615 و616- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُمَا: لَا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
617- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ مُعَاذٍ: فَأَمَّا الْقِثَّاءُ، وَالْبِطِّيخُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْقَصَبُ، فَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
618- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
619- وَعَنْ عَتَّابِ بنِ أَسِيدٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
620- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مِسْكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ فَأَلْقَتْهُمَا. رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
621- وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
622- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: إِذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذا حديث أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: لا تأخذا الصَّدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشَّعير، والحنطة، والزبيب، والتَّمر خرَّجه الطبراني والحاكم.
الحديث احتجَّ به مَن رأى أنَّ الزكاة لا تُؤخذ إلا من هذه الأصناف الأربعة: الحبوب: الشعير، والحنطة. والثمار: الزبيب، والتمر، وهو حُجَّة ظاهرة لمن قال بهذا القول، وعلى هذا القول يبقى الأرز والذرة والدخن والعدس وأشباهها ليس فيها شيء.
وقال آخرون: إنَّ الزكاة تُؤخذ من جميع الحبوب وجميع الثِّمار التي تُكال وتُدَّخر وتُوسق. وضعَّفوا هذا الحديثَ.
وقد تأمَّلتُ سنده عند الحاكم فوجدتُ فيه بعض المقال في بعض رواته، حتى الآن لم أقف عليه في الطبراني من أجل سبب الشُّغل وعدم الفراغ لمراجعة الطبراني؛ لأنه يحتاج إلى تدبر والتماس: حديث أبي موسى ومعاذ.
وبكل حالٍ، فإنَّ هذه الرواية فيها نظر، في صحَّتها نظر، ثم لو صحَّت ففي الأخذ بها نظر أيضًا؛ لأنَّ رواية جابر ورواية أبي سعيدٍ في الصحيح -رواية أبي سعيدٍ في "الصحيحين"، ورواية جابر في "صحيح مسلم"- أصح وأثبت، وفيها: ليس فيما دون خمسة أوسق من تمرٍ ولا حبٍّ، وهذا يظهر منه عموم الحبوب التي تُوسق، فيدخل في هذا الأرز والذرة والدخن وأشباهه، اجتمع عليه العملُ بأخذ الزكاة منها، وهذا أظهر وأولى وأقوى: أنَّ عموم الحبوب المطعومة المدخرة أو مطلقًا داخلة في عموم خمسة أوسقٍ من تمرٍ ولا حبٍّ، وفي روايةٍ: من تمرٍ ولا حبّ صدقة.
فدلَّ ذلك على أنَّ مَن بلغه هذا المقدار "خمسة أوسقٍ من الثِّمار المدخرة المقتاتة" فإنَّ فيها الزكاة.
وحديث أبي موسى ومعاذ يحتاج إلى مزيد تأملٍ ونظرٍ، ولو قال البيهقي في روايته أنَّ إسناده جيد. لكن هو محل نظرٍ؛ لأنَّ أبا حُذيفة في السند فيه مقال كثير؛ ضعَّفه جماعة، وفي السند أيضًا طلحة بن يحيى، تكلم فيه أيضًا بعضُ الأئمة.
وعلى كل حالٍ، فعلى تقدير سلامته فالحديثان أصحّ منه -حديث جابر وأبي سعيدٍ وما جاء في معناهما- فالقول بالعموم وأنَّ الحبوب المدَّخرة المقتاتة المطعومة طريقها واحد؛ أظهر من جهة المعنى، ومن جهة صحة السند.
أما الخضروات: كالرمان والقصب -قصب السكر- أو غيره، أو القضب -كما في الرواية الأخرى بضم الضاد يعني: القت- ونحوه، كل هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست مدخرةً، بل هي مكيلة ولا مُدَّخرة، بل تُستعمل استعمالًا خاصًّا، وهكذا بقية الخضروات التي شأنها أنها تُؤكل في الحال، وتُستعمل في حاجات الطبخ، كلها من عوف الله .
وقد ذكر جماعة أن هذا من محاسن الشريعة: أن هذه الأشياء التي لا تبقى، بل تُستعمل في وقتها ليست محلَّ مواساةٍ وزكاةٍ، بخلاف الشيء الذي يُدَّخر ويُنتفع به بعد مدةٍ ويُباع ويُشترى، فإنَّ هذا النعمة فيها أكثر وأبلغ.
ثم بيَّن في حديث سهلٍ أنها تُخرص هذه الثِّمار، كان النبي يأمر عمَّاله أن يخرصوها، كان يبعث مَن يخرص على أهل خيبر نخيلهم، فدلَّ ذلك على أنه يُستحب الخرص، وقد كان عمر يفعل ذلك رضي الله عنه وأرضاه، وإن تركوا وصدقوا فلا بأس، وإن خرص عليهم فهو السنة؛ لأنَّ الخرص عليهم فيه مصالح:
أولًا: معرفة مبلغ هذا التمر، هذا العنب.
ثانيًا: التَّوسعة على أهله، يتصدَّقون ويتصرفون ويبيعون، قد عرفوا ما لديهم من الزكاة.
والسنة أن يدع الثلث أو الربع على حسب رأي الخارص، عليه أن يتأمل ويتحرى على حسب كثرة الثَّمرة وقلتها، وعلى حسب حال أهلها: من كثرة بيوتهم، وكثرتهم مأكلهم، ونحو ذلك، فيتحرى ويدع ما هو الأنسب من ثلثٍ أو ربعٍ، لا ينقص عليهم ويخرص عليهم الباقي.
والحديث لا بأس به، وقد جرحه بعضُهم بأنَّ في رواية بعضٍ الجهالة، وسنده جيد لا بأس به، إلا أنَّ عبدالرحمن الراوي عن سهلٍ قال بعضهم: فيه جهالة. وقال البزار: معروف. وثَّقه ابن حبان. فالحاصل أنه لا بأس به.
كذلك حديث عتاب بن أَسيد -بفتح الهمزة- أسيد بن أبي العيص بن أمية، من بني أمية، كان أمير مكة في عهد النبي ﷺ، لما فتح النبيُّ مكةَ ولَّاه عليها؛ لأنَّ قومه من أكبر عشائر وقبائل مكة، وهم بنو أمية، فولَّى عليهم واحدًا منهم، وهو شابٌّ صغير، لكن لنظمه وعقله وصفاته الحميدة ولَّاه النبيُّ ﷺ عليهم، وكان عمره ذاك الوقت إحدى وعشرين سنة، كما ذكر رضي الله عنه وأرضاه، والمشهور أنه تُوفي في اليوم الذي مات فيه أبو بكرٍ، جاء نعي عتَّاب إلى المدينة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر .
وقال بعضُهم: إنه عاش إلى سنة واحدٍ وعشرين في آخر خلافة عمر.
قوله: "فيه انقطاع" لما قيل من موته حين مات الصديقُ، فإنه رواه عنه سعيد بن المسيب، وسعيد إنما أدرك من كان معروفًا في آخر خلافة عمر، كما أدرك عمر وهو ابن عشر سنين تقريبًا، فإذا كان عتاب مات سنة وفاة أبي بكر معناه أنَّ سعيدًا ما أدركه، فيكون مُنقطعًا؛ ولهذا قال: وفيه انقطاع.
وهو دليل على أنه يُخرص النَّخل والعنب جميعًا، ثم يؤخذ الواجب بعد ذلك، بعدما تُجعل في البيدر ..... هذه الثمار يُؤخذ الواجب.
ولكن على قول مَن قال: إنه عاش إلى آخر خلافة عمر، ممكن أن يكون سعيدًا سمع منه؛ لأنَّ بين الطبراني، وما ذكر الحافظ في "التقريب"، كذلك ابن جرير في "تاريخه"، وفي حوادث سنة عشرين وإحدى وعشرين: أنه ..... مكة. فعلى هذا يُحتمل أن سعيدًا سمع منه.
