؟ وفيه غرر عظيم، فنهى النبيُّ عن هذا عليه الصلاة والسلام.
وفُسر بمعنى آخر: وهو أن يبيع ناقته بنتاج النتاج، يقول: هذه الناقة وهذه الجزور أو هذا الشيء أبيعك إياه بولد ولد ناقتك التي في بطنها. ليس هو الثمن، الثمن نتاجه -نتاج النتاج- فهو بيع بمعدومٍ لا يُدرى متى يحصل.
وهذا من تساهلهم في هذه الأمور، وعدم عنايتهم بضبط أمور دنياهم، والسر في ذلك والله أعلم: أنَّ المبيع ليس له ذات الأهمية؛ فلهذا لا يُبالون بهذه الآجال المجهولة، وبهذا الثمن المعدوم؛ لأنها إما ناقة كبيرة جدًّا، وإما شبه ذلك مما لا يهمّهم لو تأخَّر الثمن أو لم يحصل.
والحاصل أنَّ الرسول ﷺ نهى عن هذه البيوع لما تُفضي إليه من الغرر، فلا يجوز البيع إلى أجلٍ مجهولٍ، ولا بشيءٍ مجهولٍ.
وهكذا حديث النَّهي عن بيع الحصاة، وبيع الغرر، هو من هذا الباب؛ من باب الغرر بيع الحصاة، أن يقول: أرمي بهذه الحصاة، أو ترمي أنت بهذه الحصاة، أو يرمي فلانٌ بهذه الحصاة، فما بلغت فهو لك بكذا وكذا. وهذا غررٌ؛ لأنه قد تكون الرميةُ قويةً فتبلغ مسافةً طويلةً، وقد تكون الرميةُ ضعيفةً فلا تبلغ إلا مسافة قليلة، فلا يخفى ما في هذا من الجهل.
وبيع الغرر عامّ يعمّ أنواع الغرر كله: ومنه الملامسة والمنابذة التي جاءت في حديث أبي هريرة، ولم يذكره المؤلفُ هنا، فالملامسة والمنابذة من الغرر أيضًا، كأن يقول: أيّ ثوبٍ لمسته أو لمسه فلان فهو عليك بكذا، وأي ثوبٍ أو عباءةٍ أو إناءٍ نبذته إليك فهو عليك بكذا، أو نبذه إليك فلان فهو عليك بكذا، أو أي بعيرٍ أو أي بقرةٍ أو أي شاةٍ طلعت من هذا الباب، أو خرجت من هذا الطريق فهي عليك بكذا. كله بيوع غررٍ لا تصلح، وما أشبهها.
وأما بيع الولاء وهبته فهو من باب المعدوم وبيع ما لا يملك، فلا يجوز بيع ما لا يملك، ولا بيع المعدوم، ولا بيع الغرر، كلها ممنوعة.
فالولاء من جنس النَّسب، والنسب لا يُباع، والولاء لحمته كلحمة النَّسب، فلا يُباع الولاء، وهو عصوبة تحصل للإنسان بسبب العتق، هذه العصوبة لا تُباع؛ لأنه يترتب عليها إرثٌ وعقلٌ، فلا تُباع هذه العصوبة، ولا تُوهب أيضًا، كما أنَّ قرابتك من ابن عمك ومن أخيك لا تُباع ولا تُوهب، فلو قلت: يا فلان، قد بعتُك قرابتي من أخي، أو وهبتك إياها، ما صار أخًا لهذا الشخص، ولا انتقل من إخوتك إلى إخوته، فالحكم الشرعي باقٍ، فهو أخوك وإن بعته، هو أخوك وإن وهبته، يرثك وترثه، وهذه الهبة وهذا البيع باطل، وهكذا ولاء النَّسب جعله الشرع من جنس ولاء العتاق، جعله الشرع من جنس النَّسب؛ فلا يُباع ولا يُوهب، كما في الحديث الآخر: الولاء لحمة كلحمة النَّسب، لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُورث، والحديث هذا من أفراد ابن عمر، وهو حديث صحيح رواه الشَّيخان.
والحديث الرابع حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ نهى أن يُباع الطعام حتى يكتال ..... طعامًا حتى يكتاله. وفي اللفظ الآخر: حتى يقبضه، حتى يستوفيه.
