743- وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
744- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
745- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
746- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا: أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
747- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا.
748- وَعَنْهُ قَالَ: أَمَرَهُم النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا، مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
749- وَعَنْهُ قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشيخ: اللهم صلِّ وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه.
هذه الأحاديث الثَّمانية كلها تتعلق بأحكام الحجِّ:
في الحديث الأول: حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري ، فيه أن النبي كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار. رواه الشافعي بإسنادٍ ضعيفٍ.
هذا لو صحَّ دلَّ على استحباب هذا الدعاء وشرعيته، لكنه غير صحيح عند أهل العلم كما قال المؤلف: رواه الشافعي بإسنادٍ ضعيفٍ؛ لأنَّ في إسناده صالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد الليثي الأصغر، وهو ضعيف عند أهل العلم، وهو غير أبي واقد الليثي الصحابي الجليل الذي روى حديث "ذات أنواط"، فذاك صحابي جليل معروف اسمه الحارث بن عوف، كما قال الترمذي وجماعة، أما هذا فهو من صغار التابعين، ويقال له: أبو واقد الليثي، وهو من قبيلة الأول، ولكنه تابعي صغير يضعف في الرواية.
ولكن باب الدعاء مفتوح، باب الدعاء في حقِّ الملبي وباب الذكر مفتوح؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم ينهَ الملبين أن يدعوا أو يذكروا، بل قال أنس في "الصحيحين" لما توجَّهوا من منى إلى عرفات قال: كان يُلبي الملبي فلا يُنكر عليه، ويُهلّ المهلُّ فلا يُنكر عليه.
فمقام التلبية ومقام المحرم مقام واسع: يدعو، ويذكر ربه، ويصلي على النبي ﷺ، ويُلبي، يشغل وقته بالخير، والنبي كان يذكر الله على كل أحيانه عليه الصلاة والسلام، وقد أقرَّ الناس على ما كانوا يأتون من التَّلبيات المتنوعة؛ لأنها كلها نوع ذكر، لكن كون المحرم يعتني بتلبية الرسول ﷺ ويُكثر منها هذا هو الأفضل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريكَ لك، وإذا اشتغل ببعض الدُّعاء أو بالصلاة على النبي ﷺ أو بأي نوعٍ من أنواع الأذكار فلا بأس بذلك.
ومن عادة النفس أنها ترغب أن تنتقل مما لازمته إلى شيءٍ آخر للترويح عمَّا لازمته، وتنويع ما يصدر منها من عملٍ وقولٍ، ولكن كون المؤمن يلزم الأفضل ويحرص على الأفضل في القول والعمل هذا أولى، وإذا أتى بالأنواع الأخرى من قولٍ وعملٍ لمزيد طلب الخير ولأسبابٍ أخرى فلا بأس.
وحديث جابرٍ يدل على أنه ﷺ نحر ووقف في عرفات ووقف في الجمع -وهي مزدلفة- ليس لأن ذلك هو محل الوقوف فقط، أو محل النحر فقط، لا، بل شيء وقع له بإرشاد الله ، فبين للناس بأنه ليس بلازمٍ، وليس بواجبٍ، ففي أي محلٍّ نحروا في منى كفى، وفي أي محلٍّ وقفوا في عرفات كفى، وفي أي محلٍّ وقفوا في مُزدلفة كفى؛ ولهذا قال: نحرتُ هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، فدلَّ ذلك على أنَّ منى كلها منحر، ففي أي مكانٍ نحر الحاجُّ كفى وحصلت السنةُ.
وقد دلَّت الأدلة الأخرى على أنه ليس بواجبٍ النحر في منى، بل متى نحر في مكة أو في بقية الحرم أجزأ ذلك: من ذلك ما جاء في حديث جبير بن مطعم: وكل فجاج مكة طريق ومنحر، وجاء في هذا المعنى آثار تدل على التوسعة، ولكن منى أفضل إذا تيسر، إذا وجد فيه مَن يأكل ومَن ينتفع، فإذا قدر أن اللحوم أكثر والمنتفعين أقلّ انتقل المؤمنون إلى المحل الذي يرى فيه الانتفاع أكثر بهديه، والحاجة فيه أكثر في داخل مكة؛ لأنَّ المقصود إيصال هذا المال أو هذا النُّسك إلى مَن ينتفع به ويستفيد منه، فإذا كان الموجودون في منى قليلين أو اللحوم أكثر منهم ونقل المهدي أو المضحي هديه إلى داخل مكة، أو إلى أطراف مكة من الحرم؛ ليُوزعها على الفقراء هناك، فلا حرج ولا بأس بذلك، فقد يكون أفضل وأولى من أجل العلة.
وعرفات كلها موقف، حيثما وقف أجزأه، وهكذا مُزدلفة، والتعبير بالوقوف بمعنى الحصول، ليس المعنى أنه يقف على رجليه، المقصود الحصول في عرفات ولو كان جالسًا أو مضطجعًا، فالتعبير بالوقوف معناه: الحصول في عرفات، فإذا جلس في عرفة في خيمته أو تحت شجرةٍ أو في أي مكانٍ سُمي: واقفًا بعرفة، أو جلس على دابته أو على سيارته فهو واقف، فالوقوف ليس المراد به المتبادر أنه يقف على رجليه واقفًا، لا، المراد حصوله في عرفات، وحصوله في مُزدلفة في الوقت المشروع، هذا المراد بذلك.
وكون النبي ﷺ وقف على دابته يدل على أنه الأفضل، إذا وقف على الدابة فهو الأفضل، وأقرب إلى الخشوع والإقبال على العمل الصالح، وإن جلس في الأرض أو في الخيمة أو في السيارة أو تحت شجرةٍ حصل المقصود.
