08 من حديث (إذا سمعتم النداء, فقولوا مثل ما يقول المؤذن..)

عن معاوية مثله: أنه ذات يومٍ قال الراوي: كنتُ عنده فسمع الأذانَ فقال: المؤذن، وأخبر أنَّ النبي كان يأمر بذلك ....... وفيه الحوقلة في الحيعلة، ولمسلم عن عمر مثل ذلك.

كان اللائق بالمؤلف أن يقول: ولمسلم عن عمر مرفوعًا. سقط "مرفوعًا" أو عن النبي ﷺ، وتسامح في العبارة، فهو حديث عن عمر مرفوعًا، ما هو من كلامه، بل من كلام النبي ﷺ، قال: إذا قال المؤذنُ: الله أكبر الله أكبر، فقال العبدُ: الله أكبر الله أكبر، قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال العبد: أشهد أن لا إله إلا الله .. إلى آخره، حتى إذا قال المؤذنُ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال العبد: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه؛ دخل الجنةَ.

والمؤلف لو ساقه هكذا كان أكمل؛ لأنَّ فيه يقول ﷺ: إذا قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنةَ، وهذا فضل عظيم.

والأحاديث الثلاثة من حديث أبي سعيدٍ ومعاوية وعمر، كلها تدل على فضل إجابة المؤذن، وأنه يُشرع إجابة المؤذن، ويتأكد ذلك؛ حتى لا يفوت المؤمن هذا الفضل العظيم: الإتيان بهذه الأذكار العظيمة.

وفي روايةٍ أنه قيل: يا رسول الله، إنَّ المؤذنين يفضلوننا، قال: قولوا مثلما يقولون، فلا ينبغي للمؤمن أن ..... المؤذن، بل ينبغي له أن يقول مثلما يقول المؤذنُ، وأن يُشاركه في هذا الخير.

وفي الصحيح عند مسلمٍ: عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشَّفاعة.

هذا الحديث فيه زيادة كما ساقه المؤلفُ هنا، وهي أيضًا مناسبة؛ لما فيه من ذكر الصلاة على النبي للإجابة، ثم الإتيان بهذا الدعاء.

وفي الحديث الذي يأتيكم: مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته رواه البخاري.

وفي روايةٍ أخرى: حلَّت له شفاعتي يوم القيامة.

فهذا أيضًا لو كان معه هنا لكان أنسب للمقام؛ لأنَّ أحاديث الأذان مجموعة في محلٍّ واحدٍ، وهذه الأحاديث كلها تدل على فضل إجابة المؤذن، وأن إجابته من أسباب دخول الجنة، وأيضًا من أسباب حصول الشَّفاعة -شفاعة النبي ﷺ- لهذا القائل، وأن السنة أن يقول كما يقول المؤذنُ سواء بسواءٍ، إلا في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك لأنَّ الحيعلة دعاء للحضور، فلا يُناسب أن يقول مثل قول المؤذن، بل يأتي بأمرٍ آخر، وهو: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه لا .....، وليس له قوة على الحضور إلا بالله، وهو مدعو .....: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، هو مدعو، فناسب أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: لا حول لي ولا قوة لي على الحضور وإجابة هذا المنادي إلا بك يا رب؛ ولهذا كانت هذه الكلمة بدل الحيعلة مناسبة في محلِّها جدًّا.

وهذه الكلمة عظيمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" كلمة عظيمة، قال فيها النبيُّ ﷺ: إنها كنزٌ من كنوز الجنة متفق عليه. فهي كلمة عظيمة فيها التَّجرد والبراءة من الحول والقوة إلا بالله وحده ، وبيان عجز العبد وضعفه، وأنه ضعيف مسكين ليس له حول ولا قوة إلا بربه ، وأنه لا حولَ لي على شيءٍ: لا فعل طاعة، ولا ترك معصية، ولا أي شيءٍ، ولا قوة لي على ذلك إلا بالله ، فهو المعين والموفق جلَّ وعلا. وهذا يدل على أنه لا يأتي بالحيعلة، بل يقول هذه الكلمة عندها: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وقال قومٌ: بل يأتي بهما، يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، يجمع بينهما، فيأتي بهما؛ لقول النبي: يقول مثلما يقول، هذا عامّ، ويأتي بالحيعلة؛ لحديث عمر وما جاء في معناه، فيجمع بينهما.

والأول أولى؛ لأنَّ اللفظ مثلما يقول فسَّره حديثُ عمر وما جاء في معناه، والقاعدة: أنَّ الأحاديث يُفسر بعضُها بعضًا، ويُبين بعضُها بعضًا، فالإتيان بالحيعلة لا مناسبةَ له هنا، بل يأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنَّ الراوي روى عن النبي ﷺ أنه كان يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولم يقل: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فهذا تفسير لهذا.

ومثل هذا قول الإمام: "سمع الله لمن حمده"، والمأموم يقول: "ربنا ولك الحمد"، هذا هو ظاهر الحديث الصحيح: أنَّ المأموم لا يقول: "سمع الله لمن حمده"، يقول: "ربنا ولك الحمد".

وقال بعضهم: بل يجمع بينهما: سمع الله لمن حمده، ويقول: ربنا ولك الحمد.

واحتجوا بحديث: صلوا كما رأيتُموني أُصلي.

وهذا لا حُجَّة لهم فيه: صلوا كما رأيتُموني أُصلي لفظ مجمل فسَّرته الأحاديث التي فيها بيان ما يقوله المأمومُ عند الرفع من الركوع، يقول: ربنا ولك الحمد.

القاعدة عند أهل الحقِّ، عند أئمة العلم المحققين القاعدة: أنَّ مثل هذا المجمل يُفسر بالمفسر، ويكون المفسر موضحًا للمجمل، ودالًّا على المعنى الذي يُراد منه؛ ولهذا قال: إذا قال الإمامُ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، ولم يقل: فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا. فدلَّ ذلك على أنَّ المأموم يأتي بالأمر الذي أُمر به، وهو قوله: ربنا ولك الحمد، أو اللهم ربنا لك الحمد. جاءت بالألفاظ الأربع: ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، اللهم ربنا ولك الحمد. كلها ألفاظ محفوظة يأتي بها الإمامُ والمؤذنُ والمأمومُ بعد الرفع من الركوع، لكن في حقِّ المأموم فقط يأتي بربنا ولك الحمد، لا يأتي بالتَّسميع، أما الإمام والمنفرد فيأتي بهما جميعًا: يُسمع عند الرفع يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يأتي بعد ذلك بقوله: ربنا ولك الحمد. هذا للإمام والمنفرد، أما المأموم فيأتي بالتَّحميد فقط، ولا يأتي بالتَّسميع؛ لأنه لم يُؤمر بذلك، فهكذا هنا يأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يأتي بالحيعلة؛ لأنه لم يُؤمر بها؛ لأنَّ الحديث مفسر.

والحديث الرابع: فيه فضل إجابة المؤذن ومَن قال مثلما قال المؤذن بصدقٍ وإخلاصٍ لله دخل الجنةَ، من ثوابه دخول الجنة؛ ولهذا قال: من قلبه دخل الجنةَ من قلبه صادقًا دخل الجنة، وهذا يدل على فضل إجابة المؤذن، وأنه فضل عظيم، والإجابة سنة مؤكدة عند جمهور أهل العلم، احتجوا على هذا بأنَّ النبي ﷺ سمع المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال: خرجت من النار، أو قال: أصبتَ الفطرة، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: خرجت من النار، ولم يذكر أنه أجابه عليه الصلاة والسلام، وهذا لبيان الجواز، وأنَّ الإجابة غير مُفترضة، بل سنة مؤكدة، رواه مسلم.

