19 من حديث (كان رسول الله ﷺ يكبر على جنائزنا أربعا..)

563- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

564- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلَفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

565- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

566- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ.

567- وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

الشيخ: أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بالجنازة أيضًا، تقدم في ذلك أحاديث.

الأول حديث جابرٍ : أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُكبر على جنائزنا أربعًا، ويقرأ الفاتحة في التَّكبيرة الأولى. أخرجه الشَّافعي بإسنادٍ ضعيفٍ.

الحديث هذا مثلما قال المؤلفُ وقال غيره: إسناده ضعيف، ولكن ساقه المؤلفُ لبيان حاله؛ ليعلم طالبُ العلم الذي يحفظ هذا الكتاب أو يقرأه شأن هذا الحديث، وأنه من الأحاديث الضَّعيفة، وأنه ليس هو العُمدة في الباب، العمدة على غيره، الحديث رواه الشَّافعي رحمه الله من طريق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي المعروف، كان الشافعي رحمه الله حسن الرأي فيه، والأئمة ضعَّفوه جميعًا، فهو ضعيف لا يُحتج به.

عن عبدالله بن محمد بن عقيل المعروف الهاشمي، وهو سيئ الحفظ، وقد ضعَّفه كثير بذلك.

فالحديث ضعيف من أجل الأمرين، من أجل الشَّخصين، ولكن له شواهد: منها حديث ابن عباسٍ -وهو العمدة- أنه قرأ فاتحةَ الكتاب ثم قال للناس وجهر بها وقال: لتعلموا أنها سنة، يعني: أنها الطريقة المتبعة، ليس المراد السنة الاصطلاحية التي هي خلاف الفرض، لا، هذا اصطلاح جديد، المقصود أنه أراد أن هذه سنة النبي ﷺ وطريقته، وكان يقرأ بفاتحة الكتاب.

وفي روايةٍ لطلحة بن عبدالله: أخذ بيده فسأله عن ذلك، فقال: لتعلموا أنها حقٌّ وسنة، فدلَّ ذلك على فرضيتها، وأنه لا بدَّ من قراءتها في صلاة الجنازة .....؛ ولهذا قرأ بها ابنُ عباس في الأولى؛ ولأنَّ الدعاء يحتاج إلى ثناءٍ وصلاةٍ على النبي ﷺ، فناسب أن تكون في الأولى، ثم بعدها تكون الصلاةُ على النبي ﷺ كما في التَّحيات: الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ثم الدعاء.

وصلاة الجنازة المقصود منها الدعاء، والمقصود فيها الدعاء، فشرع الله قبلها -قبل الدعاء- الثناء على الله بالحمد، والصلاة على النبي ﷺ في الثانية، ثم يكون الدعاء بعد ذلك.

ويدل على فرضيتها أيضًا عموم قوله ﷺ: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فقد أجمعوا على أنها صلاة مبدوءة بالتكبير، مختومة بالتسليم، فهي صلاة، فهي تدخل في عموم: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، ويدل ذلك على أنه لا بدَّ من قراءة الفاتحة، كما ذكره ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

وجاء في حديث ابن عباسٍ زيادة: "وسورة"، رواها النَّسائي وغيره، فدلَّ ذلك على أنه يُشرع أن يقرأ معها سورة كما في الأولى والثانية من الصَّلوات الخمس، وقد استشكل بأنَّ هذه الصلاة مبنية على التَّخفيف والتَّيسير والعجلة؛ حتى يُنقل الميت إلى مدفنه.

والجواب عن هذا: أنه لا إشكالَ؛ لأنَّ قراءة سورة قصيرة أو آية أو آيتين لا يُؤجل ولا يُنافي التَّعجيل، والزيادة ثابتة من طرقٍ، فشُرع أن يُؤتى بها بعد الفاتحة: بسورةٍ قاصرةٍ، أو بعض الآيات؛ جمعًا بين النصوص وبين المقصود من هذه الصلاة من تعجيل الميت إلى مدفنه.

والحديث الثالث حديث عوف بن مالك في الدعاء للميت: فيُشرع الدعاء للميت بما دعا به النبيُّ ﷺ في حديث عوف: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه .. إلى آخره، وهو دعاء عظيم، حتى قال عوف لما سمعه: تمنيتُ أن أكون موضع ذلك الرجل؛ لهذه الدَّعوات العظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي روايةٍ زيادة بعد قوله: دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله قال: وزوجًا خيرًا من زوجه في مسلم أيضًا، فهذا يدل على أنه إذا كان ذا زوجةٍ يُدعا له بذلك.

وفي آخره: اللهم قِهِ فتنةَ القبر وعذابَ النار هذا أيضًا مما يُشرع في الدعاء للميت، وقد جاء في هذا الباب أنواع، بأي نوعٍ دعا به المؤمن لأخيه حصل به المقصود، وهذا من أجمع الدعاء الذي رواه عوف بن مالك، وإذا دعا به أو دعا بغيره مما ورد كفى، إذ المقصود الدعاء للميت بما ينفعه في الآخرة من طلب الله المغفرة ودخول الجنة والنَّجاة من النار.

وفي حديث أبي هريرة الذي بعده: أن النبي كان يقول في صلاة الجنازة: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا هذا أيضًا من الدَّعوات التي تُقال في الصلاة على الميت: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا.

والصغير المحتمل به الصَّغير الذي لم يبلغ، ويحتمل أن المراد الصغير الذي قد بلغ، لكنه صغير، وهو مكلَّف، ولعلَّ هذا الأقرب؛ لأنَّ ذاك الصغير ما عليه ذنوب، فالمراد بالصغير هنا والله أعلم: الصغير من المكلَّفين يعني؛ لأنَّ المكلفين أنواع: فيهم الصغير، وفيهم الكهل، وفيهم الشَّيبة، فالدعاء يعمّهم: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا يعني: من المكلَّفين، وكبيرنا.

والمؤلف عزى هذا لمسلم والأربعة، وفي عزوه لمسلم نظر، قد راجعتُ مسلمًا عدة مرات فلم أجد هذا الحديث في مسلم، فليس في مسلم، والأقرب والله أعلم أنه سبق قلمٍ من المؤلف، أو من بعض النُّساخ، ولكن له شواهد، وهو جيد، فله شواهد: روى أحمد رحمه الله بإسنادٍ جيدٍ عن أبي قتادة شاهدًا له، كذا روى الترمذي وأحمد شاهدًا له من طريقٍ آخر؛ من طريق أبي إبراهيم، عن أبيه ..... الأنصاري، المقصود أنه جيد، وله شواهد، لكن ليس في مسلمٍ.

والحديث الخامس حديث أبي هريرة أيضًا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا صليتُم على الميت فأخلصوا له الدعاء.

فهذا يدل على أنه ينبغي تمحيص الدعاء للميت، فهي صلاة مقصودة له، مع إخلاص الدعاء له، يعني: تمحيصه له وتخصيصه له، بحيث لا يكون الدعاء لغيره كالدعاء لزيد أو عمرو أو والديك أو فلان أو فلان، هذه الصلاة مقصودة بالميت، فيكون الدعاءُ له: إما يكون مفردًا، وإما مع غيره، كما في الحديث: اللهم اغفر لحينا وميتنا .. إلى آخره، المقصود أنَّ الصلاة مقصودها الأول: الإحسان إلى الميت والدعاء له، فينبغي إخلاص الدعاء له كما في هذا الحديث.

ثم يُكبر الرابعة ويُسلم كما تقدم بعد الدعاء، يُسلم في الرابعة ويسكت قليلًا، كما جاء في رواية إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أن النبي كان يسكت بعد الرابعة قليلًا.

وجاء في حديث عبدالله بن أبي أوفى: أنه صلَّى فسكت سكتةً حتى ظنوا أنه سيُكبر خامسةً، ثم سلَّم، لكن في سنده ضعف، وإسناد أبي إسحاق الجوزجاني جيد، فيدل ذلك على استحباب سكتة خفيفة بعد التَّكبيرة الرابعة، ثم يُسلم، وما ورد فيها دعاء، ما نعلم فيها دعاءً.

س: .............؟

ج: ما ورد فيه شيء .....، ما بلغنا أنه ذكر دعاء بعد الرابعة، ما أحفظ شيئًا في هذا، لكن غالب الروايات كلها على أربعٍ كما تقدم البحث، قال بعضهم: استقرت السنةُ على هذا. وذكر قول الجمهور: استقرت على أربع تكبيرات، وهي التي فعلها النبيُّ مع النَّجاشي، النجاشي له أهمية، ولو كان هناك زيادة لفعلها النبي للنَّجاشي.

س: بعضهم يقول في الرابعة: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده؟

ج: جاءت في آخر الدعاء في الثالثة.

س: بعضهم جعلها بعد التكبيرة الرابعة؟

ج: أنا ما أعلم في هذا شيئًا صحيحًا .....، ومَن علم حُجَّة على مَن لا يعلم، إذا وجدت شيئًا أطلعنا عليه إن شاء الله، مَن وجد شيئًا في الأحاديث يُطلعنا عليه، أنا إلى يومي هذا ما أعلم شيئًا صحيحًا يُقال بعد الرابعة.

س: زوجًا من زوجه خاصّ بالذكر؟

ج: هذا جاء في الذكر، جاء في صلاة الجنازة على ذكر، فيحتمل أنه يخصّ به، ويحتمل ألا يخصّ به، والمرأة قد تحتاج إلى ذلك أيضًا: زوجًا خيرًا من زوجها، وأما ما يُروى أنها تُخير بين أزواجها هذا في سنده مقال -ضعف- ثم لو قدر أنها تُخير ما تنافي أنها يُدعا لها بهذا؛ إذ الأصل أنَّ الأحكام سواء، هذا هو الأصل، ما ثبت في الذكر ثبت في المرأة، هذا هو الأصل، إلا بدليلٍ يخصّ أحدهما، فإذا ثبت في الرَّجل: زوجًا خيرًا من زوجه، ما في مانع من المرأة، ثم قد تكون المرأة أيضًا غير متزوجةٍ، يُدعا لها بالزواج، وهذا حاصلٌ لها، لكن المقصود إذا تزوجت قد يكون زوجها في الدنيا ليس بالمرضي، فتُعطى زوجًا خيرًا من زوجها، ولا شكَّ أن الذي يحصل لهم في الآخرة شيء لا يُداني ولا يُقارب ما في الدنيا.