فالمعنى أنه لا يبيع طعامًا حتى يحوزه ويستوفيه، وعبَّر بالكيل عن القبض، بدليل الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة: حتى يستوفيه، حتى يقبضه، حتى يحوزه.
ومنه حديث زيد بن ثابتٍ الآتي: أن الرسول نهى أن تُباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التُّجار إلى رحالهم. فليس له أن يبيع طعامًا حتى يقبضه، حتى يحوزه، ومن قبضه: كيله في أوعيته، أو كيله ونقله إلى بيته، أو إلى رحاله.
وهل يُكتفى بالكيل فقط وإن كان في بيت البائع؟
هذا محل نظرٍ، والأقرب والأظهر أنه لا يكفي، وأن المراد بالكيل هنا هو القبض؛ ولهذا في الروايات الأخرى الكثيرة التي هي أكثر في "الصحيحين" وغيرهما: حتى يستوفيه، حتى يقبضه. وحديث زيد: حتى يحوزه.
هذا يُبين معنى الاتكال، وأنه بمعنى القبض؛ لأنه بهذا لا تبقى للبائع سلطة عليه، بل تكون السلطة للمُشتري، فلا يبقى غرر، أما ما دام في حوزة البائع فهناك غرر؛ فقد يُنكر البائع البيع، وقد يتحيل على إبطال البيع بالحيل ما دام المالُ عنده، إذا رأى أنه مغبونٌ أو ما أشبه ذلك، فهو عند البائع محل خطرٍ، ليس المملوك الملك الكامل، وليس بمستولًى عليه الاستيلاء الكامل من المشتري حتى يقبضه المشتري.
والشريعة الإسلامية جاءت بالحرص على قطع أسباب النزاع والخصومات والاختلاف والتَّباغض والتَّدابر، ولا شكَّ أنَّ بيع الغرر وبيع الطعام قبل القبض وبيع الحصاة كله من أسباب النزاع والخصومات، ومن أسباب الفتن بين الناس.
وهكذا بيع المعدوم والآجال المجهولة، كلها من أسباب النِّزاع.
والحديث الخامس حديث أبي هريرة: نهى عن بيعتين في بيعةٍ. خرجه أحمد والنَّسائي والترمذي وابن حبان.
وله شاهد من حديث عبدالله بن عمرو الآتي.
والبيعتان في بيعةٍ لها تفسيران:
أحدهما: بيع شرط عقدٍ في عقدٍ، يعني: أن يبيع شيئًا بشرط عقدٍ آخر: كسلفٍ وبيعٍ، كما يأتي في حديث عبدالله بن عمرو: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ. ومنه: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، أبيعك هذا على أن تقرضني هذا، أبيعك على أن تؤجرني هذا، على أن تُعيرني هذا.
هذا العقد في العقد والبيعة في البيعة وسيلة إلى النزاع والخصومات والاختلاف، وربما وقعت بعض الجهالات، فنهى النبيُّ ﷺ عن بيعتين في بيعةٍ؛ لما قد تُفضي إليه من النزاع والخصومة، ومن هذا: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ؛ فإنه عقدٌ في عقدٍ.
وفُسر بمسألة العينة، وفي هذا المعنى رواية أبي داود: مَن باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الربا، فهذا أحسن ما قيل فيه: بيع العينة، فإنَّ فيه ما هو عالٍ ونازل في الثمن، فليس من الربا إذا أخذ الأوكس والأنزل والأقلّ، فإذا باعه سلعةً بثمانين إلى أجلٍ، ثم اشتراها منه بستين نقدًا فهذا بيعتان في بيعةٍ؛ باعه هذا بثمانين، ثم اشتراه منه بستين مُعجَّلةً، فالمعنى أنه أعطاه ستين بثمانين، وجعل السلعة واسطةً وحيلةً على الربا، فله أوكسهما وهو الستون، أو الربا إذا أخذ الثَّمانين.
وقد اختار هذا المعنى أبو العباس ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، والقول هذا أولى التفسيرين في هذه الرواية: فله أوكسهما أو الربا، قالوا: إنَّ هذا في مسألة العينة، وهي بيع السلعة إلى أجلٍ، ثم يشتريها مَن باعها من المشتري بثمنٍ مُعجَّلٍ؛ لأنه في حاجةٍ إلى الثمن المعجَّل، وهذا لا شكَّ واضح في تفسيرها.
