- وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: أن النبيَّ ﷺ كان ينهى عن النَّعي.
رواه أحمد, والترمذي وحسنه.
- وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبيَّ ﷺ نعى النَّجاشي في اليوم الذي مات فيه, وخرج بهم إلى المُصلَّى، فصفَّ بهم, وكبَّر عليه أربعًا. متفقٌ عليه.
- وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: ما من رجلٍ مسلمٍ يموت, فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشركون بالله شيئًا؛ إلا شفَّعهم الله فيه. رواه مسلم.
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الثلاثة: الأول والثاني فيما يتعلق بالنَّعي، والثالث فيما يتعلق بكثرة المصلين على الجنازة.
حديث حذيفة يدل على النَّهي عن النَّعي، وأنه لا يجوز؛ لأنه من عمل الجاهلية، وهكذا روى الترمذي وجماعةٌ عن ابن مسعودٍ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: إيَّاكم والنَّعي، فإنه من عمل الجاهلية.
والحديث بحاله جيد، وإسناده حسن، كما قال الترمذيُّ، وحديث ابن مسعودٍ يُؤيِّده.
والنعي الذي نهى عنه النبيُّ ﷺ هو ما يفعله أهلُ الجاهلية؛ بجعل مَن يُنادي بمجامع الناس في القبائل: مات فلانٌ، مات فلانٌ؛ لإشهار عظمته، وإشهار منزلته، أمَّا كونه يقول لجماعةٍ: صلُّوا على فلانٍ مات، أو يُعلم أقاربه أو جيرانه حتى يحضروا؛ فلا بأس بهذا، بدليل الحديث الثاني أنَّ النبي ﷺ نعى النَّجاشي، يعني: أخبر بموته، فإنه لما تُوفي جاءه الوحي بوفاته فقال للصَّحابة: إنَّ النَّجاشي قد مات، ودعاهم إلى الصَّلاة عليه، فصلُّوا عليه في المصلَّى.
فإخبار الناس وإخبار الجيران والأقارب أنه مات فلانٌ حتى يحضروا لا بأس به، وليس من النَّعي، فالنعي الذي كان يفعله أهلُ الجاهلية هو إعلانه من خلال ركابٍ يطوف على الناس في القبائل، وفي محلاتهم ودورهم: أنَّ فلانًا قد مات؛ إعظامًا لشأنه عند الجاهلية، كأن يكون رئيسَ قومه، أو ما أشبه ذلك.
أمَّا الإعلان عنه في الجرائد فهو محل نظرٍ؛ لما فيه من التَّكلف، فقد يُباح إذا لم يكن فيه تكلُّف، وقد يُمنع إذا كان فيه تكلُّفٌ من أموالٍ طائلةٍ، فهو محل نظرٍ، وليس من نعي الجاهلية، لكن فيه نظر من جهة أنه بلغنا أنه يحتاج تكلُّفًا ونقودًا كثيرةً، فتركه أولى وأحوط، وإذا أراد أن يُعزِّي أهل الميت يكتب لهم كتابًا، أو يُعزِّيهم عن طريق الهاتف، أو يزورهم فيكون أكمل وأكمل.
والحديث الثالث حديث ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، عن النبيِّ ﷺ قال: ما من رجلٍ مسلمٍ يقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشركون بالله شيئًا؛ إلا شفَّعهم الله فيه أخرجه مسلم.
هذا فيه فضلُ كثرة الجمع على الميت، وأنه يُستحبّ تحري المسجد الذي فيه جماعة كثيرة؛ رجاء أن يُشفَّعوا فيه، فيشفعون.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة وأنسٍ رضي الله عنهما: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: ما من رجلٍ مسلمٍ يُصلِّي عليه أمَّةٌ من المسلمين يبلغون المئة، كلهم يشفعون فيه؛ إلَّا شفعوا فيه، وحديث ابن عباسٍ أنَّ الله جلَّ وعلا تفضَّل بأقلَّ من ذلك: أربعون، فكلما كان العددُ أكثر صار أقرب إلى الخير وأكثر للدُّعاء.
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن مالك بن هُبيرة : أن النبي ﷺ قال: ما من ميتٍ يقوم على جنازته ثلاثةُ صفوفٍ إلَّا أوجب يعني: وجبت له الجنة، وكان مالك بن هُبيرة إذا استقلَّهم جزَّأهم ثلاثًا؛ عملًا بهذا الحديث، لكن هذا الحديث في سنده ضعفٌ؛ لأنه من رواية ابن إسحاق، وقد عنعن، وهو مدلس، وروايته إذا عنعن ضعيفة حتى يُصرِّح بالسماع.