س: ............؟

ج: الله أعلم، جاء في حديثٍ ذكره ابن عبد البر أو الطحاوي ..... غير مشهورٍ، في سنده بعض النظر: أنها إذا كان لها أزواج تُخير، فتختار أحسنهم خلقًا، لكن في سنده نظر.

س: .............؟

ج: ما أعلم أنه ورد فيه شيء، والعلماء اختلفوا: منهم مَن رأى استحبابه، ومنهم مَن لم يرَ استحبابه؛ لأنها صلاة مبنية على التَّعجيل والتَّخفيف.

س: ...........؟

ج: العموم، ..... فصاعدًا يدخل في العموم.

س: ...........؟

ج: المحفوظ واحدة فقط عن الصحابة، ولم يُحفظ فيها عن النبي ﷺ شيء، هذا من العجائب والغرائب: كون النبي ﷺ صلَّى على الجنائز في عشر سنين ومع ذلك لا نحفظ فيها حديثًا صحيحًا عن كيفية سلام النبي ﷺ فيها، هذا من الغرائب والعجائب، وإنما يُحفظ عن الصحابة أنهم سلَّموا واحدةً، كانوا يُسلمون واحدةً، وجاء في حديث عبدالله بن أبي أوفى أنه سلَّم ثنتين، ولكنه ضعيف.

568- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

569- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ.

570- وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ.

571- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

572- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث فيما يتعلق بالجنائز، سبق طائفة من ذلك.

في الحديث الأول الحثُّ على الإسراع بالجنازة، قال: أسرعوا بالجنازة، الجنازة تُكسر وتُفتح، فإن تك صالحةً فخيرٌ تُقدمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم، هذا فيه الحثُّ على الإسراع بها إلى الصلاة وإلى الدفن بالعلة التي أوضح عليه الصلاة والسلام: فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تُقدمونها إليه، خيرٌ لها من بقائها بينكم، وإن تك غير صالحةٍ فشرٌّ تضعونه عن رقابكم تستريحون منه.

وفي لفظٍ: فإن تكن صالحةً قالت: قدِّموني، قدِّموني، وإن تكن غير صالحةٍ قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها.

ففي هذا الحث والتَّحريض على الإسراع بالجنائز من جميع شؤون الجنائز، وأنه لا ينبغي أن يُتساهل ببقائها، بل ينبغي الإسراع في تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها وإيصالها إلى مدفنها حسب الطاقة والإمكان.

وفيه بيان الحكمة والسر في ذلك، ويُستفاد من هذا أيضًا: أنه ينبغي للمؤمن أن يعدّ العُدة، وأن يحذر هجوم الأجل وهو على غير استعدادٍ؛ فإنها إمَّا أن تكون صالحةً فتُقدم إلى خيرٍ وإلى روضةٍ من رياض الجنة، ..... أن يكون هكذا، وإن كانت غير صالحةٍ قدمت إلى شرٍّ وفسادٍ وعذابٍ في القبر ثم في النار.

فينبغي للمؤمن أن يكون هذا على باله؛ حتى يعدَّ عدةً صالحةً له، لعله يكون من النَّاجين.

الحديث الثاني فيه الحثُّ على اتباع الجنائز إلى الصلاة وإلى الدفن، وأنَّ مَن شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط، ومَن شهدها حتى تُدفن -يعني مع الصلاة- فله قيراطان، هذا فضل عظيم.

جاء عن ابن عمر: أنه لما بلغه هذا الخبر قال: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة".

والسنة للمؤمن إذا تيسر له ذلك أن يُتابع الجنائز، وأن يُشيعها في الصلاة والدَّفن لأمورٍ، لفوائد:

منها هذا الفضل العظيم: كونه يُعطى قيراطين، فسَّرهما النبيُّ ﷺ بأنهما مثل الجبلين العظيمين في رواية مسلمٍ: أصغرهما مثل جبل أُحُدٍ، هذا فضل عظيم.

الأمر الثاني: ما في اتِّباع الجنائز من ترقيق القلوب وتليينها وتذكيرها بالآخرة والموت، وهذا لا شكَّ من أسباب الإعداد والتَّأثر.

ثالثها: ما في اتِّباع الجنائز من جبر المصابين ومُواساتهم والإحسان إليهم ومُشاركتهم في مُصيبتهم، هذا ينفعهم كثيرًا، ويُؤثر عليهم كثيرًا.

رابعها: ما في إعانتهم أيضًا، قد يحتاجون إليه في الحمل، قد لا يدفعه إلا قليل، فإذا توارد الناسُ على متابعة الجنائز نفعوا عن الجنازة، وساعدوهم في حاجات الجنازة: من الحفر، من تقريب ما يحتاجون إليه من لبنٍ وغير ذلك، ففيه مصالح.

خامسها: ما فيه من الدعاء للميت والتَّرحم عليه.

سادسها: ما فيه من التَّشييع ومتابعة الجنائز، فإذا رأى الناسَ زيدٌ وعمرو يُتابعون الجنائز -ولا سيَّما مَن يُعظِّمونه من أهل الصلاح والخير ورُؤساء الناس- صار هذا من أسباب تأثر الناس بهذا الشيء، ومُشاركتهم في تشييع الجنازة، وإذا هجر ذلك الأعيان والمسؤولون قلَّ مَن يتبع الجنائز بعد ذلك.

والفوائد كثيرة في هذا الباب، ينبغي للمؤمن حسب الإمكان أن يُشارك في هذا الخير، وأن يحرص على أن يكون مُشيعًا للجنائز وإن لم يعرفها، بعض الناس إنما يُشيع مَن عرف من أصحابه وقراباته، والمطلوب أن يُشيع جميع جنائز المسلمين حسب الإمكان، عرفهم أو لم يعرفهم.

في رواية البخاري: مَن تبع جنازةً ..... إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يُصلَّى عليها ويُفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراطٍ مثل جبل أحدٍ، وهذا يُبين لنا أنه ينبغي البقاء مع الجنازة حتى يُفرغ من دفنها، بعض الناس إذا وصل هناك ووضعوا الجنازةَ في القبر رجع، وهذا خلاف السنة، السنة أن يبقى معها حتى يُفرغ من دفنها، ..... تبقى مع الجنازة ومع أهلها حتى ينتهوا من دفنها.

ويُستحب أيضًا بعد ذلك أن تقف عليها وتدعو لها بالمغفرة والثبات، كما كان النبيُّ يقف على الجنازة بعد الدفن ويدعو لها.

وقوله: حتى تُوضَع في اللَّحد هذا في هذه الرواية، وفي الرواية الأخرى: ويُفرغ من دفنها، ويُؤخذ بالأكمل فالأكمل من الروايات، ومعلوم أنَّ وضعها في اللَّحد بدء الدَّفن، ولكن الكمال والتَّمام أن يصبر حتى يُفرغ من دفنها، ولا يعجل.

والحديث الرابع: حديث سالم، عن أبيه في اتباع الجنائز: أنه رأى النبيَّ ﷺ وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة.

هذا الحديث رواه الخمسة من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وقد أعله النَّسائي وجماعة بالإرسال، وكان ابن عُيينة يُنكر ذلك ويُثبت أنه متَّصل ويقول: ..... الزهري حدَّثنيه مرارًا ولستُ أُحصيه، يُعيده ويُبديه، سمعتُه من فيه عن سالم، عن أبيه. فيُكرر في هذا، ويُؤكد أنه متَّصل، وليس بمرسلٍ.

وجاء في هذا الباب أحاديث أخرى تدل على أنَّ الراكب يكون خلف الجنازة، والماشي أمامها، ومَن سواهما هكذا وهكذا: عن يمين، وعن شمال.

ولكن مجموع الأحاديث يُستفاد منها: أنَّ الأفضل للماشي أن يكون أمام، والراكب يكون خلف، وما يكون سوى ذلك إذا مشوا يمينًا وشمالًا فلا بأس، وإن تقدَّموا فهو أفضل.

وفي حديث المغيرة: الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، ولكن رواية ابن عمر هذه تُبين أنَّ الماشي يكون قدام أفضل، وإن كان جائزًا يمينًا وشمالًا وخلفًا، لكن كونه أمام أفضل، والراكب خلف.

وحديث أبي سعيدٍ يدل على أنه يُستحب لمن رأى جنازةً أن يقوم: إذا رأيتم الجنازة فقوموا ..... حتى تُوضع، جاء في عدة روايات: حتى تُوضع في الأرض، هذا هو الأفضل: أن يقف وألا يجلس حتى تُوضع في الأرض.

وقوله: فقوموا هذا للنَّدب والاستحباب؛ لأنه ثبت عنه ﷺ أنه لم يقم في بعض الأحيان، كما رواه عليٌّ وغيره، هذا دليل على أنَّ القيام ليس بفرضٍ، ولكنه سنة في بعضها.

قال: يُعلل هذا بأنَّ للموت فزعًا، وفي بعضها: إنما قمنا للملائكة، وفي بعضها قيل: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! قال: أليست نفسًا؟!.

الحاصل أنه سنة القيام مطلقًا، حتى ولو كان في جنازة كافرٍ؛ من أجل فزع الموت وعظم شأنه وخطره، فالقيام فيه تنبيه على تعظيم هذا الشأن، وأنه أمر عظيم جدير بأن يُقام من أجله فزعًا، وجدير بأن يُعدّ له حتى لا يهجم عليك وأنت على غرةٍ، والله المستعان.

وحديث أم عطية كذلك: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز"، يدل على أنه لا ينبغي للنساء اتباع الجنائز، وقولها: "ولم يُعزم علينا" أي: لم يُؤكد علينا، فنُهينا عن ذلك، ولعلَّ هذا من فهمها؛ لأنها ما سمعت الوعيدَ، ولكن الأصل النَّهي والتَّحريم، فما دام أنَّ النبي نهى عن اتباع الجنائز يدل على التَّحريم، هذا هو الأصل، قولها: "ولم يُعزم علينا" شيء فهمته: إما لكونها لم يبلغها الوعيدُ، أو لم يُشدد عليهن في نوعٍ آخر؛ فلهذا قالت: "لم يُعزم علينا".

والحاصل أنَّ اتباع الجنائز للنساء في المقابر منهيٌّ عنه؛ لأنهن فتنة، فلا يجوز اتباعهن الجنائز، أما الصَّلاة فلا بأس، يُصلين على الجنائز في المسجد؛ صلَّى النساء مع النبي ﷺ على الجنائز، وصلَّت عائشة على ابني بيضاء في المسجد.