أما مَن فسَّرها بأن يبيعها بعشرةٍ نقدًا، وبخمسة عشر نسيئةً، هذا ليس بشيءٍ، هذا يُروى عن سماك بن حرب، وليس فيه، هذا بيع واحد، فإن تفرَّق على أحدهما فلا بأس، إذا قال: هو بعشرةٍ نقدًا، أو بخمسة عشر نسيئةً، ثم أخذ السلعة بأحدهما، فهي بيعة واحدة: بخمسة عشر مؤجلةً، أو بالعشرة نقدًا، فهذا بيعة واحدة لا حرج، وإنما يُنكر ويمنع إذا تفرَّقا ولم يجزما، فإنَّ هذا البيع لا يصح؛ لأنهما تفرَّقا على غير شيءٍ، فلا بد من الجزم بأحدهما: إما النقد، وإما النسيئة، فهذه بيعة واحدة: إن أخذها بالنقد فبالنقد، وإن أخذها بالنسيئة فبالنسيئة، وليس بيعتان، والله أعلم.
س: ............؟
ج: هذا لا بدَّ فيه من أوصافٍ، ولا بدَّ فيه أنك تأخذ العين المطلوبة؛ لأنَّ هذا لا يصلح، لا بدَّ من وصفٍ معلومٍ يضبط المبيع، ولا بدَّ من أجلٍ معلومٍ ..... من باب السلم في الحيوان، هذا الذي فعلوه في منًى هذه السنة، هذا شيء ما استشاروا فيه، ولا عرفنا عنه شيئًا.
س: .............؟
ج: هذا لا بأس به، إذا أخذ ما يرى هذا لا بأس، هذا بيع عينٍ.
س: ..............؟
ج: هذا خطأ، ما ينبغي أن يوثق بهذا، هذا خطر، ثم أيضًا لا بدَّ من صحة البيع أولًا، ثم صحة التوكيل.
س: ..............؟
ج: هذه أسترالية، هذه تُقطع أذنابها، يقولون: أنه أسمن لها، تسمن، والمشهور عند الجمهور أنه لا يصح التَّضحية بها ولا الهدي لو قُطعت أليته أو أكثرها، عند الأكثر غير مُجزئة.
س: ...............؟
ج: قال ابن عباسٍ: لا أحسب كل شيءٍ إلا من الطعام. ويأتي البحث في هذا إن شاء الله، الأظهر أنَّ غير الطعام مثل الطعام، مثلما قال ابن عباسٍ، ويأتي بحثٌ في هذا في حديث عبدالله بن عمرو وما بعده، وحديث زيد بن ثابتٍ في الدرس الآتي إن شاء الله.
س: ..............؟
ج: هذا ما يصلح، هذا ما استوفاها ولا حازها، هذا ما يصلح، لا بدَّ أن يحوزها إلى رحله، يحوزها من بيت البائع إلى بيته، أو إلى السوق، أو إلى دكانه، أو من أعلى السُّوق.
803- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ.
وَأَخْرَجَهُ فِي "عُلُومِ الْحَدِيثِ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ: نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْأَوْسَطِ"، وَهُوَ غَرِيبٌ.
804- وَعَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ. رَوَاهُ مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، بِهِ.
805- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ابْتَعْتُ زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
806- وَعَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَبِيعُ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذَا مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
807- وَعَنْهُ قَالَ: نَهَى ﷺ عَنِ النَّجشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشيخ: هذا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي أنه قال: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيعٍ، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك، يحتمل "يضمن" بالياء، يعني: المشتري، ويضمن بنفس الأمر من حيث أنه لا يضمن ما دام في ذمة مَن هو عليه.
والحديث هذا دلَّ على أربع مسائل:
إحداها: النَّهي عن سلفٍ وبيعٍ، وهما بيعتان في بيعةٍ عند جمعٍ من أهل العلم، وهما عقدان في عقدٍ، فالسلف يُطلق على السلم، ويُطلق على القرض، فلا يحلّ الجمع بينهما: إذا بيعت بيعة في بيعةٍ أخرى، أو بيعة في قرضٍ.
