15 من حديث (كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر..)

اختلف العلماءُ في مقدارها: فهل تُقدر بعشرين أو بتسعة عشر يومًا أو بثلاثة أيام كما ..... ثلاثة أيام، أو في أربعة أيام كما قال يوم حجة الوداع؟ على أقوالٍ، قد بسطها غير واحدٍ من أهل العلم، فأحسن ما قيل في ذلك تحديدها بإقامة النبي ﷺ في حجة الوداع أربعة أيام، وإذا عزم على الإقامة أكثر منها أتم، وإن كانت أربعةً فأقل قصر؛ لأنها إقامة معزوم عليها في حجة الوداع، إذا قدم في صبيحة الرابعة وخرج يوم الثامن إلى منى وعرفات فهذه إقامته، قد أجمع عليها وقصر فيها، فالأصل فيه التَّمام وما كان ..... فأقلّ فالأصل فيه القصر.

وهذا مذهب جماعة من أهل العلم: الشافعي، وأحمد، ومالك، وجماعة، على اختلافٍ يسيرٍ فيما بينهم في هذا.

وقوم حدَّدوا خمسة عشر، وقوم حدَّدوا تسعة عشر ..... في مكة، قالوا: إنه الظاهر أنه مجمع عليها، ليست بعارضةٍ، والمقام مقام اجتهادٍ واحتياطٍ.

فإذا أقام أربعة أيام فأكثر فالأحوط له كما قال الجمهورُ الإتمام، وإن كان أقلَّ من ذلك قصر وأفطر.

وعلى هذا تجمع الأحاديث: ما زاد على هذا فأمر غير مقصودٍ وغير مجمعٍ عليه، وما نقص عن هذا فهو داخلٌ في المجمع عليه وله .....

وبهذا تنتظم الأحاديثُ، ويكون في ذلك أيضًا صيانة لهذا الدين من تلاعب الناس وتعاطيهم ما ليس لهم فيه حجَّة ظاهرة: في إفطارٍ في غير وجهه، أو في قصرٍ في غير وجهه.

وأما الجمع فكان عليه الصلاة والسلام في الغالب إذا نزل لا يجمع، يُصلي الظهر في وقتها، كما فعل يوم حجة الوداع في منى، يُصلي كل صلاةٍ في وقتها، وهذا هو الغالب عليه، وربما جمع كما في تبوك؛ نزل ومع هذا كان يجمع؛ لكثرة الجيش والحاجة إلى جمعهم، وللمشقَّة العظيمة في صلاة كل صلاةٍ في وقتها، وما يحتاجون إليه من الوضوء والجمع لهم ..... في أماكنهم.

فالحاصل أنه إذا جمع لمصلحةٍ رآها: لقلة الماء، أو لأنَّ هذا أرفق بهم، أو لأسبابٍ أخرى جمع، وإن صلَّى كل صلاةٍ في وقتها فلا بأس، فالأمر في هذا واسع، والأصل في ذلك أن كل صلاةٍ في وقتها، هذا هو الأصل، هذا هو الأفضل، إلا إذا دعت الحاجةُ إلى الجمع وهو نازل جمع؛ لقصة تبوك.

وهكذا في حديث معاذ بن جبل ..... أنه كان يُصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، هذا في الطريق لا يُشكل؛ لأنهم مسافرون، ولكن في النزول جاء في رواية مالك وغيره بإسنادٍ جيدٍ، وفي رواية مسلمٍ أيضًا: أنهم جمعوا وهم نازلون، قال: "صلَّى بنا الظهر والعصر جميعًا ثم دخل خباءه، ثم خرج فصلَّى بنا المغرب والعشاء جميعًا ثم دخل"، فدلَّ ذلك على أنه كان مُقيمًا في تبوك، وكان يجمع بهم وهو نازل، فدلَّ على جواز الجمع في النزول، كما يدل على جواز ..... في السفر.

وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث عن النبي ﷺ: منها حديث أنسٍ المذكور هنا، وحديث ابن عباس في "الصحيحين" أيضًا: "كان يجمع إذا كان على ظهر سير"، السنة إذا كان على ظهر سيرٍ أن يجمع: يُصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، وإذا كان الرحيلُ قبل الزوال أخَّر الظهر إلى العصر وجمع جمع تأخيرٍ، وإذا كان الرحيلُ بعد الزوال قدَّم العصر مع الظهر وجمع جمع تقديمٍ، كما في رواية الحاكم صريحًا وأبي نُعيم.

وجاء معنى ذلك من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس في "الصحيحين".

فهذا يدل على أنَّ الجمع يُراعى فيه الرحيل قبل الوقت وبعد الوقت: فإن كان قبل الوقت جمع جمع تأخير، وإن كان بعد دخول الوقت جمع جمع تقديمٍ، فهذا هو الأفضل، وكيفما جمع جاز، لو جمع في وقتٍ في منتصف الوقت أو في آخره فلا بأس بذلك؛ لأنَّ الوقتين صارا وقتًا واحدًا، في حال السفر والمرض يكون وقتُ الظهر والعصر وقتًا واحدًا، ويكون وقتُ المغرب والعشاء وقتًا واحدًا، في أي وقتٍ جمع فلا حرج، والله أرفق به وبمَن معه، ولكن الأفضل إذا أمكن أن يُراعي ما فعله النبيُّ ﷺ من جمع التَّقديم إذا كان السيرُ في أول الوقت، وجمع التأخير إذا كان السيرُ في وقت قبل دخول الوقت الأول، قبل الزوال، وقبل الغروب، هذا هو الأولى والأفضل؛ رعايةً لما فعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وعملًا بعموم حديث: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، والله أعلم.

..... سعيد بن المسيب فيما يتعلق بالقصر في السَّفر، ويدل على مسائل وفوائد: حديث ابن عباسٍ يدل على أنَّ مسافة القصر أربعة بُرد، وهما يومان قاصدان، البريد: نصف يوم وأربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، كما ذكره أهل العلم من المسافات وأهل اللغة، فإذا كانت المسافةُ بهذا المقدار: أربعة برد، في يومين قاصدين؛ قصر، وإن كانت أقلَّ من ذلك لم يقصر؛ لأنه لا يُسمَّى: سفرًا، وهذا بالنظر إلى سير الأقدام والجمال وأشباه ذلك.

وإلى هذا ذهب جمعٌ من أهل العلم، وعدَّه بعضُهم قول الأكثرين؛ لما رُوي عن ابن عباسٍ، ولما جاء عن ابن عمر أيضًا في المعنى، قالوا: ولأنَّ مثل هذا يُعدّ سفرًا؛ لبُعده عن البلد وطول المسافة، بخلاف ما هو أدنى من ذلك.

ولكن نازعهم آخرون فقالوا: ليس في الباب ما يدل على تعين هذه المسافة، أما أثر ابن عباسٍ فهو ضعيف ..... الرفع، والصحيح أنه موقوف كما أخرجه ابن خزيمة، والموقوف له ما يُعارضه كما في حديث أنسٍ المتقدم: كان النبيُّ إذا خرج ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين، فهو يدل على التَّحديد بأقل من ذلك، وهو فرسخ، في رواية: ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ على الرواية الأخرى، شكَّ فيها الراوي، وكان ابنُ عمر يقصر في أقلّ من ذلك، وفي روايةٍ أخرى عنه.

وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنَّ المسافة يوم كامل .....، وقال آخرون: بل لا يتحدد بشيءٍ من المسافات، ولكن بما يعدّه العُرف سفرًا، فما كان يحتاج إلى الزاد -وهو الطعام والمزاد والماء في عُرف الناس- فهذا سفرٌ، ويُعدّ بعيدًا، وما كان يخرج الناسُ إليه على أقدامهم أو على جمالهم، ولا حاجةَ إلى الماء، ولا حاجةَ إلى الطعام؛ لأنه قريب، فهذا لا يُسمَّى: سفرًا، فردوه إلى العُرف؛ لأنَّ الرسول ما حدده بشيءٍ.

وهذا هو اختيار أبي العباس ابن تيمية وجماعة، وذكر الإمامُ العلامة ..... في "المغني" أنه ليس مع الجمهور في التَّحديد حجة واضحة.

والأقرب والله أعلم والأظهر وما ذكره أبو العباس في السفر ..... العُرف، ويقتضي الزاد والمزاد، أما ضواحي البلد ومزارعها التي حولها والشّعب التي حولها، كل ما يعدّ منها قريبًا فهذا ليس بسفرٍ، وما كان بعيدًا كالبريد: نصف يوم، أو يفوق ذلك، فإنه يحتاج إلى زادٍ ومزادٍ، ولا يذهب إليه الإنسانُ هكذا بدون شيءٍ؛ لئلا يُصيبه عطش أو جوع أو حاجة من الحوائج تمنعه من الرجوع إلى أهله بسرعةٍ.

ولكن إذا احتاط الإنسانُ وعمل بما قال الجمهور من المسافة ولم يقصر إلا في مسافة يومين فأكثر احتياطًا وخروجًا من الخلاف فهذا حسن، ومقداره اليوم ما بين سبعين كيلو إلى ثمانين كيلو، يعدّ مسافة قصرٍ بالنسبة إلى اليومين القاصدين السبعون كيلو وما يُقاربها، مثل: ما بين الرياض والخرج والحوطة وأشباه ذلك ..... وما بين مكة والطائف، وما بين مكة وجدة، كل هذه تُقارب هذه المسافة.

والأصل كما تقدم هو عدم التحديد إلا بدليلٍ واضحٍ، وليس هناك دليل واضح، فوجب الرجوع إلى العُرف، وهو ما يُسمَّى في اللغة: سفرًا، فما كان بعيدًا عن البلد يُسمَّى: سفرًا، وما كان يُعدّ منها عُرفًا قريبًا فليس بسفرٍ.

والعصر حدث فيه أمور ما كانت موجودةً سابقًا: كوجود السيارات والقطارات، فصارت هذه السيارات تجعل البعيد قريبًا الآن، فإذا كان ما يُعدّ سفرًا في الوقت الأول يومين قاصدين وأشباهه، اليوم سهل ذلك على السيارات، وصارت تأتي بالبعيد في مدةٍ يسيرةٍ، فوجب الاحتياط في هذا أكثر لوجود الحالات التي تنقل الإنسانَ من بلده إلى بلدٍ أخرى بسرعةٍ، وإلى أماكن أخرى حول بلده بسرعةٍ، حتى يعدّ الزمان البعيد قريبًا بالنسبة إلى السيارات والطائرات وأشباهها.