فالعُمدة على حديث ابن عباسٍ وأنسٍ وعائشة في كثرة الجمع، وأنهم يصفُّون كما يصفُّ الناسُ في الصلاة: الأول فالأول، وفي حديث جابرٍ في "الصحيحين" قال: صلَّى النبيُّ على النَّجاشي، فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث، يعني: يصفّوا صفوفًا كما يُصلُّون صلاة الجماعة.
وروى أهلُ السنن –عند النَّسائي- عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ ﷺ كان يقف عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة، كما في حديث سمرة الآتي: أنه صلى على امرأةٍ فقام وسطها، فالسنة الوقوف عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة للإمام، وإذا كانوا جماعةً يُقدَّم الرجلُ، ثم الطفل الذكر، ثم الأنثى، ثم الطفلة الأنثى، فيُصلِّي عليهم جميعًا؛ لأن ذلك أسرع، والمقصود إسراع الجنازة؛ لقوله: أسرعوا بالجنازة، فإذا صلَّى عليهم جميعًا كان أسرع في نقلهم إلى قبورهم، وأيسر على الناس أيضًا، فإذا اجتمعوا ولو كثيرين يُقدَّم الأفضل فالأفضل، يُقدَّم الرجلُ، ثم الطفل الذكر، ثم الأنثى، ثم الطفلة، ويقف عندهم الموقف المشروع: عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة، ويكون وسطُها عند رأس الرجل، ورأس الطفل عند رأس الرجل، ورأس الطفلة في الوسط؛ عملًا بالسنة، كما يأتي إن شاء الله.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: إذا مات زميلٌ أو قريبٌ لنا في العمل يُوزِّعون أوراقًا، ويذكرون المكان الذي سيُصلَّى عليه فيه، أو مكان العزاء، فهل في ذلك شيءٌ؟
ج: لا، ما فيه شيء، مثلما فعل النبيُّ ﷺ مع النَّجاشي، فإذا أخبر زملاءه أنه يُصلَّى عليه في الجامع الفلاني، أو يُصلَّى عليه في كذا، فلا شيء في ذلك.
س: صلاة الغائب؟
ج: المشهور أنها خاصَّة بالنَّجاشي، وأجاز بعضُ أهل العلم أنه إذا كان إنسانٌ له شأنٌ في الإسلام -أميرٌ له شأن في الإسلام، أو عالمٌ له شأنٌ في الإسلام- وهو غائبٌ يُصلَّى عليه، ولكن ما بلغنا أنَّ النبي ﷺ صلَّى على غير النَّجاشي، ما جاء من أي طريقٍ صحيحٍ أنه صلَّى على أحدٍ قد مات، والصحابة الكثير منهم في مكة وفي غير مكة، ولم يبلغنا أنه صلَّى على أحدٍ غير النَّجاشي، قال بعضُهم: لعله صلَّى عليه لأنه لم يُصلِّ عليه، أو صلَّى عليه تقديرًا لجهوده العظيمة في إيواء المهاجرين والإحسان إليهم.
فالحاصل أنَّ قول مَن قال بالتَّخصيص له قوة، ولكن إذا فعل مع مَن له شأنٌ في الإسلام مثل النَّجاشي من العلماء الذين لهم شأنٌ في الإسلام، أو الأمراء الذين لهم شأنٌ في الإسلام؛ نرجو أن لا حرج إن شاء الله.
س: النَّجاشي هل يُعَدُّ من الصحابة أو من كبار التَّابعين؟
ج: هو من التابعين؛ لأنَّه ما رأى النبيَّ ﷺ، وإنما رأى الصحابة.
س: يُعَدُّ من كبار التَّابعين؟
ج: من التابعين نعم.
س: مَن قال من العلماء أنَّ الذي يُصلَّى عليه يُعلم أنه لم يُصلَّ عليه في مكانٍ، فإنه يُصلَّى عليه صلاة الغائب؟
ج: هذا بعيدٌ أن يُحاط بهذا الشيء، وهذا نتج عن قول مَن قال أنَّ النَّجاشي صلَّى عليه النبيُّ لأنه ما صُلِّي عليه، وهذا بعيدٌ؛ مَلِكٌ ما يُسْلِم أحدٌ من جماعته وهو ملكٌ مسلمٌ، مستحيل! سيُسْلِمُ معه جماعةٌ كثيرون من أقاربه وزوجته وحشمه، يتأسّون به.
