مُداخلة: رواه وكيع وابن المبارك، قالا: سبعًا وخمسًا.
وفيه من غير طريق أيضًا عمرو بن شعيب، قال أبو داود: حدثنا قتيبة: أخبرنا ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله ﷺ كان يُكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسًا.
الشيخ: هذا يُؤيده، يُؤيد حديث .....، وإن كان ابن لهيعة فيه ما فيه من الضَّعف، لكن له شاهد.
مداخلة: وقال الترمذي: باب التَّكبير في العيدين.
الشيخ: انتهى كلام أبي داود؟
الطالب: نعم.
الشيخ: نعم.
الطالب: وقال الترمذي: باب التكبير في العيدين:
حدثنا مسلم بن عمرو، وأبو عابد الحذاء المديني: أخبرنا عبدالله بن نافع، عن كثير بن عبدالله، عن أبيه، عن جده: أنَّ النبي ﷺ كبَّر في العيدين: في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة.
وفي الباب عن عائشة وابن عمر وعبدالله بن عمرو.
الشيخ: بعضها أيضًا كذلك، فالأحاديث الثلاثة يشدّ بعضُها بعضًا، وإن كان أصحّها حديث عبدالله بن عمرو، ولكن لا .....
الطالب: في "سنن ابن ماجه" أيضًا: باب ما جاء كم يُكبر الإمامُ في صلاة العيدين:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ -مُؤَذِّن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ: فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
الشيخ: كذلك، لكن مثلما قال البخاري: أصحها حديث عبدالله بن عمرو، ولكن تكون هذه شواهد كما هو معروف.
الطالب: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا.
الشيخ: هذا أطلق صلاة العيد، أطلق، "التقريب" حاضر؟ انظر: عبد الرحمن بن يعلى.
الطالب: حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
............
الشيخ: أما بعد، هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلفُ في باب صلاة الكسوف كلها دالة على شرعية صلاة الكسوف، وأنها سنة وقُربة، وقد أمر بها النبيُّ ﷺ، والأصل في الأوامر الوجوب.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة؛ للأحاديث الصَّحيحة التي فيها، ولما بيَّن حكم الصَّلوات لما سأله بعض السائلين: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، أخذ الجمهور من هذا أنَّ صلاة الكسوف وتحية المسجد وصلاة الطواف وأشباه ذلك كلها من باب السنن، من باب التطوع.
وبكل حالٍ، فهي متفاوتة في التأكد، وفيها أوامر تدل على تأكد هذه الصلاة عند وجود أسبابها، فيُشرع للمؤمنين عند وجود الكسوف أن يُبادروا إلى هذه الصلاة؛ لأنَّ الرسول أمر بها في الأحاديث الكثيرة المستفيضة والمتواترة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة جدًّا، وتُعتبر أحاديث متواترة دالة على شرعية الصلاة، وشرعية الذكر والدعاء عند وجود الكسوف، وأنَّ الكسوف آيةٌ من آيات الله يُخوف بها عباده جلَّ وعلا، كما قال سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، هذه الشمس المنيرة العظيمة، وهذا النور العظيم يعتريه في بعض الأحيان من أمر الله ما يُذهب نوره ويُطفئه الله ويبقى مظلمًا، أحمر بلا نورٍ، أو أسود، وهذا يدل على قدرته العظيمة، وأنه يقول للشيء: كن فيكون .
فهذا من باب التَّخويف، من باب ترهيب الناس من سُوء أعمالهم، وأن ينتبهوا لأنفسهم، وأن يعدّوا العدة الصَّالحة للقاء ربهم .
ولما مات إبراهيمُ ابن النبي ﷺ، وكان في الرضاع، كان دون السنتين، قال بعضهم لما كسفت الشمس ذلك اليوم قال بعض الناس: كسفت الشمسُ لموت إبراهيم. يعني: لعظم المصيبة، وقال النبيُّ ﷺ: لا، لم تنكسف لأجل إبراهيم، إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحدٍ من الناس ولا لحياته لا إبراهيم ولا لغيره.
فعُلم بذلك أنهما آيتان، ليس كسفهما من أجل موت عظيم أو آية عظيم كما تظن الجاهلية، وكما يظنون في الكواكب، لا، ولكنَّها تكسف للتَّخويف والتَّرهيب وبيان عظم قُدرة الله ، وأنه العظيم الذي لا أعظم منه، والكبير الذي لا أكبر منه، وأنه المتصرف في هذا الكوكب كيف يشاء .
ولو عُلمت كسوفات في الحساب للشمس والقمر فإنَّ هذا لا يُنافي كونهما آيتين، فإنَّ أهل العلم ذكروا أنها تُعلم في كتابٍ في حساب الشمس والقمر ومنازلهما، وقد يُخطئ الحاسبُ، ولكن بكل حالٍ، في الجملة فإنه يُعلم سير منازل الشمس والقمر، وأنها متى نزلت في كذا في وقت كذا صار كذا وكذا.
فالحاصل أنَّ الله جل وعلا أجرى أسبابًا لهذه الكسوف، وجعل ذلك من باب التَّخويف لعباده؛ حتى ينتبهوا، وحتى يرجعوا إلى ربهم ، وحتى يتوبوا مما هم فيه من باطلٍ.
وأمر رسولُ الله ﷺ أن يُصلي المسلمون حتى ينكشف ما بهم، حتى تنجلي، وفسَّر هذا بفعله ﷺ.
وفي حديث أبي موسى: إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ولم يذكره المؤلفُ هنا، وهو في "الصحيحين" كما ذكر صاحب "العمدة".
وفي حديث عائشة: فصلوا وادعوا، وفي روايةٍ أنه أمر بالتكبير، وفي روايةٍ أنه أمر بالعتق والصَّدقة.
فدلَّ ذلك على أنه يُشرع في يوم الكسوفات أن يُكثر من ذكر الله والتكبير والاستغفار والصَّدقات وإعتاق الرقاب مع الصلاة، كل هذه مشروعة، عند وجود الكسوف يُصلي كما فعل النبيُّ ﷺ، ويُشرع لهم مع هذا ذكر الله ، الإكثار من ذكر الله، واستغفاره؛ لقوله في حديث أبي موسى: فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره، ويُشرع التكبير: الله أكبر، الله أكبر؛ تعظيمًا لله جلَّ وعلا، ويُشرع أيضًا الصَّدقة، أخبر بالصدقة عليه الصلاة والسلام وعتق الرقاب، أيضًا أمر بالعتق.
فهذه كلها من الأمور التي تُستحب وتُشرع عند وجود الكسوف، ثم اختلفت الروايات في كيفية صلاته ﷺ، فأثبتها وأصحها كما اجتمع الشيخان على ذلك -البخاري ومسلم رحمة الله عليهما- أنه صلاها أربع ركعات في أربع سجدات، هذا أصح ما ورد، ركعتان في كل ركعةٍ: ركوعان وقراءتان وسجدتان، هذا هو أصح ما ورد، كما في حديث ابن عباسٍ وغيره: يُكبر أولًا، ثم يقرأ ويُطيل القراءة، ثم يركع ويُطيل، ثم يرفع ويقرأ بعد ذلك، يقرأ الحمد لله، ثم قراءة أخرى دون التي قبلها، ثم يركع فيُطيل، لكن دون الركوع الأول، ثم يرفع فيُطيل بعض الإطالة، كما في حديث جابر عند مسلم، وإن أنكرها بعضُ الناس، لكن رواية مسلم ثابتة من حديث جابر: أنه أطال للقيام الثاني بعد الركوع الثاني، لكنها إطالة مناسبة دون التي قبلها.
ثم يسجد سجدتين طويلتين، في حديث أبي موسى: "فصلَّى وأطال القيامَ والركوعَ والسجودَ، ما رأيتُه فعله في صلاةٍ قطّ". دلَّ ذلك على أنه يُطيل في قراءته وركوعه وسجوده، ثم فعلها في الأخرى مثل ذلك بقراءةٍ أقلّ من التي قبلها، وركوع أقلّ من الذي قبله.
هذا هو الثابت، وهذا هو المحفوظ: أنه صلَّى ركعتين، في كل ركعةٍ ركوعان وقراءتان وسجدتان، فلم سلَّم إذا الشمس قد انجلت، فخطب الناسَ وذكَّرهم، وأخبر أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس ولا لحياته، وأنهما آيتان من آيات الله يُذكر الله بهما عباده، يُخوف بهما عباده. ثم أمرهم بالصلاة، وأمرهم بالصدقة والعتق والإكثار من ذكر الله واستغفاره.
وجاء في "صحيح مسلم" أنه صلَّى في الركعة أربع ركوعات مع سجدتين.
وجاء في حديث جابر عند مسلم أيضًا، والرواية الأخرى أنه صلَّى ستّ ركعات مع سجدتين.
وجاء في حديث أُبَيّ عند أبي داود: خمس ركعات. كما هنا.
فهذه الروايات اختلف فيها العلماءُ:
قال البخاري وجماعة: إنها غلط؛ لأنَّ الواقعة واحدة، والمحفوظ من رواية الثِّقات الأثبات أنه صلَّى ركعتين، في كل ركعةٍ ركوعان وقراءتان. هذا هو الأثبت، والقاعدة: إذا تعارضت النصوصُ والواقع واحد ليس متعددًا فإنه يُؤخذ بالأثبت فالأثبت؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما، فوجب الأخذُ بالأثبت.
والقاعدة: أنَّ ما رواه الثقةُ يكون هو المحفوظ، وما رواه مَن دونه في العدالة يكون هو الشَّاذ، وإذا اجتمع الثِّقاتُ والأثباتُ على شيءٍ، ثم خالفهم مَن دونهم في الحفظ والإتقان تُسمَّى هذه الرواية: شاذة. ومن شرط الصحيح أن يسلم من الشُّذوذ.
فعلى قول البخاري وجماعة: رواية مَن روى أربع ركعات وثمان ركوعات وخمس ركوعات شاذة، غير صحيحة.
وذهب آخرون إلى أنه يمكن الجمع، وأنه لا يلزم عدم التَّعدد، قد يكون تعددت الواقعة، ويكون ..... لم يقف على هذا الشيء، لكن يمكن التَّعدد؛ فيكون في بعض الأحيان صلَّى أربع ركوعات، وفي بعضها صلَّى ركعتين، وفي بعضها صلَّى ثلاث ركوعات، وفي بعضها صلَّى خمس ركوعات، قالوا: هذا هو الجمع بين الروايات.