وبكل حالٍ، فمراسيل سعيد قوية، وهي أصح المراسيل عند أهل العلم، فهو مرسل جيد، وإما متصل؛ لأنَّ سعيدًا سمعه من عتاب، أو ممن سمعه من عتاب؛ ولهذا عمل به الأئمة، ويتأيد بحديث سهل، فكل واحدٍ منهما يشهد للآخر بشرعية الخرص؛ لما فيه من المصلحة العامَّة لأهل المال وللمسلمين في حفظ الزكاة، وفي زيادةٍ في رواية أحدهم: "كما يُخرص الرطب تمرًا يُخرص العنب زبيبًا"، كما يُخرص الرطب تمرًا يعني: يخرص ..... يجيء منه تمرًا، فإذا قدر أنَّ هذا النخل ..... منه رطب خمسة أوسق، أو عشرة أوسق، ويجب تمرًا كذا وكذا، فهذا المراد، إذا كان يجيء تمرًا خمسة فأكثر ففيه الزكاة، فإن قدر أنه يجيء تمرًا أقل من خمسةٍ فليس فيه زكاة، وهكذا العنب.
وحديث عبدالله بن عمرو وعائشة وأم سلمة هذه الثلاثة كلها تدل على وجوب الزكاة في الحُلي -حلي النساء- من الذهب والفضة؛ لهذين الحديثين.
حديث عبدالله بن عمرو مثلما قال المؤلفُ: إسناده قوي، وهو جيد، من رواية النَّسائي وأبي داود.
أما رواية الترمذي ففيها ضعف، وأطلق ..... أنها قوي؛ لأنَّ رواية الترمذي تتقوَّى برواية أبي داود والنَّسائي وتنجبر؛ ولهذا أطلق على الجميع أنَّ سنده قوي.
وقد راجعتُ أسانيدها فوجدتُها جيدةً، ما عدا الترمذي؛ فإنَّ في سنده ضعفًا من رواية عبدالله بن لهيعة.
والحاصل أن السند لا بأس به، قوي، وفيه الدلالة على زكاة الأسورة، وكذلك حديث عائشة في الخواتيم ..... الترمذي، ورواه أبو داود أيضًا بسندٍ جيدٍ عن عائشة .....، كذلك رواية أم سلمة جيدة، في بعضها: ما بلغ يُزكَّى فزُكِّي فليس بكنزٍ، فدلَّ ذلك على أنَّ الأوضاح من الذَّهب وأشباهها فيها الزكاة إذا بلغت النِّصاب.
ثم عموم حديث أبي هريرة وما جاء في معناه: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يُؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نارٍ يعمّ القول بوجوب الزكاة فيها، وهو الأظهر.
وذهب جمٌّ غفير من أهل العلم إلى أنها لا زكاةَ فيها، وجاء عن جماعةٍ من الصَّحابة: لا زكاةَ فيها. ورُوي عن عمر أنَّ فيها الزكاة. وبه قال جمعٌ من أهل العلم؛ لهذه الأحاديث وما جاء في معناها، وهذا هو الأظهر والأقوى: أنَّ فيها الزكاة لهذه الثلاثة أحاديث، وللعمومات الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة مطلقًا، وعدم استثناء ما يكون من الحُلي، والله أعلم.
س: ..............؟
ج: نعم، هذا الصواب، هذا الأرجح، بعض أهل العلم يرى أن لا زكاةَ فيه، وأنَّ زكاته لبسه وعاريته، ولكن الأظهر والأقوى أنَّ فيه الزكاة مطلقًا، ولو لُبس، ولو أُعير؛ لهذه الأحاديث وما جاء في معناها، إذا بلغ النِّصابُ عشرين مثقالًا من الذهب، ومئةً وأربعين مثقالًا من الفضَّة.
س: .............؟
ج: هذا مذهب أحمد، وأهل نجدٍ على مذهب أحمد في الغالب، مذهب أحمد ليس فيها زكاة، هنا الغالب على مذهب أحمد رحمه الله.
س: ..............؟
ج: ما يُروى عن جماعةٍ من الصحابة: عائشة، وأسماء أختها، ومعاوية، وأنس، فهم ستة من الصحابة جاء عنهم أنها لا زكاةَ فيها. وفي حديثٍ ضعيفٍ: ليس في الحُلي زكاة، لكنه ضعيف.
س: .............؟
ج: قد يتوسع في هذا؛ لأنه يتقوى أحدها بالآخر من باب الضَّعيف ينجبر بالسند القوي إذا كان بمعنًى واحدٍ.
س: .............؟
ج: الأظهر يجب عليهم أن يبلغوا كل ما صحَّ وثبت.
س: ..............؟
ج: هذه ما فيها شيء: الماس واللؤلؤ والعقيق، إلا إذا كانت للتجارة، أما إذا كان لا يتَّجر فيها؛ لأنَّ النصَّ جاء في الذهب والفضَّة.
س: ............؟
ج: المعنى ما هو بلازمٍ، النقود الإنسان يتصدق ولو بلباسه، يتصدق بثوبه الذي عليه، ثيابه التي عليه من حُلي: تُعطي بعض الفقراء خاتمًا، تُعطيه قلادةً، تُعطيه سوارًا.
س: ............؟
ج: ستون صاعًا من صاع النبي ﷺ كما تقدم.
623- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ.
624- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
625- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ: إِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ فَعَرِّفْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
626- وَعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَ مِنَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
الشيخ: قال المؤلفُ رحمه الله: "وعن سمرة بن جندب" المعروف الفزاري رحمة الله عليه، عن النبي ﷺ: أنه أمرهم أن يُخرجوا مما يعدون للصَّدقة الزكاة.
قال في حديثه من رواية أبي داود: أما بعد، فإنَّ الرسول أمرنا أن نُخرج الصَّدقة من الذي نعدُّه للبيع. أخرجه أبو داود، وفي إسناده لين؛ لأنه من طريق أولاد سمرة، عن جَعْفَر بْن سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ، عن ابن عمه خُبَيْب بْن سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمُرَةَ.
فجعفر وخبيب فيهما جهالة: جعفر قال فيه الحافظ: ليس بالقوي. وخبيب قال فيه: مجهول. وسليمان قال فيه: مقبول. ولكنه تقوَّى بحديث: وفي البزّ زكاة الذي أخرجه الدَّارقطني والحاكم، ومما ثبت عن عمر: أنه كان يأمر بتقويم العمَّال أصحاب التِّجارة؛ لإخراج الزكاة.
وقال ابنُ المنذر: أجمع أهلُ العلم على وجوب الزكاة في أموال التِّجارة. وهو كالإجماع من أهل العلم، وإن كان إجماعُ ابن المنذر رحمة الله عليه قد يدخله بعضُ الضَّعف، والغالب عليها أنها قول الجمهور، لكن كل هذا يجبر هذا الضَّعف؛ ولأنَّ النُّقود لا تنفع إلا في التِّجارة، فإذا بقيت لم تنفع أهلها بالنسبة إلى الربح، فمن الضَّروري تصريفها في التِّجارة حتى تنمو، وحتى ينتفع بها انتفاعًا أكمل؛ ولهذا ذهب أهلُ العلم إلى وجوب الزكاة في أموال التجارة، والمعنى أنها تُقوَّم عند الحول بما تُساويه في الأسواق، ثم تخرج الزكاة منها على حسب ذلك في كل عامٍ، فإن نقصت قيمتها عن النِّصاب فلا زكاةَ، وإن بلغت النِّصاب فأكثر زُكيت كالنُّقود المجتمعة الموجودة.
والحديث الثاني حديث أبي هريرة: في الركاز الخمس.
حديث أبي هريرة هذا حديث طويل، رواه الشيخان عن النبي ﷺ أنه قال: العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس متفق عليه.
هذا يدل على وجوب الزكاة في الركاز، وأنه تجب فيه الزكاة بهذا الوجه وهو الخمس؛ لأنه مال مدفون مهيَّأ، ليس فيه كلفة، والشريعة جاءت بالأحكام الشرعية على وفق الحكمة، والله سبحانه هو الحكيم العليم، وكلما كان حصول المال أيسر كان الواجبُ أكبر، وكلما كان حصول المال أشدَّ كلفةً نقصت الزكاة، فلما كان النَّقدان الربح فيهما يحتاج إلى كلفةٍ وتعبٍ صارت زكاتها ربع العشر، سهم واحد من أربعين، ربع العشر؛ لأنَّ أرباحها عرضة للخسائر، وفيه تعب.