فلا ينبغي أن يُلغى هذا الأمر، بل يقال: ما يُعدّ سفرًا بالنسبة إلى الزمن الأول يُعدّ سفرًا اليوم في أمور القصر وأشباهها، وما لا فلا، ويتأيد هذا بأنَّ الرسول ﷺ بعث يُبين للناس السفر مطلقًا وأمور الدين مطلقًا في وقته وفي آخر الزمان، ولم يقل: إذا كان آخر الزمان صار كذا وصار كذا؛ ولهذا قال بعضُ الفقهاء: إذا قطعها ولو في لحظةٍ فهو يُعدّ سفرًا، كما قد يقع في الباخرات وفي السفن في الزمن الأول، وكذا الطائرات اليوم، وكذا السيارات اليوم، فإن السيارات سفن البر، والطائرات سفن الجو، فهذا من جنس البواخر وأشباهها، فما يُعدّ سفرًا بالنسبة إلى الإبل والخيل يُعدّ سفرًا اليوم بالنسبة إلى الطائرات والسيارات وأشباه ذلك.

فإذا قطع المسافة في ربع ساعة بالطائرة أو نصف ساعة فهو سفر، كذلك في السيارات إذا قطع المسافة في ساعةٍ أو نصف ساعةٍ فهو سفر، لولا السرعة لما جاء بهذه المسافة، ثم لو تعطلت السيارةُ فأصابه ما يُصيب الناس على الإبل وأشباهها سابقًا، ولكن بأسباب ما يُسهل الله من السرعة والسلامة، وبعض الناس قد ..... ولا يتكلف من جهة الزاد والمزاد، وإلا لولا هذا لفعل كل شيءٍ يفعله صاحبُ الإبل سابقًا، ولا توجد السرعة التي الغالب عليها السلامة، فوجود القهاوي في بعض الطرق التي فيها الأكل والشرب تجعل الناس يتساهلون في الزاد والمزاد؛ لوجود حاجاتهم بهذه السرعة القريبة، أو لوجود القهاوي وأشباهها.

فالحاصل أنَّ ما يُعدّ سفرًا سابقًا يُعدّ سفرًا اليوم، وما لا فلا.

والحديث الثاني: حديث جابر : أنَّ النبي ﷺ قال: خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا، وفي لفظٍ: وإذا استحسنوا استذكروا.

فهذا الحديثُ وإن كان ضعيفًا فله شواهد تدل عليه في الأدلة الأخرى في الاستغفار، وأنَّ الأفضل في السفر القصر والفطر؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، لا اعتمادًا على هذه الرواية، ولكن على غيرها من الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة، ولم أقف على مرسل سعيد عند البيهقي، ولعل أحدكم يعتني به، بطرقه .....

والحديث الثالث: حديث عمران بن حصين، وهو عمران بن حصين العبيدي، الخزاعي، صحابي جليل، وأبوه صحابي أيضًا، أصابه بواسير، فسأل النبيَّ عن الصلاة فقال: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ رواه البخاري. زاد النَّسائي: فإن لم تستطع فمُستلقيًا.

هذا يدل على شرعية الصلاة للمريض على أي حالٍ كان، وأنه لا يُؤجلها، بل لا يجوز تأجيلها، وقد يقع من بعض الناس تساهل في هذا الأمر، ويظن أنه إذا مرض لا بأس عليه أن يُؤجل، ويقول: إنَّ هذا قد يكون أكمل ..... صلاة كاملة، والآن أنا كذا وكذا، يشقّ الوضوء، قد يكون كذا، يُفتي نفسه، هذا لا يجوز، غلط، بل يُصلي على حسب حاله: إن استطاع الماء توضأ، وإن عجز تيمم، وإن وجد الفراش الطيب صلَّى على الطيب، وإن ما وجد صلَّى على حسب حاله، حتى ولو كان لغير القبلة: إذا ما تيسر مَن يُرشده إلى القبلة ويُوجهه إليها صلَّى على حسب حاله في الوقت، ولا يُؤجل الصلاة، بل يُصلي على حسب حاله؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]؛ ولقول النبي ﷺ: إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم.

فيُصلي قاعدًا إن لم يستطع القيام، يُصلي على جنبه إن عجز عن القعود، يُصلي مُستلقيًا إن عجز عن الجنب، على حسب حاله.

وإذا كان في مستشفى مثلًا وجعلوه إلى غير القبلة، ولا أطاعوه يُعدلونه إلى القبلة، صلَّى على حسب حاله إذا لم يتيسر له مَن يعدله أو يُعدل سريره، كذلك إذا كان ما وجد ماءً ولا أحضروا له ماءً، أو عجز عن القيام ليتوضأ بالماء؛ تيمم، أو يضرّه الماء تيمم.

كذلك إذا كان في فراشٍ غير طيبٍ: فيه بول، فيه أشياء، ولا يوجد محلّ يُصلي عليه طيب، صلَّى على حسب حاله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، كذلك ما يُصيب بدنه من النَّجاسات إذا ما تيسر أنه يُغسل ويُنظف في وقت الصلاة، فإنه يُصلي على حسب حاله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ولا يقضي بعد ذلك.

فينبغي في هذا لطلبة العلم أن يُلاحظوا هذا مع المرضى، إذا زاروا المريض في المستشفيات يُنبهوه على هذه المسائل ..... في المواعظ والتذكير والدروس؛ لأنَّ المرضى يقع منهم هذا بكثرةٍ بسبب الجهل، وبسبب ما يُصيبهم من العجز وضعف النفس، فيتساهل في هذا الأمر، وقد يموت على هذه الحالة وهو لم يُصل الأيام الكثيرة.

س: .............؟

ج: يُصلي على حسب حاله، ولو بغير تيمم، مثلما صلَّى الصحابةُ لما ضاع عقدُ عائشة ولم يُشرع التيمم، صلوا بغير ماءٍ وبغير تيممٍ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

والحديث الرابع حديث جابر: أن النبي عليه السلام عاد مريضًا يُصلي على وسادةٍ، فرمى بها وقال: صل .....، واجعل سجودك أخفض من ركوعك، قال أبو حاتم: الصواب وقفه على جابر.

الحديث موقوفًا ومرفوعًا يدل على أنَّ السنة عدم رفع ..... يسجد عليها، إن استطاع على الأرض سجد على الأرض، وإلا أومأ إيماءً، ولا يرفع وسادةً ولا غيرها، ولا كرسيًّا ولا غيره، بل يُصلي في الهواء، هذا السنة، وإن كان موقوفًا، فالصحابة أعلم بسنة رسول الله من غيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

فالسنة في هذا أنه يُصلي في الهواء: يركع في الهواء، ويسجد في الهواء، كما يركع في الهواء هكذا، يسجد في الهواء إذا عجز عن السجود في الأرض، ولا حاجةَ إلى أن يحطّ ..... يسجد عليه، ولا حاجة إلى وسادةٍ .....، بل يسجد في الهواء، ويجعل السُّجود أخفض من الركوع.

هذا هو السنة، وهو الذي فعله جابر وأمر به، ورواه عن النبي ﷺ كما في هذه الرواية، فينبغي للمؤمن أن يُلاحظ هذا.

وهكذا إذا صلَّى على راحلته في السفر في النافلة، أو عند العجز عن النزول لمرضٍ أو نحوه؛ يجعل سجوده أخفض من ركوعه.

وحديث عائشة ..... يُصلي مُتربِّعًا، جاء فيه ما يدل على أنَّ هذا كان في صلاة الليل، إذا صلَّى نافلةً تربع في حال القيام، وهكذا في الفريضة إذا عجز عن القيام صلَّى مُتربعًا، هذا هو الأفضل، وإن صلَّى على حسب الجلسة بين السَّجدتين، أو على هيئةٍ صحَّ؛ لقول النبي ﷺ في حديث عمران: صلِّ قاعدًا، ولم يقل: مُتربِّعًا ولا مُفترشًا ولا مُتورِّكًا، فدلَّ ذلك على إجزاء القعود مطلقًا، إذا صلَّى قاعدًا أو مُفترشًا أو مُتوركًا أو مستوفزًا كهيئة الحبوة أو مُتربعًا كله يُجزئ، أي قعدة قعدها أجزأه عند العجز عن القيام، أو في النافلة، ولكن كونه يُصلي متربعًا أفضل في محلِّ القيام، هذا هو الأفضل لما ذكرته عائشةُ رضي الله عنها وأرضاها، والله أعلم.

..............

س: القصر في سفر الطاعة وسفر المعصية والنُّزهة؟

ج: الجمهور يرون أنه لا يقصر في سفر المعصية، لو سافر لقطع الطريق أو ليشرب الخمر أو ليزني الجمهور يقولون: لا يقصر. وذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أن القصر مطلقًا؛ لعموم الأدلة.

س: والنُّزهة؟

ج: النُّزهة ما في بأس، مباحة.

س: المسافر إذا صلَّى فرضه ثم أتى المسجد يُصلي نافلةً؟

ج: إن صلَّى معهم فهو أفضل، وإلا ما يلزمه، لكن إذا حضر المسجد يُصلي معهم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

قال المؤلفُ رحمه الله: باب صلاة الجمعة.

الجمعة بدل من الظهر، وهي فرض وقتها؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا فرض خمس صلوات، والخامسة منهن هي الجمعة في يوم الجمعة، وهي فرض عينٍ عند عامة أهل العلم كالظهر وبقية الصَّلوات الخمس، ولها فضائل، هذه الصلاة لها فضائل جاءت في الأحاديث.

السنة فيها أنَّ العبد إذا بكَّر إليها وأدَّاها كما شرع الله غُفر له ما بينه وبينها وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام، فلها فضائل وخصائص، وليومها كذلك ..... الظهر، فهي فرض عظيم، ولها ثواب جزيل، ولها أحكام؛ ولهذا أفردها العلماءُ في باب خاصٍّ.

وتُسميها الجاهلية: العروبة، يوم الجمعة: يوم العروبة، ويُقال لها: جمعة بضمتين، وجمعة بالتسكين .....، والمشهور الأول: جمعة بضم الجيم والميم، وسُميت بذلك للاجتماع فيها: أن الناس يجتمعون؛ ولهذا قيل لها: جمعة، ويحتمل أنها سُميت بذلك -كما قال بعضُ السلف- لأنَّ الله يجمع بين خلق آدم، خُلق يوم الجمعة.

عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم: أنهما سمعا النبيَّ ﷺ يقول على أعواد منبره.