لكن ردَّ عليهم أهلُ العلم من الحفاظ، قالوا: في هذه الروايات أنها انكسفت في موت إبراهيم، وإبراهيم ما تعدد، إبراهيم مات مرةً واحدةً، وما ذُكر في الروايات التي فيها أربع ركوعات أو ستّ ركوعات في موت إبراهيم هذا علم أنها واقعة واحدة، وأن بعض الرواة قد غلط.
وقال آخرون: بل يُعمل بالقاعدة، وأنَّ رواية مَن زاد تُقدم الزيادة التي رواها الثِّقة، تُقدم لأنها زيادة من ثقةٍ فتُقبل.
فعلى هذا يكون المحفوظُ ثلاثًا لرواية جابر: ثلاث ركوعات في ركعة، وموافقة علي وجماعة .....، وكذلك رواية ابن عباس وجماعة ..... أربع ركوعات بهذه الزيادة أيضًا، وفي رواية أُبي .....، فتكون خمسًا، فتكون العبرةُ بمَن زاد؛ لأنَّ القاعدة: أنَّ رواية الثِّقة مقبولة ما لم تقع منافية، وهذه غير منافيةٍ، وقصاراها أنَّ الرسول زاد في الصلاة، فيُؤخذ بالأفضل والأكثر، ويُعتبر أخذًا بالقواعد؛ فإنَّ زيادة الراوي الثقة مقبولة، ولم تقع منافيةً، وهذه لم تُنافِ، وقصاراها أنه أثبت شيئًا زائدًا ما ذكره الآخرون، بل نسوه أو جهلوه.
وهذا الفعل الأخير أثبت وأقرب إلى القاعدة، أقوى من جهة القواعد المعروفة في المصطلح، ولكن كون الأئمة والأثبات الذين تأملوا هذه النصوص وحكموا على ما زاد على الركوعين بالغلط، مالوا إلى هذا، وأخذوا به؛ لأنه يرجح في النفس، ويقوى في النفس أنَّ هذا هو الأولى؛ لأنه رواه الثِّقات الأثبات، واتَّفقوا عليه، فيكون هو الأولى، وأقرب إلى أنه واقع من غيره.
فإذا صلَّى الكسوفَ كما يفعل مشايخنا وكما نفعل: وهو ركعتان في ركوعين وقراءتين وسجدتين، لعل هذا أولى إن شاء الله؛ لكونه أثبت من الحفاظ؛ ولأنَّ هذه واقعة، فكيف تتعدد؟! فليس هناك ما ..... أنهما واقعتان أو ثلاث حتى يتعدد، فعلمنا أنَّ أحد الرواة أخطأ، فإذا كنا نعلم أنه مخطئ فتخطئة من دون الأثبات أولى من تخطئة الأثبات؛ لأن هنا ..... الواقعة واحدة قرينة تدل على وجود الخطأ، بخلاف ما إذا كان هناك ما يمنع؛ فإن الزيادة تُقبل، أما هنا فكيف تُقبل والواقعة واحدة؟! فلا يبقى معنا إلا تقديم الأثبت فالأثبت.
أما حديث ابن عباس في الريح: فهو يدل على أنه ﷺ كان إذا رأى ريحًا سأل ربَّه: اللهم اجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا، هذا يدل على أنه يهتم ﷺ بالريح، ويخشى أن يكون عذابًا.
في رواية عائشة أنه دخل وخرج، رأى غيمًا فدخل وخرج، حتى يمطر الناس، فإذا أمطر الناس قال: اللهم صيبًا نافعًا.
وفي الرواية الأخرى الحثُّ على قول: "اللهم".
في حديث زيد بن خالد أنهم كانوا مع النبي ﷺ فمطرت السماء، فقال النبيُّ ﷺ: يقول الله جلَّ وعلا: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فمَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي، مؤمن بالكوكب.
فهذا يدل على أنه يُشرع إذا اتَّضحت الأمورُ ونزل المطر أن يقول: "اللهم صيبًا نافعًا، مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ لأنه حينئذٍ اتَّضح الأمر، وظهر الخير، وجاءت الرحمةُ، ويقول: "مطرنا الله برحمته، اللهم صيبًا نافعًا"، أما قبل ذلك فالمؤمن يخاف عواقب الذنوب؛ ولهذا كان النبيُّ يدخل ويخرج ويتغير حتى ينكشف الأمرُ وتأتي الرحمةُ.
ويُستحب أيضًا الدعاء بما دعا به النبيُّ ﷺ عند الرياح: اللهم اجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا، وفي اللفظ الآخر: اللهم إني أسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرسلت به.
ويُستحب الدعاء بما دعا به النبيُّ ﷺ عند وجود الرياح، وهي أنواع:
النوع الأول: أن يسأل الله خير الريح وما فيها وما أُرسلت به، والتَّعوذ من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلت به.
النوع الثاني: أن يقول: اللهم اجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا.
النوع الثالث: اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا، .....، فالرياح تأتي بالتبشير والخير، والريح قد تأتي بالعذاب كما جرى على قوم هود.
وفي حديث ابن عباس أيضًا: أنه صلى في زلزال بستِّ ركعات بأربع سجدات، كما جاء في إحدى صلاة الكسوف، وهكذا رواه ..... عن عليٍّ .....، وهكذا صلاة الآيات بدون ذكر الزيادة، يعني أن ..... عن عليٍّ وابن عباس: أن الزلزال يُصلي بهم مثلما يُصلي بالكسوف.
وهذان صحابيان جليلان أهلًا لأن يُؤخذ بقولهما، فالسنة عند نزول الآيات وحصول الآيات في الزلزلة أن تُصلَّى صلاة الكسوف، ويُسأل الرب العافية من شرِّ هذه الزلزلة وشرِّ ما يضرّ المسلمين، ويسأل الله خير ذلك .
س: مرفوع حديث الزلزلة؟
ج: فيه احتمال، ما هو بواضح؛ لأنه قد يكون كلٌّ منهما استنبطه من أحاديث الكسوف، وأن هذا تغير في الأرض، وذاك تغير في السماء، فاستنبطا قياسه على هذا، يعني: عندي غير مقطوع بأنَّ هذا في حكم الرفع، يدخل فيه الرأي.
س: قوله: عن أنه صلَّى في زلزلةٍ؟
ج: يعني: ابن عباس.
س: قول بعض الفقهاء: لا يُصلَّى في آيةٍ غير الزلزلة؟
ج: مقصودهم -يعني- لعدم وروده، ولكن يُعترض بقوله: وهكذا صلاة الآيات من حديث ابن عباس، ولا نعلم فيه شيئًا مرفوعًا إلى النبي ﷺ، إنما هو مروي عن ابن عباسٍ وعليٍّ وعن بعض السَّلف.
س: على هذا ما يكون .....؟
ج: محل نظرٍ، قد يقال: أنَّ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال ذلك، فجديرٌ بأن يُقلد في هذا؛ لأنَّ مثله يبعد أن يقوله عن نظرٍ وعن .....، أو عن سماعٍ من الرسول ﷺ، وقد يقال: إن الأولى تركه؛ لأنَّ هذه الأمور بالسماع، النبي ﷺ قال: عليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ولم يقل: سنة أصحابي جميعًا .....
..... منها طلب الله أن يُزيل هذه الشدة، وأن يسقيهم المطر الذي به حياة الأرض وحياة الحيوان، وهو سنة، الاستسقاء سنة، وعلى أنواع فعلها النبيُّ ﷺ: منها الاستسقاء على المنبر يوم الجمعة في خطبة الجمعة، ومنها الاستسقاء خارج الصلاة، خارج المنبر، ومنها الخروج إلى الصَّحراء وصلاة ركعتين والخطبة في ذلك، ودعاء الرب طلب السُّقيا.
وقد ذكر المؤلفُ ما ورد في هذا، من ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبي ﷺ خرج يستسقي -خرج لصلاة الاستسقاء- مُتواضعًا مُتبَذِّلًا مُتخشِّعًا مُترسِّلًا مُتضرِّعًا.
هكذا السنة: أن يُظهر الناسُ الفاقةَ والحاجةَ، فإنَّ العباد فقراء إلى الله جلَّ وعلا، وهو سبحانه الغني الحميد، وهو الحكيم العليم، فقد يُبتلى الناسُ بالجدب والقحط وإن كان فيهم الأخيار، وإن كان فيهم الأنبياء، كما وقع للنبي ﷺ في زمانه، وللصحابة في زمان عمر، وغير ذلك، يُبتلون بالجدب والقحط؛ ليظهر منهم الاستسقاء إلى الله والضَّراعة إليه وسُؤاله الغوثَ ؛ وليعلم الناسُ ضعفَهم وحاجتَهم، وأنهم فُقراء إلى الله، ولأسبابٍ أخرى وحِكَمٍ أخرى لا يختص بها الزمن الصالح دون الفاسد، ولا العكس.
والناس في حاجةٍ إلى العظات والذكرى، وتنبيههم على ضعفهم، وعلى رضا الله عنهم، وعلى افتقارهم إلى الله ، وإلى غير ذلك؛ ولهذا خرج النبيُّ ﷺ متواضعًا مُتبذِّلًا، يعني: من البذلة، ما تزين ولبس جميل الثياب كما يفعل في الجملة والأعياد، لا، خرج في ثياب العادة، الملابس العادية .....
متخشعًا، يعني: مُظهرًا الخشوع والخوف من الله والضَّراعة إليه والتَّمسكن.
مُترسِّلًا، يعني: ليس بعَجِلٍ، يمشي على مهلٍ؛ لما في هذا من إظهار الخضوع والذل والانكسار.
مُتضرِّعًا: من الضَّراعة وسُؤاله الرب الضراعة إليه في طلب الغوث، طلب السُّقيا، طلب التوبة.
وصلَّى ركعتين كما يُصلي في العيد، فإنه صلَّى ثم خطب.
وهكذا جاء عند أحمد -في "مسند أحمد" رحمة الله عليه- بسندٍ لا بأس به، عن أبي هريرة : أن النبي ﷺ صلَّى ثم خطب في الاستسقاء.
فجاء في إحدى الروايات عن عبدالله بن زيد: أنه صلَّى ثم خطب ثم استسقى، ولم يخطب خطبتهم هذه التي يفعلوها بعض الناس مثل خطبة العيد، لا، بل خطبة ضراعة واستغفار ودعاء وتمسكن.