وهكذا في مُزدلفة كلها يُقال لها: جمع؛ لأنها يجتمع فيها الناس، فإذا جلس في أي جزءٍ منها فقد وقف بها ليلة النحر، وهكذا بعد صلاة الفجر حين يذكر الله ويدعو في أي مكانٍ منها، ولا يلزم الناس أن يتحولوا إلى موقف النبي ﷺ ولا منحره، لا، بل في أي مكانٍ حصل وقوفهم كفى والحمد لله، ثم هذا غير ممكنٍ؛ لأنَّ الجمع أكثر من ذلك، فالمكان يضيق على الذين يجتمعون فيه، فإقراره لهم في عرفات وفي منى ومُزدلفة كافٍ، ولكن زاد ذلك بالبيان القولي عليه الصلاة والسلام.
وحديث عائشة يدل على أنَّ السنة دخول مكة من أعلاها، وهكذا جاء من حديث ابن عمر في "الصحيحين": أن النبي دخل مكة من أعلاها، وخرج من أسفلها، وجاء في أحاديث أخرى، وهو يدل على شرعية الدخول من أعلاها إذا تيسر ذلك؛ تأسيًا بالنبي ﷺ؛ ولأنَّ دخولهم من أعلاها أيضًا يدخل البلد من وجهها، يأتي البلد من وجهها؛ من وجه الكعبة، خلاف الجهة الأخرى؛ فإنه يأتي من دبرها، ومجيء البلد من وجهها أولى، ومن أي طريقٍ دخل فلا بأس ولا حرج.
وأعلاها يقال له: كَداء، بالمد وفتح الكاف، وأسفلها يقال له: كُدا، بالضم والقصر.
قال بعضهم: كان أهلُ مكة يقولون: افتح وادخل، واضمم واخرج. يعني أن الموضع الذي في أعلاها يُقال لها: كداء، بالفتح وبالمد، ويقال للموضع في الأسفل: كُدا، بالقصر والضم.
وعندهم موضع آخر يُقال له: كدي، معروف هناك.
هذا هو الأفضل، وهو الذي دخله النبي ﷺ يوم الفتح، وجاء عنه ﷺ أنه قال يوم الفتح: ادخلوها من حيث قال حسان؛ لأنَّه قال حسان في هذا المعنى:
عدمتُ بنيتي إن لم تروها (يعني الخيل) | تُثير النَّقع مطلعها كَداء |
أو قال: موعدها كداء.
فقال النبي: ادخلوها من حيث قال حسان، فدخل الناسُ يوم الفتح من أعلى مكة، وهكذا يوم حجة الوداع دخل من أعلاها عليه الصلاة والسلام.
والحديث الرابع حديث ابن عمر: أن النبي ﷺ كان إذا دخل مكةَ نزل بذي طوى، وبات بها، فإذا أصبح اغتسل ودخل مكة عليه الصلاة والسلام، كان يُصبح بذي طوى، وطوى مقصورة، وطاء مثلثة: طِوى، وطَوى، وطُوى، بئر هناك في أسفل مكة، كان ينزل بها النبي ﷺ ويُقيم بها ليلة النزول ويغتسل، ثم يدخل مكة.
فالسنة لمن دخل مكة أن يستريح في مكانٍ بمكة ويغتسل؛ ليحصل له النشاط والنظافة قبل أن يبدأ بالطواف، هذا هو الأفضل، ومَن دخل رأسًا ولم يغتسل ولم يبت في مكة في أعلاها أو في أسفلها فلا حرج، هذا عند أهل العلم مستحبٌّ فقط، فلو دخل رأسًا من بلده حتى أتى المسجد الحرام كفى، وظاهر ما نقله جابر يقتضي ذلك، ولكن ابن عمر المفصل أعلم بما فصل.
وفي حديث ابن عباسٍ كذلك قال: لقد دخل النبيُّ ﷺ في حجة الوداع صبيحة رابعة من ذي الحجة في صبيحة يوم الأحد. وهو قد يُشير إلى ما بينه ابن عمر من كونه ينزل في طوى ويغتسل عليه الصلاة والسلام، فالأمر في هذا واسع.
أما حديث ابن عباس في أنه أمرهم أن يرملوا ثلاثًا، ويمشوا بين الركنين، ويمشوا الأربعة الأشواط. فهذا في عمرة القضاء، هذا ذكره ابن عباس في عمرة القضاء، كما رواه الشيخان: أن النبي ﷺ لما قدم مكة عام عمرة القضاء قال ناسٌ من قريش: إنه يقدم عليكم قد وهنتهم حمى يثرب. قد وهنتهم يعني: ضعفتهم، حمى يثرب يعني: حمى المدينة، وكانوا قد جلسوا من جهة قيقعان -جبل هناك مما يلي الحجر- لينظروا النبي والصحابة حين يطوفون في عام سبعٍ من الهجرة، في عمرة القضاء، فأمرهم النبيُّ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا الأربعة الأشواط، وأن يمشوا ما بين الركنين، قال: ولم يمنعهم من أمرهم بالرمل في الجميع إلا الإبقاء عليهم؛ لأنه الرفق بهم، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بالرمل في الثلاثة، ما عدا ما بين الركنين؛ لأنهم يختفون بين الركنين، يختفون عن قريش، فأمر بذلك للرفق بهم والعطف عليهم وإراحتهم.
فلما رأتهم قريش يرملون قال بعضُهم لبعضٍ: هؤلاء الذين قلتم: إنهم وهنتهم الحمى! إنهم لأجلد من كذا وكذا. كما رواه مسلم في رواية أنهم قالوا: إنهم لأنشط -أو لأقوى- من الغزلان، أو كما قالوا، وهذا هو المراد، المراد إظهار القوة والجلد أمام الكفار.
وهذا احتجَّ به العلماء على أنه ينبغي لأهل الإسلام -ولا سيما في موقف الحرب ومواقف اللقاء بين الكفرة- أن يتظاهروا بالقوة والنَّشاط، وأن يحذروا ما يدل على الضعف مهما أمكن؛ إظهارًا للقوة والنَّشاط ضد عدوهم، حتى لا يطمع فيهم عدوهم، وحتى يكون ذلك وهنًا لعدوهم، وسببًا لتمكين المسلمين من مطالبهم، وإنصافهم في حقوقهم.