وهكذا الغنم لما كانت مُتعبةً، وكانت الخسائر فيها كثيرة بالموت وأكل الذئب والأكل منها إلى غير ذلك؛ صارت زكاتها واحدةً من أربعين إلى مئة وإحدى وعشرين، ما فيها إلا واحدة، إلى غير ذلك.
فالمقصود أنها على حسب قوة المال وغلبة سلامته تجب الزكاة فيه أكثر، وعلى حسب كثرة الآفات على المال وكثرة التعب في جمعه تقلّ زكاته، ولما كان الركازُ مالًا مدفونًا حاصلًا مُيَسَّرًا صارت الزكاةُ فيه الخمس، وهو أعلى شيءٍ في الزكاة، ثم يليه ما يُسقى بالمطر والعثري والأنهار فيه العشر، ضعف الخمس؛ لأنَّ الكُلفة فيه ليست كثيرةً.
وأما ما جاء فيه من أنَّ العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، هذا معروف عند أهل العلم أنه هدر، هذا فيه ..... عند بعض أهل العلم، لكن يُستدل به على أنَّ المعادن ليس فيها زكاة؛ لأنها جُبار -هدر- ولم يقل: فيها الزكاة.
أما ما يأتي في حديث بلالٍ: أنَّ النبي أخذ من المعادن القبلية الصَّدقة. فهذا مما تحصل منها من الذهب والفضَّة ..... المعدن ذهب، فالمعروف الآن فيما يظهر في البحث معدن قديم أخذ منه الصَّدقة عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مال ميسر، ولكن ليس فيه دليل على أنه مثل الركاز، لا حول له، بل يحتاج إلى دليلٍ، وإلا فالأصل أنَّ كلَّ مالٍ مُستفادٍ لا بدَّ فيه من الحول، فإذا استفاد من المعدن ما تجب فيه الزكاة وجبت عليه الزكاة إذا حال الحولُ عليها، وإلا فلا.
والركاز: دفن الجاهلية، المال يكون في خربات أو موات عليها علامات الجاهلية، هذا فيه الخمس، أما إن كان عليه علامة المسلم فهذا حكمه حكم اللُّقطة يُعرِّفها، فإن عُرفت وإلا فهي له كلها، وليس فيها الخمس.
وهكذا -كما يأتي في حديث عمرو بن شُعيب- ما يكون في الطُّرقات والقرايا المسكونة، كلها فيه التعريف، يُعرِّفها كما في حديث عمرو: ما وجدتَه في الأرض المسكونة فعرِّفه، وفي لفظٍ: أو في طريقٍ ..... فعرِّفه، وإلا ففيه والركاز الخمس.
فالذي يوجد في الخربات وليس عليه علامات المسلمين فيه وفي الركاز المدفون الخمس، وما يكون في الطرقات وفي القرايا المسكونة وأشباهها مما يكون فيه ما يدل على أنه لأهل الإسلام من علامةٍ أو من جهة السَّكن أو من أشياء أخرى تُرشد إلى أنه من أموال المسلمين؛ فإنه يُعرَّف.
ولم أقف على سند حديث بلالٍ، وقد راجعتُه في أبي داود في الزكاة ولم أجد شيئًا، فلعل أحدكم يلتمسه، لعله وضعه في محلٍّ آخر، وليس فيه دلالة ظاهرة على أنه يخرج منه الزكاة بدون حولٍ، بل فيه إفادة أنه أخذ منه الصَّدقة فقط، فالصدقة تُؤخذ بالحول وبغير الحول، فلا بدَّ من ..... أنه من جنس الركاز، وإلا فالأصل أن كلَّ مُستفادٍ فيه الزكاة إذا حال عليه الحول.
س: .............؟
ج: ما أعرفها، ما أذكره الآن؛ لأني قديم العهد به.
س: .............؟
ج: فيه إجمال، لكن ما فيه قال: من دون حولٍ، أطلق.
س: .............؟
ج: ظاهره الشُّمول: معادن الذهب والفضة ومما له قيمة، ولكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيلٍ.
س: ..............؟
ج: قد يكون له ذرية تواصوا بهذا الشيء .....، فإن وُجد وإلا فهو له.
س: .............؟
ج: أمثل لك: الآن لو وجدت في خربات في ..... مالًا، هل عليه علامة الجاهلية وإلا علامة الإسلام؟
س: علامة الإسلام.
ج: تُعرِّفه، قد ذُريته موجودون.
س: .............؟
ج: ولو للذرية، للورثة، إذا وُجد ما يدل على أنه مالهم وإلا فهو لك.
............
بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ
627- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
628- وَلِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: اغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
629- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ: لَا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلَّا صَاعًا.
630- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذا الباب في صدقة الفطر، ويُقال لها: زكاة الفطر، وهي زكاة الأبدان، تُسمَّى: صدقة، وتُسمَّى: زكاة، وهكذا زكاة المال تُسمَّى: صدقة، وتُسمَّى: زكاة، كما قال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الآية [التوبة:60]، وقال سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وزكاة الفطر واجبة عند أهل العلم، وهي زكاة الأبدان، وذكر بعضُ أهل العلم إجماع أهل العلم على ذلك فيما يتعلق بزكاة الفطر، وهي فرض فرضها النبيُّ ﷺ على الناس بإذن ربه ، وهي صاع من سائر الأصناف: من التمر والشَّعير والزَّبيب والحنطة، وسائر أنواع الحبوب التي يقتاتها الناس: من الذرة والأرز وغير ذلك؛ ولهذا في حديث ابن عمر: فرض صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ. هذا كمثالٍ لما يجب.
وهي واجبة على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والصغير والكبير من المسلمين، أما غير المسلمين فليس عليهم زكاة الفطر؛ لأنهم نجس، لا تُزكِّيهم، فلو كان عند الإنسان أعبد على الكفر والضَّلال فلا زكاةَ عليهم لهم، وهكذا لو كان لديه من أقاربه الذين يمونهم، وليس بمسلمٍ، فإنه لا تلزمه الزكاة عليهم، كما لا تلزمه نفقاتهم، إنما هو من باب المعروف، ومن باب الإحسان إذا أنفق عليهم لفقرهم وحاجتهم ورجاء إسلامهم؛ ولهذا قال: "من المسلمين"، فخرج بذلك مَن ليس منهم.
وفيه الدلالة على أنَّ إخراجها يكون قبل صلاة العيد؛ ولهذا قال: وأمر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ لأنَّ المقصود الإحسان إلى الفقراء وإغناؤهم أيام العيد، حتى يحصل لهم من السرور والراحة ما يحصل لإخوانهم الأثرياء.
..... في حديث ابن عدي، رواه الدَّارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ: أغنوهم عن الطَّواف في هذا اليوم، وهو ضعيف، ولكن فيه شاهد للمعنى، والمقصود واضح، وهو إغناؤهم، وإدخال السرور عليهم، ومواساتهم في هذا الوقت الذي يفرح فيه الناس، وربما يتعطل بعضهم عن العمل، فيكون هذا الشيء فيه إغناء لهم، وإعانة لهم على نفقاتهم في هذا الوقت.
وكان الصحابة يُؤدُّونها قبل العيد بيومين، بيومٍ أو يومين، كما رواه البخاري عن ابن عمر. وفي روايةٍ: "أو ثالث"، كما في رواية مالك عن ابن عمر: أنه كان يُعطيها قبل العيد بيومين أو ثلاث، فإنَّ الصاع إذا قُدِّم قبل العيد بيومين بقي نصف الصاع بعد العيد؛ لأنَّ الإنسان قد يكفيه وعائلته ..... أي: المد، والمد اليوم الثاني ثم الثالث ثم الرابع.
فالحاصل أنَّ في إخراجها قرب العيد ما يُغني الفقير يوم العيد، ولم يرد أكثر من ثلاثة أيام قبل العيد، فأول ما تُؤدى يوم الثامن والعشرين؛ لأنه يكون بينه وبين العيد يومان إن نقص الشهر، وثلاثة إن تمَّ الشهر.
وفعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لهذا يُظهر أنه من توجيه النبي ﷺ لهم، وإرشاده لهم، والأصل أن تُؤدَّى قبل العيد في آخر الشَّهر، ففعل الصحابة يُبين أنَّ في ذلك فسحةً إذا أدُّوها قبلها بيومين أو ثلاثة.
وذهب بعضُهم إلى أنها تُؤدَّى في جميع السنة.
وبعضُهم ذهب إلى أنها تُؤدى في أول رمضان.
والأولى والأرجح هو ما جاء في الحديث: ألا تُؤدوا إلا قبل العيد بيومين أو ثلاث فقط.
وفي حديث أبي سعيدٍ الدلالة على أنهم كانوا يُعطونها من الطعام والشَّعير والزبيب والتَّمر والأقط، من هذه الأصناف الخمسة.
وقوله: "من طعامٍ" يعمّ جميع الأطعمة التي يقتاتها الناس: من الأرز والدّخن والذرة والعدس وأشباه ذلك، فهي صاع من قوت الناس حسبما يكون عندهم.
وكان معاوية رضي الله عنه وأرضاه لما مرَّ بالمدينة خطب الناس وقال: إني أرى أنَّ مدًّا من سمراء الشام يعدل مدين من الشَّعير والتمر. فأخذ بعض الناس بذلك، ولما سمع أبو سعيدٍ بهذا قال: أما أنا فلا أُخرج إلا صاعًا كما كنتُ أُخرجه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا هو الأرجح، ولم يثبت ما يدل على إخراج المدَّين إلا من رأيه واجتهاده ، يعني: معاوية.
فالحاصل أنَّ الصواب أنَّ الواجب إخراج صاعٍ من جميع الأصناف وأجناس الأطعمة: من زبيبٍ، من تمرٍ، من حنطةٍ، من شعيرٍ، من أرزٍ، من دخنٍ، من جميع ما يقتاته الناس من الحبوب، كما قال أبو سعيدٍ رضي الله عنه وأرضاه.
والأقط معروف: وهو ما يتَّخذ من اللبن.
وحديث ابن عباسٍ يدل على أنه ما ينبغي تأخيرها، بل الواجب أن تُقدم، كما دلَّ عليه حديث ابن عمر، وأن مَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصَّدقات، يعني: فات فضل زكاة الفطر، وصارت كسائر الصَّدقات، هذا يُؤكد إخراجها قبل العيد كما في حديث ابن عمر، وأنه لا يجوز أن تُؤخَّر؛ لأنَّ هذا هو الأصل في الأوامر، الأصل في الأوامر الوجوب، فلا يجوز مُخالفتها إلا بدليلٍ، وحديث ابن عباسٍ يُؤيد ذلك، ويدل على أنها فُرضت طهرةً للصائم من اللَّغو والرَّفث، وطعمةً للمساكين، فالله جعلها طعمةً للمساكين، وإحسانًا إليهم في هذا الوقت، وجعلها طهرةً للصائم مما قد يقع من تقصيرٍ.
إنَّ الصدقات وسائر الأعمال الصَّالحات طهرة للعباد، وتكفير لسيئاتهم، فينبغي للمؤمن الإكثار من الصَّدقات والإحسان والنوافل؛ حتى تكون طهرةً له وتكفيرًا وترقيعًا لما قد يقع من الخلل في صلاته وصومه وزكاته ونحو ذلك، فالنوافل جبران لما قد يقع من الخلل في الفرائض والنَّقص؛ ولهذا في الحديث الصحيح: أنَّ العبد يوم القيامة أول ما يُبدأ بالسؤال عن صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر.
وفي لفظٍ: فإن تمَّت كُتبت تامَّة، وإن كان فيها نقصٌ قال الله جلَّ وعلا: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل به فرضه؟ وهكذا يُقال في الزكاة والصيام والحج، كما جاء في الحديث، والله أعلم.
س: .............؟
ج: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لكن تنفع الفقراء مثل: صدقة التطوع، وأما هو ما تصلح منه؛ لأنه ليس من أهلها.
س: .............؟
ج: إذا رضوا بذلك وأذنوا له ما في بأس، تُجزئ عنهم، كما لو أذنوا لغيره أن يُخرجها عنهم؛ لأنه أخرجها عنهم بإذنهم، أخرج عنهم زكاة الفطر بإذنهم صدقةً عليهم، الظاهر أنها تُجزئ عنهم إذا كان عن إذنهم وعن مُوافقتهم.
س: .............؟
ج: ليس بظاهرٍ؛ لأنَّ قوله: "من طعامٍ" يعمّ الأطعمة كلها، في حديث أبي سعيدٍ.
س: إخراج صدقة الفطر في بلدٍ غير البلد الذي فيه صاحب الصَّدقة؟
ج: الصواب أنها تُجزئ، هذا الصواب، لكن كونها في بلده أولى؛ خروجًا من خلاف العلماء، الخروج من خلاف العلماء مطلوب؛ ولأنها للمُواساة، فأهل البلد أولى بالمواساة، وهي مواساة في الساعة الحاضرة، خلاف الأموال -أموال الزكاة- فإنها في السنة كلها، أما هذه فهي صدقة قليلة يُراد منها سدّ الحاجة الحاضرة، فالأولى بها والأحقّ أن تكون للحاضرين؛ الفقراء الحاضرين، وما يقوم في البلد وفي ضواحيها منها.
س: ..............؟
ج: إذا كان هو الذي يعولهم تُجزئ، وإذا أخرج الولد عن نفسه هناك فهو أحسن.
...........
مداخلة: حديث سمرة في زكاة العروض عند الدَّارقطني والحاكم: أخبرنا دعلج بن أحمد السِّجزي ببغداد: حدثنا هشام بن علي السَّدوسي: حدثنا عبدالله بن رجاء: حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام: حدثنا عمران بن أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبي ذرٍّ: أن رسول الله ﷺ قال: في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البزّ صدقته، ومَن رفع دينارًا أو دراهم أو تبرًا أو فضةً لا يعدّها لغريمٍ ولا يُنفقها في سبيل الله فهو كنزٌ يُكوى به يوم القيامة، تابعه ابن جرير عن عمران بن أنس.
الشيخ: ابن جرير غلط، إما ابن جريج، وإلا جرير بن زائدة، المعروف ابن جرير هو صاحب "التفسير"، هذا المعروف، وهو لم يلقَ عمران، ولم يُدرك زمانه، فابن جريج مصحفه أو جرير بن حازم .....، وهو ابن زائدة، يُراجع تلاميذ عمران بن أنس.
مداخلة: أخبرنا أبو قتيبة سالم بن الفضل الأدمي -أو الأدمي- بمكة: حدثنا موسى بن هارون: حدثنا زهير بن محمد: حدثنا محمد بن بكير، عن ابن جريج، عن عمران بن أبي أنس، عن مالك.
الشيخ: هذا وضَّحها عن ابن جريج، هذه المتابعة، جاء به ابن جريج.
مداخلة: عن ابن جريج، عن عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسولُ الله ﷺ: في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البزّ صدقته، كلا الإسنادين صحيحان على شرط الشَّيخين ولم يُخرجاه.
الشيخ: أيش قال عليه الذهبي؟ أقره؟
الطالب: ما رأيتُه، ما انتبهتُ له.
مداخلة: الدَّارقطني: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دَاوُدَ الْقَزَّازُ: حدَّثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: حدَّثنا أَبُو عُمَرَ مَرْوَانُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ إِلَى بَنِيهِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُنَا بِرَقِيقِ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ الَّذِينَ هُمْ تِلَادٌ لَهُ، وَهُمْ عُمْلَةٌ لَا يُرِيدُ بَيْعَهُمْ، فَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نُخْرِجَ عَنْهُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا، وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ مِنَ الرَّقِيقِ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ".
الشيخ: ما ذكر رواية "البزّ"؟
الطالب: هذا الذي وجدتُه.