وفي حديث عبدالله بن زيد الرواية المشهورة: أنه دعا وخطب الناس أولًا ثم صلَّى، وهكذا في حديث عائشة: دعا أولًا ثم صلَّى. وكلا الأمرين جائز: هذا جائز، وهذا جائز، إن صلَّى ثم خطب كالعيد فلا بأس، وهذا هو ظاهر الأحاديث الصَّحيحة عن عبدالله بن زيد وعائشة، وإن خطب ثم صلَّى فلا بأس.
المقصود أنه خطب أولًا ثم صلَّى كما روت عائشة وعبدالله بن زيد في "الصحيحين"، وإن قدَّم صلاة العيد كما في حديث ابن عباس هذا وجاء عن عبدالله بن زيد ..... ورواية أبي هريرة قدَّم الصلاة كالعيد ثم خطب، فلا بأس.
وفيه -في حديث عائشة- أنه أمر بالمنبر ووُضع في المصلَّى ..... في حديث ابن عباسٍ في بعض رواياته: كما يُصلي العيد، وهو يدل على شرعية الخطبة على شيءٍ مرتفعٍ؛ حتى يكون أبلغ في إيصال الصوت إلى الناس، يكون على شيءٍ مُرتفعٍ: على منبرٍ، أو على دابةٍ، ولا سيما إذا كثر الناسُ؛ حتى يبلغهم الصوت، وقد اتَّخذ المنبر في الجمعة ليعمَّ الصوت، أما في العيد فجاء في بعض الروايات ما يدل على أنه خطب على قدميه على الأرض، وجاء ما يدل على أنه صلَّى على شيءٍ مرتفعٍ، وفي حديث عائشة هذا ما يدل على شرعية المنبر، وأنه كما صلَّى في العيد، فدلَّ على أنه يُصلي في العيد على منبرٍ أيضًا؛ ولهذا كان يخطب على المنبر على شيءٍ مرتفعٍ.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن الناس شكوا إليه ..... المطر، فوعدهم يومًا يخرجون فيه، ثم خرج حين بدا حاجبُ الشمس، يعني: حين طلعت الشمس، وهو على منبره، فكبَّر وحمد الله ثم .....، ثم حمد الله وكبَّره وقال: إنَّ الله وعدكم فادعوه، ..... تنبيه من الرسول ﷺ أنَّ الله جلَّ وعلا يُحب منهم أن يدعوه، وقد وعدهم بالإجابة.
ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يُحيي ويُميت، ثم قال: اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ......
هذا يدل على أنَّ الإمام يخطب ويحمد الله ويُثني عليه ويُكبر ويسأل الله الغوثَ، ..... كبَّر وحمد الله، شرعية الحمد لله، والتكبير والحمد لله في أثناء الخطبة ..... كل هذا يدل على أنَّ الخطبة محلّ تكبيرٍ وحمدٍ واستغاثةٍ.
أما ما يُروى عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة مرسلًا: أنه بدأ بالخطبة بالتكبير ..... فليس هناك في الأحاديث الصَّحيحة ما يدل عليه، وإنما هو مرسل، أخذ به بعضُ أهل العلم، والأفضل البداءة بالحمد؛ فإنَّ النبي كان يبدأ خطبه بالحمد لله، فالأفضل أن يبدأ بالحمد، ويُكبر في أثناء الخطبة كما فعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام ..... المشهور في الروايات من خطبه ﷺ أنه كان يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يخطب الناس.
وفي بعض الأحيان يشهد أن لا إله إلا الله، يتشهد الشهادتين .....، والمعول في هذا والمقصود هو الضَّراعة إلى الله وإظهار الفاقة وسُؤاله الغوث بالسُّقيا.
وجاء أنه رفع يديه بالدعاء، دلَّ على شرعية رفع اليدين في خطبة الاستسقاء، فكان ..... في الاستسقاء يرفع يديه، ويُبالغ في الرفع، ويرفع الناسُ، يُبالغ في الرفع ويسأل ربَّه جلَّ وعلا، ثم يقلب رداءه الأيمن على الأيسر، ثم يتوجه إلى القبلة بعد ذلك وهو رافعٌ يديه كما فعله النبيُّ ﷺ، ثم ينصرف إلى الناس بعد ذلك.
هذه السنة: رفع اليدين في الدعاء، ويُلح في الدعاء، ويُبالغ في رفع اليدين، ويجتهد في الدعاء، ثم بعد هذا يُحول رداءه تفاؤلًا، كما يُحول حاله من الشدة إلى الرخاء، كما في رواية أبي جعفر الباقر: حوَّل رداءه، يتحول القحط، يعني: تفاؤلًا، فإنَّ النبي كان يُحب الفأل، ويكره الطيرة وينهى عنها، فهذا من باب التَّفاؤل، المقصود التحويل ثبت في "الصحيحين" من حديث عبدالله بن زيد.
وفي حديث عبدالله بن زيد ..... فصلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، فيدل على الجهر بالقراءة.
وفي الصحيح -صحيح البخاري- وهذا رواه مسلم أيضًا، حديث عبدالله بن زيد في "الصحيحين"، لكن الجهر بالقراءة رواها البخاري، هذا يدل على أنه يُشرع الجهر بالقراءة ..... الجمعة والأعياد، وهو مجمع عظيم.
فيجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وفي صلاة العيد، وفي صلاة الجمعة، وفي صلاة الاستسقاء؛ لأنَّ هذه مجامع، والجهر بالقرآن فيه فوائد عظيمة للمسلمين وغيرهم، فيجهر بالقراءة في هذه الصلاة الجامعة، ويُصلي ركعتين فقط كصلاة الجمعة، وإن شاء قدَّمها ثم خطب بعد ذلك، وإن شاء قدَّم الخطبة والدعاء ثم صلَّى ركعتين كما في حديث عبدالله بن زيد هذا وحديث عائشة.
وفي حديث عائشة أنه أنشأت سحابة في الحال، فرعدت وبرقت ثم أمطرت ..... جاءت بالحال وأنشأ الله السحابة، ثم رعدت وبرقت وأمطرت على الناس، هذا من رحمة الله ومن آياته ..... أنَّ الله أجاب دعوته في الحال وسقاهم في الحال.
وفي "الصحيحين" من حديث أنسٍ في الرواية الآتي: أنه استسقى في الخطبة، فأنزل الله المطر، وجعلت السَّحابة الصغيرة ثم اتَّسعت وانتشرت في الأفق، ثم أمطرت، فخرج الناسُ يهمّهم أن يصلوا إلى بيوتهم من شدة المطر.
وهذه من آيات الله، ومن دلائل قُدرته العظيمة، وصدق رسوله محمد ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا، وأنَّ الله أجاب الدَّعوة في الحال، وأنزل المطر العظيم، ولم يزل الناسُ في المطر إلى الجمعة الأخرى كما يأتي.
وفي حديث أنسٍ: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبل. والنبي يخطب يوم الجمعة، فقال: هلكت الأموال، يعني: بسبب الجدب، وانقطعت السُّبل، يعني: الطرق بسبب الجدب .....، توقف الناس عن الأسفار، فادعُ الله أن يُغيثنا. وفي لفظٍ: يُغثنا .....، فرفع يديه ﷺ فدعا قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ذكرها مرتين.
وفي الرواية الأخرى ثلاثًا: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
وعند هذا أنزل الله سحابةً اتسعت وأمطرت الناس، ولم يزل فيهم المطر أسبوعًا حتى الجمعة الأخرى، حتى جاء الرجلُ الذي قال ذلك أو غيره في روايةٍ .....: هلكت الأموال، وانقطعت السبل بسبب الأمطار العظيمة، فادعُ الله أن يُمسكها عنا. فرفع يديه ودعا وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظِّراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، فأقلعت وخرج الناسُ يمشون في الشمس.
وهذه آية أخرى؛ أجاب الله دعوته في الحال حتى أقلع السَّحابُ وطلعت الشمسُ وخرج الناس يمشون في الشمس بعد صلاة الجمعة.
وفي روايةٍ أنه ضحك ﷺ وتعجب من ضعف الناس: في الجمعة الأولى يطلبون المطر، وفي الجمعة الثانية يطلبون إمساكه؛ فلهذا تبسم عليه الصلاة والسلام من حال بني آدم وضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم.
وفيه من الفوائد: أنه لا يُطلب الإمساك إذا اشتدَّ المطر، لا يُقال: اللهم أمسكها، ولكن يُقال: اللهم حوالينا ولا علينا كما قال النبيُّ ﷺ.
أن عمر أنه كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس عمّ النبي ﷺ ويقول: "اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك فتسقنا، وإنا نتوسل بعمِّ نبيك فاسقنا" فيُسقون.
وقوله: "فاسقنا" يُروى بالقطع والوصل، يُقال: أسقنا، بالقطع من أسقى يُسقي، من الرباعي، ويُروى: فاسقنا، من الوصل، من سقى يسقي، من الثلاثي.
وهذا الحديث العظيم يدل على أن التوسل من الصحابة بالنبي ﷺ في حياته كان بدعائه، كما توسل به الأعمى بدعائه ﷺ، وكما توسلوا به في دعاء الاستسقاء فطلب لهم وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فلما تُوفي عليه الصلاة والسلام توسَّلوا بالعباس، أي بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود.
فهذا يدل على أنَّ التوسل كان بالدعاء لا بالذوات، أي: لو كان بالذَّوات أو بالجاه أو بالعبد لكان النبيُّ أولى بهذا عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ جاهه وعظمته وحقَّه باقية عليه الصلاة والسلام، لم يمت، فلما عدل عمرُ والصحابةُ إلى التوسل بالعباس عم النبي ﷺ عُلم أنَّ التوسل لا يكون بالذَّوات، ولا بحقِّ فلان وجاه فلان، وإنما هو بالدعاء، فالحي يدعو، والميت ليس كذلك؛ فلهذا عدل الصحابةُ وعمر إلى التوسل بالعباس، وتركوا التوسل بالنبي ﷺ لما توفي؛ لأنَّ الدعاء النبي كان ..... وقد فُقِد؛ فلهذا توسَّلوا بالعباس.
والعباس هو عمّ النبي ﷺ، هو أبو الفضل الهاشمي، من فُضلاء الصحابة وخيارهم رضي الله عنه وأرضاه، كانت وفاته على الأشهر سنة 32 من الهجرة في آخر خلافة عثمان ، فقام العباسُ ودعا بهم وسأل ربَّه أن يُغيثهم؛ فأغاثهم .