فالصلاة على الجنائز من الرجال والنساء أمر مطلوب ومشروع، إنما هذا في اتِّباع الجنائز إلى المقبرة، إلى المدفن، فلا ينبغي أن يتبعن الجنازة، بل يجب أن يُمنعن من ذلك.

وقد جاء في هذا المعنى أحاديث أخرى في سندها مقال: ارجعن مأزورات، غير مأجورات، وقوله لفاطمة: أما إنَّك لو اتبعتيها لكان عليك كذا وكذا.

المقصود أنَّ هذه الأحاديث ولو كان فيها بعض الضَّعف تُؤيد وتُؤكد ما دلَّ عليه حديثُ أم عطية، وأنه لا ينبغي للنساء أن يتبعن الجنائز إلى المدفن، بل يكفي في هذا الرجال، ولا يخفى ما في هذا من الحكمة العظيمة، والفائدة الكبرى؛ لأنهن قليلات الصبر، ومع ذلك يفتنَّ الحيَّ، ويُؤذين الميت؛ يفتنَّ الحيَّ بما قد يقع منهن من الزينة والتَّبرج، ويُؤذين الميت بالنياحة عليه، وهذا شيء يُؤذيه، وصبرهن قليل، والرجال أصبر، فكان في منعهن من الخروج مصالح، والله أعلم.

............

573- وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَزِيدَ أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

574- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْفِ.

575- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

576- وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: فِي الْإِثْمِ.

577- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَلْحدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

578- وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

579- وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث فيما يتعلق بالجنائز، تقدم في الباب ما يتعلق بالجنائز أحاديث، وهذا منها: حديث أبي إسحاق السَّبيعي: أنَّ عبدالله بن يزيد -يعني الخطمي- وهو صحابي جليل معروف، من صغار الصحابة جميعًا، أدخل الميتَ من جهة أسفل القبر. وهذا أيسر في إدخال الميت في القبر، من جهة رجلي القبر أيسر لمدخليه وأنسب؛ لأنَّهم يسلونه سلًّا حتى يصل إلى رأسه ويُوضع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، وهذا أحسن ما ورد في ذلك.

ورُوي في ذلك نوعان آخران:

  • أحدهما: سلّه من جهة القبلة، ينسل العرض حتى يُوضع في لحده.
  • والنوع الثاني: أن يسلّ من جهة رأس القبر على رأس الميت.

والأمر في هذا واسع، لكن هذا أحسن ما ورد من رواية عبدالله بن يزيد، أصحّ ما ورد في هذا الباب، والأمر في هذا واسع إن شاء الله، لكن الحديث هذا الذي رواه عبدالله بن يزيد، وإن كان ليس بصريح السنة، لكن قوله: "هذا من السنة" عند أهل العلم في الحديث في حكم المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسَّلام.

..............

س: الأذان عند وضعه؟

ج: الأذان والإقامة بدعة، لا أصلَ له، يوجد من بعض الناس أنه يُقيم في القبر ويُؤذن، وهذا بدعة، لا أصلَ له، وهكذا قراءة القرآن في القبر بدعة، لا أصلَ لها.

س: التَّلقين؟

ج: التلقين بعد الدَّفن يأتي البحثُ فيه إن شاء الله.

والحديث الثاني: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا وضعتُم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله. وفي روايةٍ: وعلى سنة رسول الله.

هذا الحديث لا بأس به، واختُلف في رفعه ووقفه، ورجَّح الدَّارقطني والنَّسائي وقفه، وصحح ابنُ حبان وجماعة رفعه، والصواب قول مَن قال بالرفع؛ لأنَّ مثل هذا لا يُقال بالرأي، ثم أيضًا رواية مَن وقف لا تقدح في رواية مَن رفع، قاعدة: أنَّ مَن رفع يُقدَّم على مَن وقف إذا كان ثقةً. هذه هي القاعدة، تُقدم لكم في المصطلح، ذلك الصواب عند المحققين من أهل الحديث: تقديم رواية مَن رفع؛ لأنها زيادة من ثقةٍ فتُقبل.

وهكذا مَن وصل تُقدم على رواية مَن أرسل؛ لأنها زيادة من ثقةٍ فتُقبل، فيكون الموقوف مؤيدًا للمرفوع، والموقوف في معنى المرفوع من جهة المعنى؛ لأنَّ هذه الأشياء لا تُقال من جهة الرأي.

فدلَّ ذلك على أنَّ السنة عند الدَّفن أن يُقال: بسم الله، وعلى ملة رسول الله.

جاء في روايةٍ فيها ضعف: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]. ولكنها غير محفوظةٍ، والمحفوظ هذا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله.

............

والحديث الثالث حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي قال: كسر عظم الميت ككسره حيًّا رواه أبو داود بإسنادٍ على شرط مسلم، وهكذا رواه ابن ماجه.

ورواه ابن ماجه أيضًا من حديث أم سلمة، لكن زاد: في الإثم، وفي سنده بعض الضعف -رواية أم سلمة-.

والحديث يدل على حرمة المسلم، وأن الواجب احترامه وعدم إيذائه بكسر عظامه وامتهانه؛ ولهذا جاء النَّهي عن ذلك في تعظيم المسلم واحترامه وعدم إيذائه بكسرٍ أو غيره، وجاء النَّهي عن الجلوس على القبر أيضًا والاتِّكاء، وما ذاك إلا من باب احترام الناس للموتى، وعدم إيذائهم بشيءٍ، وعدم امتهانهم.

وفي الحديث الصحيح: لأن يجلس أحدُكم على جمرةٍ فتحرق ثيابَه وتصل إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ رواه مسلم.

والحديث الآتي حديث جابرٍ في النهي عن تجصيص القبر وعن القعود عليه والبناء عليه، فدلَّ ذلك على تحريم القعود عليه، وكسر عظامه وامتهانها من باب أولى، وهكذا نبشهم ونقلهم بغير علةٍ وبغير سببٍ فيه نوع امتهانٍ؛ لأنه يعرض عظامهم للكسر والأذى، فلا يجوز نبشهم ونقلهم من مكانٍ إلى مكانٍ إلا لعلةٍ ومصلحةٍ ظاهرةٍ للميت أو للمسلمين.

س: ...............؟

ج: من ذلك الشَّوارع إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، والضَّرورة إلى ذلك، هو من المصلحة العامَّة للمسلمين، يُنقل من مكانٍ إلى مكانٍ، كما نقل جابرٌ أباه عبدالله من مكانٍ إلى مكانٍ؛ لمصلحة الميت: كونه في محلِّ السيول.

قوله: في الإثم وإن كان في سنده ضعف، لكن معناه صحيح عند أهل العلم، ليس كسره يُوجب القصاص، ولا يُوجب الغرامة، لكن يُوجب الإثم، ويستحق صاحبه التَّعزير إذا فعل ذلك عن عمدٍ وتهاونٍ.

والحديث الرابع: حديث سعد بن أبي وقاصٍ الزهري، وهو سعد بن مالك المعروف، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم، لما مات قال: "الحدوا لي لحدًا".

"الحدوا" من الثلاثي، و"ألحدوا" من الرباعي.

و"انصبوا عليَّ نصبًا كما فُعل برسول الله ﷺ".

هذا يدل على أنَّ اللَّحد أفضل؛ لأنَّ الله اختاره لنبيه ﷺ، جاء في الحديث أنه لما تُوفي النبيُّ ﷺ كان في المدينة شخصان: أحدهما يُلحد، والثاني يشقّ، فقالوا: مَن جاء أولًا يعمل عمله، فجاء أبو طلحة وهو يلحد، فلحد له عليه الصلاة والسلام، فصار هذا هو الأفضل.

وجاء في حديثٍ آخر في سنده بعض المقال: اللحد لنا، والشقّ لغيرنا.

فاللحد أفضل بكل حالٍ، إلا عند الحاجة، إذا كانت الأرضُ ما تتماسك ولا يُستطاع اللَّحد فيها فإنه يشقّه في الأرض، ويُوضع فيه الميت، ويوضع فوقه اللبن إذا تيسر والألواح، حسبما تيسر؛ حتى تقيه التراب، أما إذا تيسر اللَّحد فهو أفضل، في جانب القبر القبلي، واللبن يُنصب عليه نصبًا -على اللحد- فيُلاحظ ويُسدد حتى لا يقع الترابُ عليه، كما فُعل برسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا هو السنة.

وفي حديث البيهقي: ..... رفع القبر قدر شبرٍ، يعني: قبر سعد؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فالقبور تُرفع قدر شبرٍ وما يُقاربه؛ حتى يُعلم أنها قبور، حتى لا تُمتهن.

وفي حديث القاسم عن عائشة: أنها كشفت لها على قبر النبي ﷺ وقبري صاحبيه، قال: فوجدت ثلاثة قبور لا مُشرفة ولا ناطئة.

لا مشرفة: يعني كثيرًا، ولا مُساوية للأرض، بل بين ذلك.

والمعنى: أنها مرتفعة قليلًا عن الأرض، والشِّبر يُعتبر من القليل، مبطوحة بطحاء العرشة، يعني: حصبائها.

الحديث ..... رواه البخاري قال: "رأيتُ قبر النبي مُسنمًا"، ولا يُنافي هذا؛ لأنَّ التَّسنيم معناه: كونه غير مستوٍ، فيكون وسطه أرفع من حافتيه، وهذا يُوافق رواية القاسم: "لا مُشرفًا ولا ناطئًا" يعني: مرتفعًا بعض الشيء، ولا يُنافي كونه مُسنمًا، وهذا هو الأفضل؛ حتى يُزل عنه الماء، ولا يستقر عليه الماء.

وفي حديث جابرٍ النَّهي عن تجصيص القبور والقعود عليها والبناء عليها، وهذا يدل على تحريم هذه الأمور، وأنها منكرة؛ لأنَّ الأصل في النَّهي التحريم، ومَن قال بالتنزيه فلا وجهَ له، ولا دليلَ له على ذلك، وقد جاء النَّهي عن رسول الله ﷺ عن اتِّخاذ المساجد على القبور، فدلَّ ذلك على أنَّ الأمر للتَّحريم ولسدِّ ذرائع الشرك؛ لأنَّ البناء عليها واتِّخاذ القباب والمساجد عليها من وسائل الشرك فيها، من وسائل تعظيمها التَّعظيم المنكر، والشرك بها، والغلو فيها.