هذا يُبين لنا أنَّ هذا القول بعدما صُنع له المنبر من الأعواد، وأنه جاء متأخرًا هذا القول بعد هذا الوقت، لما صنع المنبر له عليه الصلاة والسلام، وكان أولًا يخطب عند الجذع، يقوم عنده فيخطب، يتَّكئ عليه، ثم أمر غلامًا لبعض نساء الأنصار فصنع له هذا المنبر، فقام عليه، فحنَّ الجذعُ حنينًا عظيمًا حتى سمعه الناسُ، حتى نزل النبي يُهدئه، فهدَّأه، وهذه من آيات الله .

المقصود أنه ﷺ خطب الناس وقال: لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعة.

الودع: الترك، ودع كذا: تركه.

أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين أخرجه مسلم في الصحيح.

هذا يدل على عظم فرضيتها، وشدة الحكم فيها، وأنَّ أمرها عظيم، وأنَّ تاركها قد تعرض للطبع على قلبه والختم على قلبه، وأن يكون من الغافلين، نعوذ بالله.

فدل ذلك على فرضيتها وتأكُّدها ووجوب المحافظة عليها والعناية بها؛ حذرًا من هذا الوعيد الشديد.

وجاء في لفظٍ في الحديث الآخر: مَن ترك ثلاث جمعٍ بغير عذرٍ طبع الله على قلبه.

فصلاة الجمعة فرضٌ على الرجال المقيمين، لا على النساء، ولا على المسافرين والبادية، ولكنها فرض على المقيمين المستوطنين، وليس على النساء والصبيان، وإنما هو على الرجال البالغين المستوطنين في قريةٍ أو مدينةٍ أو نحوها مما يُعدّ سكنًا للإقامة والاستيطان.

ووقتها بعد الزوال كالظهر، هذا هو المشهور عند الجمهور، احتجوا على هذا بحديث سلمة قال: "كنا نُصلي الجمعة مع النبي ﷺ ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ يُستظل به"، يعني: لها ظلٌّ ولكن ليس بالطويل.

وفي اللفظ الآخر: "كنا نجمع معه إذا زالت الشمسُ، ثم نرجع فنتتبع الفيء".

قالوا: هذا يدل على أنَّ وقتها وقت الظهر، وأنها تُصلى وقت الظهر، لكن بالتبكير، مراعاة التبكير؛ لأنَّ الناس ينتظرونها، فيشقّ عليهم التَّأخير، فالسنة المبادرة والمسارعة إلى فعلها في أول الوقت؛ رفقًا بالناس؛ لأنهم يُبكرون إليها وينتظرونها، ولو أخَّرها بعد الزوال لربما طال عليهم الأمر وشقَّ عليهم. وبهذا قال جمهورُ أهل العلم: بحديث سلمة وما جاء في معناه.

وقال آخرون: يجوز أن تُقدم قبل الزوال، واختلفوا:

فقال بعضهم: يكون وقتها بعد ارتفاع الشمس.

وقال آخرون: بل من الساعة السادسة قبيل الزوال. وهذا القول أظهر: أنه لا في أول النهار، بل في وقت الظهيرة قرب الزوال؛ لما جاء في الأحاديث الصحيحة من فضل التَّبكير، وأن الساعة السادسة يخرج الإمامُ، الساعة السادسة ليس فيها زوال، بل قُبيل الزوال.

ومما جاء في حديث ..... الآتي: "ما كنا نقيل ولا نتغدَّى إلا بعد الجمعة" لفظ مسلم متفق عليه. وفي روايةٍ: "في عهد رسول الله ﷺ".

هذا يظهر منه أنهم يُبكرون بها قبيل الزوال؛ لأنَّ القائلة بعد الزوال وبعد الصلاة، فدلَّ على أنهم يُبكرون بها، لكنه ليس بالصريح، حديث سلمة أصرح: أنها بعد الزوال، وأصرح من هذا حديث جابر عند مسلم: أنه كان يُصلي مع رسول الله الجمعة، "ثم نرجع فنُريح رواحنا حين تزول الشمس"، الظاهر أنهم يُريحونها حين الزوال، فدلَّ على أنهم صلّوها قبل الزوال ..... مع أبي بكرٍ قبل أن يزول النَّهار.

فهذا يدل على أن التَّبكير بها قبيل الزوال لا حرجَ فيه؛ ولهذا ذهب أحمد رحمه الله وإسحاق وجماعة، والأحوط والأولى والأفضل الخروج من الخلاف، وأن تُصلى بعد الزوال؛ عملًا بالأحاديث كلها، وأخذًا برأي الجمهور، واحتياطًا لهذه العبادة العظيمة.

الحديث الرابع: حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هذا يدل على أنَّ الخطيب يكون قائمًا في الجمعة: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، فالسنة والمشروع أن يخطب قائمًا كما يُصلي قائمًا، ولا ينبغي الجلوس، وأقل أحواله الكراهة إلا مع العجز فلا بأس.

وفي هذا أنَّ النبي ﷺ كان يخطب الناسَ ذات يومٍ، فجاءت عيرٌ من الشام، العير: هي الإبل التي تحمل المتاع -التجارة- تُطلق على الجماعة الذين يسيرون معها، يُقال لهم: عير، يقال للجماعة الذين معهم التجارة: عير، ويُقال للإبل: عير، من باب التَّجوز والتَّوسع في اللغة.

"فانفتل الناس إليها حتى لم يبقَ إلا اثنا عشر رجلًا" الظاهر والله أعلم أنهم انفتلوا إليها قبل أن يعلموا الحكم الشرعي في وجوب البقاء أثناء الخطبة، فظنوا أنَّ هذا جائز، وكان أن جاءت العيرُ من الشام والتِّجارات من الشام فوقع في نفوس الناس؛ لقلة المال في المدينة وغلبة الحاجة، فكان مجيء التِّجارات له أثر في النفوس؛ ولهذا انفتل الناسُ إليها ليشتروا وينظروا.

وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تكون الخطبةُ في يوم الجمعة قبل الصلاة، كما كانت بعد الصلاة.

روى هذا أبو داود في "مراسيله": أن الخطبة كانت في أول الأمر بعد الصلاة، وأن الحادثة هذه وقعت حين كانت الخطبة بعد الصلاة، فظنوا أنهم غير ملزمين بسماعها؛ لأنَّ الصلاة انتهت.

وهذا فيه نظر؛ لأنَّ المراسيل .....، ولا تقوم بها حُجَّة، لو صحَّ سندها فالأقرب والله أعلم مثلما تقدم: أنهم ظنوا أنَّ هذا لا حرج فيه، وأنه لا بأس به؛ ولهذا انفتلوا للتِّجارة والنبي يخطب، فظنوا أنَّ هذا شيء لا حرجَ فيه، فعاب الله عليهم ذلك، وأنكر عليهم ذلك، فلم يُعودوا لمثله.

وجاء في روايةٍ أخرى عند مسلم: من جملة الاثني عشر الباقين: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كانا من الاثني عشر الذين بقوا ولم ينفتلوا.

وفيه دلالة على أنه لا بأس أن تكون الجماعةُ في الجمعة اثني عشر، لا حرج في هذا؛ لأنهم انفتلوا وتركوا النبي يخطب، فدلَّ ذلك على أنَّ حضور الاثني عشر كافٍ، وأنه لا يُشترط الأربعون لحضور الجمعة، ولا لحضور الخطبة.

وهذا وإن كان ظاهرًا في الاثني عشر، لكن الأدلة دلَّت على أنه لا بأس بأقلّ من ذلك أيضًا، وأنه ليس هناك دليل ظاهر على فرضية الاثني عشر، ولا فرضية الأربعين، والحديث في الأربعين ضعيف، والصواب أنه يجوز أن تُقام الجمعة بأقل من أربعين، بل في ثلاثةٍ، كما اختار هذا بعضُ أهل العلم: اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنهم جماعة، فإذا عيّن في مصر أو قريةٍ ثلاثة فأكثر شُرع لهم صلاة الجمعة؛ لما فيها من الخير والفضل، والتذكير بالله، وإقامة هذه الشعيرة العظيمة، هذا هو الأرجح.

وقال قوم: أربعة. وقال قومٌ: أكثر من ذلك. وفي هذا اختلافٌ كثير، ولكن الأرجح أن أقلّ عددٍ ثلاثة، هذا هو الأرجح، وإذا كانوا فوق ثلاثةٍ فأولى وأولى، وليس على شرط الأربعين حُجَّة قائمة، والحديث المستدل به في هذا ..... في الجمعة، ويأتي إن شاء الله، ليس بجيدٍ، بل هو ضعيف الإسناد. والله أعلم.

س: ثلاثة مع الإمام؟

ج: الإمام واثنان معه، نعم.

يقول المؤلفُ رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي ﷺقال: مَن أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو غيرها فليُضف إليها أخرى تتمة صلاته خرجه النَّسائي وابن ماجه والدَّارقطني .....، وقوَّى أبو حاتم إرساله.

هذا الحديث يدل على أنَّ الجمعة تُدرك بركعةٍ، كما يُدرك فضل الجماعة بركعةٍ، وثبت في الصحيح أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاةَ، هذا يدل على أنَّ مَن أدرك ركعةً من الجمعة يكون قد أدرك الجمعةَ، وليُضف إليها أخرى وتمَّت صلاته. أما إذا كان أدرك أقلَّ من ذلك فإنه يُصلي أخرى، ولا يُصلي جمعة؛ لأنه لم يُدرك ركعةً.

وهذا الحديث وإن كان أبو حاتم قوَّى إرساله، لكنه يتأيَّد ويتقوَّى بما رواه في الصحيح من حديث أبي هريرة، أو في خارج الصحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاةَ، هذا يعمُّ الجمعة وغيرها.

وقوله: "وغيرها" يعمّ الصَّلوات الأخرى، وأنه بهذا يُدرك فضل الجماعة، ويُدرك فضل الجمعة إذا كانت الركعةُ من الجمعة، ولا يحتاج إلى أن يُصلي ظهرًا.

والحديث الثاني: حديث جابر بن سمرة : أن النبي ﷺ كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا ..... خرَّجه مسلم.

وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبيُّ ﷺ يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوسٍ.

فهذان الحديثان وما جاء في معناهما دليل ظاهر على شرعية القيام في الخطبة، وأنها خطبتان بينهما جلوس في الجمعة، هذا هو المشروع.

وقال بعضُهم: وإنما قامتا مقام ركعتين من صلاة الظهر، وهذا من باب الاجتهاد، ومن باب الظن، ليس هناك ما يدل دلالةً واضحةً على أنهما مقام الركعتين، لكن من باب الاستنباط، ومن باب الظن والاجتهاد.