وبكل حالٍ، فإظهار الجلد والقوة من جهة الأبدان ومن جهة السلاح كل هذا مطلوب؛ لأنَّ الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فإظهار الجلد والقوة من أسباب النصر، ومن أسباب الهيبة، ومن إعداد القوة، ومن أخذ الحذر.
والحديث السادس حديث ابن عباس: أنه نقل عن النبي ﷺ أنه كان يُقبل الحجر ويسجد عليه. رواه الحاكم مرفوعًا، والبيهقي موقوفًا.
هذا الحديث لا بأس بإسناده، والموقوف يُؤيد المرفوع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، ولا يُفعل من جهة الرأي، وقد روى مسلم في الصحيح عن عمر أنه قبَّل الحجر والتزمه وقال: "إني رأيتُ رسول الله بك حفيًّا"، فهذا قد يُؤيد ما ذُكر هنا، لكنه ليس بالصريح.
والمحفوظ من الأحاديث الصَّحيحة أنه كان يُقبله ويستلمه عليه الصلاة والسلام، هذا هو المحفوظ من الأحاديث الصحيحة، المشهور: يُقبله ويستلمه، أما وضع الجبهة عليه والأنف من باب السجود فهذا من طريق ابن عباس هذا، وقد جاءت له طرق، ولا بأس به، وهو سجود وتعظيم لله على هذا المكان، أما الأحاديث الصحيحة فليس فيها إلا الاستلام والتقبيل والتكبير، وهذا هو السنة المعروفة المعلومة، ومَن فعل السجود فلا حرج، ولكن فعله فليكن قليلًا، وليستعمل الأكثر الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام.
وحديث ابن عمر السابع والثامن يدلان على شرعية الرمل، وهو الخبب في الأشواط الثلاثة من الطواف أول ما يقدم، كما تقدم في حديث جابرٍ، فالسنة الرمل في الأطواف الثلاثة أول ما يقدم مكة في العمرة والحج، والمشي في الأربعة.
وكان ابن عمر يفعله: إذا دخل مكة خبّ في الثلاثة الأول، ومشى في الأربعة، وينقله عن النبي ﷺ، هذا هو السنة.
وكانت أسباب ذلك مثلما تقدم من زعم المشركين أنَّ الصحابة قد وهنتهم الحمى، وأنهم ضُعفاء، فأمرهم النبي أن يرملوا حين اعتمروا عمرة القضاء، ثم بقيت هذه السنة واستمرت، وفعلها النبي ﷺ في حجة الوداع إحياءً لهذه السنة، وتذكيرًا بها، فهي سنة باقية وإن ذهب سببها، لكن من باب إحياء السنن، وإحياء ما يكون له ذكر بين المسلمين ينفعهم، فلما فعلها في حجة الوداع دلَّ على أنها سنة قارة ثابتة.
وهكذا قوله: لم أرَ النبيَّ يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين. يعرف الأشهر مع الألف التخفيف: اليمانيين، وقال بعضُهم بالتشديد، ولكن الأكثر على التَّخفيف إذا جاءت الألف، وإذا حُذفت قيل: اليمنيين، بالتشديد، وهما الركن الأسود الذي فيه الحجر، والركن اليماني، كان يستلمهما النبي ﷺ في الحج والعمرة، يمسحهما بيده، ويُقبل الأسود، ويُكبر فيهما، ولم يستلم الركنين الشاميين، ويقال لهما: العراقيين، وهما اللذان يليان الحجر، هذان لا يُستلمان، ولا يُقبلان.
قال بعضهم: ولعل العلة في ذلك والله أعلم: أنهما ليسا على قواعد إبراهيم، بل قصرت النَّفقة في قريش فأخرجوا الحجر، بخلاف الركن الذي فيه الحجر الأسود والركن اليماني، فإنهما على قواعد إبراهيم؛ فلهذا استلمهما النبي ﷺ، ولما كان في الركن الذي فيه الحجر الأسود اختصَّ بسنتين: الاستلام والتقبيل، وأما اليماني فليس فيه إلا خصلة واحدة، وهو كونه على قواعد إبراهيم، فاختصّ بالاستلام.
وأما التكبير: فهو مشترك، إذا استلم هذا وهذا كبَّر، ويزيد في الأسود سنةً ثالثةً، وهو أن يُشير في التكبير، ولو بعد عنه الإنسان يُشير ويُكبر، بخلاف اليماني، فإني لا أحفظ أنه أشار إليه عليه الصلاة والسلام عند البُعد، وإنما استلمه فقط وقال: بسم الله، والله أكبر، كما رواه الطبراني وجماعة.
فالحجر الأسود يُقبل ويُستلم ويُكبر عند استلامه، ويُشار إليه عند البعد ويُكبر، أما اليماني فيُستلم ويُكبر فقط، يُستلم ويُكبر عند استلامه، وإذا بعد عنه لم يُشر له ولم يُكبر لعدم النَّقل.
وأما الشاميين، ويقال: العراقيان، فهذان لا يُستلمان ولا يُقبلان؛ لأنَّ الأصل أنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام، والحكمة في هذا والله أعلم: أنهما ليسا على قواعد إبراهيم.
ويُروى أنَّ معاوية استلمهما ومعه ابن عباس، رواه مسلم، فقال له ابن عباس: لم يستلمهما النبيُّ ﷺ! فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا. فقال ابن عباس: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فقال: صدقتَ.
فدلَّ ذلك على مُوافقته على ما رآه أهلُ العلم من عدم استلامهما؛ لأنهما كما ذكر جمعٌ من أهل العلم ليسا على قواعد إبراهيم، وإنما قصرت النَّفقة بقريش حين بنوا الكعبة فأخرجوا الحجر؛ لأنهم جمعوا لها الشيء الطيب، جمعوا لها النَّفقات الطيبة التي دخلت عليهم من أكسابٍ طيبةٍ، ونزَّهوا بناءها من الأكساب الرديئة: من الربا، ومن مهور البغايا، وأشباه ذلك، وقالوا فيما بينهم: لا يدخل هذا البناء إلا نفقة طيبة. فقصرت معهم النَّفقة، واقتصروا على بناء ما بُني، وأخرجوا الحجر، كذا أخبر النبيُّ ﷺ: أنها قصرت بهم النَّفقة فأخرجوا الحجر، والله أعلم.