وفي هذا من الفوائد: أن السنة الاستغاثة والاستسقاء عند وجود القحط، يتضرع العبادُ إلى الله ويسألونه ؛ لأنه يُحب أن يُسأل، يُحب أن يُمدح، فينبغي للمسلمين إذا أجدبوا أن يستغيثوا بالله، وأن يسألوه، وأن يُصلوا صلاة الاستسقاء ويستغيثوا .....، كل هذا فعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، والله يُحب أن يُسأل، وعباده فقراء إليه، وهو غني عنهم ، وهو يبتلي بالسَّراء والضَّراء، يبتلي بالسَّراء ليشكروا ويُنيبوا إليه، ويبتلي بالضَّراء ليعرفوا فقرهم وحاجتهم ودعوتهم إلى ربهم فيلجئوا إليه ويسألوه ويُنيبوا إليه ، ولا يختص هذا بالعُصاة؛ فقد يبتلي بالضَّراء ويبتلي بالسَّراء الصُّلحاء والأخيار، وقد وقع الجدبُ والقحطُ في عهد النبي ﷺ، وهو سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأصحابه أفضل الخلق بعد الأنبياء، وقد ابتُلوا بالجدب والقحط، فسألوه واستسقوا به، وقالوا: هلكت الأموال، وانقطعت السبل من الجدب، فادعُ الله أن يُغيثنا .....
وهكذا وقع في عهد عمر وعهد الصحابة، وهم أفضل القرون .....، ومع هذا وقع في عهدهم الجدب والقحط حتى استغاث عمرُ، وهكذا وقع في عهد معاوية فاستغاث.
المقصود أنَّ الجدب والقحط يقع على الأخيار وعلى الأشرار، على الأخيار ليضرعوا إلى الله ويزيدهم من فضله ويتأسَّى بهم غيرهم، وعلى الأشرار ليُنيبوا إليه ويتوبوا فيتوب عليهم ..... .
والحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيبًا نافعًا.
هذه السنة: إذا نزل المطرُ يُستحب أن يُقال: اللهم صيبًا نافعًا، والمعنى: اللهم اجعله؛ لأنه مفعول لفعل محذوفٍ: "اللهم اجعله صيبًا نافعًا" يعني: نازلًا، صيِّب من صاب: إذا نزل، والمعنى: اجعله نازلًا نافعًا للعباد.
ويُقال أيضًا: "مُطرنا بفضل الله ورحمته" كما في حديث زيد بن خالد الجهني، الحديث الآخر عند الشيخين.
فالسنة أن يُقال: "اللهم صيبًا نافعًا، مُطرنا بفضل الله ورحمته"، هذا هو المشروع.
أما قول: "بنوء كذا، ونوء كذا" فهذا منكر، ومن أنواع الكفر، الذي هو كفر منكر دون منكر، كما في حديث زيد، فمَن قال: "مُطرنا بفضل الله ورحمته" فهذا مؤمنٌ بالله، كافر بالكوكب، وأما مَن قال: "مُطرنا بنوء كذا وكذا" فهذا كافر بالله، مؤمن بالكوكب.
فدلَّ ذلك على أنَّ السنة أن يُقال: "مُطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيبًا نافعًا"، ولا يجوز أبدًا أن يُقال: "مُطرنا بنوء كذا"، ولا يقول: "صدق نوء كذا"، كل هذا من أمور الجاهلية المنكرة التي ليست مشروعةً.
وإذا أراد بقوله: "مُطرنا بنوء كذا" أنَّ المطر من عمل النَّوء، فهذا من شرك الربوبية ومنكر، نسأل الله العافية.
أما إذا قال: "مُطرنا بنوء كذا" قصده: يعني في يوم، يعني في زمان كذا، فهذا ليس من الشرك، ولكنه لا يجوز؛ لأنه يُوهم نسبته إلى النَّوء، فلا يجوز، لكن إذا قال: "مُطرنا في الثُّريا، في زمن الربيع ....." فلا بأس بذلك؛ لأنَّ "في" للظرفية.
س: إذا قصد التَّسبب، أنه سبب؟
ج: لا يجوز أيضًا، الله ما أخبر أنه سبب، ولا يجوز أيضًا، ولو أراد السَّببية فيُخشى عليه أن يكون من الكفر، ويحتمل أن يكون كفرًا أكبر أنه شركه بالتَّصرف، ويحتمل كفرًا أصغر؛ لأنه ..... أسبابًا، وهذا الأقرب، وهو على كل حالٍ من الكفر؛ لأنَّ الرسول قال: فأما مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي، فسمَّاه كفرًا بهذا نعم، ولا فرق بين كونه أراد التَّسبب، أو أراد الاستقلال؛ لأنه يعرف الفرق من أدلةٍ أخرى، مَن أراد الاستقلال وأنه يتصرف صار كفرًا أكبر، ومَن أراد أنَّ وجود هذا النَّوء وظهوره وطلوعه من أسباب المطر فقد أخطأ، وقال ما ليس له به علم.
فالله جعل هذه النجوم لثلاثٍ: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها. فإذا اعتقد فيها غير ذلك فقد أخطأ وضلَّ السَّبيل، ويكون منكرًا من القول، ويكون نوعًا من الكفر، ولكنه ليس بأكبر، وإنما الأكبر أن يقول: إنه هو المحدث، وهو الموجد، فيكون تشريكًا له في الربوبية، أما إذا جعل الباء بمعنى "في" فقد أخطأ في اللفظ، ولا يجوز، ويُعبر بـ"في" حتى يبتعد عن الشُّبهة.
وهكذا في رواية ابن عباس: لقد صدق نوء كذا وكذا.
...........
س: أحسن الله إليك، بعضهم يستدل بحديثٍ رواه الدَّارمي، يقول: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَحْطًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: "انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ ﷺ فَاجْعَلُوا مِنْهُ كِوًى إِلَى السَّمَاءِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ"، قَالَ: فَفَعَلُوا فَمُطِرْنَا مَطَرًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ، وَسَمِنَتِ الْإِبِلُ حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّيَ عَامَ الْفَتْقِ؟
ج: هذا لو صحَّ معناه: رأت باجتهادها أنهم يكشفون ما بينه وبين السَّماء، لكنه ليس بصحيحٍ لأمرين:
الأمر الأول: عمرو بن مالك النّكري فيه كلام، فيه ضعف، ولا يُحتج بما انفرد به.
والأمر الثاني: أنَّ أبا الجوزاء قال الحفاظُ: لم يسمع من عائشة، واعترضوا ..... في روايته عنها في رواية عن عائشة، فيكون ضعيفًا من جهتين: لانقطاعه، ومن جهة ضعف عمرو بن مالك النّكري، لكن لو صحَّ المراد أنه اجتهد بإزالة الحجاب الذي على القبر .....، إنما أراد كشف الحجاب، فلعله بكشف الحجاب ..... أن ظهر القبر وصار بينًا واضحًا، وأنَّ الله جلَّ وعلا قد يرحمهم برحمته لنبيه عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله رحمةً للعالمين، لكن هذا من باب التَّأويل الذي أرادته وفهمته من غير حُجَّةٍ.
وقد يكون صادف قدر الله وما أراده من الإحسان إليهم، فنزل المطرُ بقضاء الله ، فصادف هذا، ويكون فيه امتحان، وفيه ابتلاء.
فالحاصل هذا لا وجهَ له، ولا يُعتمد عليه؛ لضعف الإسناد؛ ولأنه من اجتهادها، واجتهاد الصحابي يُخطئ ويُصيب، وهذا لو صحَّ عنها من اجتهادها، فلم يفعله الصديقُ ولا عمر ولا عثمان، وهم أولى بهذا، هم الحجة، لو صحَّ عنها فلا وجهَ لكشف القبر.
س: لا يُلجأ إليها إلا عند صحة الحديث؟
ج: المقصود لو صحَّ أنها قالت هذا .....؛ لأنها قد تجتهد في أشياء وتُخطئ رضي الله عنها، ثم العمدة في مثل هذا على الخلفاء الراشدين ..... الحجَّة، لا أفراد الصحابة .....
.............
التوسل أقسام ثلاثة:
توسل صحيح: وهو التوسل بتوحيد الله وأسمائه وصفاته والأعمال الصَّالحات، هذا حقٌّ.
وتوسل ثانٍ بدعة: وهو توسل بجاه فلان وحقِّ فلان أو بذاته، هذا لم يرد عن السلف، ولا جاء عن النبي ﷺ، فيكون بدعةً، ومن وسائل الشرك.
وتوسل كفر: وهو دعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، وزعمهم أنَّ هذا توسل إلى الله، وليس من عملهم، وأنا إذا دعوناهم فقد جعلناهم وسائط، هذا هو الكفر الذي عليه المشركون الأوَّلون حيث قالوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هذا كفر أكبر، فمَن دعاهم واستغاث بهم ونذر لهم فقد جعلهم وسائط، وهذا كفر أكبر، وهو شرك أبي جهل وأشباهه من قريشٍ وأشباههم.
الحديث الثالث: حديث سعد، سعد هذا هو ابن أبي وقاص فيما يظهر، وقد أطلقه المؤلفُ، والشارحُ لم يتعرض له أيضًا، وراجعته في بعض الكتب فلم أجده، ولم أجد .....، وراجعتُ "مسند أبي عوانة" ..... فلم أجده في أبي عوانة، والغالب على أبي عوانة هو الصحة؛ لأنَّ المستخرجين يجتهدون في العناية بالأحاديث الصحيحة والطرق الصحيحة لإخراج الحديث الصحيح، وأبو عوانة مستخرج على مسلم، فهو في الغالب صحيح، مُستخرجاته في الغالب صحيحة: أبو عوانة والدَّارمي وأبو نعيم وغيرهم، وقد يقع فيها بعض الضعف.
والمؤلف عزاه لأبي عوانة قال: اللَّهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَابًا كَثِيفًا، قَصِيفًا، دَلُوقًا، ضَحُوكًا، تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا، قِطْقِطًا، سَجْلًا، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
واستعمال هذه الألفاظ قد يُستغرب وقوعها من النبي ﷺ؛ لأنه كان لا يتكلف عليه الصلاة والسلام، ويدعو بدعوات واضحة، وقد يقال: وقع منه ﷺ لبيان ما عليه من كلمات، كما قال: اللهم أسقنا غيثًا هنيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا غدقًا .. إلى آخره.