فالحاصل أنَّ الله شرع لنا يوم الجمعة خطبتين قبل الصلاة يخطبهما الإمام وهو قائم، ويفصل بينهما بجلوسٍ خفيفٍ، هذا هو السنة التي فعلها النبيُّ ﷺ، وهما فريضتان في صلاة الجمعة، فلا بدَّ منهما، والخطبة ما يكون فيها عظةٌ وذكرى من الآيات والأحاديث أو منهما جميعًا.

والواجب على المسلمين أن يحضروهما؛ لأنَّ المقصود تذكيرهم بهاتين الخطبتين ووعظهم وتنبيههم على ما قد يخفى عليهم، وتعليمهم ما قد يجهلون من أحكام الله، فالواجب أن يُسابقوا إلى الجمعة، وأن يحضروا الخطبتين؛ حتى يحصل المقصود من التَّذكير والعظة والتَّبليغ.

أما حديث أنه خطب ذات يومٍ وهو جالس وحوله أصحابه.

قال أهلُ العلم عن ذلك: أنه كان في غير الجمعة، كان في الخطب العادية والوعظ العادي الذي في غير الجمعة، قد يخطبهم وهو قائم، وقد يخطبهم وهو جالس عليه الصلاة والسلام الخطب العادية التي في غير الجمعة، أما في الجمعة فلم يُحفظ عنه سوى أنه كان يخطب وهو قائم عليه الصلاة والسلام.

فلا ينبغي أن يخطب وهو جالس مع القُدرة، بل قال: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، فظاهر الأدلة وجوب القيام في خطبة الجمعة، وقد قال بعضهم بأنه سنة، ولكن ظاهر الأدلة وجوب ذلك مع القُدرة؛ لأنه واظب على هذا، وقال: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، فلا ينبغي الجلوس، بل ينبغي للإنسان أن يتحرى هذا الشيء، وأن يحرص عليه، وأن يكون بينهما جلسة خفيفة فاصلة.

وفي حديث جابرٍ -وهو السابع- ..... الدلالة على أنَّ الخطيب يعتني بالخطبة، ويجزل ألفاظه، ويرفع صوته، ويغضب غضبًا يليق بالمقام؛ ليكون ذلك أشدّ في التأثير، وأكمل في .....؛ لأنَّ الخطبة الميتة الضَّعيفة لا تُؤثر في القلوب، ولا يحصل بها المقصود، لكن مع قوة الكلام والدلالة في الكلام والإيضاح في الكلام والغضب في الكلام يتأثر السَّامعون وينتبهون، ويذهب عنهم النعاس، ويعنون بما يسمعون؛ ولهذا كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه حتى كأنه مُنذر جيشٍ يقول: صبَّحكم العدو أو مسَّاكم العدو، فكان يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم يقول: أما بعد، كما في الرواية الثانية.

هذا هو السنة: أن يكون جزلًا في الكلام، قويًّا في الكلام، رافعًا صوته، يُنبه الغافل، ويطير النعاس عن الناعس، ويحصل به جمع القلوب ولفتها إليه؛ حتى تُصغي وتعي ما يُقال.

والسنة أن يقول: "أما بعد"؛ تأسيًا بالنبي ﷺ، وكان يعتادها في خطبه: "أما بعد"، فينبغي للخطيب أن يعتادها، والمعنى: أما بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله والشَّهادتين فكذا وكذا. والمشروع أن يأتي بالشَّهادتين أيضًا مع الحمدلة والصلاة على النبي ﷺ؛ لأنَّ النبي كان يعتادها عليه الصلاة والسلام في خطبه.

أما حديث: كل خطبةٍ ليس فيها الشَّهادة جذماء فبسنده نظر، ولكن أقوى من هذا التأسي بالنبي ﷺ في خطبه، وأنه كان يقول الشَّهادتين في خطبه؛ فأقل أحوال ذلك السنة المؤكدة.

وفي هذا أيضًا شرعية أن يقال: مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وتارةً يقول: إنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة؛ لأنَّها أمور عظيمة قواعد، فينبغي أن يُؤتى بها في الخطب حتى ترسخ في قلوب الناس: خير الحديث كلام الله، وخير الهدي يُروى: الهدي بالهاء، الهدي: السيرة، ويُروى: الهُدى بالضم والفتح، الهدى أي: ما هدى إليه ودعا إليه عليه الصلاة والسلام وجاء به، ولا تنافي في ذلك، لا تنافي ما بين الروايتين: "هدى، وهدي"، فهديه هو ما جاء به، وهُداه هو ما جاء به، "فخير الهدى والهدي هدي محمدٍ ﷺ" يعني: الذي جاء به من عند الله .

وشرّ الأمور عطفًا على ما تقدم، بالنصب، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ، فالعطف على إسقاط "إن".

وكل بدعةٍ ضلالة قاعدة أيضًا، يعني: وإن كل بدعةٍ ضلالة.

فالأصول والقواعد يُؤتى بها في الخطب لترسخ في قلوب الناس، وليعوها ويحفظوها؛ حتى لا يُطيل عليهم.

"خير الكلام كلام الله جلَّ وعلا، وخير الهدى هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وخير السيرة سيرته ﷺ" هذا أمرٌ مجمعٌ عليه، فلا بدَّ أن يعتقد المؤمنُ، ومَن زعم أنَّ هدي غيره أكمل من هديه، أو أنَّ هدى غيره أكمل من هداه فقد كفر عند أهل العلم بإجماعهم؛ لأنه مكذب لله ولرسوله، وليس هناك أصدق من الشريعة، ولا أكمل منها، ولا خير منها.

أما قوله: وكل ضلالةٍ في النار فلم أقف على إسنادها، أعلَّها بعضُهم، ولعله إن تيسر الوقوف على .....

الحديث الرابع حديث عمار بن ياسر: أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه يعني: دلالة على فقهه. زاد مسلم تتمة الحديث: فأطيلوا الصلاةَ، وأقصروا الخطبة.

وكان ينبغي للمؤلف أن يأتي بهذه الزيادة؛ لأنها مفيدة، ولكنه -غفر الله له- لم يُكمل، وهذا كماله: فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإنَّ من البيان لسحرًا، هذا تمام حديث عمار، ويدل على شرعية إطالة الصلاة وتقصير الخطبة؛ لئلا يملّ الناس ويضعفوا، فإذا ضعفوا وملوا لم ينتفعوا بالخطبة، وضاعت عليهم، وإذا كانت قصيرةً حفظوها واستفادوا منها واستقرت في قلوبهم.

فينبغي للخطيب ألا يُطول على حسب الأحوال، كل مقامٍ له مقال، حتى يحتاج للطول بعض الشيء، لكن لا يُعدّ طولًا إذا دعت الحاجةُ إليه.

والحاصل أنه يُراعي أحوال المؤمنين فلا يُطول عليهم تطويلًا يشقّ عليهم ويملهم، بل يغلب على الخطبة التَّقصير وعدم الإطالة بقدر الحاجة.

وهكذا خطب النبيّ ﷺ كانت يغلب عليها الاختصار وعدم التطويل الذي يملّ الناس، كان يتكلم بكلماتٍ لو عدَّها العادُّ لأحصاها وحفظها، وقد يُطيل بعض الأحيان للحاجة، يخطب خطبةً طويلةً تدعو الحاجةُ إليها.

وهكذا في حديث أم هشام أنها حفظت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ من لسان رسول الله ﷺ، كان يقرأها على المنبر كل جمعةٍ. هذا ..... الحاجة؛ ولما فيها من العظة والذكرى، كذلك ما جاء في عدة أحاديث أنه خطب ذات يومٍ صباحًا إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ..... بيَّن فيها ﷺ أمور الدين وما يكون في آخر الزمان، حتى دخل أهلُ الجنة الجنة، وأهلُ النار النار.

فهذه خطبة دعت إليها الحاجة؛ ليشرح للناس أمور دينهم في مقعدٍ واحدٍ، ويذكر لهم ما يكون في آخر الزمان، وما يكون في الجنة، وما يكون في النار، فأطال لهم الحديثَ، وأطال لهم الخطبة في أمرٍ دعا إلى هذا، فهذا يدل على أنه إذا دعت الحاجةُ إلى الطول فلا بأس، لكن يكون الغالبُ والسمة التَّقصير، هذا هو الغالب، فإذا دعت الحاجةُ إلى طول الخطبة لأمرٍ حدث، أو لأمرٍ يراه وليُّ الأمر، أو يراه الخطيبُ يحتاج إلى تذكيرٍ وإطالةٍ فلا بأس بذلك، كل هذا لا يُخالف السنة، والله أعلم.

س: .............؟

ج: رواها مسلم في الصحيح، وروى معناها البخاري من حديث عمر.

س: الألفاظ التي وردت في حديث جابر هل كان النبيُّ يُداوم عليها كل جمعةٍ؟

ج: الظاهر من سياق جابر؛ لأنَّ "كان" تقتضي ..... وصف أغلبي.

س: ..............؟

ج: يخطب أحدُ الجماعة، ما هو بشرطٍ أن يكون طالبُ العلم إذا خطب بآيات ..... وآيات فيها عظة كفى.

..............

س: لو خطب خطيبٌ وحمد الله وصلَّى على رسول الله ﷺ ولم يأتِ بالشَّهادتين؟

ج: الظاهر أنها تصح، الأرجح تصح؛ لأنه ترك سنةً مؤكدةً، وقول مَن قال بأنها شرطٌ محل نظرٍ.

س: لو أنَّ إنسانًا لم يُدرك من صلاة الجمعة إلا ركعةً وأتمها أربعًا؟

ج: لا يجزيه، يُصلي جمعة ..........

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ.

وَهُوَ يُفَسِّرُ حديث أبي هريرة في "الصحيحين": إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوتَ.

هذان الحديثان وما جاء في معناهما يدلان على أنه لا يجوز للمسلم أن يتكلم والإمام يخطب الجمعة، وأن الواجب الإنصات؛ لأنَّ الخطبة شُرعت لمصلحة الحاضرين وإفادتهم وتذكيرهم في الله وفي حقِّه، فلا يليق منهم ولا من بعضهم أن يتكلم أو يتشاغل بشيءٍ في هذه الحال، بل يُنصت ويعدّ قلبه لسماع الفائدة.