والحديث الرابع: حديث عثمان بن أبي العاص الثَّقفي، أنه قال: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال له: أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفهم، واتَّخذ مُؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا خرَّجه الخمسة، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم.

وعثمان بن أبي العاص مشهور، صحابي جليل، من مسلمة الطائف، كان جاء في وفد الطائف، فسأل النبيَّ ﷺ أن يجعله إمامَ قومه، فقال له: أنت إمامهم .. إلى آخره.

وفي هذا الحديث فوائد: منها: جواز سؤال الولاية إذا كان لقصد المصالح، فالأصل أنه لا تُسأل الولاية -الإمارة ونحوها- لحديث عبد الرحمن بن سمرة وما جاء في معناه: لا تسأل الإمارة، إنَّا لا نُعطي هذا الأمر مَن طلبه أو حرص عليه، لكن إذا كانت الولايةُ أو كان السؤال لمصلحة المسلمين وتعليمهم وتوجيههم، لا للطمع في الولاية، ولا لمحبة الرياسة؛ فلا حرج في ذلك؛ لحديث عثمان هذا، ولقصة يوسف؛ فإنها جاءت في الشرع، وأقرَّها الشرع إذا كان لقصدٍ صالح: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فيوسف أراد بذلك نفع العباد ودعوتهم إلى الحقِّ، وتبليغ الرسالة، فالغرض في هذا حسن، فإنه طلب الولاية ليتمكَّن بها من تبليغ رسالة الله، ومن تعليم الناس دينهم، وعثمان بن أبي العاص سأل الولايةَ لينفع الناس؛ لينفع جماعته ويُعلمهم كيف يُصلون الصلاة الشَّرعية.

وفيه من الفوائد: قوله: واقتَدِ بأضعفهم هذا يدل على أنَّ الإمام يُلاحظ الضُّعفاء في الإمامة: بعدم عجلته في ركوعه وسجوده وقيامه؛ لأنَّ الضعيف قد يصعب عليه القيام بسرعةٍ، أو السجود بسرعةٍ، كذلك عدم العجلة في إقامة الصلاة إلا بعد الأذان بوقتٍ مناسبٍ للجماعة؛ حتى يتلاحقوا، ولا سيما ضُعفاؤهم، مَن يدب دبيبًا.

واقتَدِ بأضعفهم لا بالأقوى، ويُؤخذ من ذلك مراعاة الضُّعفاء في المسائل الأخرى، الاقتداء بالأضعف في الصلاة التي هي عمود الإسلام: يقوم فيها بالعناية بوقتها، وحضور الجماعة، ونحو ذلك، فيقتدي بالأضعف للرفق بهم وعدم فعل ما يشقّ عليهم، وكذلك في المسائل الأخرى، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه قال عليه الصلاة والسلام: هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضُعفائكم بصلاتهم ودعائهم، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالضُّعفاء لهم حال يجب أن تُراعى في مُواساتهم بالمال، في الجهاد، في الصلاة، في الغزو، والسير بهم في الغزو، إلى غير ذلك من مراعاتهم.

والفائدة الأخرى قوله: واتَّخِذْ مُؤذِّنًا لا يتَّخذ على أذانه أجرًا يدل على تفضيل مَن يتولى الأذانَ حسبةً، ولا يأخذ شيئًا؛ لأنَّ مَن كان بهذه المثابة يكون أكمل في رعايته للوقت، وعنايته بالأذان، وحرصه على ما يُبرئ ذمته؛ لما في قلبه من الدَّافع الإيماني القوي، بخلاف مَن جاء بالأجرة فقد يتساهل، وقد لا يكون عنده من الإخلاص والحماس ما عند ذاك الذي دفعه إيمانُه ودفعته رغبته فيما عند الله .

ولا يدل على التَّحريم، بل يدل على أنَّ هذا أفضل وأولى من غيره، فإذا لم يتيسَّر ذلك جاز أن يتَّخذ المؤذن الذي يأخذ أجرًا من بيت المال، من الأوقاف، أو من المسلمين، أو من أهل المسجد يُساعدونه؛ لأنه قد يتعطل عن مصالحه في الأوقات الخمسة، فيُساعَد ويُعينوه على نفقة عياله .....

وهكذا الإمام يُعطى ما يُعينه؛ لأنه تحبسه الإمامةُ، فيُعطى من بيت المال أو من الأوقاف التي تعين على أئمة المساجد وعلى المصالح العامَّة ما يُقيم ..... ويُعينه على الملازمة والمحافظة على الإمامة والأذان.

ويمكن أن يُقال أيضًا: إنَّ ما يُدفع للإنسان من بيت المال غير داخلٍ في هذا الحديث؛ فإنه حقّ له ولمواساته، كما يُعطى المدرس والمجاهد من بيت المال ما يُعينه، وليس من باب الأجر، بل لأنَّ هذا حقّه من بيت المال، وهكذا الأوقاف؛ لأنها جعلت في جهة برٍّ، فتُدفع إلى المستحقين، كما تُدفع إلى الفقراء .....، فهي حقٌّ لهم في الوصف، وصف الإمامة ووصف الأذان، بخلاف ما إذا استأجروه وتعاقدوا معه على أنه يُؤذن لهم بكذا وكذا، هذا هو الذي ينطبق عليه الاستئجار انطباقًا تامًّا.

والحديث الخامس: حديث مالك بن الحويرث الليثي : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا حضرت الصلاةُ فليُؤذن لكم أحدُكم.

مالك هذا جاء وافدًا إلى النبي ﷺ في جماعةٍ نحو العشرين من شباب بني ليثٍ، فعلَّمهم النبيُّ ﷺ ووجَّههم، وأقاموا نحو العشرين ليلة: "فلما رآنا قد اشتقنا إلى أهلنا"، وكان رفيقًا رحيمًا، "أمرنا أن نرجع إلى أهلنا ونُعلمهم ونأمرهم"، وقال: إذا حضرت الصلاةُ فليُؤذن لكم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبركم، وقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلِّموهم كما جاء في رواية البخاري وغيره.

وفي بعض الروايات أنه ..... إذا حضرت الصلاةُ فأذنا وأقيما.

..... يدل على شرعية الأذان، وأن المؤذن واحد من الجماعة، فرض كفايةٍ، لا يُؤذنوا جميعًا، واحد يكفي، فهو فرض كفايةٍ عند الجميع؛ عند جميع أهل العلم، ليس فرضًا على الجميع ..... على الجميع، فهو فرض كفايةٍ، أو سنة كفايةٍ في حقِّ الجميع، وإذا قام به واحدٌ حصلت السنةُ، وحصلت الفرضيةُ.

والأظهر أنه فرضٌ كما قاله جمعٌ من أهل العلم، ومن أعظم الشَّعائر الإسلامية، ويُقاتل أهل بلدٍ إذا أجمعوا على تركه حتى يستقيموا، وإذا قام به واحدٌ من الجماعة من مئةٍ أو من أكثر حصل به المقصود في الإعلام بالوقت، والدَّعوة إلى الصلاة، وإذا كان لا يكفي واحد لتباعد البلد -لتباعد أطرافها- جُعِل اثنان أو ثلاثة أو أربعة، على حسب حال البلد، وعلى حسب المساجد التي فيها، في تبليغهم دعوة الصلاة وإعلامهم بحضور الوقت، والله أعلم.