س: ترون أنَّ هذا خاصٌّ بالنَّجاشي؟
ج: يقولون أنَّه خاصٌّ، وهو قولٌ قويٌّ، لكن إذا صُلِّيَ على مَن له شأنٌ في الإسلام لا بأس إن شاء الله، فذلك يُشبه النَّجاشي.
س: في الجرائد يكتبون في بداية الإعلان: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27]؟
ج: كتبنا للإعلام أنَّ هذا لا ينبغي، ما يُدريهم؟! فقط يكتبون: "فلان رحمه الله" ويكفي.
س: هل يكتب: إلى مثواه الأخير؟
ج: مثواه الأخير بالنسبة إلى الدنيا، ولكن ما هو بالأخير، فالأخير هو الجنة أو النار.
س: قوله في حديث ابن عباس: إلَّا شفَّعهم الله فيه ما يمنع أن يُعذَّب المرءُ لأسبابٍ أخرى، حتى لو قُبِلَتْ شفاعةُ هؤلاء الأربعين؟
ج: ظاهر إلَّا شُفِّعوا فيه أنه يشمل هذا، فالظاهر أنَّ الله قبل شفاعتهم وأنَّه يسلم من الأذى كله.
س: حتى لو كان مُقيمًا على بعض المعاصي؟
ج: هذا الظاهر إذا قَبِلَ اللهُ شفاعتهم، فمن شفع أن الله يرحمه ويُنجيه من النار ومن العذاب، هذا مقصوده.
س: إذن يُشرع البحث عن كثرة المساجد في الجنازة؟
ج: على كل حالٍ، كلما كانت المساجدُ أكثر كان أنفع للميت، لعلَّ الله يستجيب لهم.
س: بالنسبة لاستحباب تكثير الصفوف في الصلاة على الميت وإن كانوا قليلين، بمعنى: لم يكمل الصفُّ الأول؟
ج: هذا هو الأصل؛ أن يصفُّوا صفًّا واحدًا، أمَّا حديث مالك بن هُبيرة ففي سنده ضعفٌ، وعمله باجتهاده هو ، لكنه ضعيفٌ من طريق ابن إسحاق، فإن صحَّ فلا بأس، وعمل الصَّحابي يُتأسَّى به.
س: تكميل الصفِّ الأول فالأول؟
ج: هذا هو الأصل.
س: المُبالغة في النَّعي الذي يكون في الجرائد وتكبير الصفحة: ألا يكون مُحرَّمًا ويدخل في النَّهي؟
ج: على كل حال، تركه أولى، وقد بلغني أنهم يتكلَّفون نقودًا كثيرةً بلا فائدةٍ.
س: الإعلان يُكلِّف خمسة عشر ألفًا؟
ج: تكلُّفهم هذا ما له داعٍ.
س: قوله: "وأمَّا الرجل" فهل تدخل المرأةُ في الحكم؟
ج: نعم تدخل، فالرجل والمرأة لهما حكمٌ واحدٌ.
س: الصَّلاة على الجنازة تكون في المُصلَّى أو في المسجد؟
ج: في المصلى أفضل إذا تيسَّر، والصلاة في المسجد جائزة، ويأتيكم أنَّ النبي ﷺ صلَّى على ابني بيضاء في المسجد، يأتيكم في الدرس الذي بعد هذا.
س: قوله في حديث ابن عباسٍ: لا يُشركون بالله شيئًا؟
ج: يعني: مُوحِّدون.
س: يشمل الأكبر والأصغر؟
ج: لا، المقصود -والله أعلم- المسلمون، مثلما قال في اللَّفظ الآخر: أمَّة من المسلمين.
س: القصائد التي فيها رثاء للميت هل تدخل في النَّعي المنهي عنه؟
ج: لا، ما فيها شيء، ما هي من النَّعي.
س: تَجْزِيئ مالك بن هبيرة لهم كيف يكون؟
ج: فيما رُوي عنه أنَّهم إن كانوا ستةً جعلهم ثلاثة صفوف، في كلِّ صفٍّ اثنان، وإذا كانوا تسعةً فكذلك، في كلِّ صفٍّ ثلاثة مثلًا، هذه هي التَّجزئة، لكن في السند ضعفٌ، إلَّا أن يوجد طريقٌ آخر.