وهذا الكلام الذي قاله النبيُّ ﷺ تنفير من الكلام والإمام يخطب، وتشبيهه بالحمار يحمل أسفارًا؛ لأنَّ الحمار يحمل كتبًا ولا ينتفع، شبَّه هذا بالذي حضر الخطبةَ ثم يتشاغل عنها بهذا الحيوان البليد الذي لا يستفيد بما حمل عليه.

فينبغي للمؤمن أن يتباعد عن مشابهة الحيوانات، وأن يرتقي بنفسه عن ذلك إلى ما يليق به من العناية بالأوامر والنَّواهي والعظات والذكرى، وألا يغفل، وألا يتشاغل عمَّا ينفعه بما لا ينفعه، وليست له جمعة يعني: يفوته فضلها، وهي مُجزئة، لا يُؤمر بالإعادة، لكن يفوته فضلها الذي رُتِّب عليها، وفي هذا حثٌّ وتحريضٌ على سماع الخطب والمواعظ والذكرى والإقبال عليها، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون حريصًا على الفائدة، وعلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وألا يتشاغل عن ذلك بما لا فائدةَ فيه أو بما يضرّه.

وفي حديث أبي هريرة: إذا قلتَ لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوتَ فيه إجمال، وأنه يُسمَّى: لاغيًا إذا تكلم والإمام يخطب، ولو بقول: أنصت، ولو بهذه الكلمة العظيمة التي هي أمر بمعروف، ونهي عن منكر، فكيف بالذي يخوض فيما لا ينفع، إذا كان مَن قال: أنصت، وأمر بالمعروف يُعدّ لاغيًا، فغيره من باب أولى.

وقوله: فقد لغوتَ مجمل، فسَّره قوله: فليس له جمعة من حديث ابن عباسٍ.

زاد مسلم من حديث أبي هريرة بعد قوله: فقد لغوتَ، ومن مسَّ الحصى فقد لغى، فهذا يُفيدنا أيضًا أنه كما يُؤمر بالإنصات يُؤمر أيضًا بالكفِّ عن التَّشاغل بالأشياء الأخرى: كالعبث بالحصى، أو بلحيته، أو بغير ذلك من الأشياء التي قد تشغله عن الاستفادة والإنصات.

فالمأمور به وقت الخطبة هو الإقبال على الخطيب بالقلب، والإنصات لما يقول، والتأمل فيما يقول، والاستفادة من ذلك، وألا يتشاغل عنه إنسانٌ بكلامٍ، ولو بأمرٍ بمعروفٍ، ولا بفعلٍ.

وفي هذا أنَّ الإنسان وقت الخطبة كوقت الصلاة، ليس له الكلام في شيءٍ من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بل يُنصت ويُقبل على ما هو في شأنه، ولا يتشاغل بشيءٍ آخر، ولكن لا مانع من الإشارة، إن كانت الصلاةُ وهي أعظم، حال الصلاة أعظم، إذا جاز فيها الإشارة جاز في الخطبة الإشارة، إذا أشار لمن يتكلم أو يعبث أشار له أن يكفَّ فهذا من باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بالفعل، ولا حرج في ذلك، كما أنَّ المصلي يُشير لمن سلَّم عليه ولمن دعت الحاجةُ إلى أن يشير إليه ولا بأس.

س: التَّسوك والإمام يخطب؟

ج: كذلك لا ينبغي، الذي يظهر لنا أنه لا يتسوك؛ لأنَّ هذا ما هو بوقته، وقته عند الدخول في الصلاة، وهذا ما بعد جاء وقت الدخول في الصلاة، وهو مأمور بالإنصات والإقبال، فلا يتسوك، ولا يرد السلام، ولا يُشمت العاطس، بل يُقبل على شأنه.

وحديث جابرٍ يدل على شرعية تحية المسجد، وأنَّ مَن دخل والإمام يخطب ..... تحية المسجد، ولا تمنعه الخطبة من كونه يُصلي ركعتين؛ لأنه قال: قم فصلِّ ركعتين، وفي رواية مسلم: إذا جاء أحدُكم والإمام يخطب فليُصلِّ ركعتين، وليتجوز فيهما يعني: يُخفف فيهما تخفيفًا لا يُخلُّ بالواجب، يُصلي ركعتين خفيفتين مثل: سنة الفجر، ليس فيهما إخلال بالواجب، ولكنَّهما خفيفتان؛ حتى يتمكن من سماع العظة.

وحديث ابن عباسٍ أيضًا فيه الدلالة على شرعية قراءة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة، وأنه يُستحب أن يقرأ بهما في صلاة الجمعة، الجمعة في الأولى، والمنافقون في الثانية. وهكذا روى أبو هريرة عن النبي ﷺ مثلما في حديث ابن عباس، رواه مسلم أيضًا: قراءة السورتين.

وجاء في حديث النعمان: قراءة الجمعة في الأولى، والغاشية في الثانية.

وجاء في حديث النعمان أيضًا: بسبح والغاشية.

فهذه ثلاث سنن في صلاة الجمعة:

السنة الأولى: الجمعة والمنافقون.

والسنة الثانية: الجمعة وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية].

والسنة الثالثة: سبح والغاشية.

فيُستحب أن يقرأ بهذا تارةً وهذا تارةً وهذا تارةً، ولو قرأ بغيرهما فلا بأس، لكن تحري فعل النبي ﷺ أولى وأفضل؛ حتى يُوافق فعله في القراءة وغيرها عليه الصلاة والسلام.

وفي رواية النعمان زيادة لم يذكرها المؤلفُ هنا، وكان ينبغي له أن يذكرها عند مسلم، قال: "وربما اجتمعا فقرأ بهما في الصلاتين: العيد والجمعة"، يقرأ فيهما بسبح والغاشية، قال: وربما اجتمع العيد والجمعة في يومٍ فقرأ بهما في الصلاتين: صلاة الجمعة وصلاة العيد.

ويُستفاد من هذا أنه ﷺ كان يجمع بعد صلاة العيد، إذا اجتمعا يُصلي العيد ويُصلي الجمعة، وربما قرأ بسبح والغاشية فيهما جميعًا: العيد صباحًا، والجمعة ظهرًا، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا لا بأس به، وأنه من المشروع أن يقرأ بهما في العيد والجمعة، وأنَّ من السنة أيضًا أن يُصلي الجمعةَ الإمامُ، وألا يدعها، بل يُصليها؛ ولهذا في حديث أبي هريرة: وإنا مُجمعون لما كان رخصة ..... العيد قال: وإنا مجمعون.

وحديث زيد بن أرقم فيه الدلالة على أنه لا بأس أن يدع الجمعة مَن حضر صلاة العيد، لكن يُصلي الظهر، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومَن قال: لا يُصلِّ الظهر. فقد غلط، يُصلي الظهر في وقتها، ويُعفا عنه لحضور الجمعة، وإن حضرها فهو أفضل وأولى؛ لأنَّ النبي كان يُقيمها عليه الصلاة والسلام، والسنة أن تُقام؛ لأنهما عيدان اجتمعا، فأجزأ أحدهما عن الآخر في حقِّ الشخص الذي حضر العيد.

وأما ولي الأمر وأئمة الجوامع فيُصلون؛ لأنَّ النبي صلَّى صلاة العيد والجمعة جميعًا، ومَن حضر صلَّى مع الإمام، ومَن لم يحضر صلَّى ظهرًا، والله أعلم.

..............

هذه الأحاديث تتعلق بالجمعة أيضًا:

الحديث الأول فيه الدلالة على شرعية صلاة أربع ركعات بعد الجمعة، وأنه يُستحب أن يُصلي بعدها أربعًا، وهذه راتبة؛ لهذا قال: إذا صلَّى أحدكم فليُصلِّ بعدها أربعًا، وفي لفظٍ: مَن كان مُصليًا بعد الجمعة فليُصلِّ أربعًا، وهذا يدل على شرعية الأربع، وظاهر الإطلاق أنه لا فرقَ بين كونها في المسجد أو في البيت: أنَّ السنة أربع، وأن الرسول أمر بها، فدلَّ ذلك على أنها سنة.

وكان يُصلي ركعتين في بيته بعد الجمعة، كما ثبت هذا في "الصحيحين" من حديث ابن عمر، فاختلف أهلُ العلم في هذا:

فقال قوم: إن صلَّاها في المسجد صلَّى أربعًا، وإن صلَّاها في البيت صلَّى ثنتين؛ جمعًا بين الروايات.

وقال آخرون: أقلها اثنتان، وأكثرها أربع، ولا فرقَ بين كونه يُصليها في البيت أو في المسجد، وهذا القول أظهر؛ لأنَّ القول مقدم على الفعل، قد يكون صلَّى ركعتين لأنه أدَّاها في البيت، وقد يكون أراد التَّخفيف والتَّسهيل على أمته عليه الصلاة والسلام، وقد يكون هذا قبل أن يأمر بالأربع، فالأولى والأفضل في هذا مثلما قال .....، أقلها ركعتان، وأكثرها أربع، كما قال النبيُّ ﷺ، والأربع أفضل؛ لأنها أكثر عملًا؛ ولأنها يتعلق بها الأمر، سواء فعلها في البيت أو في المسجد.

والحديث الثاني: حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أنه قال للسَّائب بن يزيد: "إذا صليتَ الجمعة فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج؛ فإنَّ الرسول ﷺ نهانا عن ذلك".

هذا يدل على أنَّ السنة لمن صلَّى صلاةً -صلاة فريضة- ألا يصلها بصلاةٍ؛ لئلا يُوهم أنها شيء منها، فيكون وصلها بها مُوهمًا بأنها تابعة لها وجزء منها، بل لا بدَّ من فصل بالكلام، أو خروج من المسجد، فإذا تكلم بالاستغفار أو التَّسبيح أو لا حول ولا قوة إلا بالله أو بشيءٍ من ذكر الله فصلت بما بعدها، فلا يقوم للنافلة حال ما يُسلم من الفريضة، بل يفصل بينهما بالذكر الشَّرعي، ثم يُصلي النافلة، أو بالخروج إلى خارج المسجد فيُصليها في بيته؛ حتى لا تكون هناك شبهة بوصل هذه بهذه.

وقد ثبت عنه ﷺ أنه كان يُصلي النوافل في بيته، كانت النوافل يُصليها في البيت، فدلَّ ذلك على أنَّ في البيت أفضل.

وفي "الصحيحين" عن زيد بن ثابتٍ : أنَّ النبي قال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، وفي بعض الروايات: أفضل من صلاةٍ في مسجدي هذا.