س: إذا قال المؤذنُ: "الصلاة خير من النوم" ماذا يقول؟

ج: يقوله مثله: فقولوا مثلما يقول؛ لأنه ما جاء عن النبي ﷺ أنه يقول شيئًا آخر، فدلَّ ذلك على أنه يقول مثله: الصلاة خير من النوم.

س: والزيادة التي يذكرها بعضهم: صدقتَ وبررتَ؟

ج: هذا من كلام بعض الفقهاء، زيادة .....، هذا معارض لقوله: قولوا مثلما يقول.

................

س: بالنسبة للإقامة إذا انتهى المؤذنُ من الإقامة؟

ج: مثل المؤذن: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة؛ لأنها أذان.

س: يقول بعضُ الناس: أقامها الله وأدامها؟

ج: جاء في حديثٍ من رواية أبي داود، ولكنه ضعيف، رواية ضعيفة عند أبي داود.

..............

هذه الأحاديث الأربعة تتعلق بالأذان والإقامة، وما يُشرع في ذلك من الفصل بين الأذان والإقامة، ومن الحدر في الإقامة، والتَّمهل في الأذان، ومَن يتولى الإقامة هو مَن يتولى الأذان، ولا مانع من تولي الإقامة ممن لم يتولَّ الأذان.

الحديث الأول: حديث جابر بن عبدالله الأنصاري ، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا أذَّنتَ فترسل، وإن أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ العبدُ من أكله.

الحديث تمامه: والشارب من شربه، والمعتصر من قضاء حاجته إذا دخل محلَّ الحاجة.

هذا الحديث وما فيه من الضعف يدل على أنه ينبغي في الأذان التَّمهل وعدم العجلة، وفي الإقامة الإسراع والحدر؛ لأنها دعوة لحاضرين، والأذان دعوة للغائبين، فناسب في الأذان التَّمهل؛ حتى يكون أبلغ في الإعلام؛ لأنَّ بعض الناس قد لا ينتبه لأوله، فينتبه لآخره، بخلاف الإقامة؛ فإنَّ المدعوين حاضرون، فلا حاجةَ إلى التطويل.

وهذا الذي دلَّ عليه الحديث، وهو المشروع بلا شكٍّ، وهو الواقع من فعل النبي ﷺ وفعل الخلفاء بعده والأئمة: التَّمهل في الأذان، والحدر في الإقامة، والتَّراخي بين الأذان والإقامة حتى يتلاحق الناسُ، وحتى يتمكنوا من أداء صلاة الجماعة.

والحديث وإن كان ضعيف الإسناد، لكن معناه صحيح وواقع، وهو أنَّ السنة أن لا يعجل في الأذان، لكن لا يكون بالتلقين والتلحين الذي يفعله بعضُ الناس، بل يكون بالأذان السَّمح، وعدم عجلةٍ، من دون أن يكون فيه من التَّمطيط والتَّلحين ما يُخرجه عن الأذان الشَّرعي وعن الطريقة الشرعية، ولا يكون هناك سكتات، ما يجعله بعيدًا عن صفة الأذان، بل تكون سكتاته خفيفةً، ومدّ واضح ليس فيه تلحين، وليس فيه خروج عن قاعدة الكلام، هذا هو المطلوب.

وأما الإقامة فهي دعوة لحاضرين، فناسب أن تحدر، لا سكتات، ولا تطويل؛ لأنها دعوة لقومٍ حاضرين.

وأما ما يمكث بينهما فقد دلَّ فعلُ النبي ﷺ على ما ينبغي في هذا، وأن السنة عدم العجلة، بل يتأنَّى بعد الأذان؛ حتى يتمكن مَن في الحمام من فراغ وضوئه، وصاحب الحاجة من قضاء حاجته، وما أشبه ذلك.

في الفجر يُؤذن بعد طلوع الفجر، ثم يُصلي النبيُّ ﷺ سنة الفجر، ثم يضطجع على شقِّه الأيمن، ثم يتحدث مع عائشة، ثم يأتي بلال فيُؤذنه أن الناس قد تجمعوا، فيحضر، فيُقيم عليه الصلاة والسلام.

وتقدم لكم في الأحاديث أنه كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجلُ جليسَه في الفجر، أقام الفجر حين انشقَّ الفجر والناس لا يعرف بعضُهم بعضًا.

وكان في المغرب -وهو أعجل ما كان- يعجل؛ كان لا يُقيم إلا بعد الأذان بقليلٍ ..... كان في المغرب أعجل ما يكون من بقية الصَّلوات، ومع هذا كان ..... بعد الأذان، بل بينهما فصل، وليس بالكثير.

وكان في الظهر والعصر والعشاء كذلك، فإذا رآهم في العشاء لم يجتمعوا تأخَّر وانتظر زيادةً على بقية الصلوات، لكن في الظهر إذا اشتدَّ الحرُّ يُبرد بزيادةٍ عليه الصلاة والسلام، حتى في السفر، في السفر والحضر.

فهذه سنته عليه الصلاة والسلام المعروفة، فلا ينبغي ولا يليق العجلة؛ لئلا تفوت الناسَ صلاةُ الجماعة، فإنَّ الناس إنما ينتبهون في الغالب عند الأذان، إذا سمعوا الأذانَ انتبهوا: فقام هذا يتوضأ، وقام هذا يفرغ من حاجته التي هي به حتى يحضر للصلاة.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا يُؤذن إلا متوضِّئ.

لا يُؤذن يحتمل أنه نهي بالجزم، ويحتمل أنه خبر معناه النَّهي، لا يؤذنُ فهو خبرٌ معناه النهي، يعني: لا ينبغي أن يُؤذن إلا متوضئ.

وكلاهما صحيح؛ فإنَّ الخبر بمعنى النَّهي في حكم النَّهي، مثل: لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وما أشبه ذلك.

فالحاصل أنَّ "لا" مع الفعل قد تأتي بلفظ النَّهي فتجزم الفعل، وقد تأتي بلفظ الخبر فيُرفع بعدها، فيكون معناه الجزم في الحكم.

لكن الحديثَ ضعيف كما ذكر المؤلفُ رحمه الله، وإن كان له شواهد، لكن كلها ضعيفة.

وبالجملة يُستفاد منها شرعية الوضوء، يُستحب للمؤذن أن يكون على طهارةٍ وقت الأذان؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج من المسجد، حتى ربما شغله شاغلٌ فيأتي الإمامُ وهو لم يتوضأ.

والحاصل أنَّ كونه يتوضأ قبل أن يُؤذن هذا هو الأفضل، وفي وجوبه خلاف: فأوجبه بعضُ أهل العلم، والجمهور على عدم الوجوب، ولكنه مستحب، والإقامة من باب أولى، إذا كان مستحبًّا في الأذان مع بُعده عن دخول الصلاة؛ فشرعية الطَّهارة في الإقامة من باب أولى، ولكن لا تُشترط، فلو أقام وهو على غير وضوءٍ صحَّت، ولكن الأولى به والأفضل في حقِّه والمتأكد في حقِّه أن يكون على طهارةٍ؛ حتى يتمكَّن من الدخول مع الإمام في أول الصلاة، وحتى لا يفوته شيء من الصَّلاة من باب أولى، إذا كان التأكد في الأذان مطلوبًا، والطهارة مطلوبة، فبالإقامة من باب أولى؛ لقربها من الصلاة.