مداخلة: البحر: الماء الكثير أو الملح فقط، جمعه: أبحر، وبحور، وبحار، والتصغير: أبحير، لا بحير، والرجل الكريم، والفرس الجواد، والريف، وعمق الرحم، والبحرة: البلدة، والمنخفض من الأرض، والروضة العظيمة، ومُستنقع الماء، واسم مدينة النبي ﷺ، وقرية بالبحرين، وكل قريةٍ لها نهر جارٍ وماء ناقع.
الشيخ: بيَّن أن البحار تُطلق على الأرياف، يقال لها: بحار، الأرياف التي في أطراف البلاد، والقرى والبلدان تُسمى أيضًا: بحارًا، وهو المراد بالحديث: "من وراء البحار" يعني: من وراء الأرياف، أو من وراء البحار، القرى يعني.
س: .............؟
ج: الحجر الأسود الذي مركب في الركن الأسود، هذا فيه حجر، وذاك ما فيه حجر.
س: الحجر من الجنة؟
ج: جاء في بعض الأحاديث، فيها بعض المقال: أنه نزل من الجنة. رواه الترمذي وأحمد وجماعة بإسنادٍ لا بأس به في الجملة، لكن بعضهم أعلَّه؛ لأنَّ فيه عطاء بن السائب، قد اختلط، لكنه روى عنه حماد بن سلمة، وقد قيل: إنه رواه عنه قبل أن يختلط. فهو ليس من الأحاديث السليمة، بل فيه بعض الشيء.
س: التَّبلط بالكعبة وملامستها جائز؟
ج: ما نعرف له أصلًا، لكن جاء في حديث أسامة: أن النبي فعله من داخل الكعبة، لما دخلها وضع صدره وذراعيه عليه ودعا عليه الصلاة والسلام وكبَّر، هذا جاء في حديث أسامة، رواه أحمد وأبو داود وجماعة من داخل، أما من خارجٍ فلا نعلم شيئًا صحيحًا من فعل الصحابة، ولا من فعل النبي ﷺ، كما يفعله الناسُ اليوم، فالذي ينبغي تركه، وبعضهم يقيس ظاهرها على داخل، يقول: ما دام أنه فعله في داخلها فظاهرها كذلك، والذي ينبغي ترك ذلك؛ لأنَّ الأشياء بالاتباع، لا بالرأي، ولا بالقياس، فما فعله النبيُّ فعلناه، وما تركه تركناه، فالأولى ترك ذلك وعدم فعله إلا في الملتزم خاصةً بين الركن والباب، هذا في الملتزم، فعله الصحابة، وفعله السلف، فلا بأس أن يلتزمه، يضع يديه عليه وصدره ويدعو هناك بين الركن والباب.
س: ..............؟
ج: ما سمعنا في هذا شيئًا، والأولى عدم ذلك، فهو ثوب جُعل عليها للزينة والجمال، أما توزيعه للبركة فالذي يظهر أنه لا ينبغي، بل يُترك ذلك؛ لأنَّ الجهل قد يدعو إلى ما هو أكبر.
س: قوله: ..... ويمشوا أربعًا ما بين الركنين، ما أتى بالاستثناء بعد كلمة "الركنين"، والأصل أن يقول: ما عدا بين الركنين؟
ج: هذا اختصار مُخِلٌّ، والمعنى أنه ﷺ أمرهم أن يرملوا في الثلاث الأول ما عدا ما بين الركنين، ويمشوا الأربعة الأخيرة، هكذا كما في "الصحيحين"، وكما في "العمدة" -عمدة الأحكام- لعبدالغني؛ لأنه نقله كاملًا، أما المؤلف هنا اختصره اختصارًا مُخِلًّا.
س: ..............؟
ج: من باب: فرح، هذه الكلمة لها ثلاثة تصرفات: قدم إذا ورد إلى البلد من باب فرح، وإذا أراد التَّقدم على قومه فهو من باب نصر: قدم يقدم، مثلما في قوله جلَّ وعلا: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[هود:98] يعني: يتقدمهم، قدمهم يقدمهم، يعني: تقدمهم، صار أمامهم.
والنوع الثالث: قدُم -بضم الدال- يعني: صار قديمًا، قدم هذا الشيء: صار قديمًا، مثل: كرمًا، صار كريمًا، ضرب، صار ضريبًا، فيُقال: قدم وقدم وقدم، فقدم صار قديمًا، مثل: العرجون القديم، مضى عليه دهرٌ، قدم يقدم تقدم قومه: صار أمامهم، البعير قدمهم: صار أمامهم، والأمير قدمهم يعني: تقدمهم، وقدم وصل إلى البلد، ورد إلى البلد: قدم يقدم من باب فرح.
س: ..............؟
ج: جاء في الحديث الذي تقدم لك، حديث ابن عباس رواه أحمد والترمذي وجماعة: أنه نزل الحجر من الجنة، وكان أشد بياضًا من اللبن. وفي لفظٍ: أشد بياضًا من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك. في روايةٍ: حتى سودته خطايا بني آدم. هذا رواه أحمد والترمذي وجماعة بإسنادٍ لا بأس به، إسناد حسن من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، ولكن عطاء بن السائب اختلط في آخر أمره، وروى عنه جماعة بعد الاختلاط، وجماعة قبل الاختلاط، فمَن ثبت عنه أنه روى قبل الاختلاط فحديثه جيد، وإن كان بعد الاختلاط فحديثه ضعيف، ولا أعلمه جاء من طريقٍ آخر.