فمعنى كثيفًا يعني: مُتكاثرًا قويًّا عظيمًا.
قصيفًا: ذا رعدٍ.
دلوقًا يعني: مُندفعًا قويًّا.
ضحوكًا: فيه برد؛ لأنَّ هذه أمارات وعلامات قوة المطر.
تُمطرنا منه رذاذًا الرَّذاذ دون ..... يعني: مطرًا مُتوسِّطًا.
قطقط: صغار المطر.
سَجْلًا: قوي المطر، والمعنى أنواع المطر؛ لأنه أبلغ في ريّ الأرض، وأبلغ في شبعها من الماء.
يا ذا الجلال والإكرام توسل بهذا الاسم الكريم .....، هذا من أوصافه سبحانه: ذو الجلال، ذو العظمة والإكرام لأوليائه وأهل طاعته.
س: قبله حديث: فحسر ثوبه؟
ج: كذلك حديث أنسٍ قال: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هذا يدل على شرعية حسر بعض الثوب عن بعض البدن.
وقرأ بهما جميعًا، وركع بهم جميعًا، ورفع بهم جميعًا، ثم سجد ومعه الصفُّ الأول، سجدوا معه، وبقي الصفُّ الثاني واقفًا يحرس وينظر، فلما قام الصفُّ الأول من سجوده سجد الصفُّ الثاني باستثنائه حينئذٍ بالصفِّ الأول وحراسته، ثم قاموا من سجودهم وتأخَّر الصفُّ المقدم، وتقدم الصفُّ المؤخر، ثم كمل بهم الصلاة، فسجد معه الصفُّ الأول الذين كانوا هم الصفّ الثاني في الركعة الأولى، وبقي الصفُّ الثاني -الذي هو الصف الأول في الركعة الأولى- بقي يحرس، فلما انتهوا من سجودهم سجد الصفُّ الثاني، ثم سلَّم بهم جميعًا، وهذا نوع جائز ومشروع إذا دعت الحاجةُ إليه. انتهى بحث هذا.
وفي النَّسائي من وجهٍ آخر هذا نوع رابع، ولأبي داود عن ..... الزرقي مثلما ذكر جابر، وأنَّ هذا كان في صلاته بعسفان، وهذا يدل على شرعية هذا النوع الثالث، وأنه مشروع.
والنوع الرابع ما رواه النَّسائي: أنه صلَّى بطائفةٍ ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بالآخرين ركعتين ثم سلَّم، ومثله جاء في أبي داود عن أبي بكرة من جنس رواية جابر في تقسيمه القسمين وسلامه بكل طائفةٍ منهم.
وهذا الذي ذكره المؤلفُ هنا عن النَّسائي ورواية أبي بكرة أيضًا عند أبي داود اختصره مسلمٌ في "الصحيح" من حديث جابر: أنه صلَّى بهم ﷺ فجعلهم طائفتين، وسلَّم بكل طائفةٍ، فتكون الطائفةُ الأولى مُفترضةً هي والإمام، وتكون الطائفة الثانية مُفترضةً، والإمام مُتنفِّلًا، فيكون الحديثُ حُجَّة في جواز إمامة المتنفل بالمفترض.
وعلَّقه البخاري أيضًا جازمًا به من رواية أبان العطار، وأسنده عن جابرٍ: أنه صلَّى بهم وجعلهم طائفتين، وصلَّى بكل طائفةٍ.
ويُستغرب كون المؤلف فاته هذا مع حفظه العظيم، فالحديث هذا الذي رواه النَّسائي هذا رواه مسلم موصولًا، ورواه البخاري مُعلَّقًا مجزومًا، فهو نوع ثابت، ويكون نوعًا رابعًا.
والنوع الخامس: حديث حذيفة: أنه صلَّى بهؤلاء ركعةً، وبهؤلاء ركعةً، ولم يقضوا، فصار له ركعتان، رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي، وصححه ابن حبان، وهو عند ابن خزيمة عن ابن عباس. وهذا نوع خامس: أنه صلَّى بهؤلاء ركعةً، وبهؤلاء ركعةً، فصار له ركعتان، فهذا نوع خامس.
والنوع السادس ما رواه ابن عمر، رواه البزار بإسنادٍ ضعيفٍ: صلاة الخوف ركعة على أي وجهٍ كان، يعني: للإمام والمأمومين، كلهم يُصلي بهم ركعةً فقط -الإمام والمأمومين- ركعة واحدة.
لكن ذكر المؤلفُ هنا عن البزار أنَّ هذا رواه البزار، وأنه ضعيف الإسناد، ولكن يُغني ما رواه مسلم في الصحيح عن ابن عباسٍ أنه قال: "صلاة الحضر على لسان نبيكم ﷺ أربع، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام".
فهذا يدل على أنَّ الركعة ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنَّ صلاة الخوف ركعة، يعني: أقلّ ما ورد ركعة، فهذا نوع سادس كما في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباسٍ.
وكان ينبغي للمؤلف أن يُشير إليه، وأن يذكره، ولكنه نسي رحمه الله ولم يذكره هنا حين جمع هذه الأنواع، وهو نوع مهم ينبغي أن يكون ذكره بدل رواية البزار أو معها.
وأما الرواية الأخرى: "ليس في صلاة الخوف سهوٌ" رواه الدَّارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ، فهذا له وجه، وإن كان الحديثُ ضعيفًا، لكن له وجه؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا يسَّر فيها وسامح بأشياء كثيرة مهمة لأجل شغلهم بالعدو، فسقوط سجود السهو عنه ليس بالبعيد؛ لأنهم مشغولون، ولأنهم سُومحوا في أشياء كثيرة؛ سقطت عنهم ركعة، وجاز لهم أن يتأخَّروا في السجود، وجاز لهم أن يقضوا قبل إمامهم -قبل سلام إمامهم- فجاءت فيها مخالفات متعددة في صلاة الأمن، فإذا جاز هذا فيها مع ..... المخالفة، فسقوط سجود السهو فيها وجيه، وليس بالبعيد، وإن كان الإسناد ضعيفًا، لكن الأصل بقاء سجود السهو، هذا هو الأصل، فلا تكون هذه التَّجاوزات كافية في إسقاط سجود السهو، وإلا هذا حديث ضعيف، فالأصل بقاء سجود السهو مع القُدرة، هذا هو الأصل: بقاؤه؛ للأحاديث الصَّحيحة.
فإذا سها الإمام في صلاة الخوف شُرع له سجود السهو، وإذا كان يخشى من سجودهم جميعًا سجد بالصفِّ الأول السهو، ثم سجد بالصفِّ الثاني السهو، ولا مانع كما فعل في أصل الصلاة، هذا هو الأصل، إلا أن يثبت حديثٌ صحيحٌ في إسقاط ذلك، وإلا فالأصل بقاؤه، وليس هناك مانع من أدائه في صلاة الخوف، كما أثبت الركعات في صلاة الخوف وهو أسهل، فإنَّ سجود السَّهو من جنس سجود الصلاة ..... كان فعله من الصفِّ الأول أو من الصفِّ الثاني وهكذا، والله أعلم.
س: حديث حذيفة في حقِّ الإمام ركعتان، وفي حقِّ المأموم ركعة؟
ج: نعم، هذا نوع خامس، ونوع سادس وهو ما جاء عن ابن عباس أنه يُصلي بهم ركعةً واحدةً فقط له ولهم.
س: ركعتان مُفترضتان في حقِّ الإمام؟
ج: يحتمل أن يُقال: فريضة، ويحتمل أن يقال الثانية: ندب .....، فلا منافاةَ بين أن يُقال: هي ندب، بدليل أنه اقتصر على واحدةٍ ..... فتكون تطوعًا أو كمالًا.
..... وأيضًا أبي داود والترمذي رحمه الله من حديث أبي هريرة بإسنادٍ جيدٍ: الفطر يوم تُفطرون، والأضحى يوم تُضحون، وزاد الترمذي: والصوم يوم تصومون.
أما أبو داود فرواه برواية عائشة عن أبي هريرة في الفطر والأضحى فقط، وزاد الترمذي في روايته: والصوم يوم تصومون، وكلاهما جيد عند أبي داود وعند الترمذي .....
وهذا دليل ظاهر على أنَّ الإفطار يوم يُفطر الناس، والأضحى يوم يُضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس، وإن قدر الهلال بخلاف ذلك فالعُمدة والمعول على ما ثبت لديهم وعرفوه، سواء من جهة الرؤية، أو بإكمال العدد، وإن قدر بوجود خلاف ذلك فالإفطار يوم فطرهم، والأضحى يوم إضحائهم، والصوم يوم صومهم مطلقًا.
وبهذا يستريح المؤمنُ ويطمئن، وليعلم سعة هذه الشريعة وسماحتها، وأنهم غير مكلفين إلا بما شرع الله لهم: كالرؤيا وإكمال العدد.
فلو قدر أنَّ الرؤية تفسد، وأنهم أفطروا في غير الفطر، أو ضحّوا في غير الأضحى حسبما اجتهدوا، فلا يضرّهم ذلك؛ فالإفطار يوم فطرهم، والأضحى يوم تضحيتهم، والصوم يوم صومهم.
وفيه أنَّ المسلمين إذا صاموا فليس لأحدٍ أن يشذَّ عنهم، بل إن صاموا صاموا جميعًا، وإذا أفطروا أفطروا جميعًا، وإذا ضحُّوا ضحُّوا جميعًا، فيه الدلالة على أنه لا ينبغي الخلاف، ولا ينبغي النزاع، بل ينبغي أن يتأسَّى بعضُهم ببعضٍ؛ حتى تجتمع الكلمة، ويزول مظهر الاختلاف والفرقة، وهذا على حسب قواعد الشريعة، وهذا يُؤيد مَن قال: إن الرؤية تعمّ، وأن قوله ﷺ: إذا رأيتُموه فصوموا، وإذا رأيتُموه فأفطروا أنه عام للأمة، وليس خاصًّا بأهل بلدٍ دون بلدٍ، بل هو عام للأمة كلها؛ فإنَّ الرسول بُعث للأمة، وهو يُخاطبها جميعًا، لا يُخاطب المدينةَ وحدها، ولا يُخاطب العربَ دون العجم، بل يُخاطب الجميع.