ولعلَّ العلة في ذلك والله أعلم: أنَّ البائع أو المشتري قد يضطر إلى ذلك، فيحصل تساهل في استيفاء الحقِّ، وعدم أخذ الحقِّ الذي نظر ..... من أجل العقد الثاني؛ أو لأنه وسيلة إلى النزاع والخصومات، والشريعة جاءت بحل النزاع، وحسم مواد الاختلاف والشَّحناء، أو لحِكَمٍ أخرى الله يعلمها .
فالحاصل أنه لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ، كأن يقول: بعتُك هذا السيفَ أو هذه الدار على أن تبيعني الناقة الفلانية أو الدار الفلانية أو الحاجة الأخرى. فيجمع هذا مع هذا، أو بعتُك هذه الدار على أن تُقرضني. على تفسير السَّلف بالقرض: بعتُك هذه على أن تُقرضني كذا وكذا، بعتُك هذا بكذا، على أن تُقرضني كذا وكذا، فيكون البيعُ وسيلةً للقرض، فيكون قرضًا جرَّ منفعةً، ولم يقرضه إلا من أجل هذا البيع، والقرض يجب أن يكون إرفاقًا محضًا، لا يقصد به حاجةً أخرى؛ ولهذا أجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يشترط في القرض ربحًا، ولا أن يتواطآ على ذلك.
وصور العقد كثيرة، لكن هذا منها، وهو قد يُفضي إلى النزاع والخصومات، وقد يُفضي إلى عدم استيفاء الحقِّ من أجل العقد الثاني: كالقرض مثلًا، فإنه إذا أراد أن يُقرضه لا بدَّ أن يتنازل عن بعض الشيء في المبيع من أجل حصول القرض، فيكون في المعنى إنما أقرضه بشرطٍ وفائدةٍ.
ولا شرطان في بيعٍ الشرطان في بيعٍ فسِّرا ببيعتين في بيعةٍ عند قومٍ، وذهب إلى هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهو قريب من النَّهي عن سلفٍ وبيعٍ، وقد يرد على هذا أنَّ قوله ﷺ: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ يُعطي معنى البيعتان، فتفسير الشَّرطين قد يُعتبر نوعًا من التَّكرار؛ لأنه جاء في رواية أحمد أيضًا وجماعة: لا يحلّ سلفٌ وبيعٌ، ولا بيعتان في بيعةٍ قرنها مع ذلك، وهذا القرن يُؤيد أنَّ المراد بالسَّلف هنا القرض؛ لأنَّ القرض مع البيع يحصل به شيء من الاستفادة من القرض، وأنه أقرضه ليسقط عنه بعض الثمن ويُسامحه في بعض الثمن، فيكون بيعتان في بيعةٍ بنوعٍ خاصٍّ، وهو بيعتان في بيعةٍ عند الإطلاق أعمّ من ذلك، وكأنه نهى عن سلفٍ وبيعٍ، وهذه صورة خاصة من "بيعتان في بيعةٍ"، ثم نهى عن "بيعتان في بيعةٍ" بصفة عامَّةٍ، فيكون من باب عطف العام على الخاص.
أما شرطان في بيعةٍ على الرواية هذه فقد فُسرت بأن يُدخل شرطين غير فاسدين، فيقول مثلًا: بعتُك هذا المتاع على أن تفعل كذا، وعلى أن تفعل كذا، وعلى أن تفعل كذا، أن يكونا شرطين بغير البيع: كأن بعتُك هذا الحطب على أن تحمله إلى الدار، وعلى أن تكسره، أو تفعل به كذا وكذا شيئًا آخر من الحمل، أو بعتُك هذه القطعة من الملابس على أن تفصلها، وعلى أن تخيطها. كما فسَّر ذلك جمعٌ من الحنابلة وغيرهم.