كذلك جاء في الحجر، رواه أحمد والترمذي وجماعة من طريق عطاء بن السائب أيضًا: أنَّ الله يبعث هذا الحجر يوم القيامة وله عينان ينظر بهما، وله لسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحقٍّ. لكن في إسناده بعض اللين من أجل عطاء بن السَّائب.
س: .............؟
ج: بسم الله، هذا محفوظ من فعل ابن عمر، ومحفوظ عن النبي عند الركن اليماني، رواه الطبراني وجماعة، كما ذكر ابن القيم، وأما عند الحجر الأسود ما أذكره من فعل النبي ﷺ.
س: ..............؟
ج: الأمر واسع، الثابت عن النبي ﷺ التَّكبير عند الحجر الأسود، كان إذا حاذاه كبَّر، وجاء أن عمر قال: "قل: لا إله إلا الله وكبِّر"، لكنه سنده ضعيف، رواية: "قل: لا إله إلا الله، والله أكبر".
س: .............؟
ج: ما أحفظ هذا، إنما فعله بعض الصحابة، يُروى عن النبي ﷺ، لكن غير محفوظٍ، إنما فعله بعض الصحابة: كعبدالله بن عمرو وجماعة.
س: لو بُني البيت على قواعد إبراهيم هل تستلم الأركان الأربعة؟
ج: بعضهم ذكر هذا، ابن الزبير لما بنى على قواعد إبراهيم كان يستلمها كلها اجتهادًا منه، ولكن الأقرب والله أعلم لو قُدر بناؤه الأقرب الاقتصار على الركنين؛ لأنَّ هذا ظنٌّ واجتهادٌ، مَن قال هذا لم يقل النبيُّ: إني تركتُ هذا لأجل كذا. فالأقرب حتى لو بُني يبقى الاستلام لهذين الركنين.
س: قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم:41] هل البحر هنا البحر المعروف أم يدخل فيه ما ذكرتُم؟
ج: الظاهر يعمّ، يعمّ البحار، وهي القرى والأرياف، ويعمّ البحار وما يكون فيها من البواخر والسفن .....، البحر هنا يعمّ الجميع؛ لأنه قابله بالبر، فيعمّ القرى، ويعمّ المدن، ويعمّ نفس البحار، وما يكون فيها من البواخر والسُّفن يقع فيها فساد أيضًا.
س: معروف أنه يقع فساد في البحر نفسه؟
ج: ما في شكٍّ، نعم.
750- وَعَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
751- وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
752- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ ﷺ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
753- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
754- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الثَّقَلِ، أَوْ قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
755- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً -تَعْنِي: ثَقِيلَةً- فَأَذِنَ لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
756- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
757- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
الشيخ: هذه الأحاديث الثمانية كلها تتعلق بالحجر وانصراف من جمعٍ بليلٍ وبالرمي.
حديث عمر يدل على أنَّ التقبيل للحجر ليس من أجل طلب شيءٍ من الحجر -طلب البركة من الحجر أو غير ذلك- وإنما نُقبله تأسيًا برسول الله ﷺ؛ فلهذا قال : "إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي يُقبلك ما قبَّلتك"، يشير إلى أن التقبيل والاستلام ليس عن عقيدةٍ في الحجر وأنه يحصل به بركة لفاعله، أو يمده بشيءٍ كما تظن الجاهلية في أصنامها وأوثانها؛ فإنَّ الجاهلية كانت لهم اعتقادات فاسدة في أصنامهم وأوثانهم وأشجارهم التي يعبدونها، فيطلبون منها البركة، ويُعلقون على أشجارهم التي يعتقدون فيها السلاح، ويقولون: إنه بعد هذا يكون أمضى إذا عُلِّق.
فأراد عمر بهذا أن يُبين أنَّ هذا الأمر الذي في الإسلام ليس من أجل شيءٍ يُطلب من الحجر، وإنما هو التأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ليغرس هذا الأمر في قلوب مَن يسمع ومَن ينقل إليه هذا الأمر؛ وليعلموا أنَّ الأمور كلها من الله، وأنه المطلوب جلَّ وعلا بإغاثة اللَّهفات، وقضاء الحاجات، والبركة في كل شيءٍ، فالبركة من الله.
ولما قدم يومًا للنبي ﷺ طعام قال: كلوا والبركة من الله، ويُروى أنَّ عليًّا قال عند ذلك: لا يا أمير المؤمنين، إني سمعتُ النبي ﷺ يقول: إنه يُبعث يوم القيامة له لسان ينطق به، وعينان يُبصر بهما، يشهد لمن استلمه بحقٍّ، وهذا لو صحَّ ما يُعارض ما قاله عمر؛ فإنَّ هذا شيء يُكلفه الله به ويأمره به يوم القيامة، فليس عن نفسه، ولا عن ذاته، ولا يمد النفس بضررٍ ولا بنفعٍ، وإنما هذا النَّفع الذي يحصل منه يوم القيامة شهادة، كما تشهد الأعضاء -أعضاء الناس- وأيديهم وأرجلهم ..... ألسنتهم، ختم الله على الألسنة -على الأفواه- ونطقت الأرجل والأيدي والجلود بكل شيءٍ.
والحديث رواه الترمذي وجماعة وأحمد عن ابن عباسٍ من طريق عطاء بن السائب: أنَّ هذا الحجر يأتي يوم القيامة له لسان ينطق به، وعينان ينظر بهما، يشهد لمن استلمه بحقٍّ.
وفي إسناده عطاء بن السائب، واختُلف فيمَن رواه عنه: قيل: حماد بن سلمة، وقيل غير ذلك.
فالحاصل أنه لو صحَّ فليس بمخالفٍ لما قاله عمر، فهذا شيء، وهذا شيء.
والحديث الثاني: حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي، صحابي صغير، يقول أنه رأى النبي ﷺ يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجنٍ ويُقبل المحجن. هذا يدل على أنه يُستحب تقبيل الحجر إذا تيسر، فإن لم يتيسر قبَّل ما لامس الحجر بيده أو محجنه، فإذا مسَّه بيده قبَّل يده، وإذا مسَّه بالمحجن قبَّل المحجن، وإن تيسر أن يُقبله بنفسه فهو أفضل.