..............
بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ
631- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ .... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
632- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
633- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِن الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ.
634- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
635- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
636- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَصَدَّقُوا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
الشيخ: هذا الباب في صدقة التَّطوع، ومن عادة أهل العلم ومن طريقهم المعروف أنهم يُتبعون الزكاةَ بالصَّدقات؛ لأنَّ كلها صدقة، فالزكاة تُسمَّى: صدقةً، وصرف المال تطوعًا يُسمَّى: صدقة؛ فلهذا كان من المناسب أن تُذكر الصَّدقات النَّافلة بعد الصَّدقات الفريضة؛ حتى يعرف المؤمنُ هذا وهذا، ويقوم بهذا وهذا، والتطوع معناه: الذي ليس بواجبٍ.
لما ذكر النبيُّ ﷺ الزكاة قال له السائلُ: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع.
والصَّدقات فضلها عظيم، وثوابها جزيل، ويترتب عليها من الخير والإصلاح والتَّفريج والتَّيسير والمواساة الشيء الكبير، وهي تكون في الفقراء والمحاويج، وتكون في المعسرين من الغُرماء، وتكون في مشاريع الخير: من تعمير المساجد والربط والمدارس، وإصلاح الطُّرقات، ودورات المياه حول المساجد، وغير ذلك مما يحتاجه المسلمون.
فينبغي للمؤمن أن يكون له نصيبٌ من ذلك، وحظٌّ من ذلك، وقد قال الله : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].
والنصوص تأتي بالتعبير بالصَّدقة، وتأتي بالتعبير بالنَّفقة، كما قال : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، وقال سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
في الحديث الأول: حديث أبي هريرة ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: سبعة يُظلهم الله في ظلِّه، يومَ لا ظلَّ إلا ظله، هذا فضل عظيم، وليس خاصًّا بهم، بل يلحق بهم أصناف كثيرة من أهل الإيمان، ولكن هذا النص في السبعة يدل على فضلٍ خاصٍّ لهؤلاء السبعة، وهم: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها هذا الشاهد؛ ولهذا اقتصر عليه المؤلفُ: حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه من حرصه على الإخلاص، وبُعده عن الرياء، يتحرى السرية حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، وهذا بلا شكٍّ له فضل عظيم.
ويُروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: إنَّ صدقة السر تُطفئ غضبَ الرب، وتدفع ميتة السُّوء.
فالسر له شأن في كمال الإخلاص وقصد وجه الله ، لكن إذا دعت الحاجةُ إلى الإعلان صار الإعلانُ أفضل؛ لما يعرض له من الأسباب.
ثم الصدقة مطلقًا لا بأس بها، جهرًا وسرًّا، مع الإخلاص، فالمجاهر قد يتحرى في هذا أن يتأسَّى به، وقد تدعو الحاجةُ إلى جهره: كأن يمر بمَن يسأل في الطريق أو في المسجد فيُعطيه؛ لأنَّ هذا تدعو الحاجةُ إلى جهره؛ لعدم تيسر إخفاء صدقته، وقد تدعو الحاجةُ إلى جهره ليُقتدى به في مشروع الخير؛ يُدعا إليه في محضرٍ من الناس فيقوم ويتصدَّق ليتأسَّى به غيره، كما جرى للنبي ﷺ لما دعا إلى الصَّدقة على أولئك النَّفر من المضريين، اجتابوا النِّمار؛ لظهور فقرهم حثَّ الناس على الصَّدقة على المنبر بعدما صلَّى الظهر، فجاء رجلٌ بصدقةٍ من الفضة كادت كفُّه تعجز عنها، فقدَّمها، ثم تتابع الناسُ؛ فسُرَّ النبي بذلك عليه الصلاة والسلام وقال: مَن سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر مَن عمل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، هذه السنة معناها إظهارها وإعلانها ليُقتدى به، لا أن يبتدع بدعةً في الدِّين كما قد يظنه بعضُ الجهلة.
والسابع: ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه يعني: بكى من خشية الله ففاضت عيناه.
هذا يدل على فضل البكاء من خشية الله، ولا سيما في السرِّ، ولا بأس به جهرًا، قد يبكي جهرًا عند سماع المواعظ، كما يبكي النبيُّ ﷺ في بعض الأحيان في صلاته عليه الصلاة والسلام، وفي أوقاتٍ أخرى عليه الصلاة والسلام.
هكذا المؤمن ينبغي له أن يتحرى أسباب خشية الله، وأن يحرص عليها؛ إخلاصًا لله، وحرصًا على لين قلبه، ورغبته فيما عند الله ، وإذا كان هذا في خلوته في الله: في تهجده، وفي توجهه إلى الله بالدعاء، وفي تذكره موقفه بين يدي الله يوم القيامة، وفي غير ذلك من أنواع الذكرى إذا فاضت عيناه كان هذا من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب أن يكون من السبعة.
وفي الحديث المشهور: عينان لا تمسّهما النار: عين سهرت في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله .
والحديث الثاني حديث عقبة بن عامر الجهني : أنَّ النبي عليه السلام قال: كل امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يفصل بين الناس.
هذا يدل على فضل الصَّدقة، وأنَّ لها شأنًا، وأنها من أسباب الظلِّ يوم القيامة، ومن اتِّقاء حرِّ الشمس يوم القيامة، فإنها تدنو من الناس يوم القيامة قدر ميل، الشمس يوم القيامة تدنو من الناس، وحرها عظيم، وهي بعيدة، فكيف إذا دنت؟! ولكن الله يقي أولياءه وأهل طاعته، يقيهم شرَّها بأسباب الصَّدقات، وأسباب الأعمال الصَّالحات.
ومن هذا الحديث الآخر: يقول الله يوم القيامة: أين المتحابُّون في جلالي؟ اليوم أُظلهم في ظلِّي، يوم لا ظلَّ إلا ظلي.
فالصَّدقات، والإحسان إلى الناس، وقضاء حوائجهم، والاستقامة على دين الله، وحفظ الجوارح عن محارم الله، كل هذا من أسباب العافية يوم القيامة، والظل يوم القيامة، وأسباب النَّجاة من الكربات يوم القيامة.
حديث أبي سعيدٍ الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أيما مسلمٍ كسا مسلمًا ثوبًا على عُريٍ كساه الله من خضر الجنة يعني: من ثيابها الخضر؛ جزاءً وفاقًا، فالجزاء من جنس العمل: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60].
وأيما مسلمٍ أطعم مسلمًا على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلمٍ سقى مسلمًا على ظمإٍ سقاه الله من الرحيق المختوم.
هذا المعنى صحيح؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، والجنة دار الكرامة، ودار النَّعيم، ودار الجزاء والإحسان، وإن كان في سنده ضعف، لكن المعنى صحيح، فالله يُجازي العامل بعمله وبأكثر من عمله ، والضعف من جهة أبي خالد الدَّالاني؛ لأنه يضعف في الحديث.
والمقصود أن الجزاء من جنس العمل، وأن المحسن يُحسَن إليه: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ، فينبغي للمؤمن أن يُقدم لنفسه أنواعًا من الإحسان؛ يرجو به ثواب الله في الصَّدقات، وكسوة المحتاجين، وسقي الظامئ، إلى غير ذلك من أنواع الإحسان.
وهذا من الصدقة، الصدقة تكون بالنقود، وتكون بالطعام، وتكون بالملابس، وتكون بالسقي، وتكون بالمساكن، وتكون بغير هذا من أنواع الإحسان، وأنواع الجود، وأنواع الكرم، وصاحب المال ينبغي له أن يتحرى أوجه الحاجة، فمَن وجده محتاجًا للطعام جاد عليه بالطعام، ومَن وجده محتاجًا للكسوة في وقت البرد والحاجة أو عند عُريه من الكسوة بادر وجاد بما يكسوه به، ومَن رأى منه حاجةً أخرى كدينٍ آذاه غريمه بادر بالقضاء عنه قضاء دينٍ، وما أشبه ذلك، فيتحرى المؤمنُ حاجات الفقراء ويُواسيهم بما يستطيع.