وبعضهم فسَّره بشرطين فاسدين، وهذا من باب أولى، وظاهر الحديث العموم، سواء كانا فاسدين أو صحيحين أو أحدهما فاسدًا والآخر صحيحًا، فالحديث يعمّ الجميع، يعمّ الشرطين، ولعلَّ ذلك أيضًا والله أعلم لأنَّ وجود الشَّرطين قد يُفضي إلى النزاع، وقد يُفضي إلى الخصومة، والشرع يتشوف إلى حسم المواد التي تُفضي إلى النزاع والخصومات والاختلاف بين المسلمين، فوجود شرطين قد يُوجب النزاع في الوفاء بالشرطين وعدم التأخر عن ذلك، فيحصل نزاعٌ بين البائع والمشتري في ذلك.
أما الشرط الواحد فلا بأس، كما يُفهم من النَّهي عن الشرطين أنَّ الواحد لا بأس به، وقد وقع ذلك في قصة جابر في البعير؛ فإنه اشترط حملانه إلى المدينة، فأقره النبيُّ ﷺ ووافق عليه، فدلَّ ذلك على أنَّ شرطًا واحدًا لا حرجَ فيه، وإنما النَّهي عن الشرطين، وهذا أظهر وأبين من تفسير الشَّرطين ببيعتين؛ لأنَّ البيعتين في بيعةٍ شرط في بيع عقدٍ في عقدٍ، بخلاف الشَّرطين مع البيع، فهو معنى آخر واضح في أنه قد يُفضي إلى النزاع، وقد يُفضي إلى الاختلاف.
وأما رواية أبي حنيفة عن بيعٍ وشرطٍ فهي معلولة كما قال المؤلف .....، وهو معلول، ورواية أبي حنيفة فيها نظر .....، وإن كان فقيهًا ورعًا زاهدًا، لكن ليس من شأنه الرواية وحفظ الأخبار، حتى قال ابن حبان: ليس له في الدنيا إلا مئة وثلاثون حديثًا، لم يحفظ منها إلا عشرة، ومئة وعشرون غلط فيها.
المقصود أنَّه ليس من ضباط الأخبار، من حُفَّاظ الأخبار، وكان شغله بالفقه والعناية بالفقه والورع والعبادة شغله عن العناية بضبط الروايات والأخذ بالأخبار.
ثم هو مخالف لحديث جابرٍ الذي هو أصح وأثبت، ثم هو أيضًا مخالف لمفهوم شرطين في بيعٍ، فيكون المعتمد جواز الشرط الواحد في البيع؛ لأنَّ الحاجة قد تدعو إليه، بخلاف الشرطين؛ فقد لا تدعو الحاجةُ إليهما.
أما النَّهي عن بيع ما لم يُضمن، أو ما لم يضمنه المشتري فواضح؛ فإن كل شيءٍ لا تضمنه لا تبيعه بربحٍ، بل تبيعه بما يُساويه في الوقت الحاضر بغير ربحٍ، إذا كان لك عند إنسانٍ دَينٌ بعته بسعر وقته؛ لأنه ليس في ضمانك، بل في ضمانه هو؛ ولهذا في حديث ابن عمر الآتي: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، وهذا من هذا الباب؛ لأنه لو زاد ربح فيما لم يضمن، فنُهي عن ذلك.
ولهذا كان ابنُ عمر يبيع بالدراهم ويأخذ بالدَّنانير، ويبيع بالدنانير ويأخذ بالدراهم، كما في الحديث، فسأل النبي عن ذلك فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرَّقا وبينكما شيءٌ، فيحصل التَّقابض مع سعر الوقت، سعر الوقت لئلا يربح فيما لم يضمن، والتَّقابض لأنه شرط، فلا بد من التَّقابض.
فإذا كان لك عند إنسانٍ تمرٌ مثل: قرضٍ أو ثمن مبيعٍ أو أجرةٍ، فليس لك أن تبيعه بربحٍ، بل تبيعه بسعر الحاضر كالصَّرف؛ لئلا تربح فيه ما لم تضمن.
س: كيف ما لم يضمن؟
ج: يضمنه البائع، البائع إذا باعه ليس بضمانه، بل هو بضمان مَن هو عليه التَّمر، الذي عند زيد أو عمرو قبل أن يسلمه له هو ماله، ليس بضمانه حتى يسلمه له، وهكذا الدَّنانير والدَّراهم ..... ماله في ماله، وليست في مالك أنت،
بل في ضمانه حتى يسلمها لك، ولو كانت في ذمته هي في ذمته لك، لكن الأموال التي عنده في ضمانه هو، لا في ضمانك حتى تسلم له.