وهكذا قوله ﷺ: لا تصوموا حتى تروا الهلالَ أو تُكملوا العدَّةَ، ولا تُفطروا حتى تروا الهلال أو تُكملوا العدَّة، فهو أمرٌ للجميع، وهذا هو الحق، وهو الأظهر للدليل: أنَّ الصوم للجميع، والأضحى للجميع، والإفطار للجميع إذا أمكن ذلك، أما إذا لم يُمكن فعلى مَن ثبت عنده الشهر أن يصوم، ومَن ثبت عنده الفطر يُفطر، والأضحى يُضحي، وإن لم يُضحِّ الآخر لأسبابٍ اقتضت ذلك.
وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ لكل أهل بلدٍ رؤيتهم، وهذا مروي عن ابن عباس وجماعة، ومن ذلك ما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث كريب، عن ابن عباسٍ: أن كريبًا ذهب إلى الشام لحاجته، أرسلته أم الفضل -أم عبدالله بن عباس- إلى الشام لحاجةٍ، وأنه لما قدم إلى المدينة سأله ابنُ عباسٍ: متى رأيتُم الشهر؟ فقال: رأيناه في الجمعة، رآه معاوية والناس، وصام معاوية، وصام الناس. وكان قدوم كريبٍ في آخر الشهر، فقال ابن عباس: "لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال أو نُكمل العدة". فظهر من كلامه أنهم غير عاملين بما فعل معاوية والناس.
استدلَّ بهذا جماعةٌ من أهل العلم على أنَّ لكل أهل بلدٍ رؤيتهم حسبما قال ابن عباس ورأى ابن عباس، ولكن النصوص التي جاءت في هذا الباب كلها ظاهرة للعموم، وأن الرؤية تعمّ إلى ما اطمأن في البلاد الأخرى إذا صحَّت الرؤيةُ التي رآها المسلمون الآخرون، وأنه يكفي بعضهم لبعضٍ، وتكون الرؤية من بعضهم كافيةً للآخرين، ويحتج بها أولئك، ويأخذون بها في إفطارهم وفي صومهم.
ومن هذا ما قال عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتُموه فصوموا، وإذا رأيتُموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة، وفي لفظٍ: فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، وفي لفظٍ: فصوموا ثلاثين.
هذا كله واضح في أنَّ الحجَّة على الرؤية، لا على الحساب، بل على الرؤية، أو على إكمال العدة لشعبان أو لرمضان، وأنه ليس خاصًّا بأحدٍ دون أحدٍ، بل هو للأمة كلها، فإذا رأته جماعة الجزيرة العربية صام الناسُ برؤيتهم أو أفطروا، وإذا رآه أهلُ مصر أو الشام أو العراق كذلك، وهكذا، هذا ظاهر النصوص؛ إذا قُدر أنَّ الرائي أهلٌ لذلك، وأن المحكمة التي حكمت بهذا أهلٌ لأن يُؤخذ بها ويُقتدى بها، ومن هنا تأتي مشاكل عدم الاقتناع برؤية الآخرين، ومن أجل ذلك يأتي الانقسام، ويأتي انفراد هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء؛ لعدم الثقة، فأما إذا توافرت الثقةُ من الجهة التي رأت الهلالَ أو أكملت العدة فإنَّ الواجب على الجميع أن يكونوا شيئًا واحدًا في ذلك، وأن يصوموا جميعًا، ويُفطروا جميعًا، وأن يكتفوا برؤية مَن رآه منهم؛ لأنه شيء واحد، ومشهد واحد، وبناء واحد، دينهم وربهم واحد، ونبيهم واحد، وشريعتهم واحدة، ومهما أمكن الاتحاد والاجتماع فهو مُقدَّم.
والحديث الثاني: حديث أبي عميرة ابن أنس بن مالك، عن ..... من الصحابة: أن رجالًا جاءوا إلى النبي ﷺ فشهدوا أنهم رأوا الهلال الأمس. وفي اللَّفظ الآخر: عشية، أي: رأوه البارحةَ، فأمر النبيُّ ﷺ الناسَ أن يُفطروا، وأن يغدوا إلى مُصلاهم؛ لأنه جاء بعد فوات الوقت.
فهذا يدل على أنَّ الهلال إذا رُئي البارحة والناس صيام، جاء الخبرُ والناس صيام يُفطرون، فإذا كان صباحًا صلوا العيد، وإن كان مساءً أو عند الزوال أجَّلوا الصلاةَ إلى الغد وأفطروا؛ لأنه ثبت أن اليوم من شوال فوجب الإفطار، وتُؤجل الصلاة إلى الغد حتى يغدوا إليها صباحًا. هذا السنة لهذا الحديث الصحيح.
والحديث الثالث: حديث أنسٍ ، وهو ابن مالك الأنصاري المعروف .....، وهناك أنس بن مالك آخر الكعبي، معروف أيضًا، ولكنه ليس بالمشهور، وإنما المشهور هو أنس بن مالك، فإذا أُطلق فهو أنس بن مالك الأنصاري.
قال: كان النبيُّ ﷺ لا يغدو للخطبة حتى يأكل تمرات.
زاد البخاري بروايةٍ معلَّقةٍ: ويأكلهن فُرادى.
ورواه أحمد أيضًا بهذا المعنى.
فهذا يدل على شرعية أكل تمرات يوم عيد الفطر قبل الصلاة، وأن السنة أن يبدأ الإنسانُ بأكل تمرات قبل ذهابه إلى صلاة العيد؛ إظهارًا لإفطاره، وأن رمضان قد ذهب، وأن نعمة الفطر قد حصلت، فيُظهر مُبادرته ومُسارعته بأكل هذه التَّمرات؛ إيذانًا بأنه يوم فطر، وليس له صوم، وشكرًا لله على إنعامه وفضله .
وهذه الرواية التي علَّقها البخاري علَّقها جازمًا بها، ورواها أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن أنسٍ: أن النبي كان لا يغدو للخطبة حتى يأكل تمرات فُرادى. وفي البخاري: وترًا. وترًا: ثلاثًا، خمسًا، سبعًا، هذا هو الأفضل.
س: ...............؟
ج: إذا كانت معلَّقةً جازمًا فهي صحيحة، وإذا علَّقها بالتَّمريض: "يُروى، ويُذْكَر" لا.
الحديث الرابع: حديث ابن بريدة، عن أبيه بريدة له ..... وله عبدالله، وكلاهما ثقة، عن النبي ﷺ أنه كان لا يحضر الخطبةَ حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يُصلي. أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان، وإسناده جيد.
وهو يدل على شرعية الإفطار قبل صلاة العيد يوم الفطر، وعلى أن ..... هو أولى في عيد الأضحى، هذا هو السنة في عيد الفطر: يأكل قبل الصلاة، وفي عيد الأضحى الأولى تأخير الأكل إلى ما بعد الصلاة.
وجاء في روايةٍ ضعيفةٍ عند أحمد: حتى يأكل من أضحيته. ولكنها رواية ضعيفة، والمحفوظ إنما هو تأكيد الأكل، أما كونه يأكل من الأضحية أو غيرها فالأمر واسع.
والحديث الخامس: حديث أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها، جاء هذا الحديث من عدة طرقٍ، وبألفاظٍ متعددةٍ، قالت: كان الرسولُ يأمرهم أن يُحضرن العواتقَ وذوات الخدور في العيدين، ويعتزل الحيَّضُ المصلَّى.
وفي لفظٍ آخر قالت: أمر رسولُ الله أن نُخرج العواتق وذوات الخدور إلى المصلَّى، يشهدن الخير ودعوة المسلمين، وتعتزل الحيَّضُ المصلَّى.
وله ألفاظ ملخصها: أن الرسول ﷺ أمر النساء بإخراج العواتق -وهن الكبيرات- وذوات الخدور -وهن الأبكار- ليحضرن دعوةَ المسلمين وصلاتهم، ويشهدن الخير، ويسمعن ما يقوله الخطيب، ويستفدن من ذلك.
فالسنة خروج النساء، فهذا الأمر ظاهره الوجوب، والمعروف عند أهل العلم أنه للاستحباب أو للإباحة، والقول بأنه للاستحباب أظهر، ..... بين الوجوب وبين الاستحباب، أما كونه للإباحة فله شرائط وله أسباب، فالأصل في الأوامر أنها للسنية أو للوجوب، هذا هو الأصل ..... دليل على السنية أيضًا.
فهذا يؤكد أنَّ صلاة العيد فرض، والخروج لها فرض، وأنَّ الواجب عدم التَّخلف من الرجال ومن النساء إلا لعلَّةٍ من مرضٍ أو خوفٍ أو نحو ذلك.
ويجب على النساء في خروجهن التَّستر والحجاب والبُعد عن أسباب الفتنة، ولما اعتذر بعضُ النساء قالت: يا رسول الله، إحداهن ليس لها جلباب؟ قال: تُلبسها أختها من جلبابها، فهذا يدل على التأكيد في هذا المقام، وأنهن يتعاونَّ في ذلك حتى يخرجنَ ويحضرنَ الخير ودعوة المسلمين، ولا يخفى أن حضور النساء للعلم والخطب والذكر فيه خير عظيم لهن؛ لأنهن قد يفوتهن كثير من حلقات العلم والتعليم؛ لأنهن ربات البيوت، والقائمات على الأولاد، وعلى حاجة البيت، فيفوتهن الشيء الكثير، وخروجهن إلى المصلى يوم العيد، وسماعهن خطبة الجمعة، وسماعهن حلقات العلم إذا أمكن ذلك على الطريقة الإسلامية السَّليمة فيه خير كثير لهن، وفوائد جمة، ومصالح عظيمة، لكن مع مراعاة ما أوجب الله من الحجاب والبُعد عن أسباب الفتنة.
الحديث السادس: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبيُّ ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يُصلون العيدين قبل الخطبة.
هذا ثابت من حديث ابن عمر وابن عباس، ومن أحاديث كثيرة كلها تدل على أنَّ الصلاة قبل الخطبة في العيد، بخلاف الجمعة، فالجمعة الخطبة فيها قبل الصلاة، أما الأعياد فإنه يُصلي الإمامُ ثم يخطب الناس، فهذه هي السنة المحفوظة عن رسول الله ﷺ، فإنهم قالوا: إنَّ أول مَن قدَّم الخطبة في العيد مروان بن الحكم. ومنهم مَن قال: عثمان. ومنهم مَن قال: معاوية. والمشهور أنه مروان، لما تولى إمرة المدينة قال: إنَّ الناس يتفلتون ويخرجون إذا صلوا. فأراد أن يُقدمها حتى يسمعوها لانتظارهم للصلاة؛ اجتهادًا منه.