وإذا كان التَّجصيصُ لا يجوز، فاتخاذ القباب والمساجد أشدّ وأقبح وأنكر، وهكذا البناء مطلقًا، فالواجب ترك ذلك، وأن تبقى ضاحية تحت السماء، ليس عليها بناء ولا مساجد ولا قباب ولا غير ذلك، كما كانت القبور في عهد النبي ﷺ في البقيع هكذا.

وكذلك يحرم الجلوس عليها، مجرد الجلوس، أما مَن حمله على التَّغوط عليها فقد أبعد النُّجعة، هذا أشدّ تحريمًا والعياذ بالله، فمراد النبي ﷺ النَّهي عن الجلوس مطلقًا؛ لما فيه من الامتهان لها والاحتقار وقلة المبالاة.

وهكذا حديث جابرٍ هنا: "أن يُمشى عليها"، زاد الترمذي والنَّسائي: "ونهى عن الكتابة عليه، وأن يُزاد عليه من غير ترابه"، هذا أيضًا كذلك يُمنع من الكتابة عليها؛ لأنَّ الكتابة عليها إن كانت أسماء فقد يُغالى في الاسم وقد يُمتهن، إن كان اسمًا محبوبًا قد يُغالى فيه، وإن كان اسمًا مكروهًا قد يُمتهن ويُؤذى، فلا وجهَ لكتابة الأسماء.

وأما الزيادة عليه من غير ترابه فهذا وسيلة إلى رفعه، وهو فعل غير مشروعٍ، فلا يُزاد عليه من غير ترابه، بل ترابه كافٍ، وما أُخذ من تراب اللَّحد ينفع في رفعه عن الأرض قدر شبرٍ؛ حتى يُعلم أنه قبر. والله أعلم.

س: ..............؟

ج: يطأ عليه لا، يُساويه بيده أو بمسحاةٍ ولا يطأ عليه.

س: ..............؟

ج: الأولى عدم الدُّخول بالنَّعلين في المقبرة كلها، إلا من حاجةٍ، مثل: شدة حرِّ الأرض، حارة، أو باردة، أو شوك، فالأولى ألا يدخل بالنَّعلين؛ لأنَّ المقبرة ما هي محل النِّعال.

س: .............؟

ج: ما في شيء .....، ما في شيء أو علامة أخرى: عود، أو حجر خاص، أو عظم، أو حديدة صغيرة، أو شيء يُعلم به، لا بأس بذلك.

...............

كذلك ما له أصل هذا، هذا شيء طرح ..... ما هو بعمدٍ ولا ..... لا يُقاس عليه، فعله مع النبي ﷺ، ولا يُقاس عليه؛ لأنَّ الرسول ما فعله مع أحدٍ، ولا الصحابة فعلوه مع أحدٍ، مثل: قصة شقران لما ألقى قطيفةً له في قبر النبي ﷺ، لا يُحتج بهذا، وإنما ألقاها اجتهادًا منه، ولم يُفعل مع غير النبي ﷺ، لا يُقاس عليه غيره في مثل هذا؛ لأنَّ هذا اجتهاد من صحابيٍّ ما أراد به إلا خيرًا، والنبي ﷺ دفن أمةً كثيرةً ولا جعل لهم فراشًا: لا أهل أحدٍ، ولا أهل بدرٍ، ولا غيرهم، وسعد بن معاذٍ من أشرف الصَّحابة، مات ولم يُجعل له شيء تحته، والصديق وعمر وعثمان، وكذلك عليّ، كلهم ما جُعل تحتهم شيء.

س: ..............؟

ج: ما نعرف له أصلًا، يجعل لبنةً ترفع رأسه قليلًا حتى يستوي، ما في شيء، أو تراب.

س: .............؟

ج: هذا إذا ما وجد شيئًا، إذا ما وجد لبنًا يحطّ إذخر؛ حتى يقيه التراب، مثلما كان يفعل أهلُ مكة، أو ورقًا، أو شيئًا آخر إن ما تيسر اللبن.

س: .............؟

ج: الكتابة ما تصلح، النبي نهى عنها: لا قبر فلان، ولا وسمه، حتى الوسم سدًّا للباب، النبي نهى عن الكتابة على القبر قال: "وأن يُكتب عليه" سنده جيد، رواه الترمذي والنَّسائي وجماعة.

س: التعليم على القبر؟

ج: العلامة التي ما هي كتابة ما فيها بأس، مثلما يُروى أنه علّم قبر عثمان بن مظعون.

س: .............؟

ج: ترك هذا أولى؛ لأنَّ هذا خطّ، والآخر يخط خطين، والآخر يخط ثلاثة، تعود وسم، الذي يظهر لي أن تركه أولى، إما علامة بحجرٍ أو بشيءٍ.

س: .............؟

ج: فعله ما هو بقدوةٍ، ما ينبغي الخطوط، سدّ الباب أحسن، أحوط.

س: .............؟

ج: نعم، نعم، إزالته لو وُجد مجصَّصًا أو موضوعًا عليه شيء، يعني: خلاف المعتاد من كتابات الحجر يُؤخذ وتُزال هذه الكتابات حتى لا ينفتح الباب.

س: .............؟

ج: علّم عليه بحجرٍ علامة.

س: .............؟

ج: والله ما أعرف له أصلًا، تركه أولى، هم يقولون أنه يحفظ التراب، ولكن الحصباء تكفي إن شاء الله، أما زيادات فروش كثيرة ..... من هنا ومن هنا لا أعرف له أصلًا، إنما فعله بعض الناس اجتهادًا منه، وإلا ما له أصل، تركه أولى.

س: رشّ الماء عليه؟

ج: رشّ الماء عليه خفيف التراب حتى لا يزول، تُجعل البطحاء فوقه.

س: ما ورد فيه شيء؟

ج: ما أتذكر شيئًا، البطحاء قال: مبطوحة بطحاء العرصة، وأما الرش لا أتذكر فيه شيئًا، قد يكون ورد، لكن ما أتذكر فيه شيئًا.

س: البطحاء زائدة عن تراب القبر؟

ج: لعلها لمصلحة تثبيت التراب.

س: .............؟

ج: ما أعرف له أصلًا.

س: ما ورد فيها بعض الآثار عن بعض الصَّحابة؟

ج: والله ما أتذكر شيئًا، مَن وجد شيئًا منكم يجمعه ويأتي به.

س: ............؟

ج: ما لزوم، يُسلم على القبور ويكفي، المقصود الذكرى والموعظة، يُسلم عليهم ويدعو لهم ويمشي، ما لزوم، قريبه يدعو له في البيت، في السُّجود.

580- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ وَهُوَ قَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

581- وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

582- وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ -أَحَدِ التَّابِعِينَ- قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثَلَاث مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ، قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّ مُحَمَّدٌ ﷺ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا.

583- وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلًا.

الشيخ: هذه أيضًا مما يتعلق بالجنائز:

الحديث الأول حديث عامر بن ربيعة: أنَّ النبي ﷺ صلَّى على عثمان بن مظعون، وعثمان بن مظعون من المهاجرين الأوائل، من خيرة السَّابقين الأولين ، فأتى القبرَ فحثى عليه ثلاث حثيات، في لفظٍ: "بيديه".

احتج به العلماءُ على شرعية المشاركة في الدَّفن في الحثو، وأنه يُستحب المشاركة كما شارك النبيُّ ﷺ في الدَّفن بهذا الحثو، فيُستحب أن يحثي ثلاث حثيات مع الناس، وإن شارك في الجميع حتى يتم الدفنُ أفضل وأفضل، لكن هذا من باب الفسح للآخرين، فإنه قد يكون الجمع كثيرًا، فإذا حثى هذا ثلاث حثيات، والآخر ثلاث حثيات، تمكَّن الكثيرُ من الناس أن يُشاركوا، أما إذا كان العدد قليلًا فإنه يحتاج إلى المشاركة.

وفي لفظٍ ذكر الشارحُ هنا الذي ذكره البزارُ أيضًا، وزاد: "وأمر أن يُرشَّ على قبره بالماء"، هذا مما ورد في رشِّ القبر بالماء، سبق أن بعض الإخوان سأل عن هذا وقلت له: إني لا أعلم شيئًا ورد في هذا، والشارح ذكر هنا أنَّ البزار زاد في هذه الرواية أنه أمر برشِّ القبر.

فهذه الرواية وإن كان الشارحُ لم يتعرض لسندها فهي شاهدة في الباب في الرشِّ عند الحاجة إليه، وقد تكون الأرض غير محتاجةٍ إليه: كالأرض التي [هي] قريبة من البحر، رطبة، فإنها غير محتاجةٍ للرش، لكن إذا كان الترابُ شديدًا ذا يبوسةٍ شديدة الغبار احتاج إلى هذا؛ لإطفاء الغبار وتجفيفه في الأرض.

و"مسند البزار" موجود، ولعله قريب إن شاء الله أن يُطبع، أخبرني بعض الإخوان أنهم سيُحققونه للماجستير أو الدكتوراه، ويمكن إن شاء الله [أن] يُطبع قريبًا، كتاب عظيم جيد، بلغني عن بعض الإخوان أنه موجود منه عدة نسخٍ، وهو مسند جيد.

والحديث الثاني حديث عثمان : أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه.

فرغ يحتمل بفتح الراء وفتح الفاء، ويحتمل أنه بضم الفاء: فُرغ، إذا فرغ الناس، أو فرغ هو مع الناس من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التَّثبيت؛ فإنه الآن يُسأل.

هذا يدل على شرعية الوقوف على الميت بعد الدفن والدعاء له بالمغفرة والثَّبات، وأنه لا ينبغي للمُشيع أن ينصرف إلا بعد الفراغ.

وقد ثبت في الحديث الصحيح أنَّ النبي قال: مَن شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراط، ومَن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان، قيل: يا رسول الله، ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين خرَّجه الشيخان.

وفي روايةٍ للبخاري رحمه الله ورضي الله عنه: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن تبع جنازة مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يُصلَّى عليها ويُفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراطٍ مثل جبل أحد.

هذا يُبين لنا أنَّ السنة عدم العجلة، وأنه يبقى مع الجنازة حتى يُفرغ من دفنها؛ حتى يستكمل الأجر، وحتى يدعو لها بعد الدفن بالمغفرة والثبات، كما كان النبيُّ يفعل عليه الصلاة والسلام، فيقف عليه ويقول: "اللهم اغفر له، اللهم ثبته بالقول الثابت، اللهم ثبته على الحق"، يُكرر هذا ما يسَّر الله.