وفي حديث ابن عباسٍ في "الصحيحين": أنَّ النبي طاف على بعيره، كلما حاذى الحجر كبَّر.
هذا يدل على أنَّ الحجر له ثلاث حالات، الناس مع الحجر على ثلاث حالات:
إحداها: أن يتمكَّنوا من التَّقبيل والاستلام، هذا هو الكمال: أن يستلم ويُكبر ويُقبل، هذا أفضلها.
والحال الثانية: ألا يتمكن من التَّقبيل، لكن يستلم بيده أو بالعصا، يُقبل يداه، أو يُقبل العصا إذا استلم بها.
الحالة الثالثة: أن يكون زحامًا أو راكبًا لا يتمكن، فإنه يُشير ويُكبر ويمضي في طوافه.
والمحجن عصا محنية الرأس، لها حنية في رأسها، يقال لها: محجن، يُشبه ما يُسميه الناس: بالمشعاب، تقريبًا.
وقصة صاحب المحجن معروفة، وهو الذي كان يسرق الحجيج، أخبر النبيُّ ﷺ أنه رآه في النار يُعذَّب بمحجنه، في خطبته يوم كسوف الشمس عليه الصلاة والسلام، قال: رأيتُ صاحب المحجن يُعذَّب بمحجنه في النار، وكان يسرق به الحجيج، يرفعه ليُناط به بعض الأشياء الخفيفة التي يتمكن منها، فإذا فطنوا له قال: ما قصدتُ ولا أردتُ، هذا تعلَّق بمحجني من غير قصدٍ مني. وإذا لم يفطنوا له ذهب، وعُذِّب في النار بهذه السَّرقة وهذا النَّهب الذي فعله، نسأل الله العافية.
والحديث الثالث: حديث يعلى بن أمية، ويقال له: ابن منية، أمية أبوه، ومنية أمه: أنه رأى النبيَّ ﷺ طاف مُضطبعًا ببردٍ أخضر.
وهذا يدل على الاضطباع في الطواف، وجاء هذا المعنى من حديث ابن عباس أيضًا بسندٍ جيدٍ: أن النبي ﷺ وأصحابه لما اعتمروا في يوم حنين في فتح مكة اضطبعوا، فجعلوا أوساط الأردية تحت آباطهم اليمنى، ونسفوا أطرافها على عواتقهم اليسرى.
هذا هو السنة: الاضطباع في طواف القدوم في الحجِّ أو العمرة، ولا بأس أن يكون أبيض أو غير أبيض، لو كان أبيض أو أسود أو أخضر أو غير ذلك، لكن البياض أفضل، وقد دخل النبيُّ ﷺ يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، فدلَّ ذلك على التَّوسعة في هذا الأمر، وأنه لا حرجَ أن يلبس الرجلُ الأسودَ والأخضرَ والأحمرَ والأبيضَ، كذلك في يوم الفتح، بل في حجة الوداع دخل وعليه حُلَّة حمراء، ثبت هذا من عدة أحاديث.
المقصود أنَّ اللباس يتوسع فيه في الألوان، إلا أنه يحرم التَّشبه بالنساء أو بالرجال، اللباس لا بأس به: أخضر أو أسود أو غير ذلك، لكن يُراعي عدم التَّشبه بالنساء بزيهنَّ، وعدم التَّشبه بالكفار في زيهم، وإذا كان اللباسُ ليس فيه تشبه بزي النساء ولا بزي الرجال فلا حرج.
والاضطباع يكون في جميع الطواف، بخلاف الرمل فيكون في الأشواط الثلاثة فقط الأولى في طواف القدوم خاصةً، الاضطباع والرمل في طواف القدوم خاصةً، أما الطّوافات الأخرى: طواف الحج، طواف الوداع، وطواف التَّطوع ليس فيه لا رمل ولا فيه اضطباع، وإنما هاتان السنتان في طواف القدوم خاصةً.
والحديث الرابع حديث أنسٍ : "كان يُهلّ منا المهلّ" يعني: حين توجَّهوا إلى عرفات كما ذكره في روايةٍ أخرى، سأله أبو بكر الثَّقفي: ماذا كنتم تقولون؟ قال: "كان يُهلّ منا المهلّ فلا يُنكر عليه"، يعني: يُلبي، الإهلال: التلبية، "ويُكبر منا المكبر فلا يُنكر عليه"، هذا يدل على التوسعة وقت التلبية: أنه إن لبَّى فحسن، وإن كبَّر فلا بأس، التلبية شعار المحرم، فإن خلطها بالتكبير والتَّسبيح والتَّهليل فلا بأس.
والخامس حديث ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ دفع في الثّقل. هكذا حديث عائشة في قصة سودة، هذا يدل على أنه لا بأس بدفع الضَّعفة من مُزدلفة بليلٍ؛ لئلا يحطمهم الناس؛ لأنَّ الناس إذا اندفعوا بعد الفجر عند انتساع النور وانتشار النور قد يحطم الضَّعيف والصَّغير، فأمرهم النبيُّ أن يندفعوا قبل الفجر؛ ليسلموا من زحمة الناس.
وهذا سنة: للضعفاء والمساكين أن يندفعوا في آخر الليل قبل الناس، ويكون معهم الصبيان والشيوخ، ومَن كان معهم في حاجاتهم حكمه حكمهم، مَن كان معهم لا يُتركون وحدهم، لا بدَّ أن يكون معهم مَن يُلاحظهم ويعتني بأمورهم، فهو مثلهم، وإن أخَّروا الرمي إلى بعد طلوع الشمس فلا بأس، وإن رموا في آخر الليل فلا بأس.
وحديث أم سلمة يدل على أنهم رموا في آخر الليل، وهكذا حديث أسماء بنت أبي بكر: أنها رمت في آخر الليل، وقالت: إن النبي رخَّص للظعن. فهذا يدل على هذا: على أن مَن دفع في آخر الليل من الضَّعفة ونحوهم فإنه يرمي في آخر الليل، وإن شاء أخَّر.