والرابع حديث حكيم بن حزام : أن النبي عليه السلام قال: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأ بمَن تعول، خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومَن يستعفف يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله.
وحديث أبي هريرة: خير الصَّدقة جهد المقلّ، وابدأ بمَن تعول .. الحديث.
هذان الحديثان دليل على فضل الصَّدقة، وأن الأولى والأفضل أن تكون عن ظهر غنًى، بعدما يُؤدي ما يلزمه ممن يعول، فيبدأ بمَن يعول ويُحسن إليه ويُؤدي حقَّه: من زوجةٍ وأولادٍ وغيرهم ممن يعولهم، ثم يجود على البعيدين، وما كان عن ظهر غنًى يعني: الفضل، خير الصَّدقة ما يكون عن فضلٍ ممن يعولهم؛ لهذا قال: ابدأ بمن تعول في أحاديث كثيرة، وسأله رجلٌ قال: يا رسول الله، مَن أحقّ الناس بحُسن الصُّحبة؟ وفي لفظٍ: مَن أبرّ؟ فقال بعد سؤاله بحُسن صحابتي، قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك، وفي لفظٍ: ثم الأقرب فالأقرب.
وهكذا في رواية: مَن أبرّ ..... قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال في الرابعة: ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب.
فدلَّ ذلك على أنه يتحرى الأقرب فالأقرب في برِّه وإحسانه ونفقته، ثم يجود على البعيدين مما فضلَ، ولا شكَّ أنَّ مَن كان ماله أقلَّ ثم جاد يكون أفضلَ ممن ماله كثير؛ فإنَّه كلما دعت الحاجةُ إلى المال وجادَ به لله كان ذلك دليلًا على رغبته فيما عند الله، وحُسن إخلاصه، وعظيم رغبته في الثَّواب عند الله .
ومَن يستعفف عن السؤال يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله جلَّ وعلا، واليد العليا هي المعطية، والسُّفلى هي السَّائلة الآخذة، فأفضل الأيدي هي اليد التي تُعطي وتُحسن، وأدناها السَّائلة الآخذة، فاحرص يا عبدالله أن تكون يدك عليا، وأن تكون مُنفقًا، لا آخذًا مهما استطعت، ثم احرص على الإنفاق من الفضل، ولا تبخل بالفضل، فإنَّ بذل الفضل فيه الخير العظيم: يا ابن آدم، كما في الحديث الصحيح من رواية أبي أمامة: يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضلَ خيرٌ لك، وإن تُمسكه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفافٍ، الأحاديث في هذا المعنى كثيرة: في فضل الصَّدقة والإحسان والجود والكرم مما يتيسر من الفضل.
الحديث الآخر حديث: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على زوجتك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به.
جاء الحديثُ بهذا وهذا: تقديم الزوجة على الولد، وتقديم الولد على الزوجة، ولعلَّ هذا من تصرف بعض الرواة في حفظهم، فقال بعضُهم يحفظ كذا، وبعضهم يحفظ كذا، والأحاديث الدالة على أنه يبدأ بمَن يعول تُبين المعنى، وأنه إن كان يعول ولده بدأ به، وإن كان يعول زوجةً بدأ بها، فيُلاحظ مَن يعولهم، فمَن كان في عياله وعليهم نفقته بدأ بهم على البعيدين، كما يبدأ بنفسه، يبدأ بولده، بزوجته، بأمه، مَن كان في عياله، ثم بمَن يكون بعد ذلك على ..... والنفقة الواجبة مُقدَّمة على زوجته وولده وخادمه، ثم تكون الصَّدقة بعد ذلك.
وفي اللفظ الآخر عند مسلمٍ وغيره: أنَّ النبي قال: دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار تصدقتَ به على مسكينٍ، ودينار جعلتَه في رقبةٍ، ودينار صرفته في أهلك، أفضلها الدِّينار الذي أنفقته في أهلك، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا يدل على أنَّ البداءة بالأهل، والعناية بالأهل، والعناية بمَن تحت اليد، هذا هو الواجب أولًا، ثم يكون الجودُ بعد ذلك على مَن سواهم ممن هو ليس في عياله، والله المستعان.
س: ..............؟
ج: متقارب، ما زاد عن الحاجة فهو عن ظهر غنًى، فالظاهر والله أعلم أنه لا مخالفةَ ولا تعارضَ؛ ما كان عن ظهر غنًى هو جهد المقلّ الذي يجتهد في أداء الحقوق التي عليه، ثم يُنفق، هذا فضل، والآخر عن ظهر غنًى يعني: عن سعةٍ في الرزق، أقدم عليه وعنده سعة، فهو متقارب في المعنى.
وبعضهم حمله على معنًى آخر: أن الذي يُنفق من ماله القليل كما في حديث: درهم سبق مئة ألف درهم، فهذا أنفق من مالٍ كثيرٍ، وهذا أنفق من مالٍ قليلٍ، فالذي أنفق من مالٍ قليلٍ يكون فضله أكثر؛ لأنَّ حاجته إليه أكثر، وجاد به، والله المستعان، والله أعلم.
س: ...............؟
ج: الأقرب عندي والله أعلم: لا منافاةَ، كله في المعنى متقارب؛ لأنَّ جهد المقلّ في المعنى جهده بعد أداء الواجب، تحريه هو عن ظهر غنًى، هذا المعنى.
س: .............؟
ج: على ما يجب عليه من نفقة مَن يعول.
س: .............؟
ج: جاء في إحدى روايات البخاري ومسلم جميعًا، أو البخاري وحده حتى فيها: حتى لا تعلم يمينُه ما تُنفق شماله، وهذا انقلاب، انقلب على بعض الرواة، والصواب مثلما جاء هنا: حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه؛ لأنَّ اليمين هي محل الإنفاق، والصواب أنَّ رواية مَن روى حتى لا تعلم يمينُه ما تُنفق شماله انقلاب وغلط.
س: .............؟
ج: غالب الروايات غير مقلوبةٍ، إنما جاء في بعض الروايات في البخاري، وأظنه في مسلم كذلك.
حديث النَّفقة في وجوه الخير: حديث عائشة رضي الله عنها يدل على أنَّ الخازن والخادم والمشارك في إخراج الصَّدقة شريك في الأجر، فالزوجة شريكة، وصاحب المال الشريك، والخازن الذي هو الخادم شريك، بشرط أن يكون إنفاق الزوجة من غير إفسادٍ، إنفاق في وجوه الخير، فلها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقض بعضُهم من أجر بعضٍ شيئًا.
وفي رواية "الصحيحين" ..... للخازن الذي يُعطي ما أمر به كاملًا مُوفَّرًا طيبةً به نفسه، حتى يدفعه إلى مَن أمر به، من غير أن يتعتعه في ذلك .....، فالخازن إذا نفَّذ الأمر بطيب نفسٍ وعنايةٍ واهتمامٍ، من غير إيذاءٍ للمُعطى فهو شريك للمُتصدقين، وله مثل أجورهم.
هذا يدل على فضل النَّفقة، وأنَّ المساعد عليه له أجر عظيم: من زوجةٍ وخادمٍ وغير ذلك ممن يُساعد، وأنهم شُركاء في الأجر، فصاحب المال بكسبه، والمنفق من زوجةٍ وخادمٍ ونحو ذلك له أجره ..... من خازنٍ وخازنةٍ له أجره، بشرط النية الصَّالحة وطيب النفس وعدم الإيذاء، أما الإيذاء والمنُّ فهو يُبطل الصَّدقة، كما قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264].
وهذا الحديث محمول على ما زاد عن الحاجة: من إنفاق الزوجة والأطعمة ونحو ذلك مما يسمح به الزوج غالبًا عرفًا، أو فيما أذن فيه ولها تصرُّف فيه.