أما الخصلة الرابعة: فالنهي عن بيع ما ليس عندك، هذه المسألة الرابعة في هذا الحديث، وهذا يشمل ما هو في ذمة غيره له ألا يبيعه حتى يستوفيه، ويشمل الأعيان التي عند الناس، ليس لك أن تبيعها إلا بعد أن تشتريها وتحوزها، ولو كنت تثق أنهم يُعطونك، وأنهم يرضون رأيك، فإنها قد تقع أمور بخلاف ذلك، فليس لك أن تبيع عينًا ولا دَينًا عند الغير؛ لأنه ليس عندك، والمعنى ليس في ملكك، وليس في قبضتك، فالبيع خطر حينئذٍ، وغرر على المشتري، فليس لك ذلك، وهذا يشمل الأعيان ويشمل ما في الذمم جميعًا.
ولهذا جاء في حديث حكيم بن حزام عند أحمد رحمه الله وأبي داود والنَّسائي والترمذي بسندٍ جيدٍ أنه قال: يا رسول الله، الرجل يأتيني ويريد السلعةَ وليست عندي، فأبيعها عليه، ثم أذهب فأشتريها، فقال: لا تبع ما ليس عندك، وهذا عين الواقع لبعض الناس الآن في التَّورق: يبيع ثم يذهب ويشتري، هذا غلط، لا يجوز هذا، ولا يصحّ، إنما يشتري أولًا السلعة ويحوزها، ثم يبيعها على مَن شاء بعد ذلك، أما أن يبيع ويقول: إنَّ هذا الشيء موجود وبإمكاني شراؤه، أو عند فلانٍ ولا يُخالفني إذا أردتُه منه. هذا لا يكفي، بل لا بدَّ أن تكون السلعةُ بحوزتك قبل أن تبيع؛ ولهذا قال: لا تبع ما ليس عندك، وهنا قال: ولا بيع ما ليس عندك.
فحديث عبدالله بن عمرو هنا يُوافق حديث حكيم بن حزام في المعنى، وكلاهما يدل على أنه لا يُباع ما ليس عند الإنسان، ويُوافق أيضًا الأحاديث الصَّحيحة الأخرى: أن النبي نهى عن بيع الطعام حتى يُستوفى، حتى يُقبض.
قال ابن عباسٍ: ولا أحسب كل شيءٍ إلا مثل الطعام، فالحكم أنه لا يُباع حتى يحوزه البائعُ.
وهكذا حديث زيد بن ثابتٍ في رواية عبدالله بن عمر عنه: أنه لما اشترى الزيتَ وأراد أن يبيع منعه زيد، وقال له: إنَّ الرسول نهى أن تُباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التُّجار إلى رحالهم. فهذا يُوافق حديث: ولا بيع ما ليس عندك، فإنَّ ما كان في قبضة البائع ليس عندك حتى تقبضه، وحتى تحوزه، فبيعه فيه غرر، وفيه خطر على المشتري، وأكبر من ذلك وأعظم ما لم تشتره، يكون عند أهله، أعيان عند أهله تبيعها قبل أن تشتريها، فهذا أكبر في الغلط، وأكبر في الغرر، فبيع ما ليس عندك يشمل حالين:
إحداهما: أن تبيع أعيانًا لم تشترها، وليست عندك، ولكن سوف تذهب وتشتريها.
الحال الثانية: أن تبيع أعيانًا اشتريتها وهي لك في ذمة أشخاصٍ، فليس لك أن تبيعها حتى تقبضها وتحوزها من هؤلاء الذين هي في ذمَّتهم لك.
والحديث الخامس: حديث ابن عمر في النَّهي عن بيع النَّجش، النَّجش مصدر نجش ينجش نجشًا، وهو الإثارة للأثمان بزيادةٍ منك ومنه، نجش الصيد ونجش الظبي: إذا أثاره، فالناجش يُثير في الأسواق ويثير الناس ليزيدوا، وهو غير قاصدٍ للشراء، وإنما أراد نفع البائع، أو أراد الضَّرر على مَن له رغبة في الشِّراء، قد يكون تواطأ مع البائع، أو رأى رجلًا له رغبة وهو يكرهه ويريد ضرره؛ فيزيد من دون رغبةٍ في الشراء ولا قصدٍ في الشراء، فهذا منكر، ولا يجوز، وظلم، وعدوان؛ ولهذا نُهي عنه.