وأما الأقوياء فالسنة في حقِّهم أن يبقوا حتى يُصلوا الفجر، وحتى يقفوا بعد الصلاة ويُسفروا، ثم يندفعوا بعد ذلك إلى منى قبل طلوع الشمس، هذا هو السنة في حقِّ الأقوياء، وأما الضُّعفاء فلهم أن ينصرفوا في آخر الليل؛ لئلا يحطمهم الناس ويشقّ عليهم الأمر.
وظاهر السنة أنهم إذا رموا في آخر الليل أجزأهم ذلك، وليس هناك ما يدل على عدم الإجزاء، بل صريح الأحاديث يدل على الإجزاء، والرفق لا يتم إلا بذلك، الرفق الذي أراده النبيُّ ﷺ إنما يتم بأن يكون لهم الرمي في آخر الليل.
وأما حديث ابن عباسٍ الذي ذكر فيه ألا يرموا إلا بعد طلوع الشمس، قال: إنه جاء إليه ..... بني المطلب وبني عبد المطلب ..... يقول: لا ترموا حتى تطلع الشمس، هذا في صحته نظر؛ لأنه من رواية الحسن العرني، عن ابن عباس، وهو لم يسمع؛ ولهذا قال المؤلفُ: فيه انقطاع.
وجاء في روايةٍ أخرى فيها ضعف: أنهم رموا عند ضوء الفجر. هذا يخالف رواية الحسن العرني.
والصواب أنَّ هذه الرواية فيها ضعف، ولا يُحتج بها، ولو صحَّت لكان هذا محمولًا على الأفضلية في حقِّ مَن يستطيع، ومعلوم أن الصبيان ليسوا ممن يستطيع، وعليهم خطر من زحمة الناس، فالذي يظهر من أحاديث الإذن لهم في الاندفاع في آخر الليل عدم صحة هذه الرواية التي فيها نهيهم أن يرموا حتى تطلع الشمس، فإنَّ هذا يخالف مُقتضى الرفق بهم والحرص على سلامتهم قبل حطمة الناس، فإنَّ الناس إذا اندفعوا قبل الشمس يصل أوائلهم بعد طلوع الشمس، فيُصادفوا رمي الصغار بعد طلوع الشمس، فيُخشى عليهم من ذلك.
فالحاصل أنَّ رواية: لا ترموا حتى تطلع الشمس فيها نظر، في صحَّتها نظر، والأظهر عدم صحَّتها لهذا الانقطاع الذي فيها، والروايات الأخرى تُعارضها: أنهم قال ابن عباس: "رمينا عند ضوء الفجر"، فهذا يُخالف هذه الرواية.
فالصواب أنه لا حرجَ عليهم في الرمي قبل طلوع الشمس، وفي آخر الليل، ومَن رمى معهم من الأقوياء ممن صحبهم فلا حرج عليه أيضًا، والصواب أنه يُجزئه؛ لعدم الدليل على عدم الإجزاء والله أعلم.
س: مَن قال: أنَّ مَن معهم من الأقوياء الرخصة في أن يصطحبهم، أما أن يرمي ..؟
ج: كون النبي ما نبَّههم وما قال: لا ترموا، يدل على الرخصة، كون النبي سكت عنه يدل على الرخصة: أنها عامَّة، كما عمَّتهم في الاندفاع تعمّ في الرمي، ثم هذا المقام مقام عظيم لا ينبغي فيه التَّشديد؛ لأنه مقام عظيم، لا سيما في هذه السنين الأخيرة عند كثرة الناس وتسهيل الطرق والمراكب، صار يحضر الموسم من الجهلة والجم الغفير ما لا يحصى، وبعضهم لا يُبالي بالضَّعيف، ولا ينظر في أحدٍ، لا ينظر إلا في نفسه، يدفع الناس ويُؤذي الناس ولا ينظر في شيءٍ، كأنه ما هو معه عقله، نسأل الله العافية.
س: هو قوي ودفع من مُزلفة قبل نصف الليل جاهلًا، هل يلزمه دم؟
ج: فيه خلاف مشهور: عند مالك وجماعة لا دم، وعند الجمهور عليه دم، وإذا ذبح الدم يكون أحوط وأولى؛ لأنَّ الجمهور يرون المبيت لا بدَّ منه، ومروره لا يكفي، ومالك وجماعة قالوا: يكفي المرور إذا مرَّ وصلَّى فيها المغرب والعشاء، هذا فيه نظر، فيه ضعف.
س: قول الفقهاء أنه الآن يُباح لكل أحدٍ أن يدفع في آخر الليل؟
ج: هذا أخذوه من عموم الرخصة، والأولى أنَّ الرخصة في حقِّ الضعفاء، هذا هو الأولى، هذا السنة.
س: .............؟
ج: كذلك صدقت، إذا دفع هؤلاء وهؤلاء جاء الزحام أيضًا.
س: .............؟
ج: هكذا الاستلام، تقول كذا وتستلمه، يمسحه ويقول هكذا، يضع فمه عليه.
س: .............؟
ج: يُقبلها، يحطها على فمه.
...........
758- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
759- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ. وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
760 و761- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَا: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
762- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
763- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَادَتِ الشَّمْسُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة تتعلق بعرفة وعظم شأنها ومُزدلفة، ثم ما يتعلق بالدفع من مُزدلفة، ثم ما يتعلق بالرمل.
يقول عروة : عن النبي ﷺ أنه قال: مَن شهد صلاتنا هذه -يعني: في مُزدلفة- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك من ليلٍ أو نهارٍ؛ فقد تم حجُّه، وقضى تفثه.
هذا الحديث حديث جيد عظيم، وأصله أنَّ عروة جاء متأخرًا وقال: يا رسول الله، أكللتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركت من ..... إلا وقفتُ عليه، فهل عليَّ من حجٍّ؟ فأجابه النبي ﷺ بهذا، قال: مَن شهد صلاتنا -يعني: في مُزدلفة، صلاة الفجر- ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك من ليلٍ أو نهارٍ، فقد تم حجُّه، وقضى تفثه.