فهذا يدل على أنَّ المكتوبة محلها المساجد، وأما النوافل فمحلها البيت والرواتب، غير الرواتب التي ..... الأفضل في بيته: كصلاة الضُّحى، والتَّهجد في الليل؛ لأنها أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء؛ ولأنَّ في هذا عمارة البيوت بالصلاة، النبي عليه السلام قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا، وفي لفظٍ: فإنَّ الله جاعل في بيوتكم من ذلك بركة.

فالحاصل أنَّ السنة أن تكون الرواتبُ وأنواع النوافل في البيت، هذا هو الأفضل، ولا بأس بفعلها في المسجد، كما فعل النبيُّ ﷺ بعض النوافل في المسجد، ولكن في البيت أفضل، إلا ما كان يُشرع فيه الجماعة، فهذا يكون في المساجد أفضل: كالتراويح في رمضان، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، فالرسول فعلها جماعةً عليه الصلاة والسلام، وإذا صلاها في المسجد ليتأسَّى الناسُ، وليعلم الناسُ شرعيةَ هذا الشيء، إذا صلَّى في المسجد الراتبة بعد الظهر، وصلَّى الراتبة بعد المغرب عند قومٍ يجهلون هذه الأمور؛ حتى يعلموا أنها مشروعة، هذا قد يُؤجر عليه أكثر من البيت؛ لأنه لبيان التَّشريع، بيان الأحكام، أما إذا كان عند قومٍ يعرفون هذه المسائل فالبيت أفضل بكل حالٍ.

ويمكن أن يجمع بين الأمرين بفعله وتنبيهه بالقول، يقول: إنَّ هذه الأمور فعلها في البيت أفضل، ويُنبههم بالقول، وإذا نبَّههم بالفعل بعض الأحيان كان حسنًا.

والحديث الثالث حديث أبي هريرة: مَن اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى المسجدَ فصلَّى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمامُ من خطبته، ثم صلَّى؛ غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام، .....: زيادة ثلاثة أيام

فهذا يدل على أنَّ المؤمن إذا اغتسل كما شرع الله وتوجَّه إلى الجمعة -صلاة الجمعة- وصلَّى ما قدر له، ثم أنصت حين يخطب الإمامُ حتى يفرغ من الخطبة. يفرغ بالضم، هذا هو المشهور، إذا كان من الشّغل، كما قال جلَّ وعلا: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ [الرحمن:31]، من باب نصر، أما إذا كان من باب زوال الشيء ونفاده وذهابه فهو يفرغ ماضيه: فرغ، فرغ يفرغ، كنفد ينفد ..... فرغ الطعام من الإناء، فرغ المخزن بما فيه، يعني: ذهب ما فيه .....

وهنا بالضم: فرغ يفرغ؛ لأنه مشغول بعمله.

وفي هذا فضل العناية بهذا الأمر .....، والصلاة في المسجد قبل حضور الإمام، ثم انتظار الإمام.

وجاء في بعض الروايات عند سلمان وغيره: ولم يُفرق بين اثنين، وفي بعضها: بكَّر وابتكر، وغسَّل واغتسل، وفي بعضها: ومسَّ من طيبٍ.

فهذا يدل على أنه ينبغي هذه الأمور: التبكير، والاغتسال، والتطيب. وفي بعضها: لبس من أحسن ثيابه.

هذه أمور مجتمعة في الأحاديث، يُسن للمؤمن في يوم الجمعة أن يتعاطها: فيغتسل يوم الجمعة، ويذهب بسكينةٍ ووقارٍ يوم الجمعة، فيمسّ من طيبٍ يتطيب، ويلبس من جيد الثياب -أحسن ثيابه- ثم إذا أتى المسجد صلَّى ما قدر الله له، ولا يتحدد بشيءٍ: ثنتان أو أربع أو أكثر من ذلك، يُصلي ما شاء.

كان بعضُ السلف يُصلون حتى يدخل الإمامُ، فيُصلون في المسجد الذي فيه الجمعة، فهو مخيَّر: إن شاء صلَّى ركعتين، وإن شاء صلَّى أربعًا، وإن شاء صلَّى أكثر من ذلك.

ثم إذا دخل الخطيبُ أنصت للخطبة، اعتنى بها، وأقبل عليها، فإنَّ هذه الأشياء المجموعة له فيها فضل عظيم، وأجر كبير، وهي من أسباب المغفرة له لمدة عشرة أيام: ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام يعني: مما مضى من السيئات المدة المذكورة.

ومشى ولم يركب تأكيد السنة: أنَّ المشي أفضل، وإذا ركب للحاجة: للبُعد أو لضيق الوقت أو لأنه يشقّ عليه المشي فلا بأس، الحمد لله.

س: ..............؟

ج: الظاهر من باب التَّأكيد؛ لنيل هذه الفضائل، ولنيل مجموع الفضائل، ولا يلزم منه ذهابها .....، بدليل اختلاف الروايات: في بعضها ليس فيه بكَّر وابتكر .....، لكن هذا من باب كمال الفضل، كلما زادت الصِّفات صار الفضلُ أكمل، وفي حديثٍ: بكَّر وابتكر أجر سنة.

وفي بعض الروايات: مَن توضأ يوم الجمعة، وهو يدل على أنَّ الغُسل غير واجبٍ، إنما هو مستحب، ثبت هذا في "الصحيحين" أيضًا: مَن توضأ فهو يدل على أنَّ الغُسل ليس بفريضةٍ، وإنما هو مستحب من حديث سمرة: مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومَن اغتسل فالغسل أفضل، فالغسل هو الأكمل، وإن اكتفى بالوضوء كفى، لكن كونه يعتني بالغسل ويجتهد هذا هو السنة؛ ولهذا جاء في حديث أبي سعيدٍ: غُسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ، فالمشروع أن يتطيب ويستاك، كل هذا مما شرع الله: الطيب والسواك والغسل، إلى غير ذلك.

والحديث -حديث أبي هريرة- أيضًا في ساعة الجمعة، يوم الجمعة، جاء فيها عدة أحاديث، وهي خير يومٍ طلعت عليه الشمس: وفيها خُلق آدم، وفيها أُدخل الجنة، وفيها أُهبط منها، وفيها تقوم الساعة، وفيها ساعة لا يُوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وهو ساعة قليلة، حتى كان النبيُّ يُقللها، وهي ساعة خفيفة.

هذا المعنى جاء في عدة أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك يدل على أنَّ هذا اليوم فيه فضل، وفيه خير عظيم، وفيه، وفيه أمور وقعت، وستقع تخصّه: قيام الساعة، فإنها تقوم يوم الجمعة، وفيها خُلق آدم، في آخر ساعةٍ منها خُلق آدم، وفيها أدخله الله الجنة، وفيها أُخرج منها بخطيئته، إلى غير ذلك.

أما قوله في الساعة: وهو قائم يُصلي قد استشكله بعضُ الصحابة وغيرهم؛ لأنَّ العصر ..... العصر ليس وقت صلاة.

وأجاب بعض الصحابة وغيرهم: أن المراد "وهو يُصلي" يعني: يستعد للصلاة ويتهيأ لها، فالمتهيئ والمستعدّ للصلاة في صلاةٍ، كما في الحديث: إنَّ العبد إذا خرج من بيته لا يُخرجه إلا الصلاة فهو في صلاةٍ، والملائكة تُصلي عليه، كذلك: وما زال ينتظر الصلاة فهو في صلاةٍ.

ويحتمل أنه في صلاةٍ على الحقيقة على ما جاء في الرواية، ويكون هذا أوقاتًا أخرى قبل صلاة الجمعة، كما في حديث أبي بردة ..... في صلاةٍ، ويحتمل ساعات أخرى كان الرسولُ ﷺ أخفاها ولم يُبينها، ولعلَّ السر في هذا والله أعلم ليجتهد المؤمنُ في ساعات الجمعة فيُكثر من الدعاء كل ساعةٍ يقول: لعلها الساعة التي تُجاب فيها الدعوة. فيُكثر في الدعاء، ويُكثر في الحمدلة لله جلَّ وعلا، والصلاة على النبي ﷺ؛ لأنَّ الحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي ﷺ من أسباب الإجابة إذا تقدمت الدعاء، فإذا أُخفيت الساعة صار هذا أكثر بحمد الله والصلاة على النبي ﷺ، وكثرة الدعاء والإلحاح فيه كل ساعةٍ يقول: لعلها ساعة الإجابة.

وفي حديث أبي بردة عن أبي موسى تعيينها، وهي أنَّ ما بين أن يجلس الإمامُ على المنبر للخطبة إلى أن تُقضى الصلاة. رواه مسلم في الصحيح، وأعله الدارقطني بأنه موقوف.

والقاعدة أنَّ ما وصله الثِّقات فهو مقدم، فالزيادة من الثقة تُقبل، فيتقوى قول مَن رفعه على مَن وقفه على أبي بردة من هذه القاعدة، القاعدة أن زيادة الثقة مقبولة، فالرافع أتى بشيءٍ زائدٍ على مَن وقفه على أبي بردة.

ثم أبو بردة ليس هذا مما يُذكر في الرأي، ليس هذا مما يدخله الرأي، فأبو بردة ليس ممن يعلم الغيب، وليس مُشرِّعًا، بل هو تابعي، فجزمه بهذا يدل على تأييد رواية الرفع، فإذا وقف الراوي بعض الأحيان ما روى فهو مما يُؤيد ما رفعه، فالراوي قد ينشط فيأتي بالحديث كاملًا، وقد يضعف ويضيق الوقت فيأتي به موجزًا مقطوعًا غير مرفوعٍ، فهذا واقع كثيرًا حتى في زماننا، وفي كل زمانٍ الواعظ والمذكر والمحدث قد ينشط فيقول: روى البخاري عن فلان عن النبي أنه قال كذا وكذا، وروى مسلم عن كذا، وقد يضعف لأسبابٍ، أو لضيق الوقت، أو للكسل، أو لغير ذلك، فيقول: قال رسول الله. ولا يعزوه لأحدٍ، فلا يلزم من قول: "قال رسول الله" أن يكون مقطوعًا، أن يكون مُعلَّقًا، أن يكون مرسلًا، لا ما يلزم؛ لأنَّ النشاط يتفاوت، والأوقات تتفاوت.

فالحاصل أن رواية أبي بردة له موقوفًا من كلامه لا يمنع من كونه مرفوعًا من الجهة التي رواها الثِّقات عنه أنه وصله إلى أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون هذا من الدلائل على أنَّ هذه الساعة من ساعات الإجابة: حين يجلس الإمام على المنبر إلا أن تُقضى الصلاة، فدعوات المصلي في صلاته: في السجود، بين السجدتين، بين الخطبتين قبل أن تشرع الخطبة كل هذه تُرجى إجابتها.