وأما الأحاديث التي فيها المنع من الإنفاق أو الإطعام إلا بإذنه فلا منافاةَ بينها وبين هذه الأحاديث؛ فهي محمولة على أنها لا تُنفق ولا تصرف إلا بإذنه في ماله، وما أنفقته وتصرفت فيه فهي محمولة على ما إذا كان بإذنٍ عرفي أو نطقي، وهذا أحسن ما قيل في هذا -في الجمع بين الأحاديث- فلها أن تُنفق بالإذن العُرفي والنُّطقي، وتمتنع عند المنع الصريح لها من ذلك حتى يسلم لها؛ لأنَّ المال ماله.
والخازن والخادم ممن يُشاركان في الأجر، ويحصل لهما أجر الصَّدقة إذا فعلا ما أُمرا به من غير إيذاءٍ ولا تعطيلٍ، بل يُنفذان ما أُمرا به حالًّا حسب إمكانهما، مع طيب النفس، ومع الإحسان إلى المعطى ..... وعدم إيذائه، والله المستعان.
وهذا داخلٌ في قوله جلَّ وعلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وفي قوله ﷺ: والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه رواه مسلم.
وفي الحديث في "الصحيحين" من حديث ابن عمر: مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته هذا داخل في هذا المعنى.
وحديث أبي سعيدٍ الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان، الخدري، الأنصاري يدل أيضًا على أن الزوج والولد محل صدقةٍ، فإنَّ رسول الله لما أمر بالصَّدقة جاءت زينبُ امرأة ابن مسعودٍ، وهي الثَّقفية، قالت: يا رسول الله، إنَّك أمرت بالصَّدقة، وكان عندي حليٌّ لي.
والمراد بالصدقة هنا والله أعلم: التطوع؛ لأنَّ الزكاة معروفة .....؛ ولهذا قالت: حُليّ، حُلي يدل على أنه صدقة، تطوع.
وهكذا لما أمر ﷺ بعد صلاة العيد، جعلت المرأةُ تُلقي سخابها وقرطها وغير ذلك في ثوب بلالٍ للصدقة، فالمراد صدقة التَّطوع.
فقالت: ابن مسعود يقول: إنه أحقّ بصدقتي من غيره، قال: نعم، صدق ابن مسعودٍ، زوجك وولدك أحقّ مَن تصدقت عليهم، هذا يدل على أنَّ الزوج والأولاد -سواء من الزوج أو من غيره- أولى من البعيدين إذا كانوا محتاجين، لا تتصدق بمالها على البعيد وتدع القريب محتاجًا، إذا كان زوجُها فقيرًا وأولادها محتاجين فإنَّ الصدقة فيهم أولى.
ولهذا في حديث سلمان بن عامر الضَّبي: الصدقة على الفقير صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة، والله أوصى بالأقارب كثيرًا وذي القربى واليتامى والمساكين، قدَّمهم على سائر المساكين -ذوي القربى-.
وفي "الصحيحين" عن النبي ﷺ أنه سُئل: مَن أحقّ الناس بحُسن الصُّحبة؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك، ثم أدناك فأدناك، في لفظٍ: ثم الأقرب فالأقرب.
وجاء في الحديث الآخر: مَن أبرّ يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب، في أحاديث كثيرةٍ في هذا الباب.
أما كونها تُعطيه من الزكاة فهذا محل خلافٍ بين أهل العلم .....، والحديث لا يدل عليه؛ لأنه في صدقة التَّطوع كما هو ظاهر.
والحديث الثالث حديث ابن عمر في تحريم المسألة، وهكذا الرابع، وهكذا الخامس.
حديث ابن عمر: لا يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحمٍ.
هذا يدل على التَّنفير من المسألة، وأنَّ الإنسان قد يعتادها ويستطيبها؛ فيسأل من غير حاجةٍ، ومن غير حقٍّ، فيُعاقب يوم القيامة بأن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحمٍ، يعني: مفضوحًا بين الناس، قد ذهب لحمُ وجهه؛ للدلالة على أنه كان يسأل بغير حقٍّ في الدنيا، نسأل الله العافية.
وهذا يدل على ذمِّها وقُبحها وإنكارها، وأنها لا تجوز إلا من حاجةٍ، كذلك حديث أبي هريرة صريح في المقام: مَن سأل الناسَ أموالهم تكثُّرًا من غير حاجةٍ فإنما يسأل جمرًا فليستقلَّ أو ليستكثر، هذا يدل على أنه يُعذَّب ..... إلا من حاجةٍ.
كذا حديث الزبير بن العوام الأسدي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابنة عمة الرسول ﷺ صفية رضي الله عنهما جميعًا.
يقول النبي ﷺ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوهُ أَوْ مَنَعُوهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
هذا فيه الحثّ على الاستغناء عن سؤال الناس، في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة معنى هذا: لأن يأخذ أحدُكم أحبله -حبله- فيأتي بحزمةٍ من حطبٍ فيبيعها ويكفّ بها وجهه خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه.
وحديث أبي هريرة وحديث الزبير كلاهما يدلان على شرعية الكسب بالاحتطاب والاحتشاش وأشباه ذلك، وأن قيامه بهذا السبب وهذا الكسب أولى من سؤاله الناس، وأنه خيرٌ له من سؤال الناس، سواء أعطوه أو منعوه.
والسؤال ذلٌّ وانكسارٌ للناس، ولا يليق بالمؤمن أن يذلَّ نفسه للناس، بل ينبغي له أن يجتهد في الأسباب الأخرى من أنواع الكسب ولو بالاحتطاب والاحتشاش والبناء، فكثير من السَّلف يفعلون هذا: يحتطبون، يحتشون، ويُشاركون في حصد الزرع، وفي غرس الأشجار، وفي حرث الأرض، يطلبون الرزق، ويستغنون عن الناس وعن سؤالهم: كسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم.
والحديث السادس حديث سمرة بن جندب: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، وفي لفظٍ: كدوح في وجه المرء، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ.
هذا يدل على أنه لا ينبغي له السؤال، وأنها كدوح في وجهه، قد تُفضي به إلى زوال اللَّحم بالكلية، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحمٍ -نسأل الله العافية- كما تقدم، فلا ينبغي له السؤال أبدًا إلا من حاجةٍ شديدةٍ، أو من السلطان، يعني: من بيت المال؛ لأنَّ بيت المال مشترك، وإن تيسر له العفاف عن ذلك فهو أفضل، كما قال النبي لحكيم بن حزامٍ لما سأله، ثم سأله، ثم سأله، قال: يا حكيم، إنَّ هذا المال خضر حلو، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وقال حكيم: لا أسأل أحدًا بعدك يا رسول الله. فلم يسأل بعد ذلك إلى أن مات رضي الله عنه وأرضاه، فكان الصديقُ وعمر يُعطيانه حقَّه من بيت المال فيأبى ويقول: لا حاجةَ لي فيه.
فهذا يدل على أنَّ التَّعفف ..... خيرٌ له وأفضل، لكن إذا احتاج من بيت المال -مشترك بين المسلمين- لا بأس أن يسأل، وهكذا عند الحاجة الشديدة، ولا سيما إذا عجز عن التَّكسب، ولم يتيسر له التَّكسب فلا بأس.
وفي حديث قبيصة يبان مفصل: المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالةً حتى يُصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحجَى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ -يعني فقر وحاجة- حلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، قال: وما سوى ذلك يا قبيصة سحت، يأكله صاحبه سحتًا رواه مسلم في الصحيح.
هذا يدل على تفصيل الأشياء المبيحة للسؤال، وأنَّ الحمالة والدَّين والجوائح التي تُصيب الإنسان في ماله: كالسيول والحريق وأشباه ذلك، والفاقة؛ كونه يُصاب بفاقةٍ ..... يتعطل عن الأسباب، ولا يجد أسبابًا فيسأل حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، حتى يُصيب ما يسدّ حاجته، لا يستمر، يسأل حتى يحصل ما يسدّ الحاجة ثم يقف، وإذا احتاج سأل، وهكذا.
وحديث سمرة رواه الترمذي بسندٍ جيدٍ، وقال المودودي: وخرَّجه أبو داود والنَّسائي أيضًا، وسكت عنه أبو داود، وهو حديث لا بأس به، وهو موافق لما تقدم في المعنى، والله أعلم.
س: ..............؟
ج: نعم، يُفسرها حديث قبيصة.