وقد غلَّطه أهلُ العلم وخطَّؤوه في ذلك، والصواب ما فعله الرسولُ ﷺ، وعلى الأئمة أن يأخذوا بهذا، وأن تكون الخطبةُ بعد الصلاة كما فعله المصطفى عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم.
والله أعلم.
س: مَن قال: أنَّ الأمر للإباحة أو للاستحباب، ما الذي صرفه؟
ج: ما هو معلوم من خشية الفتنة بالنساء، وأن بيوتهن خيرٌ لهن، هذه الملاحظات هي التي دعتهم إلى صرف الأمر عن ظاهره، وأنهن فتنة وعورة، ويُخشى من خروجهن فتنة، كما علم أنَّ بيوتهن خيرٌ لهن وأقرب إلى السَّلامة، هذا والله أعلم هو السر.
...............
يقول المؤلفُ رحمه الله: وعن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: أن النبي ﷺ صلَّى يوم العيد ركعتين، لم يُصلِّ قبلهما ولا بعدهما. متفق عليه.
هذا يدل على أنَّ صلاة العيد ركعتان، وهذا محل إجماعٍ، ليس فيه نزاع، كالجمعة ركعتان في عيد الفطر والأضحى، صلَّاهما النبيُّ ﷺ تسع سنوات في المدينة، ودلَّ ذلك على شرعية صلاة العيد، وأنها ركعتان فقط، كما فعلها النبيُّ ﷺ، وأنه لا يُشرع قبلها صلاة، ولا بعدها صلاة، ليس لها راتبة لا قبلها ولا بعدها؛ ولهذا لم يُصلِّ قبلها ولا بعدها عليه الصلاة والسَّلام.
والحديث الثاني: فصلَّى بلا أذانٍ ولا إقامةٍ. وهكذا حديث جابر في "الصحيحين": فصلَّاها بلا أذانٍ ولا إقامةٍ.
وهكذا أحاديث أخرى جاءت في المعنى تدل على أنه صلَّى العيد ركعتين، لم يُصلِّ قبلهما ولا بعدهما، وليس فيهما أذان ولا إقامة، ولا يُقال: الصلاة جامعة، ولا غير ذلك، ولا صلاة العيد يرحمكم الله، ولا غير ذلك، كل هذا لا أصلَ له، بل تُصلَّى بغير أذانٍ ولا إقامةٍ، بخلاف الجمعة فإنَّ لها أذانًا، أما صلاة العيد فوقتها معلوم، وهو بعد ارتفاع الشمس صباحًا، هذا هو وقتها، فلا يحتاج إلى أذانٍ ولا إقامةٍ.
لكن جاء في حديث أبي سعيدٍ: أنه صلَّى ركعتين في بيته، كان لا يُصلي في المسجد شيئًا، وإذا رجع إلى بيته صلَّى ركعتين. كما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيدٍ بسندٍ حسنٍ كما قال الحافظ.
هذا يدل على أنه إذا رجع إلى بيته شُرع له أن يُصلي ركعتين؛ لفعل النبي ﷺ، كما في حديث أبي سعيدٍ هذا عند ابن ماجه.
والمؤلف حسَّن إسناده، والمقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ، وسوف نُراجعه إن شاء الله .....، فإنَّ في صحته عندي نظرًا وشكًّا وإن حسَّنه المؤلف.
والحديث الرابع: حديث أبي سعيدٍ أيضًا: أن النبي ﷺ كان يخرج للفطر والأضحى يوم الفطر والأضحى، وأول شيءٍ يبدأ به الصلاة.
هذه السنة: أن يبدأ الإمامُ بالصلاة في العيدين، ثم الخطبة بعد ذلك، هكذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، ودرج عليه صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو السنة بلا ريبٍ، بخلاف الجمعة، الجمعة يبدأ بالخطبة أولًا ثم الصلاة، أما العيد فإنه يُصلي أولًا ثم الخطبة، كما تقدم عن ابن عمر: أن النبي كان يُصلي -وهكذا أبو بكر، وهكذا عمر- العيد قبل الخطبة، وهكذا عثمان، وهكذا عليّ كما في النسخ الأخرى.
والمشهور أنَّ أول مَن بدأ بالخطبة مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في خلافة معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وقد أنكر عليه أبو سعيد وغيره.
فالسنة والحقّ هو ما دلَّت عليه الأحاديث: أن البداءة بالصلاة في العيد، ثم الخطبة بعد ذلك.
وفي هذا أنه كان يقف أمامهم ﷺ، فيعظهم ويأمرهم. احتجَّ بهذا على أنه ما كان منبر يقوم عليه، بخلاف الجمعة، فإنه كان له منبر يقف عليه، صُنع له من أعوادٍ أربع، كما تقدم في الجمعة، وكان ﷺ ربما خطب الناسَ على الراحلة، أو على محلٍّ مرتفعٍ، أو على المنبر إن كان في الجمعة.
وهنا قال: فيقوم أمام الناس ..... فيعظهم ويأمرهم. هذا يدل على أنه كان ﷺ في العيد يخطبهم على غير منبرٍ.
لكن جاء في بعض الروايات أنه يخطبهم في محلٍّ مرتفعٍ؛ لأنَّ فيه: ثم نزل. وهذا في الصحيح، فهذا يدل على أنه يخطب على محلٍّ مرتفعٍ.
وجاء في حديث ابن عباس: أنه خطب في الاستسقاء على المنبر، قال: كما يخطب في العيد.
فهذا يدل على أنه ﷺ كان ربما خطبهم على شيءٍ مرتفعٍ، وربما خطبهم على المنبر، ولعلَّ هذا كان في آخر حياته.
والجمع بين النصوص أنَّ المقصود إبلاغ الناس الخطبة، فإذا كان على محلٍّ مرتفعٍ والناس كثير صار أبلغ في إبلاغهم كالجمعة، وإذا كان الناسُ قليلين لم يحتج إلى منبرٍ؛ لقُربهم منه، وبإمكانه إبلاغهم الخطبة، فإذا خطب على المنبر فلا بأس، وإن خطب على الأرض في العيد فلا بأس؛ لأنَّ هذا جاء، وهذا جاء، بخلاف الجمعة فإنه قد ثبت فيها المنبر بلا شكٍّ: أنه كان يخطب عليه، وكان قبل ذلك يخطب عند جذعٍ قائمٍ يتَّكئ عليه ويخطب، ثم صُنع له المنبر، فدلَّ على أنَّ الأمر فيه سعة، وأن المنبر أولى في الجمعة، كما استقرَّ عليه عملُ النبي ﷺ، أما العيد فأمره واسع: إن خطب على الأرض إن كان الناس قليلين ويبلغون فلا بأس، وإن خطب على المنبر أو على محلٍّ مرتفعٍ أو على دابَّةٍ، كل هذا لا بأس به للإبلاغ.
وفي عرفات خطب الناسَ على ناقته في عرفات، جلس على الناقة وخطب الناس، وهي بمثابة المنبر، بل أرفع من المنبر في الغالب، وما ذاك إلا لقصد إبلاغ الناس في عرفات.
والحديث الخامس: حديث عمرو بن شعيب بن [محمد بن] عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده.
إذا قال: عن عمرو عن جده، فالمراد به عبدالله بن عمرو كما جاء مصرَّحًا به في عدة روايات، وإذا قيل: عن أبيه، فعن شُعيب، عن جدِّه: جدّ شُعيب، وهو عبدالله بن عمرو، السند متصل على الراجح، ليس بمرسلٍ، بل متَّصل.
أن النبي ﷺ قال: التكبير سبع في الأولى، وخمس في الأخرى .....
هذا يدل على أنَّ التكبير يكون سبعًا في الأولى في صلاة العيد، وخمسًا في الأخرى. وهذه السبع من جملتها على الراجح تكبيرة الإحرام، وتليها ستٌّ بعدها، والركعة الثانية فيها خمس غير تكبيرة النَّقل.
هذا ما رواه أبو داود، وأخرجه الترمذي أيضًا، ورواه أحمد في "المسند" بسندٍ جيدٍ، كلهم رووه بإسنادٍ جيدٍ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري رحمه الله، وهذا النَّقل ليس في "جامع الترمذي"، بل في "العلل" كما صرَّح بذلك صاحب "نصب الراية" الزيلعي، قال: إنه نقل ذلك من كتاب "العلل" .....
وبهذا يُعلم شرعية هذا التكبير لصلاة العيد، وأنه متفاوت: في الأولى سبع، وفي الأخرى خمس، والله أعلم.
س: ..............؟
ج: الأمر فيه واسع، بعض السلف .....
.............
س: ما يقول بين التَّكبيرات؟
ج: ما ورد فيه شيء مرفوع، ورُوي عن ابن مسعودٍ أنه كان يقول: "الله أكبر كبيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا". هذا جاء عن ابن مسعودٍ، ولا أحفظ شيئًا مرفوعًا عن النبي ﷺ، فإذا قال مثلما قال ابن مسعودٍ فحسن.
...............
فظاهره أنه من مسلمة الفتح، وقال بعضهم: إنه قديم الإسلام. ولكن ظاهر حديثه الذي رواه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ أنه من مسلمة الفتح.
قال: كان النبيُّ يقرأ في العيدين بـ"ق" و"اقتربت".
هذا يدل على شرعية قراءة هاتين السورتين في صلاة العيد، وأنه ..... عليه الصلاة والسلام كما كان يقرأ في بعض الأحيان بـ"سبح" و"الغاشية"، وفي بعضها هذا المحفوظ، المحفوظ "سبح" و"الغاشية" و"ق" و"اقتربت"، ويوم الجمعة جاء فيها قراءة الجمعة والمنافقون، وقراءة الجمعة وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية]، ولكن في العيد: جاء في العيد قراءة "سبح" و"الغاشية"، وربما قرأ بهما في العيد وفي الجمعة جميعًا إذا اجتمعا في يومٍ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير.
وقرأ في العيد أيضًا بـ"ق" و"اقتربت"، هذا من باب التَّنوع في القراءة، وربما أطال فقرأ بـ"ق" و"اقتربت"، وربما اقتصر وقرأ بـ"سبح" و"الغاشية".