وفي حديث عبدالله بن سلام الإسرائيلي الصحابي الجليل من حديث جابرٍ، جاء عند ابن ماجه، وجاء عند ..... والنسائي: أنها من بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، هذا أيضًا يُبين أنَّ هذه الساعة من الساعات، في روايةٍ: أنها آخر ساعةٍ في يوم الجمعة.

فالحاصل أنها ساعة اختُلف فيها، حتى ذكر فيها المؤلفُ في الباب أكثر من أربعين قولًا ..... الروايات والآثار في هذا الباب.

فالحاصل أنه ينبغي للمؤمن أن يعتني بها، وأن يجتهد في الدعاء يوم الجمعة، ويُكثر من ذلك في جميع أوقات يوم الجمعة، يرجو أن يُصادف هذه الساعة، ويخصّ العصر ووقت جلوس الإمام على المنبر، يخص هذا بمزيد عنايةٍ، هاتان الساعتان وهذان الوقتان هما أخص الأوقات وأرجى الأوقات في ساعة الإجابة: من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وحين يجلس الإمامُ على المنبر للخطبة إلى أن تُقضى الصلاة، هذان الوقتان هما أرجح الأوقات وأقربها إلى ...... الساعة، لكنه ليس مقطوعًا بذلك، بل هذا مما يدل على أنها أقرب في هذا الوقت؛ ولهذا اختلفت الروايةُ.

...............

هذه الأحاديث كلها تتعلق بالخطبة وبأحكامٍ أخرى:

فالأول يتعلق بالعدد في الجمعة؛ ولهذا في حديث جابرٍ ..... أخرجه الدَّارقطني بسندٍ ضعيفٍ.

اختلف الناسُ في هذا على أقوالٍ في العدد الذي يُشترط في الجمعة: فقال بعضُهم: أربعون. ويُروى عن بعضهم: خمسون. وقال بعضُهم أقلَّ من ذلك. وقال بعضُهم: اثنا عشر. وقال بعضُهم: أربعة. وقال بعضُهم: ثلاثة. على أقوالٍ.

وليست هناك حُجَّة قائمة تُؤيد هذه الأقوال، فالحديث ضعيف، حديث جابر هذا في الأربعين ضعيف، كما قال المؤلف عن الدارقطني، وأحسن ما قيل في ذلك: أنها تنعقد بأقلّ عددٍ يُطلق عليه الجمع، وهو ثلاثة، فإنَّ الأشهر أن الجمع ثلاثة، ويُطلق على الاثنين، لكن الأشهر في الجمع ثلاثة، فإذا كانوا ثلاثةً: إمام ومأمومان، مستوطنون مُقيمون في البلد صلوا الجمعة؛ لعموم الأدلة وعدم وجود نصّ يدل على .....

وقال بعضُهم: اثنان، فإنهم جمع، وما فوقهما جماعة.

ولكن الأظهر ثلاثة فيهم الخطيب، وهو الإمام، وفيهم المأموم اثنان، اختار هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهو قوي جدًّا، وهو كالإجماع من أهل العلم: أنها لا تنعقد بالواحد، أنها لا بدَّ أن تكون جماعة، تُصلَّى جماعة، وأقلّ الجماعة اثنان أو ثلاثة، على الخلاف، فإذا كانوا ثلاثةً فلا شكَّ في انعقادها منهم وصحَّتها منهم، وهل تجب؟ محل خلافٍ، لكن لا شكَّ بصحتها منهم، والقول بالوجوب قول قوي أيضًا؛ لعموم الأدلة في وجوب الجمعة، فهؤلاء الجماعة مُستوطنون فعمَّتهم الأدلة؛ ولما في إقامتها من المصالح الكثيرة في إسماعهم العظة والذكرى، وحصول فضل الجمعة لهم، وغير هذا من المصالح؛ ولأنَّ في إقامة الجمعة يتواتر الناسُ ويكثرون ويستفيدون من الخطبة وينتفعون بالتذكير؛ ولأن ذلك من الاحتياط وبراءة الذمة؛ لأنَّ الجمعة فرض الوقت، والقول بسقوطها عن أهل بلدٍ فيه شكٌّ، فيجب الحيطة في إقامتها.

والحديث الثاني والثالث: حديث سمرة وجابر، سمرة بن جندب .....: أن النبي ﷺ كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات.

قال الشارح: زاد الطبراني في روايته: والمسلمين والمسلمات.

كذلك في حديث جابر بن سمرة: أنه كان يقرأ آيات من القرآن ويُذكر الناس.

وكذا في مسلم: كانت له خطبتان يجلس بينهما، ويقرأ آيات من القرآن ويُذكر الناس.

هذا يدل على أنه ينبغي في الخطبة أن تُقرأ آيات مثلما تقدم في حديث أم هشام بنت حارثة ..... أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق] من لسان النبي عليه الصلاة والسلام، كان يقرأها كل جمعةٍ على المنبر.

وهنا في رواية مسلم: يقرأ آيات من القرآن يُذكر الناس.

فهذا يدل على شرعية قراءة بعض الآيات في الخطب يوم الجمعة، ويُذكر الناس على ضوئها، على ضوء ما يُستنبط من الآيات، فيقرأ آيةً أو آيتين أو ثلاثًا أو نحو ذلك، ويتكلم عن معناها، ويُذكرهم بمعناها.

وفيه الدعاء للمؤمنين، وإن كان الحديثُ في سنده لينٌ، لكن له شواهد، فيُؤخذ منها شرعية الدعاء للمسلمين في الخطب يوم الجمعة، وأنَّ من مواضيع الخطبة الدعاء للمسلمين بالمغفرة والتوفيق والهداية والفقه في الدين والنَّصر على الأعداء، تقدم أنَّ الخطب خطبتان يجلس بينهما جلسةً خفيفةً، وحديث جابر بن سمرة يُؤيد ذلك أيضًا.

وفيه من الفوائد: أنه عليه الصلاة والسلام كان يُعنى بالقرآن دائمًا حتى في خُطبه عليه الصلاة والسلام، فالقرآن هو أصل كل خيرٍ، هو ينبوع السعادة، وهو الأساس لما فيه خير الأمة ونجاتها توجيهًا وإرشادًا وتعليمًا وتفقيهًا وتذكيرًا.

الحديث الرابع: حديث طارق بن شهاب، وهو صحابي أدرك النبيَّ ﷺ، وهو رجل، ولكن لم يُحفظ له سماع عن النبي عليه الصلاة والسلام، روى هذا مستقلًّا به، ورواه من طريق أبي موسى: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الجمعة واجب حقّ على كل مسلمٍ في جماعةٍ إلا أربعة: المملوك، والمرأة، والصبي، والمريض.

وفي روايةٍ: المملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض.

هذا يدل على أنَّ الجمعة حقٌّ واجبٌ ولازمة للمسلمين، وأنها تُؤدى في الجماعة، لا أفرادًا، والمرسل مرسل صحابي، وهو حجة كما تقدم.

يقول الحافظُ العراقي رحمه الله في ألفيته: أما الذي أرسله الصَّحابي فحكمه الوصل على الصواب، ذكر هذا غير واحد، إجماع أهل العلم على أنَّ مراسيل الصحابة حُجَّة؛ لأنهم إنما يُرسلونها عن صحابةٍ، وقد زال ما قد يُخشى منه بالتصريح بروايته عن أبي موسى الأشعري.

فالحاصل أنه يدل على وجوب صلاة الجمعة على المسلمين جماعةً إلا هؤلاء الأربعة: المرأة ليس عليها جمعة، والصبي، والمريض، والمملوك، وإن صلوها أجزأتهم، إن صلوا مع الناس أجزأتهم، وإن صلوا ظهرًا كفى.

المملوك لأنه مشغول بحاجات سيده، والمرأة ليست من أهل التَّجمع مع الرجال، والصبي لم يبلغ الحلم فلم يُكلَّف، والمريض معذور بعذر المشقة.

وإن كان هذا الحديثُ جاء مرسلًا ومتَّصلًا ومرفوعًا، فالقواعد الشرعية تدل على ما تضمنه من عذر هؤلاء الأربعة.

وحديث ابن عمر يدل على خامسٍ: وهو المسافر، ليس عليه جمعة، وجاء في أخبارٍ أخرى لا تخلو من ضعفٍ: في البوادي، وهو السادس: البوادي والمسافرون والصبيان والمرضى والنساء والمماليك، كل هؤلاء الستة ليس عليهم جمعة، إلا أنَّ المملوك يُشرع له حضورها، وينبغي لسيده أن يُمكنه من ذلك لأمرين: أحدهما: ليستفيد، والثاني: للخروج من خلاف بالجمعة على المملوك كالظاهرية؛ لعموم الأدلة، فإنَّ في حضور المماليك مصالح وفوائد: يستمعون، ويستفيدون، وينتفعون بما يُذكر به غيرهم .....

وحضور النساء جائز أيضًا، لا بأس أن يحضرنَ مع التَّستر والبُعد عن التَّبرج، إذا حضرن الجمعة ليستفدن من الخطبة فلا بأس بشرط العناية بالحجاب والستر عن الفتنة.

والصبية كذلك ينبغي أن يُمرنوا على حضورها، وأن يُوجَّهوا إليها، ويُضربوا على ذلك إذا تخلَّفوا؛ لما في هذا من الفائدة، وتقدم أن الصبيان يُضربون إذا بلغوا عشرًا على أداء الصلاة، والجمعة فرض الوقت؛ فيُضربون عليها حتى يُؤدُّوها مع الناس، وحتى يتمرَّنوا على أدائها في الجماعة.

والمريض معذورٌ، لكن إذا تيسر له الحضور وتحامل على نفسه وحضر ليستفيد فهذا خيرٌ له، فقد ثبت عنه ﷺ أنه في الجماعة غير الجمعة أُتِيَ به في بعض الأوقات يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصفِّ عليه الصلاة والسلام، قال ابن مسعودٍ: "لقد كان يُؤتى به يُهادى بين الرَّجلين حتى يُقام في الصفِّ"، وإذا كان في الجماعة العادية فالجمعة أولى وأعظم إذا تيسر له أن يأتي الحضور مع بعض المشقة فذلك خيرٌ له، ولكن لا يجب عليه مع المشقة.

