167 من حديث: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد،..)

 
18/474- وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قالت: "تُوفِّيَ رسولُ اللَّه ﷺ وَمَا في بَيْتي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْر شَعيرٍ في رَفٍّ لي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَال علَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ" متفقٌ عليه.
19/475- وعن عمرو بنِ الحارِث -أَخي جُوَيْرِية بنْتِ الحَارثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي اللَّه عنهما- قَالَ: "مَا تَرَكَ رسولُ اللَّه ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتي كَان يَرْكَبُهَا، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لابْنِ السَّبيلِ صَدَقَةً" رواه البخاري.
20/476- وعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ قَالَ: "هَاجَرْنَا مَعَ رسول اللَّه ﷺ نَلْتَمِسُ وَجهَ اللَّه تَعَالَى، فَوَقَعَ أَجْرُنا عَلى اللَّه، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يأْكُلْ مِنْ أَجرِهِ شَيْئًا، مِنْهُم مُصْعَبُ بن عُمَيْر ؛ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنا بهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنا رسولُ اللَّه ﷺ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلى رِجْليهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ، ومِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدبُهَا" متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة تدل على ما أصاب الناس في المدينة من الحاجة والشدة في وقت النبي عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه ﷺ من الجود والكرم والسَّخاء والإحسان والنَّفقة، وأنه تُوفي عليه الصلاة والسلام وما ترك شيئًا له أهمية، من جوده وإنفاقه وإحسانه إلى الفقراء والمساكين والنفقة في سبيل الله، حتى قالت عائشة رضي الله عنها حين توفي أنه ما ترك إلا شيئًا من شعيرٍ، وقال عمرو بن الحارث: "ما ترك درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أمةً، إلَّا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقةً".
فهذا فيه الحثّ على التَّقلل من الرغبة في الدنيا، وصرف الهمَّة للآخرة، والعمل للآخرة، ولكن ليس معناه -كما تقدم- ترك الكسب الحلال، بل المؤمن مأمورٌ بكسب الحلال وطلب الرزق؛ حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح لما سُئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور، وقال عليه الصلاة والسلام: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن.
فالمؤمن يكتسب ويعمل ويجتهد حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس، لكن لا تكون الدنيا همَّه، فهو يعمل ليكتسب ما يسدّ حاجته ويكفيه ويُغنيه عن الاحتياج إلى الناس، وإذا يسَّر الله له رزقًا كثيرًا يُحسن ويُنفق ويتصدَّق، هذا فضلٌ عظيمٌ، كما جرى للصديق ولعمر ولعبدالرحمن بن عوف ، ولجماعةٍ آخرين من الصَّحابة، فقد وسَّع الله عليهم، وأنفقوا، وأحسنوا.
وغالب الصحابة أصابهم من الحاجة مثلما قال خبَّاب بن الأرت ، ومنهم مصعب بن عمير، فإنَّه لما قُتِلَ يوم أُحُدٍ لم يجدوا خلفه إلا نمرةً، إن غطّوا بها رأسَه بدت رجلاه، وإن غطّوا بها رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله ﷺ أن يُغَطَّى بها رأسه مع عورته، ويُجعل على رِجْلَيه الإذخر.
فهذا فيه الحثُّ على الرغبة فيما عند الله، وعدم الركون إلى الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة، وليس معناه: ترك الكسب وطلب الرزق، لا، فالمؤمن مأمورٌ بطلب الرزق، والكسب الحلال، والاستغناء عمَّا في أيدي الناس.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:
س: رجلٌ يسأل فيقول: إذا كان مشروعًا له أن يتكسَّب ليعِفَّ نفسه وأولاده، فهل يُشرع له أن يدَّخر من ماله لما بعد موته، يعني: يتكسَّب بنية أن يكتفي أولادُه من بعده؟
ج: ما فيه بأس، يدَّخر مثلما ادَّخر الصديقُ، وادَّخر عمر، وادَّخر عبدالرحمن بن عوف، لكن المقصود ألَّا يشتغل به عن الآخرة، فلا تصدُّه الأموال عن الآخرة، ولا تكون أكبر همِّه.
س: يقول ابنُ القيم: مَن طلب الدنيا بنية أن يُحْسِن إلى الناس بها تكون أحبولةً من الشيطان، فيقع في حبِّ الدنيا وينشغل بها؟
ج: لا، ما يضرُّ إذا طلب الرزق، مثلما قال ﷺ: احرص على ما ينفعك، فإذا أراد أن يتصدَّق ويُحْسِن وينفع الناسَ فهو مأجورٌ، كما فعل الصديقُ، فالصديق أنفق أموالَه في نصر الدين وحماية النبي ﷺ والإنفاق عليه، وكذلك عمر أنفق الأموال الجزيلة، وهكذا عبدُالرحمن بن عوف، وهكذا أغنياء الصَّحابة، فقد نفع اللهُ بهم المسلمين.
س: ما حكم تأليف الكتاب من باب التِّجارة؟
ج: إذا ألَّف كتابًا لينفع المسلمين وباعه.
س: هو قصده التِّجارة؟
ج: ما يكون له أجرٌ، إلا أن يكون قصدُه المسلمين، أمَّا إذا كان قصده الدنيا فليس له إلَّا الدنيا.
س: قيل أن أعلى المخلوقات: العرش، وفي حديثٍ عن النبي ﷺ رواه أبو هريرة -وهو مُتَّفقٌ على صحته- أنَّه لما قضى الله الخلقَ كتب كتابًا عنده فوق العرش، فأيُّهما أعلى: العرش أم الكتاب؟
ج: العرش هو أعلى المخلوقات، والكتاب موضوعٌ فوق العرش.
س: فأيُّهما أعلى: الكتاب أم العرش؟
ج: إذا قيل لشيءٍ: فوق العرش، فمعناه: أنَّه فوقه، والله فوق الجميع سبحانه وتعالى.
س: يعني: العرش أعلى من الكتاب؟
ج: الكتاب فوق العرش، أمَّا تفهم اللغة؟! إذا قيل لشيءٍ: فوق السطح، فهل معناه أنه تحته أم فوقه؟!
س: ما معنى "فَكِلْتُه فَفَنِيَ"؟
ج: يعني: لما كالته فني، أكلوه حتى فني، ومعناه: أنَّ عدم الكيل أحسن، فيأكل مما تيسَّر حتى يفنى.
س: أليست هذه اللوحةُ التي فوق العرش من المخلوقات؟
ج: كلها مخلوقة، فكل ما عدا الله مخلوق.
س: هل يُؤخَذ بالفعل ...............؟
ج: عدم الكيل أحسن، فلا يختبره كل ساعة ويقول: إلى أين وصل؟ لا، يأكل والحمد لله، فيأكل حتى يفنى؛ فهذا أبرك.