والوقوف على القبر سنة -قبر المسلم- أما الكافر لا يُوقف على قبره، كما قال الله جلَّ وعلا: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فالنهي عن الصَّلاة على الكافر، والنَّهي عن القيام على قبره يدل على أنَّ المسلم بالعكس: أنه يُصلَّى عليه، وأنه يُقام على قبره للدعاء.

وكان سبب هذا قصة عبدالله بن أُبي: أنَّ النبي ﷺ صلَّى عليه وقام عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أتقوم عليه وقد فعل كذا وقال كذا وهو منافق؟! فقال النبيُّ: خُيرت، ولو أعلم أني لو زدتُ على السبعين وغُفر له لزدتُ، يقول هذا حرصًا على نفع العباد وتطييب نفوس أقاربه، ورجاء أن ينفعه الله بالاستغفار لما أظهره من الإسلام، ولكن الله بيَّن أنَّ الرجل لا خيرَ فيه، وأن باطنه الكفر البواح؛ ولهذا أنزل فيه: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فبين أن ابن أُبي من جملة الكافرين الضَّالين الذين لا يُصلَّى عليهم، ولا يُوقف على قبورهم بعد الدَّفن.

الحديث الثالث: أثر ضمرة بن حبيب الشامي المعروف، التابعي الثقة المعروف، قال: "كانوا" يحتمل أنه أراد مَن أدرك من الصحابة، ويحتمل أنه أراد أصحابه التَّابعين من الشَّاميين، وهذا معنى ما قاله أحمد، فإن القصة شامية، وإنما نعلم أنه من فعل أهل الشام فقط، وهو الوقوف على الميت بعد دفنه وانصراف الناس عنه، يُوقف عنده -عند رأسه- ويقول له: اذكر الله، قل: لا إله إلا الله، ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. هذا يُسمَّى التلقين، وفعله جماعةٌ من الشَّاميين، وهم المراد بقوله: "كانوا" يعني: مَن أدرك من تابعي الشام.

وأما الجمهور من أهل العلم على خلاف هذا، ولم يُحفظ عنهم أنهم فعلوه: لا من الصحابة، ولا من غيرهم.

واحتجُّوا أيضًا بحديث أبي أمامة الذي ذكره المؤلفُ عند الطبراني، حديث أبي أمامة مُطوَّلًا قال: إذا مات لأحدكم فليقل: يا فلان ابن فلان، فإنه ينتبه ..... يا فلان ابن فلانة، يدعوه لأمه، اذكر ما خرجت من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وأنك تُؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالقرآن إمامًا، فإنه ..... هذا الكلام.

وهذا الحديث اختلف الناسُ فيه: فذكر الشارحُ عن الحافظ أنه قال: إسناده صالح. وأنه قوَّاه .....، وذكر صاحبُ "المنار" أنه موضوع، وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" أنَّ فيه رجالًا لم يعرفه.

والأظهر والله أعلم أنَّ هذا الحديث غير صحيحٍ، وأنه من الموضوعات كما قال صاحب "المنار" وغيره من أهل العلم، وهذا ليس بسنةٍ؛ لأنَّ الرسول ﷺ ما فعله، ولا فعله خلفاؤه الراشدون، ولم يُحفظ عن أحدٍ من الصحابة فعله، فكان بدعةً لا يجوز فعلها؛ ولأنَّ الميت قد خُتم على عمله، وانقطع عمله، فلا يُمكنه استدراك التَّثبت بعد الموت، إنما العمدة على ما كان قبل ذلك، فإن كان مُوفَّقًا مثبتًا في الحياة أجاب جوابًا صحيحًا، كما في الحديث الصحيح -حديث أسماء بنت أبي بكر- أنَّ الناس يُفتنون في قبورهم، فيقول المؤمن حين يُسأل: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، فيُقال له: نم، قد علمنا إن كنت لمؤمنًا، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره، يُفسح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وطيبها، ويرى مقعده من الجنة، ومقعده من النار. والكافر والمنافق بخلاف ذلك؛ إذا قيل له: مَن ربك؟ قال: هاه! هاه! لا أدري، سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلتُه. وهكذا يقول عندما يُسأل عن دينه وعن نبيه، قال: فيُضرب بمرزبَّةٍ من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسانُ لصعق، وفي لفظٍ: إلا الثقلين.

فهذا يدل على أنه يُمتحن عمَّا كان عليه قبل الموت، وأن التَّلقين لا وجهَ له هنا، فالتلقين لا وجهَ له، ولا يُنتفع به؛ لأنه إنما يُعتبر في حقِّه مَا كان عليه في حياته: من إسلام، وإيمان، وتقوى، أو ضدّ ذلك.

والله أعلم.

س: ..............؟

ج: هذا هو الأظهر، نعم.

س: ..............؟

ج: عبدالله بن أُبي بن سلول المنافق المعروف، النبي صلَّى عليه يرجو أنَّ الله ينفعه بذلك، لم يعلم كفره، فرجا له ذلك، وكساه قميصًا بعد الموت، حتى أخبر الله في حقِّه: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فعُلم بهذا أنَّ مَن عُرف نفاقه لا يُصلَّى عليه كالكافر.

س: الاستغفار بالنسبة للميت كم يستغفر؟

ج: ما ورد شيء، يدعو له بما تيسر.

س: مدة الوقوف على القبر؟

ج: ما فيه مدة، ما تيسر، وفي حديث عمرو بن العاص الذي رواه مسلم، لما قال لأصحابه: "إذا فرغتم من دفني فقفوا عند قبري قدر ما تُنحر الجزور ويُقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أُراجع رسل ربي"، هذا قاله باجتهاده رضي الله عنه، ولكن لا نعلم لهذا أصلًا في الشرع إلا ما بيَّنه النبيُّ ﷺ من الوقوف والدُّعاء.

س: نقل الشيخ النووي عن الشافعي استحباب قراءة القرآن بعد الدفن؟

ج: هذا لا أصلَ له، وقول الشافعي هذا ليس بجيدٍ، وكل أحدٍ يُؤخذ بقوله ويُترك: الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم، كل واحدٍ مع جلالته وعلمه العظيم وفضله له أخطاء وأغلاط، فيُؤخذ من قوله ما وافق الشرع المطهر، ويُترك من قوله ما خالف ذلك، كغيره من العلماء.

س: ............؟

ج: يحتاج تأمُّلًا ومُراجعة "تهذيب التَّهذيب"؛ لأنه قد يقع له أوهام في "التقريب" رحمه الله، يقول: هو صدوق، وهو ثقة، وقد وقع في مثل هذا غير واحدٍ، له أوهام.

584- وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

زَادَ التِّرْمِذِيُّ: فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ.

585- زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا.

586- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

587- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

588- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ لَا نَنُوحَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

589- وَعَن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

590- وَلَهُمَا نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.

الشيخ: قد ذكر المؤلفُ هنا أحاديث متفرقة في المعنى، وكلها لها تعلق بالجنائز، فإنَّ أحكام الجنائز متعددة ومتنوعة، ومما يتعلق بها زيارة القبور؛ فإنَّ هذا بعد الموت والدَّفن، فهذا من الأحكام التي تتعلق بالأموات والجنائز بعد الدفن.

فالسنة زيارة القبور؛ لما ثبت في الحديث المرفوع؛ حديث بريدة ، بُريدة بن الحصيب الأسلمي: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، وفي لفظٍ: فإنها تُذكر الآخرة، وفي لفظٍ: تُذكر الموت، وفي لفظٍ: تُزهِّد في الدنيا.

فالحديث جمع بين الناسخ والمنسوخ: ذكر الناسخ: فزوروها، والمنسوخ هو النَّهي عن زيارة القبور، فدلَّ ذلك على أنَّ الشرع استقرَّ على زيارتها وشرعية ذلك؛ لما في هذا من المصالح.

وكان النبي ﷺ نهى عنها أولًا؛ لأنَّ الناس كانوا حديثي عهدٍ بالغلو بالأموات وتعظيم أهل القبور ودعائهم والضَّراعة إليهم ونحو ذلك، فكان من حكمة الله سبحانه أن نهى عن زيارة القبور سابقًا؛ لأنهم حُدثاء عهدٍ بالشرك والكفر والتَّعلق بالأموات، فنُهوا عن زيارتها حتى تنقطع تلك العلق وتلك الرَّوابط بينهم وبين الأموات من جهة الغلو، ويعلموا أنهم لا يملكون شيئًا، ولا ينفعون مَن يتعلق بهم، فلما استقرَّ هذا في قلوبهم، وأنَّ العبادة لله وحده، وأنه سبحانه هو الذي ينبغي أن يُدعا ويُسأل، وأن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ شرع الله الزيارة بعد ذلك؛ لما فيها من الخير؛ ولزوال المحذور، فقد عرف الناسُ التوحيدَ، وعرفوا الحقَّ، وعرفوا شأن الأموات، وأنهم فُقراء إلى ربهم، وأنهم في حاجةٍ إلى دعاء الأحياء لهم، واستغفارهم لهم، فليس من شأنهم أن يتعلق عليهم.

فشرع الله الزيارة للمصالح التي فيها: من ذكر الآخرة، وذكر الموت، وذكر الجنة والنار، وذكر عذاب القبر، إلى غير ذلك، فصارت هذه المصالح راجحةً على مصلحة النَّهي؛ فلهذا جاءت الأحاديثُ بشرع الزيارة، وأن نأتي إليها؛ لما فيها من المصالح: من تذكير الآخرة، وتذكير الموت، والتزهيد في الدنيا، وغير ذلك.

تقدم حديثُ أبي هريرة: أكثروا من ذكر هادم اللَّذات الموت، وفي بعض الروايات: فإنه ما ذُكر عند قليلٍ إلا كثَّره، ولا عند كثيرٍ إلا قلَّله، ولا عند ضيقٍ إلا وسَّعه، ولا عند سعةٍ إلا ضيَّقها.

فإن ذكر الموت وذكر الآخرة يُزهد في الدنيا بلا شكٍّ، ويجعل المالَ القليلَ كثيرًا؛ لأنه يقول: لا أدري هل آكله أو ما آكله؟ هل أنفقه أو ما أنفقه؟ فيراه كثيرًا في تقريب الأجل، والكثير يكون قليلًا؛ لأنه يقول: ما له قيمة، لا أدري ماذا آكل منه؟ فلا أهميةَ له.