وفي الحديث الثالث: حديث زياد بن الحارث الصُّدائي، كان مع النبي في بعض أسفاره، فلما طلع الفجر أمره النبي بالأذان، فأذن، فأراد أن يُقيم بلالٌ، فقال: إنَّ أخا صُداء قد أذَّن، ومَن أذَّن فهو يُقيم.

لكنه ضعيف الإسناد كما قال المؤلفُ رحمه الله، ولو صحَّ لكان دالًّا على أنَّ الأفضل أن يتولى الإقامةَ مَن تولى الأذان، لكن هذا يُؤخذ من فعل بلال وفعل أبي محذورة، الفعل واقع؛ فإنهم كانوا يُؤذنون ويُقيمون، فهذا هو الأفضل: أن يتولى الإقامةَ مَن يتولى الأذان، ولكن ليس على سبيل الوجوب، بل الأمر في هذا واسع، هذا هو الأفضل والأولى: أن يُلاحظ الإقامةَ كما لاحظ الأذان، وأن يتولاهما جميعًا؛ حتى لا يختلّ نظام الأمر، وحتى لا يقع تفريطٌ في الإقامة، ولكن لو أقام غيره فلا بأس كما هو الأصل؛ فإنَّ الأصل جواز هذا من شخصٍ، وهذا من شخصٍ، هذا هو الأصل، فلا يجب شيء إلا بحجج واضحةٍ، وليس هناك حُجَّة واضحة ولا دليل صحيح يُوجب أن يتولَّاهما واحد، إنما هذا هو الأفضل كما هو الواقع من فعل بلالٍ وفعل أبي محذورة وغيرهما من المؤذنين.

ويُعارضه حديث عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري عند أبي داود: أنه قال: "أنا رأيته، وأنا كنتُ أريده" أي: الأذان، قال: فأقم أنت، فهذا يُعارض رواية زياد بن الحارث الصُّدائي، وكلاهما ضعيف؛ فلا تقوم الحجَّة لا بهذا ولا بهذا.

فإن قيل: لماذا اعتنى المؤلفُ بمثل هذه الأحاديث مع ضعفها؟

قيل: ليُعلم ما ورد في ذلك.

الجواب: ليعلم طالبُ العلم ما ورد في هذا؛ وليكون على بينةٍ؛ لأنَّ معرفة الصحيح ومعرفة الضَّعيف علم، كلاهما علم، فطالب العلم يعرف أنَّ هذا ضعيف، وهذا صحيح، وأنَّ حكم هذا جاء في حديثٍ صحيحٍ، وهذا جاء في حديثٍ ضعيفٍ، هذا علم كبير عظيم؛ فلهذا اعتنى العلماءُ بجمع الأحاديث الضَّعيفة، وجمع الأحاديث الموضوعة؛ ليُعرف حالها، ويتبين أمرُها، ويكون طالب العلم على بينةٍ فيها.

فالفائدة كبيرة، فلا يُستغرب أن يذكره المؤلفُ هنا أو غيره؛ ليعلم طالبُ العلم حقيقةَ أمرها؛ وليكون فيها على بينةٍ؛ وليعلم بذلك أنَّ الأخذ بمعناها إذا تيسر أفضل من عدمه، فإن الأحاديث الضَّعيفة إذا صار لها شواهد أولى من الرأي المحض، إذا تيسر العمل بها من باب الحيطة ومن باب فعل الشيء الذي كان هو الأكثر في حياة النبي ﷺ أولى من غيره.

وعبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري المعروف، صاحب الأذان.

وتأتي بقية في هذا إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

س: هل ثبت دعاء خاصّ بعد الإقامة؟

ج: ما أدري، ما أعرف شيئًا، لكن يُؤخذ من أحاديث إجابة المؤذن أنَّ فيها -الإقامة- إذا أُجيبت فيها الدعاء المعروف؛ دعاء مَن سمع الأذان: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة، والصلاة القائمة ..، تُقال فيها كما تُقال في الأذان؛ لأنها أذان ثانٍ: إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلما يقول، هذا من جنس هذا.

قيل لأحمد: تقول بعد الإقامة شيئًا؟ قال: لا، إذ لم يُنقل عن النبي ﷺ ولا عن أحدٍ من أصحابه.

كأنه ما ثبت عنده شيء في هذا يُقال، والأمر في هذا واسع، ليس فيه سنة ولا بدعة، يعني: ينتهي الأمر إلى أنه مباح؛ إن دعا بشيءٍ من غير أن يعتقد أنه سنة أو يُواظب عليه فلا حرج.

س: قول الإمام أحمد: "لا" ما يشهد أنَّ الأولى ..؟

ج: القصد أنه يُستحب يعني، ليس هناك شيء يُستحب يعني، والمقام ليس محلَّ منعٍ.

س: أقامها الله وأدامها؟

ج: جاء من حديث ..... وأبي داود أثناء الإقامة، لكنه ضعيف، لكن يُقال: قد قامت الصلاة، مثل المؤذن، مثل: الصلاة خيرٌ من النوم، سواء بسواء: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول يعمّ: قد قامت الصلاة، ويعم: الصلاة خير من النوم. ويُستثنى من هذا: حي على الصلاة، حي على الفلاح. فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبما جاء به النَّص.

س: الوقت بين الأذان والإقامة كم؟

ج: ما في شيء محدد، على حسب اجتهاد الإمام، يتحرى اجتماع المأمومين، وليس هناك شيء محدد.

س: ...............؟

ج: ما ينبغي، أقل أحواله الكراهة؛ لأنَّ هذا خلاف الأذان الشَّرعي الطبيعي.

س: المدّ الطبيعي؟

ج: يختلف، يختلف، المقصود يكون سمحًا، ليس فيه زيادة ولا تكلُّف، بعض الناس يتكلف: آاااا ..... نفس واحد يكفي.

س: ينبغي تحسين الصوت بالأذان؟

ج: لأنَّ بعض الناس أيضًا ليس بحسن الصَّوت، ينبغي تحسين الصوت لا شكَّ؛ لأنه أدعى إلى استماع الناس له، وأدعى إلى تأثرهم به إذا حسن صوته، فلا يسرده سردًا، ولا بخشونةٍ، بل يتحرى تحسين الصوت ما أمكن.

عن ..... قال: قال النبيُّ ﷺ: المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة أخرجه .....، وفيه ضعف.

وللبيهقي نحوه عن مالك، عن ..... من قوله.

هذا يدل على أنَّ الإمام هو الذي يتصرف من جهة الإقامة، وهو الذي يأمر المؤذن بالإقامة؛ لأنها للدخول في الصلاة، وهو الذي يُقدر ما بين الأذان والإقامة، وينظر في الناس: هل يعجل أو يُؤجل؟ فهو أولى بهذا: ما يتعلق بالجماعة ومُراعاة أحوالهم، فهو الذي يعلن الإقامة: إما عرفًا، وإما نطقًا، فإذا اصطلح مع المؤذن أنه إذا أقبل خرج يُقيم صار إذنًا أو ..... المؤذن في ذلك فقال له: إذا رأيتَ الجماعة اجتمعوا فآذني، فأقم، أو ما أشبه ذلك.