وجاء في الحديث التناجش: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا وهذا مفعل، فلا ينجش ابتداءً، ولا ينجش مقابلةً، كل ذلك لا يجوز، فالتناجش مثل التَّحاسد ممنوع، فإذا وجدت سلعةً تُباع، ورأيتَ أنها رخيصة، وأردتَ أن تنفع البائع تقول: أرفع فيها حتى أنفعه بذلك! فليس لك ذلك إلا إذا كنت تريد الشراء، فلو كانت تُساوي ألفًا، ولم تُسمَّ إلا بخمسمئةٍ، ليس لك أن تقول: أشتريها بسبعمئةٍ، حتى ترفعها، إلا إذا كان لك قصد في الشراء، وليس لك أيضًا أن تفعل ذلك من أجل المضارة، هذا من باب أولى أيضًا، ليس لك أن تسوم إلا إذا كان لك قصد في الشراء، وإلا فلا، والأمر عند الله، وليس عندك في منفعة البائع.
وكذلك حديث النَّهي عن بيع العُربان، العُربان بالضم، ويُقال له: الأربان بالهمزة، ويقال: العربون بالواو، والأربون بالواو مع الهمزة، وهو مال يُدفع لصاحب السلعة عند السوم منه، ويقال له: إن اشترينا فهو من الثمن، وإن لم نشترِ فهو لك في مقابل إمهالك إيانا وإنظارك إيانا، وهو معروف عند الناس العربون .....
فالحاصل أنَّ هذا المال يُدفع لصاحب السلعة؛ لينظر السائل، ليُنظره ويُمهله بعض الوقت لينظر أو ليُشاور، فهذا اختلف فيه العلماء:
فذهب قومٌ إلى منعه لهذا الحديث، وقالوا: إنه أخذٌ للمال بغير حقٍّ.
وذهب آخرون إلى جوازه، واحتجوا بعمل عمر؛ فإنه ثبت أنَّ عمر رضي الله عنه وأرضاه اشترى من صفوان بن أمية بيتًا في مكة للسجن بواسطة نافع بن أبي الحارث الصحابي الجليل، وقال: اشتراها بأربعة آلاف درهم، بأربعمئة دينار، وجعل له عربونًا وقال: إن اشترى عمر فهو من الثمن، وإلا فهو لك إزاء صبرك. فتوافقوا على هذا.
هذا يدل على جوازه، وقد اجتمع فيه ثلاث من الصحابة: عمر وصفوان ونافع بن أبي الحارث الخزاعي.
واحتجَّ بهذا أحمد وجماعة، وقالوا: إنَّ هذا من عمل عمر يدل على الجواز.
والحديث هذا ضعيف الذي فيه النَّهي؛ فإنه رواه مالك بلاغًا، وأسنده بعضُهم من طريق مالك عن ابن لهيعة، وبعضهم عن عبدالله بن عامر الأسلمي، وكلاهما ضعيف، فالحديث ضعيف.
وعمل عمر جيد، وهو من الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه.
ثم الأصل في المعاملات الحلّ، هذا هو الأصل حتى يوجد دليلٌ واضحٌ صريحٌ في المنع، وليس هناك واضحة في المنع، فصار القولُ قول عمر في جوازه.
ثم الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنَّ بعض الناس قد لا يُمهل ولا يرضى بالإمهال إلا بشيءٍ، والحاجة تدعو إلى بذل هذا الشيء من أجل التَّشاور، أو من أجل النظر في أمرٍ آخر قد لا يتيسر له النظر فيه وقت الشراء، فيقول: هذا المال، اشتراه مثلًا بعشرة آلاف أو بمئة ألفٍ، وأعطاه ألفًا أو ألفين وقال له: أنظرني أربعة أيام أو خمسة أيام حتى أنظر؛ لأنَّ هذا الشيء قد يُسبب ضررًا على البائع: قد يفوته الزبون، قد تنقص السلعة، قد تركد إذا تأخَّر بيعها، يفوتها الراغبون، فله في هذا مصلحة، وللمُشتري مصلحة، وفيه جبرٌ لما قد يحصل له من الضَّرر والنَّقص في تأخيره البيع ذلك الوقت.