س: ..............؟
ج: ظاهره الإطلاق، ولكن حديث حكيم يُبين.
...............
بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ
643- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ.
644- وَعَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أعطيتُكما، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
645- وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَومِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
646- وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا آلِ مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
647- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
648- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
649- وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَيَقُولُ: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشيخ: اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث السبعة تتعلق بالصَّدقات وما يجوز منها وما لا يجوز، وقد أحسن المؤلفُ في ذكرها هنا ..... الحاجة إلى معرفة هذه الأمور.
الحديث الأول حديث أبي سعيدٍ: فيه الدلالة على أنَّ الأغنياء ليسوا من أهل الزكاة، وإنما هي للفقراء، ولكن قد تحلّ بطرقٍ أخرى للغني: كالعاملين عليها، أو الذي اشتراها بماله، أو غارم -يعني- في إصلاح ذات البين، أو غازٍ في سبيل الله، أو ..... لغني، هؤلاء الخمسة وإن كانوا أغنياء فإنها تحلّ لهم من طريقٍ آخر، لا من كونهم أغنياء، بل من طريق آخر.
أما جنس الأغنياء فليس لهم حق في الزكاة؛ ولهذا بدأ الله بأهل الزكاة بالفقراء والمساكين؛ لأنهم أحقّ الناس بها؛ ولعموم وجودهم في جميع الأماكن غالبًا، لكن قد تحلّ للغني للعامل ..... يجبيها من الناس فيُعطى أجرته، أو غارم؛ وهو الذي بذل أمواله في إصلاح ذات البين، فيُعطى حمالته -كما يأتي في حديث قبيصة- يُعطى حمالته؛ لأنه مُصلح ومُحسن بين أهل بلدين أو قبيلتين أو طائفتين من الناس، يخشى أن يقع بينهم شرٌّ، فيُصلح الشرَّ بحمالةٍ، وإن كان غنيًّا فيُعطى حمالته ..... باعها على الناس، فإن اشتراها فهي حقٌّ له، لم يُعطَ إياها؛ لأنه من أهل الزكاة، وإنما اشتراها بماله، وهكذا الغُزاة يُعطون إعانةً لهم على الغزو والجهاد، وتشجيعًا لهم، وإن كانوا في أنفسهم أغنياء، يُعطون ما يُشجعهم على الجهاد ويُعينهم عليه.
والخامس: المسكين الذي يزور من عنده الزكاة، يزور الفقراء، يزور المسكين، زاره الأغنياء وأكلوا من ماله، فلا بأس عليهم وإن كانوا أغنياء؛ لأنها منه هدية، وليس منه صدقة عليهم، ولولا هذا لامتنع الأغنياء من زيارة الفقراء، ولكن من رحمة الله أنه لا حرج في زيارة الأغنياء للفقراء، وأكلهم من ضيافتهم وولائمهم وإن كانت من الزكاة؛ لأنها ليست مصروفةً لهم، وإنما هي هدايا وإكرام من المستحقين لها الذين أخذوها بالحقِّ، كما أكل النبيُّ ﷺ من الزكاة التي عند بريرة، قال: هي لها صدقة، ولنا هدية.
والحديث الثاني يدل على أنَّ مَن ظهر منه ما يدل على أنه ليس أهلًا للزكاة؛ لجلادته وقوته ونشاطه، فإنه يُبين له أنَّ الزكاة لا تحلّ للغني ولا لقوي مُكتسب؛ حتى ينظر من نفسه، فإن كان هناك .....، وإلا فلا؛ ولهذا قلَّب النظر في الجلدين لما رآهما جلدين، ظاهرهما القوة والنشاط، ثم بيَّن لهما أنها لا تحلّ لغنيٍّ ولا لقويٍّ مُكتسبٍ.
فالقوي الذي يكتسب ما يُغنيه لا يُعطى، لكن إذا كان قويًّا، ولكن غير مكتسبٍ، أو مكتسب لكن لا يسدّ حاجته، فقد يقع هذا؛ ولهذا بيَّن لهم ﷺ ولم يمنعهم منعًا باتًّا .....، وإلا قد يكون هناك موانع منعته من الكسب: لمرضٍ عارضٍ، أو لقلة الأعمال، أو لأسبابٍ أخرى منعته من الكسب، وكذلك قد يكون مكتسبًا لكن كسبه ضعيف لا يقوم بحاجته وحاجة أهل بيته، فيُعطى ما يسدّ حاجته.
وحديث قبيصة يدل على أنَّ أصل السؤال حرام ممنوع، وتقدم لكم حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة في هذا، وحديث الزبير وما جاء في معناه، فأصل السؤال ممنوع؛ لأنه ذلٌّ، فلا يليق إلا أن يتوجه به إلى الله ؛ لأنه الغني ، والعبد فقير إلى الله ، وذليل بين يديه، أما ذليلٌ لذليلٍ فلا، عبد لعبدٍ لا.
فينبغي له أن يكون ذلُّه لله، وسؤاله لله، وانكساره بين يديه ، لكن إذا دعت الضَّرورة فلا بأس في هذه المسائل الثلاث:
إحداها: الحمالة كما تقدم .....: المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً لإصلاح ذات البين أو لحاجته، وليس عنده ما يسدّ هذا الدَّين، فيكون من الغُرماء.
والثاني: أصابته جائحةٌ: من سيلٍ، أو حريقٍ، اجتاحت ماله، فيُعطى من الزكاة ما يسدّ حاجته .....، حلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ.
وقِوام بالكسر، والسّداد ما تسدّ به الحاجة، وتقوم به الحاجة، فيُعطى ما يسدّ حاجته وحاجة أهله: حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ حتى يُصيب شيئًا يسدّ حاجته، وله السؤال في ذلك ما لم يحصل ما يسدّ الحاجة، وما دام عاجزًا عن ذلك فله السُّؤال.
والثالث: مَن أصابته فاقةٌ، كان عنده مالٌ، عنده سعة، فأصابته فاقة: بأن تلفت أمواله، وأصابه ما أذهبها من خسائر أصابته في بيعه وشرائه، من جوائح، إلى غير ذلك، حتى صار فقيرًا، وشهد له مَن يعرف حاله من ذوي الحجى -من ذوي العقل والخير والثقة- من قومه، فيُعطى، حلَّت له المسألة، فيُعطى ما يسدّ حاجته .....: حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ.
وما سواهنَّ سوى هذه الثلاث من المسألة يا قبيصة فهو سحتٌ، يأكله صاحبه سحتًا يعني: حرام .....، والسحت هو الحرام.
هذا يدل على أنَّ المسألة لا تحلّ للناس إلا في هذه المسائل الثلاث، فينبغي للمؤمن أن يتباعد عنها، ويتحرز منها ويحذرها، إلا في هذه المسائل الثلاث.
وحديث عبد المطلب بن ربيعة وحديث أبي رافع فيهما الدلالة على تحريم الصَّدقة لمحمدٍ وآل محمدٍ ومواليه، وأن الموالي أهل البيت منهم، فلا يُعطون من الزكاة؛ لحديث عبد المطلب، ولحديث أبي رافع، وما جاء في معناهما، وأن الزكاة لا تحلّ لمحمدٍ ولبني هاشم، ولا لآلهم، ولا لمواليهم.
وحديث جبير بن مطعم يدل على مزية لبني المطلب: أنهم هم وبنو هاشم شيء واحد؛ لأنهم ناصروهم في الضيق والشدة، وكانوا معهم في الشّعب لما حاصرتهم قريش، وبنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد في الجاهلية وفي الإسلام في المناصرة والتَّعاون على الخير؛ ولهذا خصَّهم النبيُّ ﷺ بخُمس خيبر، أو من بيت المال، مزيةً على غيرهم من بني نوفل، ومن بني عبد شمس؛ لأنَّ بني نوفل وبني عبد شمس صاروا حربًا لبني هاشم لما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام، فلم يحصل لهم من الفضل والحقِّ ما لبني المطلب، وإلى هذا ذهب بعضُ أهل العلم إلى تحريم الزكاة عليهم.