والمسافر كذلك إن حضرها فهو أفضل، وإن لم يحضرها فلا شيء عليه؛ لأنه ليس من أهل الإقامة، بل من أهل السفر، وكان النبيُّ ﷺ لا يُصليها في السفر، ولما صادف يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع لم يُصل الجمعة، وصلَّى بالناس ظهرًا عليه الصلاة والسلام، فدلَّ على أنَّ المسافر ليس عليه جمعة، ويُصلي ظهرًا.

والبوادي كان لا يأمرهم أن يُصلوا جمعةً، ويصلون ظهرًا في البوادي، وهذا معلومٌ بالتواتر، ما كانوا يُصلون إلا ظهرًا.

..............

س: رفع اليدين في الدعاء؟

ج: لا، ما هو بمشروع إلا في الاستسقاء خاصةً، أما خطبة الجمعة ما فيها رفع يدين: لا من المأموم، ولا من الإمام، إنما الرفع من المأموم والإمام في خطبة الاستسقاء خاصةً، يُنكَر على مَن فعله، رأى ..... الصحابي الجليل لما رأى بشر بن مروان يرفع يديه في الجمعة أنكر عليه ذلك.

س: .............؟

ج: من باب أولى إذا ما رفع الأساس المأموم كذلك، لا يرفع المأموم إلا في الاستسقاء مع الإمام، إذا رفع الإمام رفع المأموم في الاستسقاء خاصةً.

..............

الحديث الثاني في درس اليوم: حديث ابن مسعودٍ: كان إذا قام على المنبر استقبلناه بوجوهنا ..... بإسنادٍ ضعيفٍ. وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.

الحديث هذا ضعَّفه الترمذي؛ لما أخرجه قال: إنه ضعيف. وذكر أسباب ضعفه، وأنه من رواية محمد بن الفضل بن عطية، قال: وهو ضعيف، ذاهب الحديث عند أصحابنا. وقال: لا يصح في هذا الباب شيء في باب استقبال الخطيب بوجوههم.

وقال الحافظ في "التقريب": ومحمد بن الفضل بن عطية مكذب، وهو ضعيف الحديث.

فالحديث بهذا الإسناد ساقط، لكن قال الحافظ .....: إنَّ العمل عليه عند أهل العلم، وهو قول الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق. يعني: استقبال الخطيب بالوجوه.

ولم أقف على حديث البراء الذي رواه ابن خزيمة، وقد راجعتُ "صحيح ابن خزيمة" الموجود -الطبعة الموجودة- فلم أرَ أثر البراء فيها، فلا أدري: هل هو لم يُخرجه في الصحيح أم الذي راجع الكتابَ لي لم يقف عليه فأخطأ في المراجعة؟ لأني تتبعتُ الأبواب ..... في الجمعة تتبعتُ الأبواب والأحاديث التي في الجمعة فلم أجد حديثَ البراء فيه، لكن قال الترمذي رحمه الله: إنه لا يصحّ في هذا الباب شيء.

وظاهر كلام الترمذي أنه ما ورد في الباب شيء يصحّ في استقباله بالوجوه، ولكن العمل عليه.

وبهذا يُعلم أنَّ المراد باستقباله بالوجوه يعني: أنهم يُعطونه وجوههم وهم في أماكنهم، يعني: يعنون بالخطبة، ويميلون إليه بعض الشيء حتى يكون ذلك أهم في قبولهم لما يقول، ووعيهم لما يقول، وفهمهم له، فهو بمكانه، ولكن هكذا الخطيب أمامهم هكذا، وكل بمكانه ..... يُعطيه وجهه هكذا، يُصغي للخطيب حتى يفهم ما يقول.

وفي حديث أبي سعيدٍ في الصحيح: أنَّ النبي ﷺ لما سلَّم في بعض الأيام قام يخطب الناس ويأمرهم بما يُريد، وهم على صفوفهم، يأمرهم ويقول لهم كذا وكذا وهم على صفوفهم، فدلَّ على أنهم لا ينحرفون ويُحلِّقون، بل على صفوفهم، ولكن مع كونه على صفِّه يُعطي شيئًا من وجهه للإمام، من باب العناية، من باب الإقبال على الإمام والعناية بالإنصات، مع كونه في مكانه.

هذا هو الأظهر من هذا الكلام، ولم يصح في الباب شيءٌ كما قال الترمذي رحمه الله، ولكن كون العمل عليه المعنى: أنَّ العمل عليه للعناية بالخطيب، والإقبال عليه، والإنصات له، مع الميل المتيسر بالوجه إليه وهو في صفِّه، وهذا واضح في الأحاديث الصَّحيحة الدالة على وجوب الإنصات والإصغاء وعدم العبث وعدم الكلام والإمام يخطب، كل هذا فيه إشارة للعناية بالخطيب حتى تفهم ما يقول لك، حتى تتَّعظ .....

وحديث الحكم بن حزن هو ..... بطن من تميم، ويقال: إنها بطن من هوازن. وقد وهم الشارحُ فقال: إن ابن حزن هو ابن أبي وهب المخزومي، جدّ سعيد بن المسيب. وهذا وهم، والحكم بن حزن من ..... من تميم، أو من هوازن، ليس له قريب سعيد بن المسيب.

فالحديث يدل على شرعية الاتِّكاء على عصا وقت الخطبة، كان هذا من شأنه عليه الصلاة والسلام: أنه يتكئ على عصا، ولعلَّ السرَّ في هذا والله أعلم أنه أجمع لليدين، وأجمع للقلب من الحركة، وأقرب إلى الإقبال على الخطبة، فإن إلقاء اليدين قد يُفضي إلى شيءٍ من العبث، أو شيءٍ من الحركة، فإذا اعتمد على العصا أو القوس أو السيف أو غير ذلك كان هذا أتم وأقلّ حركةً وأثبت للجنان لما يلقي من الكلام.

قال في الحديث: إنه عليه الصلاة والسلام لما قام يخطبهم تكلم بكلمات خفيفات طيبات مباركات عليه الصلاة والسلام، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال كلمات طيبات خفيفات مباركات عليه الصلاة والسلام، المعنى أنه لا يُطول، بل يختصر، ولكنها كلمات طيبة واعظة مذكرة.

والحديث سنده حسن جيد، رواه أحمد أيضًا، وإسناده لا بأس به، وفيه شاهد للاعتماد على عصا ونحوها، جاء في الباب آثار أخرى فيها مقال، لكن تشهد لهذا المعنى.

والحديثان الآخران من باب صلاة الخوف يدلان على شرعية نوعين من صلاة الخوف، صلاة الخوف جاءت على أنواع ستة أو سبعة، وقد تزيد لمن تتبعها، لكن أشهرها نوعان .....: حديث جابر النوع الأول: أنه صلَّى بهم ركعتين جميعًا عليه الصلاة والسلام، ولكن اختلف ذلك: فتارةً صلوا معه الركعة الأولى، صلَّت معه طائفة الركعة الأولى وأتمت لنفسها وهو قائم الركعة الثانية، ثم سلمت، ثم ذهبت للحراسة، وجاءت الأخرى وصفَّت معه وصلَّت معه الركعة الباقية، وانتظرهم جالسًا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم.

هذا ما رواه ابن عمر ..... عمَّن صلَّى مع النبي ﷺ، وفي روايةٍ أنه رواه عن سهل بن أبي حثمة، هذا المبهم هو سهل بن أبي حثمة الأنصاري.

ومعنى هذا أنه يُصلي بهم جميعًا، وأن الطائفة الأولى التي معه تقضي لنفسها الركعة الثانية، وهو واقف يُصلي يقرأ، ثم تأتي الواقفة للعدو الحارسة بعدما تأتيها التي صلَّت مع النبي ﷺ، فيصفون معه، ويُصلون معه الركعة الباقية، ثم إذا جلس قاموا وأتموا لأنفسهم، ثم يُسلم بهم، هذا نوع.

والنوع الثاني -كما في حديث ابن عمر- أنه صلَّى ركعةً، ثم انصرفوا للحراسة، وسمح لهم بهذه الحركة والعمل للعذر، ثم جاءت الطائفةُ الأخرى فصلَّوا معه الركعةَ التي بقيت، ثم سلَّم لنفسه ﷺ، ثم قضت كل واحدةٍ لنفسها: الذين عند العدو قضوا لأنفسهم، وهؤلاء قضوا لأنفسهم. هذا نوعٌ آخر غير النوع السابق.

ولا يخفى أن النوع السابق أرفق وأقرب إلى وقت الحراسة وكمال الحراسة، والنوع الثاني جائز كما في حديث ابن عمر.

هذان نوعان في صلاة الخوف، وفيه دلالة على أنه يسهل في المتابعة في صلاة الخوف ما لا يسهل في غيرها، ثم استقرت الشريعةُ على أنَّ القضاء يكون بعد السلام، قضاء الفوائت يكون بعد السلام، لا قبل السلام، ولكن العذر في ذلك شدة الحاجة إلى الحراسة، والحرص على السلامة من كيد الأعداء وتحريهم غفلة المؤمنين؛ ولهذا حرسوا وهم في الصلاة، وقضوا الركعة التي بقيت على الثانية، والنبي ﷺ جالس، والأولى قضوا والنبي ﷺ واقف؛ حرصًا على إكمال الصلاة مع وجود الحراسة، وفي الثانية انصرفوا فلم يقضوا إلا بعد سلامه عليه الصلاة والسلام، ويأتي بقية الأنواع.

........ في صلاة الخوف، وتقدمت الإشارةُ إلى أنَّ صلاة الخوف جاءت على أنواعٍ عن النبي ﷺ، ولعلَّ السرَّ في ذلك التَّوسعة؛ ولأنَّ حالة العدو تختلف، فجاءت صلاةُ الخوف موسعةً، يتصرف فيها أمير الجيش بما يراه أصلح وأقرب إلى سلامة المسلمين من مكائد عدوهم، فتارةً يستعمل هذا النوع، وتارةً يستعمل هذا النوع، وتارة يستعمل النوع الثالث، وهكذا على حسب ما يراه أقرب إلى السلامة، وأبعد عن الخطر.

تقدم نوعان من حديث ابن عمر، ومن حديث سهل بن أبي حثمة، والنوعان السَّابقان فيهما أنه صلَّى بأصحابه، وأنهم كانوا طائفتين: النوع الأول: أنهم صلوا معه، صلَّت الطائفةُ معه الركعة الأولى، وطائفة تحرس العدو وتُقابله، فلما انتهوا من الركعة الأولى معه ﷺ صلّوا لأنفسهم الركعة الثانية وسلَّموا وذهبوا وجاه العدو، جاءت الأخرى وصفَّت معه وصلَّت معه الركعة الثانية، فلما جلس قاموا.