الحاصل أنَّ الإمام هو المسؤول عن الإقامة، والمؤذن هو المسؤول عن الأذان، يتحرى الوقت، ويعتني بالوقت، إذا دخل الوقتُ بادر وأذَّن، والإمام ينظر في اجتماع الناس، وفي الوقت المناسب للإقامة.

والحديث وإن كان ضعيفًا، لكن يُؤيده ويشهد له بالمعنى ما ذكره البيهقي عن عليٍّ، قول عليٍّ الخليفة الراشد يُؤيد هذا المعنى، وإن كان ضعيفًا، ولكن يتأيَّد الجميع بعمل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام هو الذي يأمر بالإقامة، وهو الذي إليه أمر الإقامة، فدلَّ ذلك على أنَّ الإمام هو المسؤول عن الإقامة، والعمدة على ذلك، لا على رواية ابن عدي، ولا على الرواية الموقوفة على عليٍّ، وإنما هي شواهد، والعمدة فعله ﷺ، فإنه كان هو الذي يأمر بالإقامة، وكان المسؤول عن الأذان هو بلال وأشباهه من المؤذنين.

هذا هو المشروع؛ فإنَّ الإمام هو الذي يتحرى وقت الإقامة، وينظر في أمور الجماعة: فيُقدم إذا رأى التقديم، أو يُؤخر إذا رأى التأخير؛ مراعاةً للمصلحة الشرعية في ذلك، ولا مانع من أن يجعل عند المؤذن أمارة يعتمدها في الإقامة.

والسنة ألا يقوم الناسُ إذا أُقيمت الصلاة حتى يروا الإمامَ قد خرج، وبهذا أمر النبي ﷺ، قال: إذا أُقيمت الصلاةُ فلا تقوموا حتى تروني؛ لأنهم قد يقفون ويتعبون، فلا يقوموا حتى يروا الإمام قد خرج، إذا كان قد جعل للمؤذن علامةً يُقيم عندها فلا يقومون حتى يخرج الإمامُ؛ لأنَّ النبي ﷺ قريب المنزل، حول المسجد ..... عائشة رضي الله عنها، وأبواب أخرى، فكان ﷺ إذا خرج رآه الناسُ فقاموا، وربما قام بلالٌ قبل أن يخرج؛ لما جعل عنده من الإذن والأمارة التي يبني عليها.

ولما تأخَّر ذات يومٍ ﷺ عن الحضور، يعني: ذهب يُصلح بين بني عمرو بن عوف في منزلهم في قباء، فأتى بلالٌ الصديقَ فقال: إنَّ رسول الله قد تأخَّر عن الجماعة، فهل لك أن تُصلي بالناس؟ فقام الصديقُ، فأقام بلال.

المقصود أنَّ الإمام هو الذي يتولى الإقامة، وهو الذي يعلم وقت الإقامة، ويُلاحظ أحوال المأمومين.

والحديث الثاني: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: أنَّ النبي ﷺ قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُردُّ أخرجه النَّسائي، وصححه ابن خزيمة.

والظاهر أنَّ النسائي أخرجه من طريق أبي إسحاق السّبيعي، عن بريد بن أبي مريم السلولي، عن أنسٍ بسندٍ جيدٍ؛ ولهذا صحَّحه ابنُ خزيمة، وهكذا في "صحيح ابن خزيمة" من هذا الطريق، وخرَّجه ابن حبان أيضًا من هذا الطريق، وهو جيد الإسناد من هذا الطريق.

وخرَّجه أبو داود والترمذي رحمة الله عليهما من طريقٍ آخر، من طريق زيد .....، عن أبي إياس معاوية بن قرة المزني، عن أنسٍ، وفيه ضعف؛ فإنَّ زيد ..... يضعف في الحديث، فكان الإسنادان يشدّ أحدهما الآخر، ويُقوي أحدهما الآخر، مع أنَّ إسناد أبي إسحاق جيد جدًّا، ولعلَّ المؤلف اقتصر على النَّسائي وابن خزيمة؛ لأنَّ سندهما أصح، ولما يذكر أبا داود والترمذي، فقد أخرجاه -أبو داود والترمذي- من طريق زيد بن ..... عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنسٍ، فيكون حديث زيدٍ شاهدًا لذلك ومُؤيدًا لذلك، والعمدة على بريد بن أبي مريم السلولي، عن أنسٍ.

وفيه زيادة: فادع، أنَّ النبي ﷺ قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُردُّ، فادعُ، فدلَّ ذلك على شرعية الدعاء بين الأذان والإقامة، وأنه يُستحب الدعاء في هذا الوقت، وأنَّ صاحبه حري بالإجابة.

وفي لفظٍ: يُستجاب الدُّعاء بين الأذان والإقامة، فيُشرع للمؤمن بين الأذان والإقامة أن يُكثر من الدعاء رجاء أن تُجاب دعوته؛ لهذا الحديث الصَّحيح.

والدعاء له أوقات، منها: ما بين الأذان والإقامة، ومنها آخر الليل حين يكون النزولُ الإلهي، كما في الحديث: ينزل ربنا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟ حتى ينفجر الفجر، وهذا الوقت العظيم من أفضل الأوقات، ومن أهمها وأرجاها للإجابة، وقد خرَّجه الشيخان في "الصحيحين" عن أبي هريرة ، وله شواهد، فهو حديث عظيم، وهو دالٌّ على أنَّ آخر الليل -الثلث الأخير- وقت تُستجاب فيه الدَّعوات، فينبغي فيه الدعاء، والاستغفار، والإنابة إلى الله، والتوبة إليه ، وتحري هذا الوقت العظيم الذي فيه النزول الإلهي، وهو نزولٌ يليق بالله، لا يُشابه خلقه في شيءٍ من صفاته جلَّ وعلا، كسائر الصِّفات: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، وبها آخر الصلاة، النبي ﷺ قال في حديث ابن مسعودٍ لما علَّمه التَّشهد قال: ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه فيدعُ، ثم ليتخير من المسألة ما شاء، فهو وقت دعاءٍ، ينبغي فيه الدُّعاء.

ومنها قبل أن يُسلم آخر الصلاة، ومنها السُّجود -وهو الموضع الرابع- ينبغي فيه الإكثار من الدُّعاء، في الفريضة والنافلة جميعًا، قال النبيُّ ﷺ: أما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السُّجود فاجتهدوا في الدُّعاء، فقمن أن يُستجاب لكم يعني: حري أن يُستجاب لكم. رواه مسلم في "الصحيح".

ورواه مسلم أيضًا عن أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: أقرب ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء يدل على أنَّ هذا الوقت وقت عظيم؛ لأنه حري بأن تُجاب فيه الدَّعوات، وهو وقت ذلٍّ وقربٍ خاصٍّ، قرب الذل والخضوع بين يدي الله، فالسَّاجد في غاية الذل لله، وقد وضع وجهه الذي هو أشرف أعضائه الظَّاهرة وضعه في الأرض ذلًّا لله، خضوعًا لله، وطلبًا لمرضاته، وهو حري بالإجابة في هذه الحالة، فينبغي الإكثار من الدعاء لما فيه صلاحه وصلاح إخوانه المسلمين.

ومنها يوم الجمعة: فإنَّ فيها ساعةً لا يُرد فيها سائل، فينبغي الإكثارُ فيها من الدعاء، يوم الجمعة يوم عظيم، ولا سيما عند جلوس الإمام على المنبر، إذا جلس للخطبة إلى أن تُقضى الصلاة، والكلام بعد العصر إلى غروب الشمس، هذان الوقتان أحرى في أوقات الجمعة لإجابة الدعاء.