وهذا على سبيل السنة، ولو قرأ بغير ذلك أجزأ ولا بأس، ولكن المحافظة على السنة أولى؛ تأسيًا به عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى ما في "ق" و"اقتربت" من العظات، وذكر الجنة والنار، وأخبار الأمم الماضية وما أصابها، فإنَّ هذا فيه عظة للسَّامعين، وتوجيه لهم إلى الخير، وتذكير لهم بأحوال يوم القيامة، كما أنَّ في "سبح" و"الغاشية" كذلك إشارة إلى الجنة والنار، وتذكيرًا بذلك، وهذا مجمع عظيم، العيد مجمع عظيم، أعظم من مجمع الجمعة، فناسب أن تُقرأ هاتان السورتان: "ق" و"اقتربت"، وسورتان أُخريان: "سبح" و"الغاشية".
والحديث الثاني حديث جابر: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق. وهكذا رواية ابن عمر عند أبي داود.
هذان الحديثان وما جاء في معناهما يدلان على شرعية مخالفة الطريق إذا خرج من العيد، والأفضل أن يكون من طريقٍ، ويرجع من آخر، وقاس على ذلك بعضُ أهل العلم يوم الجمعة والصَّلوات الأخرى والمشاريع الخيرية والدَّعوة إلى الله وأشباه ذلك.
قال بعضهم: الحكمة من ذلك هي ليظهر الإسلام ويُعلن الإسلام في الطريقين.
وقال آخرون: لإغاظة المنافقين.
وقال آخرون: لتشهد هذه البقاع، الطرقات.
وقال آخرون: ليقضي حاجة أهل الطريقين.
وقيل غير ذلك، والأرجح والأقرب أنه لحكم كثيرة، مخالفة الطريق لحكم كثيرة، منها ما ذُكر، ومنها غير ذلك، فإن حِكَم الشارع لا تُعدُّ ولا تُحصى، وقد يظهر من هذه لطالب العلم بعضها، وقد ..... على بعضها.
فالحاصل أنه خالف الطريق لحكم كثيرةٍ، قد يكون قصد إظهار الإسلام، وقد يكون قصد إغاظة المنافقين، وقد يكون قصد قضاء حاجة أهل الطريقين، وقد يكون قصد غير ذلك من المصالح الشَّرعية.
والحديث الرابع: حديث أنسٍ، عن النبي ﷺ لما قدم المدينةَ أخبروه بأنَّ للعرب يومين يلعبون فيهما، فقال لهم: إنَّ الله قد أبدلكم خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر.
فهذا يدل على أنَّ الله جلَّ وعلا جعل عيد الفطر وعيد الأضحى يوما سرورٍ، ويوما بهجةٍ، بدلًا من الأعياد الجاهلية التي ..... لهم والغفلة والألعاب المحرمة أو المكروهة، أبدلهم الله بعيدين فيهما السُّرور بطاعة الله، وعبادة الله، واجتماع المسلمين على طاعة الله وذكره، وفراغهم من الصوم، وفراغهم من صوم يوم عرفة ومن أعمال الحج ومن موقف عرفة، فإنَّ في ذلك خيرًا عظيمًا، وفي يوم العيد غالب أعمال الحجِّ.
فهما يومان عظيمان، فيهما عبادات، فيهما اجتماع على طاعة الله وذكره، فكانا بدلًا من ذينك اليومين -يومي الجهل والغفلة- هذه من نعمة الله .
وفي هذا قصة الجاريتين: أنهما كانتا تُغنيان عند النبي ﷺ في بيت عائشة، فأنكر عليهم الصديق، فقال: دعهما؛ فإنَّ لكل قومٍ عيدًا.
ومن ذلك لعب الحبشة يوم العيد في المسجد بالدرق والحراب.
وهما يوما سرورٍ، يجوز فيهما اللَّعب فيما لا محذور فيهما، مثل: ضرب الدُّف للجواري، والغناء الذي ليس فيه محرم: كالأشعار التي قيلت يوم بُعاث، والأشعار التي تُقال في نصر الدين، وفي التَّشجيع على الخير من الجواري والنساء وغير ذلك، والصبية.
وفيه أيضًا لعب الحبشة بالشيء الذي لا ضرر فيه، مثل: اللعب بالحراب، بالدرق، بأشباه ذلك مما يكون فيه تدرب على آلات الحرب؛ للاستعداد لما ينبغي عند لقاء العدو، فهذه أمور جنسها مشروع ومباح، لا بأس بتعاطيها في أيام العيدين، أيام السرور، وأيام الخير، وأيام الأنس بطاعة الله وذكره .
والحديث الخامس: حديث عليٍّ قال: "من السنة أن يخرج للعيد ماشيًا".
وإذا قال الصحابي:" من السنة"، فهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وله حكم الرفع.
وعليٌّ هو ابن أبي طالب ، أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وله مناقب معروفة رضي الله عنه وأرضاه، وله أحاديث كثيرة رواها عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وهذا منها.
وذكر المؤلفُ عن الترمذي أنه حسن، وذكر الشارحُ أنه لم يجد للترمذي تحسينه، ويبعد تحسينه؛ لأنه من رواية الحارث الأعور، والحارث ضعيف عندهم، فالحديث في إسناده ضعيف.
كان النبي ﷺ فيما يُعرف عنه يخرج إلى العيد ماشيًا؛ لأنه قريب من مسجده ومن بيته عليه الصلاة والسلام، وقد ترجم البخاريُّ في هذا الباب: "الخروج إلى العيد راكبًا وماشيًا" أو بهذا المعنى.
فالحاصل أنَّ الأصل أنه لا بأس بالخروج ماشيًا وراكبًا، إلا إذا كان الدليلُ على خلاف ذلك، ولكن التَّأسي بالنبي ﷺ بالخروج ماشيًا هو الأفضل؛ لما فيه من الخُطى، فإنَّ العبد إذا خرج إلى الصلاة لا يخطو خطوةً إلا رفعه الله بها درجةً، وحطَّ عنه بها خطيئةً.
وكان ابنُ عمر يخرج صباحًا من بيته ماشيًا، ويُكبر الله حتى ينتهي إلى المسجد، فالسنة التَّكبير في يوم العيد، أن يخرج مُكبرًا، ولا يزال التَّكبير مشروعًا إلى أن تنتهي الخطبة في يوم عيد الفطر، ويُشرع التكبير ليلًا؛ لقوله سبحانه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، فإذا انتهت الخطبةُ انتهى تكبير عيد الفطر.
وأما الأضحى فالسنة التكبير فيه في عشر ذي الحجة، وفي أيام التَّشريق، وفي يوم العيد حتى تنتهي أيام التشريق؛ لقوله جلَّ وعلا: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، وهي أيام العشر، وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]؛ ولحديث: أيام التَّشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله ؛ ولحديث ابن عمر وأبي هريرة، ذكره البخاري معلَّقًا .....: أنهما كانا يخرجان في أيام العشر ويُكبران، ويُكبر الناس بتكبيرهما؛ ولحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عند أحمد وغيره: أن النبي عليه السلام قال: ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبّ ..... من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتَّحميد والتَّكبير.
فهذه الأحاديث والآثار تدل على شرعية التَّكبير في أيام العشر، أو في أيام التَّشريق، كما فعله المصطفى عليه الصلاة والسلام وفعله أصحابه، وكان عمر يُكبر في منى في خيمته حتى ترتج منى تكبيرًا.
وهذه الرواية فيها الدلالة على شرعية الصلاة في الصحراء، إلا إذا كان عذرٌ فلا بأس بالصلاة في المسجد، وإن كان سنده لينًا؛ لأنَّ في سنده مَن لا تقوم به حُجَّة، فإنه يدل من حيث الأصل على أنه لا بأس بذلك، حتى ولو لم يرد هذا الحديث؛ لأنَّ الله يقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، والنبي يقول: إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وهذا المقام ليس بمقام أوامر، وإنما ذلك من فعله ﷺ، وقد يلتحق بالأمر إذا لاحظنا قوله ﷺ: صلوا كما رأيتُموني أُصلي.
فإذا دعت الحاجةُ إلى مسجدٍ -لمطرٍ أو شدة بردٍ أو ريحٍ- فلا بأس بذلك، يُصلون في المسجد ولا حرج ولا كراهةَ، وإذا كان هناك ..... فإنَّ السنة أن يُصلَّى في الصحراء، هذا السنة، إلا في المسجد الحرام فإنه لم يُنقل أنهم صلوا في الصحراء، بل كانوا يُصلون في المسجد الحرام من عهده ﷺ وبعد ذلك؛ لسعته ولكونه أفضل البقاع، أما ما عدا ذلك فالسنة الصحراء، حتى في المدينة؛ لأنه كان يخرج فيُصلي في الصحراء عليه الصلاة والسَّلام.
س: ...............؟
ج: لا أعلم فيه شيئًا، لكن لا مانع من حيث المعنى، الصَّلوات الخمس ويوم الجمعة وعيادة المريض وغير ذلك مشروع، لا حرج من هذا المعنى؛ من إظهار الإسلام، وقضاء حاجات أهل الطريقين، وإغاظة المنافقين وغير ذلك، ومَن لاحظ هذه المعاني قد يقول بالتَّعميم، أما النص فجاء في العيد.
س: ..............؟
ج: من باب شكر الله على نعمه ، من باب تعظيم الله والثناء عليه، كما شرع: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا"، هكذا جاء عن جماعةٍ من الصَّحابة.
س: ..............؟
ج: عامته، عامته إلى الحدود، إلى الحدود المعلومة.
مداخلة: حديث عمرو بن شعيب في التَّكبير في الفطر، قال أبو داود في "سننه": حدثنا مسدد: أخبرنا المعتمر قال: سمعتُ عبدالله بن عبد الرحمن الطائفي يُحدث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال نبيُّ الله ﷺ: التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع: أخبرنا سليمان -يعني: ابن حيان- عن أبي يعلى الطائفي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي ﷺ كان يُكبر في الفطر في الأولى سبعًا، ثم يقرأ، ثم يُكبِّر، ثم يقوم فيُكبر أربعًا، ثم يقرأ، ثم يركع.
الشيخ: الأربع يعني مع تكبيرة النَّقل.
الطالب: قال أبو داود: رواه وكيع وابن المبارك، قالا: سبعًا وخمسًا، وفيه من غير طريق أيضًا عمرو بن شعيب.