ثم ينبغي أن يُعلم أنَّ هذه الزيارة هي الشَّرعية؛ زيارة لذكر الآخرة، وذكر الموت، وذكر الدنيا، وفيها الدُّعاء للأموات، والإحسان إليهم ورحمتهم، هذه هي الزيارة الشرعية كما يأتي، كان يُعلَّم أصحابه إذا زاروا القبورَ أن يقولوا: "السلام عليكم .." إلى آخره، فهي في الحقيقة إحسان للأموات، ودعاء لهم، وترحم عليهم، مع ما فيها من ذكر الآخرة، وذكر الموت، وذكر الدنيا.

وهناك زيارة بدعية أحدثها عبَّادُ القبور وأهلُ الغلو والجهلة، وصاروا فيها إلى ما كان عليه المشركون الأوَّلون، وهي الأمور التي حذَّرها النبيُّ ﷺ، ونهى عن الزيارة أولًا خوفًا منها، وهي هذه الزيارة البدعية: أنهم يزورونها لقصد دعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، والتوسل بقبورهم، والقراءة عند قبورهم، والصلاة عندها، هذه بدعة.

وقد ذكر ابنُ القيم رحمه الله في "الإغاثة" ذكر بحثًا جيدًا في هذا، وبيَّن أنَّ الزيارة التي عليها الناسُ اليوم من أهل البدع ضدّ ما عليه الرسولُ وأصحابه، وضدّ ما جاءت به السنةُ؛ فقد عكسوا القضية، ونابذوا القضية، فكأنهم أمروا بنفس ما يُخالف شرع الله ، فصاروا يزورونها لدعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، وطلبهم المدد، والجلوس عند قبورهم للدعاء والصلاة عندها، أو التَّمسح بترابها، أو ما أشبه ذلك.

وهذا من المنكر، وهو خلاف ما جاءت به الشريعة؛ فدعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، وطلب المدد منهم كفر وضلال، والجلوس عندهم للصلاة عند القبور -يرون أنَّ الصلاة عندها أفضل- بدعة، وهكذا الجلوس عندها للدعاء أو القراءة بدعة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك، فلا تُتَّخذ مساجد: لا بالصلاة عندها، ولا بالقراءة عندها، ولا بالدعاء عندها، والجلوس عندها، ولكن يُسلّم عليهم ويدعو لهم وينصرف.

والحديث الثاني حديث أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ لعن زائرات القبور.

هذا المعنى جاء في عدة أحاديث، وإسناده عند الترمذي جيد، وابن حبان أيضًا، ورواه أيضًا أهلُ السنن عن ابن عباسٍ، ورواه ..... من حديث حسان بن ثابت من النَّهي عن زيارة القبور للنِّساء.

فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على النَّهي عن زيارة القبور للموتى، وأن الزيارة خاصَّة بالرجال، وجاء في بعض روايات أم عطية: أنهم نُهوا عن اتِّباع الجنائز. فهذا كله يدل على أنَّ الزيارة غير مشروعةٍ للنساء، ولكنها من شأن الرجال.

قال بعضهم: ولعلَّ ذلك لأنهنَّ قليلات الصبر، كثيرات الجزع، فلو شُرع لهن الزيارة لظهر منهن ما لا ينبغي من الجزع عند القبور وقلة الصبر والنِّياحة وغير ذلك، فمن حكمة الله أن منعهنَّ ذلك؛ حتى لا يقع هذا الشرُّ.

وقد رأى النبيُّ ﷺ امرأةً تبكي عند قبرٍ، فقال لها: اتَّقي الله واصبري، فقالت: إليك عنك، فإنك لم تُصَبْ بمثل مُصيبتي! فأعرض عنها، وبُلِّغت أنه رسول الله ﷺ، فجاءت إليه، واعتذرت إليه، جاءت إلى بيته فقالت: ما عرفتُك يا رسول الله، فقال: إنما الصبرُ عند الصَّدمة الأولى.

بيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ الواجب عند وجود المصيبة الصبر والثَّبات وعدم الكلام أو الفعل الذي لا ينبغي.

وأما حديث عائشة: أنها قالت: يا رسول الله، ماذا أقول إذا زرتُ القبور؟ قال: قولي: السلام عليكم .. إلى آخره، هذا والله أعلم كان قبل النَّهي، فإنَّ الرسول ﷺ نهى عن زيارة القبور، ثم أذن بالزيارة مطلقًا، ثم جاءت الأدلةُ دالةً على النَّهي عن زيارتها للنساء، فلعلَّ هذا الذي قالت عائشةُ: فماذا أقول؟ حين كان الإذنُ عامًّا، فلما جاء التَّخصيصُ لهن بالمنع مُنعن من ذلك، ولم يكن لهن زيارة بعد ذلك؛ لهذه الأحاديث الصَّريحة في المقام، وحديث عائشة محتمل، والمحتمل لا يتعارض به النصوص الصريحة، ثم قاعدة: أنَّ الخاصَّ يقضي على العام، فأحاديث شرعية الزيارة عامَّة، وهذا خاصٌّ، فيدل على تخصيصه بالمنع، وأن الزيارة التي شرعها للرجال خاصَّة.

والحديث الثالث حديث أبي سعيدٍ: أن النبي لعن النَّائحة والمستمعة.

هذا يدل على أنها من الكبائر، وأنه لا يجوز النوح والاستماع للنوح؛ لما فيه من الشرِّ والجزع وقلة الصبر وإيذاء الميت، فلا يجوز، ولكن سنده فيه بعض الضَّعف، ولكن يتقوى بحديث أم عطية، أنها قالت: أخذ علينا رسولُ الله ألا ننوح. يعني: في البيعة، وهو متَّفق عليه، فهذا يدل على تحريم النِّياحة، وأنه مما أُخذ عليهن في البيعة: ألا ينحن، وما ذاك إلا لأنهن اعتدن هذا، ويقلّ صبرهن عند ذلك؛ ولهذا جاءت بعض الروايات أنها قالت: فما وفَّى منهن إلا فلانة وفلانة. يعني: أغلبهن لم يفي؛ لاعتيادهن النِّياحة وقلة صبرهن.

وفي حديث أبي مالك الأشعري: أن النبي قال: أربعٌ في أمتي من أمور الجاهلية، لا يتركونهنَّ: الفخر بالأحساب، والطَّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، فهي من خصال الجاهلية التي قلَّ أن يتركها الناسُ؛ لكثرة الدَّواعي إليها: من مجاملةٍ، ومن محبَّةٍ، ومن غير ذلك.

قال: والنَّائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرعٌ من جربٍ، فهذا يُؤيد أحاديث اللَّعن، وأنَّ هذا من الكبائر؛ لأنه وعيد كبير فيمَن مات على النِّياحة، نسأل الله العافية.

وفي حديث أبي مالكٍ النَّهي عن الطَّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والفخر بالأحساب، وأنَّ هذه كلها من صفات أهل الجاهلية التي يجب تجنبها والحذر منها، وأنَّ خصالهم مذمومة إلا ما أقرَّه الشرع.

والحديث الرابع: حديث ابن عمر، وحديث المغيرة أيضًا الخامس في النَّهي عن النِّياحة، وأنَّ الميت يُعذَّب بما ناح أهله عليه. فدلَّ ذلك على أنه ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يحذر هذا الشيء، وألا ينحن، فإنَّ هذا يُسبب شرًّا على قريبهن الميت أو صديقهن.

فالحاصل أنَّ الميت يُعذَّب بنياحة أهله عليه، أما كيفية التَّعذيب فالله أعلم، قد جاء في بعض الروايات ما يدل على أنه يُوبَّخ: أنت كذا؟! أنت كذا؟! أنت كذا؟! كما جاء في رواية أبي موسى الأشعري، فإنه أُغشي عليه ذات يومٍ، فناح بعضُ أهله، فلما أفاق قال: ما قلتنَّ شيئًا إلا قيل لي: أأنت كذا؟! أأنت كذا؟! وحديث: أنا بريءٌ من الصَّالقة والحالقة والشَّاقة رواه أبو موسى.

فالصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشقُّ ثوبها عند المصيبة، هذا كله من المحرمات الكثيرة، يجب الحذر منها.

وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ الذنب إذا تبرأ منه النبيُّ ﷺ فمعناه أنه كبيرة، قال: أنا بريء، والمشهور عند العلماء أنَّ الكبيرة ما جاء فيها اللَّعن والوعيد بالنار، أو الغضب، أو فيها حدٌّ في الدنيا، ولكن ألحق بعضُ أهل العلم ما فيه براءة: أنا بريء من كذا، أو نفي الإيمان.

وبكل حالٍ، فهو منكر ومحرَّم يجب الحذر منه مطلقًا، سواء سُمِّي كبيرةً، أو ما سُمي كبيرة، كل ما نهى الله عنه ورسوله يجب اجتنابه، لكن إذا كان ما يدل على أنه من الكبائر صار اجتنابه أوكد، والحذر منه أعظم.

ثم فيه التَّنفير من النياحة إذا كان المقصود محبَّته ..... فكيف ترضى أن تعمل شيئًا يضرّه وهو حبيبه، هذا مما يُنفر عن النياحة عليه؛ إذا علم القريبُ والصديقُ أن نياحته تضرّ قريبه وصديقه كان هذا مما يُنفره، ومما يُسبب بعده عن هذا الذنب؛ لئلا يضرّ قريبه أو صديقه من حيث يرى أنه محسنٌ في النياحة عليه.

والله المستعان.

س: .............؟

ج: المراد بالصدقة هنا الأُعطية.

س: الصلاة على الجنازة في المقبرة؟

ج: ما فيها بأس، النبي صلَّى على القبر.

س: الإنسان يُعذَّب بفعل غيره؟

ج: هذا شيء خاصٌّ والله أعلم، خاصٌّ مُستثنًى من قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. وقال بعضُ أهل العلم: حمله إذا كان من عادتهم ولم ينههم ولم يُوصهم بالتركة. وبعضهم حمله على أنه إذا أوصى بالنياحة، ولكن كل هذا لا وجهَ له، فالصواب إطلاق الحديث كما أطلقه النبيُّ ﷺ، فالله جلَّ وعلا أعدل وأحكم .

............

591- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ ﷺ تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

592- وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي "مُسْلِمٍ"، لَكِنْ قَالَ: زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ.

593- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ.

594- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

595- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ.

596- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

597- وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ المُغِيرَةِ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ.

الشيخ: هذه الأحاديث هي بقية كتاب الجنائز، وقد جمع فيه المؤلفُ رحمه الله أحاديث كثيرةً مناسبة مفيدة في المقام، فجزاه الله خيرًا ورحمه.