هذا يُبين لنا أنَّ مَن أدرك عرفات ولو بليلٍ فقد أدرك الحجَّ، وأنَّ حضور مُزدلفة لصلاة الفجر أهم مهم، وينبغي للمؤمن ألا يفوته، وإن كان حديث الضَّعفة وما جاء في معناه يدل على أنه ليس بواجبٍ، وأنه مستحب، وأنَّ مَن انصرف من الليل من الضَّعفة وكبار السن والنِّساء فلا شيء عليهم، لكن يدل على تأكده في حقِّ الأقوياء، وأنه ينبغي البقاء حتى يُصلوا الفجر، حتى يُشاهدوا بعد صلاة الفجر؛ لهذا الحديث الصحيح، وهذا من كمال الحجِّ وتمامه، وأما عرفات ففرض الحجِّ وركن الحجِّ فلا بدَّ منها.
وقد صحَّ عنه ﷺ أنه قال: الحج عرفة، مَن أدرك عرفة بليلٍ فقد أدرك الحجَّ، وقد أجمع المسلمون على أنَّ الوقوف بعرفة لا بدَّ منه من ليلٍ أو نهارٍ، وأنَّ مَن لم يقف بعرفة لا ليلًا ولا نهارًا في يوم عرفة وفي ليلة النحر فلا حجَّ له.
فالوقوف بعرفة ركن بإجماع المسلمين، واختلفوا في مبدئه: فذهب الجمهور إلى أنه يبدأ من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الشمس. هذا محل الوقوف عند الجمهور، فمَن وقف بعرفات بعد زوال الشمس يوم التاسع وهو محرم بالحجِّ، أو وقف في الليل قبل طلوع الفجر؛ أجزأه الحجُّ، ومَن لم يقف في هذه المدة فلا حجَّ له، فلو وقف قبل الزوال وانصرف، أو وقف بعد طلوع الفجر ليلة النحر فلا حجَّ له، فلا حجَّ إلا بوقوفٍ في عرفات بعد زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر، هذا هو وقت الوقوف عند جمهور أهل العلم.
وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن مبدأ الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة؛ لقوله في هذا الحديث: وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، ولم يقل: بعد الزوال، فدلَّ ذلك على أنه يُجزئه ولو قبل الزوال. وهذا مذهب أحمد وجماعة، ومن المفردات، وهو أظهر في الدليل؛ لأنَّ الحديث صحيح وصريح.
فيظهر من ذلك أنه لو وقف قبل الزوال وهو محرم بالحجِّ، ثم انصرف ولم يُكمل إلى غروب الشمس؛ أجزأه وعليه دم، ولكن وقوفه بعد الزوال حتى يُوافق فعل النبي ﷺ هو السنة، ومَن فاته بعد الزوال وأتى في الليل أجزأه ذلك أيضًا، وأما كونه يُصلي الفجر مع الناس ويقف بعد الفجر فهذا من السنن والكمالات التي لم يكن فيها إثمٌ في الحجِّ؛ عملًا ببقية الأحاديث الدالة على هذا المعنى، فإن الأحاديث يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، ويُفسر بعضُها بعضًا، فإنَّ قوله: وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا يقتضي أنه لو وقف آخر الليل أجزأه وإن لم يُدرك صلاة الفجر في مُزدلفة.
فإذا جاء إلى عرفات آخر الليل، ثم لم يمكنه من مُزدلفة أجزأه ذلك؛ لعذره وعجزه، وقال قوم: يُجزئه مع الدم. لكن ظاهر الحديث أنه يُجزئه بدون دمٍ؛ لأنه معذور، ما تركها عمدًا، ولكن لم يتيسر له ذلك ففاته، فأجزأه الحجُّ، وإذا فدى من باب الاحتياط والخروج من الخلاف ..... أدرك مُزدلفة كان هذا أحوط له وأولى.
وقوله: فقضى تفثه، وتم حجُّه يعني: قارب التمام، تم حجُّه الذي يؤمن معه الفوات، وليس المعنى: انتهى كل شيءٍ، فالمعنى أنه تم حجُّه الحج المجزئ، يعني: الذي ليس معه فوات بوقوفه بعرفات، وقضى تفثه يعني: ما يُلقيه الحاجُّ بعد منصرفه من عرفات ومن مُزدلفة، فإنه يتشاغل حينئذٍ بأسباب التَّحلل، فإذا رمى الجمرة وحلق وقصَّ شاربه وقلم أظفاره ونتف إبطه وتغسل وتنظف وتطيب؛ هذا هو التَّفث، هذا هو المشهور عند أهل العلم.
ورُوي عن جماعةٍ -عن ابن عباسٍ وجماعة- أنه المناسك، قضى تفثه يعني: قضى مناسكه.
ولكن الأول أشهر، المراد بالتَّفث: ما يحتاج الإنسانُ إلى طرحه عنه بعد الحجِّ: من الحلق، ومن النظافة من الأوساخ، ومن قصِّ الشَّارب، وقلم الظفر، ونتف الإبط، إلى غير هذا مما يحتاجه المحرم بعد تحلله.
والخلاصة أنه إذا وقف بعرفات وبمُزدلفة فقد أنهى الأمور التي بها يتم الحجّ، ولم يبقَ عليه إلا إكمال المناسك: من الرمي، والطواف، والسعي، قد أمن الفوات حينئذٍ، فبقي عليه أن يكمل.
وقال بعضُهم: "تم" أي: قارب، ولا حاجة إلى المقاربة، المعنى: تم حجه الذي يؤمن معه الفوات، فيكمل بعد ذلك: من طوافٍ وسعيٍ، أو تم حجُّه بفعل ما يجب عليه بعد ذلك، قد تم حجُّه إذا أدَّى ما يجب عليه بعد ذلك، الحديث لا بدَّ له من مراعاة الأحاديث الأخرى.