فينبغي الإكثار من الدّعاء في هذه الأوقات، وفي جميع الأوقات أيضًا، الدُّعاء مطلوب دائمًا، وينبغي للدَّاعي أن يكون على غايةٍ من الخضوع لله، والخضوع بين يديه؛ لأنَّ هذا أقرب إلى الإجابة، بقلبٍ حاضرٍ مُقبلٍ على الله، ليس بقلبٍ غافلٍ.

وينبغي له أيضًا أن يتباعد كل التَّباعد عن أكل الحرام والمعاصي؛ لأنَّ التلطخ بالحرام من أسباب حرمان الإجابة، وهكذا المعاصي والسّيئات من أسباب حرمان الإجابة، فينبغي الحذر من شرِّ المعاصي، ولا سيما تعاطي الحرام: من غصب أموال الناس، من أكل الربا، من السرقات، من غشِّ الناس في المعاملات، فهذه المعاصي وهذه الخيانات وهذا العمل المحرم من أعظم الأسباب في حرمان الإجابة.

ويُروى عن النبي ﷺ أنه قال لسعدٍ لما قال: يا رسول الله، ادعُ الله أن أكون مجابَ الدَّعوة، قال: يا سعد، أطب مطعمك تكن مُستجاب الدَّعوة.

فالحاصل أن أكل الحرام من أعظم الأسباب في حرمان الإجابة: إنَّ الله تعالى طيبٌ، لا يقبل إلا طيِّبًا.

والحديث الرابع: حديث جابرٍ رضي الله عنهما، جابر بن عبدالله بن عمرو الأنصاري، إذا أُطلق جابر فهو جابر بن عبدالله بن عمرو الأنصاري المعروف، وهناك جابر بن سمرة، وهناك جابر بن سليم، هناك جوابر، لكن جابرًا إذا أُطلق فهو جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري، صحابي جليل، مُكثر من الأحاديث رضي الله عنه وأرضاه.

أنَّ النبي قال: مَن قال حين يسمع النِّداء: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته؛ حلَّت له شفاعتي.

هذا يدل على فضل هذا الدعاء بعد الأذان، وتقدمت الإشارة إلى ما رواه مسلم في الصحيح من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي ﷺ قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشَّفاعة، هذا أيضًا يُؤيد حديث جابرٍ، وكلاهما في الصحيح عن مسلمٍ.

هذا حلَّت له الشَّفاعة، وحديث جابر: حلَّت له شفاعتي يوم القيامة فيه دلالة على أنَّ السنة أن يُصلي على النبي قبل الدّعاء، إذا فرغ من الأذان قال: لا إله إلا الله، يُجيب المؤذن، يقول بعدها: "اللهم صلِّ وسلم على رسول الله"، ثم يقول بعد ذلك: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامة .. إلى آخره.

تامة يعني: غير ناقصةٍ، دعوة عظيمة تامَّة فيها خير عظيم -دعوة الأذان-.

والصَّلاة القائمة التي قد دنا قيامها.

آتِ محمدًا يعني: نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام.

الوسيلة والفضيلة هذه منزلة في الجنة كما في حديث عبدالله بن عمرو، منزلة رفيعة تحت العرش، في أعلى الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله يعني: عبد خاصّ من عباد الله، قال نبيُّ الله: وأرجو أن أكون أنا هو، وهو هو عليه الصلاة والسلام.

فمَن سأل الله لي الوسيلةَ حلَّت له شفاعتي يوم القيامة هذا يدل على أنه ينبغي أن يُدعا له بهذه الدَّعوة عليه الصلاة والسلام، فهو أولى الناس بها، وأحراهم بها عليه الصلاة والسلام، فهو أشرف الناس وأفضلهم صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.

وبعض الناس يزيد فيها: والدرجة الرفيعة، وهذا غلط، فليس لهذه الزيادة أصل، فإنَّ الدرجة الرفيعة هي الوسيلة والفضيلة، هي نفس المنزلة، فظنَّ هذا الزائد أنها في الحديث، وليس الأمر كذلك، بل نفس الدرجة الرفيعة هي المنزلة، هي التي سمَّاها النبيُّ: الوسيلة والفضيلة، ولا يُزاد فيها: الدرجة الرفيعة؛ لأنَّ هذا هو تفسيرها، فهذا غلط وقع في بعض الكتب، وقع من بعض الناس، ولا أعلم له أصلًا في الرواية.

والمؤلف رحمه الله عزاه للأربعة، مَن هم الأربعة؟ أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه، أهل السنن.

وهذا غريب من المؤلف مع حفظه العظيم؛ فالحديث أخرجه البخاري في "الصحيح"، فالصواب أن يقول: أخرجه البخاري والأربعة، الحديث رواه البخاري في "الصحيح" من حديث جابرٍ.

يُعلق عليه، يُقال: أخرجه البخاري في الصَّحيح أيضًا.

وتقدم في حديث عمر: أنَّ المجيب إذا قال مثل المؤذن كلمة كلمة، حتى يقول: لا إله إلا الله من قلبه؛ دخل الجنةَ، فهذا يدل على فضل إجابة المؤذن، وأنَّ فضله عظيم، وأنَّ صاحبه موعود بالجنة إذا قال مثل المؤذن، صادقًا من قلبه، مخلصًا لله ............

ورد هنا الشروط التي بوجودها تصحّ الصلاة، وبعدم واحدٍ منها ..... الصلاة، وهي مأخوذة من الأدلة من الآيات والأحاديث المستنبطة والمستقرأة من الأدلة، وبالاستقراء والتَّتبع تجتمع هذه الشروط، وجملتها تسعة كما بيَّنها الفقهاء في كتبهم، ولك أن تختصر وتقول: ستة؛ لأنَّ الإسلام والعقل والتَّمييز ليس خاصًّا بالصلاة، بل هي شروط في عبادات أخرى، فإذا أردت الصَّلاة وحدها قلت: ستة، وإذا أردت العموم -أردت العبادات- دخل فيها الشروط الأخرى التي هي: الإسلام والعقل والتَّمييز.

فالحاصل أنها تسعة بالنظر إلى جنس العبادة؛ لأنَّ الإسلام شرط فيها، وكل عبادةٍ بدون إسلامٍ لا تصحّ، كذلك العقل، بدون عقلٍ لا عبادةَ، والتمييز معروف؛ لأنَّ من دون التَّمييز لا عقلَ له، وليس من ذوي العقل، فالتَّمييز من العبادة، ما عدا الحجّ كما يأتي في محلِّه إن شاء الله.

الحاصل أنَّ الصلاة لها شروط مُعتبرة، بتوافرها واجتماعها تصحّ الصلاة، وباختلال واحد منها أو أكثر تفسد الصَّلاة.

الشرط الأول: الطَّهارة: لا بدَّ منها، وقد جاء فيها نصوص من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ هذا في الحدث الأصغر، وفي الأكبر: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].

فهذا يدل على أنَّ الصلاةَ لا بدَّ فيها من الطَّهارة من الحدثين: الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض والنفاس. والحدث الأصغر، وهو الريح والبول ونحو ذلك. لا بدَّ من الطهارة منهما.