الحديث الأول حديث أنسٍ : أنه رأى النبيَّ ﷺ حين دفن إحدى بناته ورأى عينيه تدمعان.

هذا يدل على أنه لا بأس بالبكاء، ولا حرج في ذلك، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أنه لا بأس بالبكاء، وإنما الممنوع النياحة، وما جاء من النَّهي عن البكاء فالمراد به النياحة؛ لأنَّ البكاء يُطلق على النَّوح، رفع الصوت يُطلق على دمع العين، مُشترك، فما جاء من النَّهي فالمراد به ما يتعلق بالنياحة، وما جاء من الإباحة فالمراد به ما يتعلق بدمع العين وحزن القلب، فهذا هو الجائز.

وقد ثبت في الصحيح كما تقدم قصة زيارة النبي ﷺ لإحدى بناته وعندها صبيٌّ في الموت، فلما رآه ﷺ نفسه تقعقع، أو قال: تقلقل، كما في الرواية الأخرى: دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له بعضهم -كان معه سعد بن عبادة وعبدالرحمن بن عوف وجماعة- ما هذا يا رسول الله؟! قال: إنها رحمة، فإنَّ دمع العين رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء.

وكانت ابنته بعثت إليه وأخبرته أنَّ ولدها في الموت، وطلبت أنه يأتي، فقال للرسول: قل لها تصبر ولتحتسب، فإنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمَّى، فردت عليه الرسول وأقسمت عليه أن يحضر عليه الصلاة والسلام، فأجابها، وكان لطيفًا رحيمًا عليه الصلاة والسلام، فقام إليها ومعه جماعةٌ من الصحابة، فقدَّموا إليه الصبي وهو في الموت، فلما رأى حاله بكى عليه الصلاة والسلام، ودمعت عيناه، فقيل له في هذا، فقال: إنها رحمة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء.

في هذا ما يحسُن أن يُقال لمن حضره الأجلُ لأصحابه، أو لمن مات قريبهم: "لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمَّى"، ويُوصَى بالصبر والاحتساب، كما فعل النبيُّ ﷺ مع بنته.

وفي هذا أنَّ أنسًا رآه عند دفن بنته وعيناه تدمعان، وهذه البنت قيل: إنها أم كلثوم، ويحتمل أنها زينب، أما رقية فكان حين دفنها في بدر عليه الصلاة والسلام، خلَّف من أجلها عثمان، أما هذه التي حضرها فيحتمل أنها أم كلثوم، ويحتمل أنها زينب امرأة أبي العاص.

وفيه من الدلالة مثلما تقدم: من جواز البكاء، وأنه لا حرج فيه، وإنما النهي عن النياحة كما تقدم.

والحديث الثاني حديث جابرٍ: أن النبي ﷺ قال: لا تدفنوا موتاكم ليلًا إلا أن تضطروا رواه ابن ماجه، وأصله في مسلم، لكن بلفظ: زجر أن يُقبر الرجلُ بالليل حتى يُصلَّى عليه.

حديث جابر هذا عند ابن ماجه ضعيف؛ فإنه أخرجه ابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، عن عطاء، عن جابرٍ. وإبراهيم هذا عندهم ليس بشيءٍ، ساقط، متروك الحديث، متَّهم بالكذب، والحديث هذا ضعيف، رواية ابن ماجه هذه ضعيفة، لا يُعول عليها.

أما رواية مسلم فقد رواها مسلمٌ رحمه الله، وفي أولها أنه خطب الناسَ عليه الصلاة والسلام، وذكر رجلًا من أصحابه قُبر ودُفن وكُفن بكفنٍ غير طائلٍ، فزجر رسولُ الله ﷺ أن يُقبر الرجلُ حتى يُصلَّى عليه. وفي لفظٍ: "حتى يُصلِّي عليه" ضبطه بعضُهم بكسر اللام، يعني: حتى يُصلي عليه النبيُّ ﷺ؛ لأنه قال لهم: لا يموتن أحدٌ منكم وأنا بين أظهركم إلا آذنتُموني؛ حتى أُصلي عليه، فإنَّ صلاتي عليه رحمة أو كما قال عليه الصَّلاة والسلام.

فعلى هذا اللام مكسورة: "حتى يُصلِّي عليه"، وهكذا ضبطه الحافظُ رحمه الله، وضبطه آخرون بفتح اللام: "حتى يُصلَّى عليه"، يعني: حتى يُصلِّي عليه المسلمون، ولا يُستعجل في دفنه في الليل؛ لأنه قد يموت أثناء الليل فلا يُصلي عليه إلا قليلٌ من الناس، فالأولى أن يُؤخَّر حتى يُصلي عليه المسلمون الفجر؛ لما في صلاتهم والكثرة عليه من الخير والدُّعاء الكثير.

وسبق قوله ﷺ: ما من مسلمٍ يُصلي عليه أربعون رجلًا لا يُشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه رواه مسلم.

وسبق أن ذكرتُ لكم حديثًا رواه مسلم في "الصحيح" عن عائشة: أن النبي قال: ما من مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أمةٌ من الناس يبلغون مئة، كلهم يشفعون فيه؛ إلا شفَّعهم الله فيه.

الحاصل أنَّ كثرة المصلين أمر نافع للميت؛ لما فيه من الدُّعاء له، فإذا تيسر أنه يُؤخر حتى يُصلي عليه جمٌّ غفير فهذا هو الأفضل؛ ولهذا زجر أن يُدفن في الليل حتى يُصلَّى عليه، أو حتى يُصلِّي عليه، من حرص النبي ﷺ على أن يُجاب له دعاء المسلمين وشفاعتهم.

زاد مسلم: "إلا أن يضطر إنسانٌ إلى ذلك"، هكذا، وكان ينبغي للمؤلف أن يذكرها هنا، حذفها المؤلفُ، وكأنه سهو؛ لأنَّ ذكرها مناسب، زاد مسلم: "إلا أن يضطر إلى ذلك"، فإذا اضطرَّ فلا بأس أن يدفنه ليلًا، وإن لم يُؤخره إذا صلَّى عليه واحدٌ أو أكثر كفى، لكن تأخيره إلى أن يُصلي عليه المسلمون أولى وأفضل.

وقوله: "حتى يُصلِّي عليه" ظاهره في أنه إذا كان صُلِّي عليه فلا زجر، وأما الزجر أن يُدفن ليلًا بدون الصلاة عليه، أو يُكفن بكفنٍ غير كافٍ؛ ولهذا قال بعده في رواية مسلم: إذا كفَّن أحدُكم أخاه فليُحسن كفنه.

فالحاصل أنَّ مجموع الأحاديث تُفيد أنه من الأفضل أن تُؤخر الصلاة عليه إذا كان تأخيرها أكمل في تكفينه وفي الصلاة عليه، فإذا اضطرَّ إلى ذلك فلا بأس: كأن يكون خائفًا لا يستطيع البقاء، أو يخشى نتن الميت، أو ما أشبه ذلك مما تدعو الضَّرورة إلى المبادرة به ودفنه بالليل وعدم انتظار الجماعة في الفجر.

أما إذا مات في أول الليل وأمكن أن يُصلَّى عليه في المغرب أو العشاء فلا كراهةَ؛ لأنَّ الصلاة حاصلةٌ عليه، ومما يدل على هذا ما رواه مسلم في "الصحيح" عن عقبة بن عامر قال: "ثلاث ساعاتٍ نهى رسولُ الله أن نُصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا"، منها: "وحين تضيف الشمسُ للغروب حتى تغيب"، تقدم لكم في باب المواقيت.

هذا يدل على أنه إذا غابت زال النَّهي، وأن الصلاة عليه بعد الغروب والدَّفن بعد الغروب لا حرجَ فيه ولا كراهةَ فيه، وإنما الكراهة أن يُدفن عند الغروب، أو يُصلَّى عليه عند الغروب.

وبهذا يُعلم أنَّ ما في حديث جابر الذي رواه ابن ماجه ضعيف ومنكر، وأن قول النبي: "زجر أن يُقبر الرجلُ حتى يُصلَّى عليه" أنَّ المراد كونه يُدفن ليلًا من دون صلاةٍ عليه، أو من دون كفنٍ كافٍ، هذا هو محل النَّهي، فإذا حصلت الصلاةُ عليه وكفنه مناسب فلا كراهةَ في ذلك، وقد دفنوا النبيَّ ﷺ ليلًا، ودُفن الصديقُ ليلًا، وعمر ليلًا، وعثمان ليلًا، رضي الله عنهم وأرضاهم.

والحديث الثالث: حديث عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، ابن أخي علي، فإنَّ أولاد أبي طالب على المشهور أربعة: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، أصغرهم علي، ثم يليه جعفر، ثم يليه عقيل، ثم يليه طالب، أسلم ثلاثةٌ، وبقي طالب على دين قومه، ومات على دين قومه.

 

ومن اللَّطائف والغرائب كما ذكر النَّسابون والمؤرخون: أنَّ بين كل اثنين عشر سنين: بين عقيل وطالب عشر، وبين عقيل وجعفر عشر، وبين جعفر وعلي عشر، وجعفر هو الذي ذهب إلى الحبشة مهاجرًا، ومعه جماعة من المسلمين، وقابلوا النَّجاشي، وتلا عليه القرآن، وأسلم على يديه النَّجاشي رضي الله عن الجميع.

فيه أنه لما جاء نعي جعفر أمر النبيُّ ﷺ أن يُصنع لأهل جعفر طعام، قال: إنه أتاهم ما يشغلهم، وكان هذا في عام مُؤتة سنة ثمانٍ من الهجرة، فإنَّ النبي ﷺ بعث جيشًا إلى مؤتة، إلى الروم، ومؤتة هذا محلّ في الأردن معروف الآن، فقابلوا جيش الروم هناك، والروم لما بلغهم الخبر استعدُّوا لهم في جيشٍ كثيرٍ، قيل: ستون ألفًا. وقيل: مئة وعشرون ألفًا. والتقى المسلمون مع جيش الروم، وكان جيشُ المسلمين ثلاثة آلاف كما ذكر ابن إسحاق وغيره، ثلاثة آلاف مقاتل، فقابلوا جيشًا يبلغ ستين ألف مقاتل، أو مئةً وعشرين ألف مقاتل، وجرى ما جرى، وقُتل أمير الجيش زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، كان هو الأمير، وهو مولى عتيق النبي ﷺ، أمره عليهم ليعلم العربُ والمسلمون أنه لا كرمَ إلا بالتقوى، وأنه لا بأس أن يُولى المولى على بني هاشم وعلى غيرهم من الكبار.