فالحاصل أنَّ المصلحة في هذا ظاهرة، فالصواب جوازه، إلا أن يثبت دليلٌ بالمنع، والحديث هذا لا حُجَّة فيه لضعفه.
س: ابن عمر كأنه ما قبض الزيت؟
ج: لا، ما بعد قبض الزيت، اشتراه ولا بعد قبضه.
س: ربح ما لم يضمن، حقّك الذي في ذمة غيرك غير مضمونٍ ربحها؟
ج: لا، ما هو مضمون لك، هو مضمون -يعني- بالنسبة إلى الأموال التي عندك، وإلا هو ثابت لك، لكن أمواله ليست في ضمانك أنت، في ضمانه هو، دراهمه ودنانيره التي عنده وطعامه وكل شيءٍ هو باعه من ضمانه هو لو هلكت، لو قال: أنا ناويها لك، أبغي أُعطيك من هذه الدَّراهم، أو من هذا الطعام، أو من هذه الملابس، ما يصير، لو احترقت على صاحبها حتى تتسلمها أنت عن حقي الذي في ذمتك.
س: لا يبيعها بربحٍ؟
ج: برأس المال، بسعر الوقت الحاضر، وهذا معنى: [نهى] عن ربح ما لم يضمن.
س: مَن القائل في أبي حنيفة: أنه لم يحفظ إلا عشرة أحاديث من مئة؟
ج: ابن حبان يقول: إنه لا يُعرف له في الدنيا إلا مئة وثلاثون حديثًا، غلط في مئة وعشرين.
س: ما في مبالغة: فقيه ولا يحفظ إلا عشرة أحاديث؟!
ج: الله أعلم، هذا يحتاج إلى تتبع الحكم عليه وعلى ابن حبان، يحتاج إلى تتبعٍ.
س: مسألة بيع ما ليس عندك، بعض الناس يشتري سيارةً من المعرض وهو يريد فلوسًا مثلًا؟
ج: إذا شراها وحازها ثم باعها ما يُخالف، لكن لا يبيعها قبل.
س: ولو بنية .........؟
ج: جاءك جارك وإلا حبيبك وإلا زميلك يبغي سلعةً، يبغي أن يبيعها ويتزوج، ورحت وشريتها، ولما قبضتها بعتها عليه ..... ما عندك نفس للقرض، عندك بعض الطمع، تُحب الفائدة: تشتريها وتبيعها عليه، وإن أقرضتها فهو أفضل، إن أقرضته الثمن ولم تبع عليه شيئًا أفضل؛ حتى لا تربح.
س: .............؟
ج: نعم عند أهل العلم قاطبةً، وهو كالإجماع من أهل العلم، هذه المداينات التي أباحها، المداينات لا بدَّ فيها من زيادةٍ، لا يُداينه ويبيع بالسعر الحاضر، المداينة لا بدَّ فيها من زيادةٍ في مقابل الوقت، هذا ينتفع، وهذا ينتفع، المشتري ينتفع بالسلعة ويبيعها ويتصرف ويأكل ويشرب، والبائع ينتفع بالزيادة في مقابل التأخير الذي تفوته لأسبابٍ كثيرةٍ.
س: ..............؟
ج: يكون له الخيار، إذا ثبت يثبت الخيار للمشتري؛ لأنه مغرور مخدوع.
س: ............؟
ج: إذا كان بوصلٍ ثابتٍ وهي مملوكة للبائع ما فيها شيء إذا كانت أوصافها معروفةً، فالصحيح أنه يضبط الوصف: السيارة تُضبط بالوصف، السيارة مثل البعير، ومثل البقرة، ومثل العنز، تُضبط بالوصف، إذا كانت أوصافها معروفةً، والبائع مالك؛ موجودة في مصنعه، موجودة في بيته، لا بأس. لكن لا يبيعها الذي شراها بالوصف حتى يقبضها.
.............
ج: ما يجوز له إلا بإذنٍ، هذا في مقابل أخيه الوكيل، إلا إذا قال: بعها بستين، والزائد ذلك ما يُخالف.