فأمَّر زيدًا وقال: إن قُتل فأميركم جعفر، فإن قُتل جعفر فأميركم عبدالله بن رواحة، فقُتل الأمراء الثلاثة: قتل زيد، ثم قتل جعفر، ثم قتل عبدالله بن رواحة، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد أن يكون أميرًا لهم، فتصرف خالد في الموضوع وغيَّر في الجيش كما ذكروا، وقابل الروم مقابلةً عظيمةً، وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وسبى منهم سبيًا، ثم انحاز كلٌّ إلى مخيمه وإلى مُعسكره، وتوقف القتالُ بينهم.

المقصود أنَّ جعفرًا لما جاء نعيُه ونعيُ صاحبيه -عبدالله بن رواحة وزيد بن حارثة- أمر النبيُّ ﷺ أن يُصنع لآل جعفر طعامًا، وقال: إنه أتاهم ما يشغلهم، يقال: شغل يشغل، هذا أفصح، ثلاثي، وأشغل بالرباعي، وهو غير الأفصح، من هذا قوله تعالى: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11]، فالثلاثي أفصح من الرباعي.

وهذا يدل على استحباب مساعدة أهل الميت بالطعام؛ لأنهم مشغولون، مصابون، فيُستحب أن يُصنع إليهم طعامٌ من أقاربهم أو جيرانهم؛ رحمةً لحالهم، ورفقًا بهم، وجبرًا لمصابهم، أما هم لا، أما هم لا يُستحب لهم أن يصنعوا طعامًا للناس، أما لأنفسهم فلا بأس، إن صنعوا لأنفسهم فلا بأس، أما أن يجمعوا الناس على طريقة الجاهلية؛ يجمعوا الناس على طعامٍ لهم، ويُقيموا النياحة والنَّوح والمأتم، هذا من عمل الجاهلية، ومن المؤسف أنَّ هذا واقع في كثيرٍ من الناس على طريقة الجاهلية، وهو منكر.

ولهذا روى أحمد بإسنادٍ جيدٍ وابن ماجه عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: "كنا نعدّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدَّفن من النياحة"، يعني: من نياحة الجاهلية المعروفة.

فهذا يدل على أنه لا يجوز لأهل الميت أن يصنعوا طعامًا للناس ويجمعوا الناس على القراءة، أو على البكاء، أو على غير ذلك، بل عليهم الصبر والاحتساب، وتقبل المعزين بالصبر والاحتساب والدعاء، وأما أن يجمعوا الناس على طعامٍ أو لعبٍ أو غير ذلك، أو قراءةٍ أو غير ذلك؛ فليس هذا من أمر الإسلام، بل من أمر الجاهلية كما قال جرير رحمه الله.

س: ............؟

ج: إذا صنعوا يُنكر عليهم ويُعلَّمون، ما من بدعةٍ وشرٍّ إلا والغالب موجودة هنا، وفي غير الرياض، لا بدَّ من قيام أهل العلم بإنكار المنكر، وتوجيه الناس إلى الخير، مَن علم شيئًا يُنكره، مَن علم شيئًا من المنكر يُنكره ويُوجه الناس إلى الخير؛ لأنَّ بعض الناس قد يحمله الجهلُ وعدم العلم.

الحديث الثالث حديث بريدة في زيارة القبور: أنَّ النبي ﷺ قال: كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تُذكركم الآخرة، وفي لفظٍ: فإنها تُذكر الموت، وفي لفظٍ: فإنها تُزهد في الدنيا.

حديث بريدة جاء بروايات، وقد جمع فيه النبيُّ ﷺ بين النَّاسخ والمنسوخ: المنسوخ النَّهي عن الزيارة، والناسخ: الزيارة، فالنبي عليه السلام كان نهاهم عن الزيارة لما كانوا حديثي عهدٍ بالجاهلية، وحديثي عهدٍ بالغلو بالقبور والأموات، نهاهم الله عن ذلك حتى يستقرَّ التوحيدُ في قلوبهم، وحتى تستقر كراهةُ أمر الجاهلية في قلوبهم، فلما استقرَّ التوحيدُ وعرفوا الشركَ وأُمِنت الفتنةُ أمرهم النبيُّ ﷺ بزيارة القبور؛ لما فيها من العظة والذِّكرى، مع زوال المحذور.

فزيارة القبور فيها ذكرى وموعظة وتذكير بالموت وبالآخرة، وتزهيد في الدنيا، مع السلامة من المعارض؛ فلهذا شُرعت الزيارة، وكانت الزيارةُ عامَّةً، ثم خُصَّ النساء بالنَّهي عنها؛ لما لديهن من الجزع وقلة الصبر؛ ولأنهن فتنة، فنُهين عن زيارة القبور؛ لئلا يترتب عليها فتنة للرجال أو لهن وللرجال جميعًا، وبقيت الزيارةُ للرجال فقط؛ لحديث بُريدة هذا وما جاء في معناه.

وقد جاء في الباب أحاديث تدل على شرعية الزيارة للرجال، وأنهم يزورون القبورَ، ويدعون للموتى، ويُسلمون عليهم، فالزيارة فيها مصالح للزائر والمزور وأهل الميت.

وجاء في حديث عائشة: أنه عليه السلام كان يزور القبور ويدعو لهم ويقول: اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، ويقول: اللهم ارحم المستقدمين منا والمستأخرين.

وهنا في حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي ﷺ كان يُعلِّمهم أن يقولوا: السلام عليكم .. إلى آخره.

هذا يدل على شرعية الزيارة، وأنها قُربة إلى الله ، وفيها مصالح وفوائد، وكان يُعلمهم أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وفي رواية مسلم: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. وفي حديث عائشة: يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.

فالسنة للمسلمين أن يزوروا القبور، وأن يُسلموا على أهلها، وأن يدعوا لهم بالمغفرة والرحمة، هذا إذا كانوا مسلمين، أما إذا كانت المقبرةُ مقبرة كفارٍ فتُزار للاعتبار فقط، لا يُسلم عليهم، ولا يُدعا لهم، لكن للاعتبار وذكر الموت، كما زار النبيُّ قبر أمه عليه الصلاة والسلام، وأُذن له في ذلك، ونُهي عن الاستغفار لها عليه الصلاة والسلام.

ومجموع الروايات أنه يُقال لهم: "نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لهم وارحمهم"، فكل هذا مما جاء في الروايات عند زيارات القبور.

والحديث الرابع: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه مرَّ بقبور المدينة فسلَّم عليهم، قال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر".

هذا فيه دلالة على أنه إذا مرَّ بالقبور وإن لم يقصد زيارتها فإنه يُسلم عليهم؛ لما فيه من الخير العظيم له ولهم، فإذا مرَّ على القبور يُسلم عليهم ويقول: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، وإن قال ما في حديث سليمان بن بُريدة عن أبيه كما تقدم فحسنٌ وأثبت، حديث بريدة وحديث عائشة أثبت.

وحديث ابن عباسٍ هذا رواه الترمذي من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس. وقابوس فيه كلام لأهل العلم؛ قال فيه صاحب "التقريب": إنَّ فيه لينًا. فالحديث في سنده لين، وحديث بريدة المتقدم وحديث عائشة وما جاء في معناهما أثبت وأصح.

فيُستحب أن يقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين"، أو "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم .." إلى آخره، حسبما ورد في النصوص.

ويكون في هذه الزيارة عنده اتِّعاظ، وتذكر للموت، وتذكر للآخرة، ومصير هؤلاء الأموات، وأنه صائر إلى ما صاروا إليه، وأنَّ وراءه ما وراءهم من أمر الحساب والجزاء والجنة والنار؛ حتى يكون ذلك أقرب إلى تأثره بهذه الزيارة، والله المستعان.

الحديث الأخير حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبيَّ ﷺ قال: لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا ما قدَّموا أخرجه البخاري رحمه الله، ورواه الترمذي عن المغيرة وزاد: فتُؤذوا الأحياء.

هذا يدل على تحريم سبِّ الأموات، فلا يجوز سبُّهم؛ لأنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا، وقد لقوا ما قدَّموا من خيرٍ وشرٍّ، فلا حاجةَ إلى سبِّهم وقد انقطعت أعمالهم، فلا وجهَ لسبِّهم؛ ولأنَّ سبَّهم قد يُفضي إلى فتنةٍ وإيذاءٍ لأقاربهم، وشرٍّ بين السَّابِّ وبين الأقارب كما في رواية المغيرة، لكن إذا كان في سبِّهم مصلحة في التَّنفير من أعمالهم السَّيئة فلا بأس أن يُذكروا بعيوبهم للتَّنفير.

وعلى هذا يُحمل ما جاء في الحديث الصحيح: أنه مُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها شرًّا فقال: وجبت يعني: النار لها، ولم يُنكر عليهم ثناءهم عليها شرًّا، فلعلَّ هذا كان لأنَّ هؤلاء الذين أُثني عليهم شرّ يُخشى أن يُقتدى بهم في شرِّهم؛ لأنَّ لهم أعمالًا سيئةً قد أعلنوها؛ فلهذا أُثني عليهم شرّ للحذر من شرِّهم وأعمالهم الخبيثة.

فإذا عابهم وتكلَّم في أعمالهم الخبيثة لا لقصد سبِّ الأموات، ولكن لقصد تنفير الأحياء من أعمالهم السَّقيمة فلا بأس بهذا؛ جمعًا بين الأخبار الواردة في هذا الباب.

وقد راجعتُ "جامع الترمذي" رحمه الله في التماس حديث المغيرة فلم أجده في "الجنائز"، التمستُه من أولها إلى آخرها فلم أجد رواية المغيرة بزيادة: فتُؤذوا الأحياء، فلعلَّ أحدًا منكم يلتمسه لعله رواه في "الأدب"، لعله ذكره في موضعٍ آخر غير الجنائز.

كذلك كنتُ أحفظه أنه جاء في بعض الروايات: أن عكرمة بن أبي جهل لما أسلم قال النبيُّ للناس: لا تُسْمِعُوه في أبيه إلا خيرًا، أو لا تُسمعوه في أبيه شيئًا، فيُلتمس هذا أيضًا.

أنا لا أدري: هل هو صحيح أو ما هو بصحيحٍ؟ هكذا مرَّ بي منذ دهرٍ طويلٍ، ولا أذكر حاله الآن، ولعله يُلتمس مع رواية المغيرة هذه، تلتمسونه وتأتون به إن شاء الله.