فمَن صلَّى وهو على غير طهارةٍ من الحدثين فصلاته غير صحيحةٍ، إلا عند العجز، كالذي لا يجد ماءً ولا تيممًا، لا يستطيع هذا ولا هذا، فإنه تصحّ صلاته للضَّرورة؛ لأنَّ الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

فلو أنَّ إنسانًا صُلب بخشبةٍ أو بعمودٍ، ولم يُمكَّن لا من ماءٍ ولا من تيمم؛ فإنه يُصلي على حسب حاله: بالإيماء، بالنية، وصلاته صحيحة. أو حُبس في محلٍّ لا ترابَ فيه، محلّ مُبلط ..... وما أشبه ذلك، فإنه يُصلي على حسب حاله.

وهكذا فعل المسلمون يوم نزل بهم النبيُّ ﷺ في موضعٍ، وليس معهم ماء، حضرت الصلاةُ ولا ماء عندهم، لم يُشرع التَّيمم، صلوا بدون شيءٍ، لما بعثهم النبيُّ ﷺ يلتمسون عقد عائشةَ، صلّوا بلا ماءٍ ولا تيمم؛ لأنَّ هذا فرضهم، ثم نزل بعد التَّيمم.

الحديث الأول: حديث علي بن طلقٍ اليمامي: أنَّ النبي عليه السلام قال: إذا فسا أحدُكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليُعد الصلاةَ أخرجه الخمسة -وهم: أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه- وصحَّحه ابنُ حبان.

هذا يدل على أنَّ الفساء يُبطل الطَّهارة، ويُبطل الصلاة؛ لأنه إذا فسا بطلت طهارته، ثم بذلك تبطل الصلاة.

والفساء هو الخارج المعروف من الريح بدون صوتٍ، فإن كان معه صوت فهو الضراط.

وفي الحديث: أنَّ الشيطان إذا سمع النِّداء أدبر وله ضراط، يعني: صوت من خارج دبره؛ حتى لا يسمع التَّأذين.

وفي هذا الباب حديث أبي هريرة في "الصحيحين": أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تُقبل صلاةُ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه.

قيل لأبي هريرة: ما هو الحدث؟ قال: فساء وضراط. هذا معناه، جزء من الحدث، فسَّر الحدثَ بنوعٍ منه، لا بكله.

وفي حديث ابن عمر عند مسلم مرفوعًا: لا تُقبل صلاةٌ بغير طهورٍ، ولا صدقة من غلولٍ، وله شواهد بالمعنى.

فهذان الحديثان وما جاء في معناهما من أدلة اشتراط الطَّهارة، ولو ذكرهما المؤلفُ هنا لكان أنسبَ من اقتصاره على حديث علي بن طلق؛ لأنهما أصحّ منه وأشهر وأظهر، ولكن كأنه عدل عنهما لظهورهما وعلم الطالب بهما، فأراد أن يأتي بهذا الذي قد يجهله بعضُ الطلبة، بخلاف حديثي أبي هريرة وابن عمر؛ فهما حديثان مشهوران صحيحان؛ أحدهما في "الصحيحين"، والثاني في مسلم، وبكل حالٍ، لو أنه ذكرهما هنا أو أحدهما لكان أولى.

والحديث الثاني: حديث عائشةَ رضي الله عنها، وهي عائشة بنت الصديق، أم المؤمنين.

تقول رضي الله عنها، عن النبي ﷺ: لا تُقبل صلاةُ حائضٍ إلا بخمارٍ أخرجه الخمسة إلا النَّسائي، وصححه ابن خزيمة.

الحائض يعني: البالغة، عبَّر عن بلوغها بالحيض؛ لأنَّ الحيض من أسباب البلوغ.

وقد حكى ابنُ المنذر وغيره إجماعَ أهل العلم على أنَّ المرأة والرجل يبلغان بالإنزال، إذا أنزل بلغ، إذا أنزل المني بالاحتلام أو بغير الاحتلام: كالتفكير أو الملامسة فأنزل؛ بلغ بهذا، والمرأة كذلك؛ إذا أنزلت المني بالاحتلام أو بغيره على وجه الشَّهوة بلغت بإجماع المسلمين، وقول الله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59] فجعل استئذانهم مرتَّبًا على بلوغ الحلم.

وهكذا ..... بالحيض؛ إذا حاضت صارت مكلفةً، وصارت امرأةً مكلفةً بالتكاليف التي يُكلَّف بها الرجال المكلَّفون: كالصلاة والصيام، وغير هذا من أنواع التَّكليف.

وأُلحق بهذين الأمرين -يعني: الإنزال والحيض- في حقِّ المرأة والرجل، أُلحق بهما الإنبات: إنبات شعر العانة، الشعرة التي حول الفرج، إذا أنبتا بلغا على الصحيح، فيه خلاف، لكن هذا هو الصواب.

واحتجَّ العلماءُ على ذلك بقصة بني قُريظة لما أنزلهم النبيُّ ﷺ على حكم سعدٍ، وهو قتل المقاتلة، وسبي الذرية والنساء، أمر أن تُفتش مآزرهم، فمَن وُجد قد أنبت فهو مع المقاتلة يُقتل، ومَن وُجد لم يُنبت فهو مع الذرية.

والرابع في حقِّ المرأة، وهو الثالث في حقِّ الرجال: إكمال الخمس عشرة سنة، وهي أيضًا مسألة خلافية، والراجح أنَّ خمس عشرة كافية، احتجَّ عليها بقصة ابن عمر لما عُرض على النبي ﷺ يوم أُحد للجهاد منعه من الجهاد، قال: "وعرضتُ عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني"، دلَّ على أنَّ ابن خمسة عشر من الرجال الذين يُقاتلون، في رواية: ..... بلغت.

احتجّ بهذا على أنَّ مَن كمل خمس عشرة سنة فهو من المكلفين، ويترتب على هذا ما يترتب على المكلَّف من العبادات؛ فيُقتل -قد بلغ الحلم- إذا أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام، ويُؤدب تأديب المكلفين مَن أتى بما يُوجب التَّأديب، ويُؤدب تأديب مَن دونهم مَن كان دون ذلك.

والأحكام المترتبة على ذلك كثيرة في كلام أهل العلم، توجد في محلِّها، ولا سيما في العبادات ونواقض الإسلام، وغير ذلك.

ومن ذلك مسألة الصَّلاة؛ لأنَّ البالغ إذا ترك الصلاةَ يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، ومَن دون ذلك لا يُقتل، بل يُضرب ويُؤدب حتى يعتادها ويُصلي، ويُضرب إذا ترك الوضوءَ، أو ترك التيمم عند الحاجة إليه؛ لقول النبي ﷺ: مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع، وقال في المكلَّفين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فدلَّ على أنهم إذا لم يُقيموا الصلاةَ لا يخلِّ سبيلهم، بل يُقاتلون.

ويظهر من الحديث أنَّ مَن دون البلوغ لا يُشترط أن تستر رأسها، فلو صلَّت بنتُ التسع والعشر ونحوها -إذا لم يوجد فيها أحدُ أسباب البلوغ- وهي مكشوفة الرأس صحَّت صلاتها؛ لأنها لم تبلغ، فإذا بلغت وجب عليها سترُ الرأس وستر جميع البدن إلا الوجه عند الجميع، وإلا الكفَّين عند جمعٍ من أهل العلم، وإلا الكفّين والقدمين عند آخرين، أما ما سوى الثلاثة فالواجب ستره في الصلاة، الوجه والكفَّان والقدمان هذه محل الخلاف، أما ما سوى ذلك فالواجب ستره في الصلاة: كالرأس والصدر والسَّاق والذراع، عند الجميع في الصلاة إذا بلغت الأسبابَ التي تبلغ بها المرأةُ.

وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنه يجب عليها ستر الكفَّين أيضًا والقدمين، ولا يبقى إلا الوجه، إذا لم يكن عندها أجنبي فإنها تُصلي مكشوفة الوجه، هذه السنة؛ تُصلي مكشوفة الوجه في الفريضة والنافلة، إلا إن كان عندها أجنبيٌّ سترت وجهها في الصلاة.

وذهب قومٌ إلى جواز كشف الكفَّين؛ لأنهما يحتاج إليهما، فكشفهما لا بأس به في الصلاة، وهو قول قوي في هذا الباب، لكن سترهما أولى؛ خروجًا من الخلاف.

أما القدمان فالواجب سترهما؛ لحديث أم سلمة الآتي: أنها قالت: يا رسول الله، أتُصلي المرأةُ في درعٍ وخمارٍ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا كان الدرع سابغًا يُغطي ظهور قدميها هذه رواية أبي داود بالرفع.

ورجَّح الأئمة أنَّ الحديث وقف على أم سلمة، وأنه من توجيهها وكلامها، لا من كلام النبي ﷺ، سُئلت هي، سألها بعضُ الناس عن هذا، فقالت: "إذا كان الدرعُ سابغًا يُغطي ظهور قدميها".

هذا يدل على أنَّ القدمين يُستران في الصلاة -قدمي المرأة- بالثوب السَّابغ أو بالجوربين، فإذا كان الدرعُ سابغًا -القميص سابغًا أو جلبابها سابغًا- كفى، وإن كان في رجليها جورب كفى.

وذهب بعضُ أهل العلم إلى انكشاف القدمين أيضًا؛ لأنهما يبرزان ويحتاج إليهما للبروز فيُعفا عنهما، كما هو مذهب أبي حنيفة وجماعة.

والأولى والأقرب سترهما؛ لحديث أم سلمة هذا، وهذا شرط ثانٍ من الشروط، وهو ستر العورة ..... حديث عائشة وأم سلمة ستر العورة، وأنَّ عورة المرأة ما عدا وجهها عند قومٍ، وما عدا الوجه والكفَّين عند جماعةٍ، وما عدا وجهها وكفَّيها وقدميها عند جماعةٍ آخرين، لا بدَّ من ستر هذه الأشياء.

فإن صلَّت مكشوفة الرأس وهي قد بلغت الحلمَ لا تصح صلاتها، أو صلَّت مكشوفة الصدر أو الذِّراع أو السَّاق لم تصح صلاتها، أما إن كانت مكشوفة الكفَّين مع الوجه أو القدمين، فهذا محل الخلاف، والذي ينبغي ستر الكفَّين والقدمين في محلِّ الصلاة؛ خروجًا من خلاف العلماء؛ وعملًا بحديث أم سلمة وما جاء في معناه.

أما الكفَّان فأمرهما واسع: إن سترتهما فهو أفضل، وإن ظهرا فالصلاة صحيحة إن شاء الله على الأرجح.

أما إن وُجد عندها مَن تحتجب عنه من الرجال فإنها تستر وجهها وكفَّيها في الصلاة أيضًا؛ لأجل وجود مَن يحتاج إلى سترٍ من أجله.

والسترة .....: إن كان الثوبُ واسعًا فالتحف به يعني: في الصلاة يجعله على كتفيه، وإن كان ضيِّقًا فاتَّزر به اجعله إزارًا، هذا يدل على أنَّ الرجل يلزمه ستر العورة الغليظة، وهي ما بين السرة والركبة، هذه عورته، وهو ما يستر الفخذ والعورة إلى السرة، ولا يُصلي مكشوف ذلك، بالإزار أو بالسَّراويل أو نحوها، أما إن كانت عنده سعة فالمشروع أن يُغطي كتفيه، يلتحف بالثوب على كتفيه؛ حتى يستر العورةَ وما فوقها من الكتفين والصدر ونحو ذلك، هذا هو الأفضل والأكمل.

واختلف العلماءُ في وجوب ستر العاتقين أو أحدهما على قولين:

أحدهما: يجب، وهو رواية عن أحمد رحمه الله وجماعة.

والثاني: لا يجب، وهو قول الجمهور؛ أنه واجبٌ ما بين السرة والركبة فقط، وما سوى ذلك فهو مستحبّ، وليس بواجبٍ، تغطية العاتقين أو أحدهما يُستحبّ، واحتجوا على شرعية ذلك بحديث أبي هريرة: لا يُصلِّ أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، قالوا: هذا يدل على شرعية ستر العاتقين أو أحدهما، وليس على الوجوب بأدلةٍ كثيرةٍ دلَّت على أنه ﷺ كان يُصلي في ثوبٍ واحدٍ، والثوب الواحد قطعة، وهي الإزار، فجمعوا بين الأخبار: صلاته بالثوب الواحد لبيان الجواز، ونهيه عن الصلاة في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء لبيان الكمال والتَّمام.

قال قوم: يشترط هذا في الفريضة، لا في النافلة؛ أن يستر العاتقين أو أحدهما في الفريضة، لا في النافلة؛ لأنَّ النَّفل محلُّ تسامحٍ وتوسعةٍ، فلا بأس بصلاته بثوبٍ واحدٍ بدون العاتقين في النَّفل.

والصواب أنه يجب ستر العاتقين أو أحدهما، عاتقيه إذا كان مُتيسرًا ذلك، إذا كان عنده ثوبٌ واسعٌ، أو عنده ثوبان، فإن عجز صلَّى في ثوبٍ واحدٍ؛ جمعًا بين الأخبار.

وصلاته ﷺ في ثوبٍ واحدٍ: إما أن يكون ذلك قبل النَّهي؛ لأنَّ هذا من باب التَّوسعة، أو كان صلَّى في ثوبٍ واحدٍ لعدم وجود ثوب ثانٍ.

فينبغي للمؤمن أن يأخذ بالأحوط، وأن يستر العاتقين أو أحدهما إذا تيسر له ذلك، ولا يجوز له التَّفريط في ذلك مع القُدرة؛ لأنَّ الأصل في النَّهي التحريم، هذا هو الأصل، النبي قال: لا يُصل أحدُكم هذا نهي، وأصله التحريم، فلا ينبغي أن يُخالف مع القُدرة، أما مع العجز فلا حرجَ إذا صلى في إزارٍ أو في سراويل ليس على عاتقه شيء عند العجز، فالصلاة صحيحة عند الجميع؛ عند جميع أهل العلم، وإنما الخلاف مع القُدرة؛ إذا كانت عنده قُدرة أن يستر العاتقين أو أحدهما برداءٍ أو فنيلة أو نحوها على العاتقين، أو بأي شيءٍ يستر به العاتقين؛ كان هذا مُتعينًا، أو أحدهما، فإن لم يتيسر ذلك كفاه المئزر أو السَّراويل؛ للأحاديث الأخرى الدالة على ذلك.

والأفضل أن يأخذ زينته المعتادة في الصلاة؛ حتى يكون في أحسن حالةٍ، الله قال: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، والسنة أن يأخذ زينته: قميص أو إزار ورداء وعمامة، هذا هو الأفضل؛ للكمال والتَّمام.

ولو صلَّى مكشوف الرأس فلا حرج؛ لأنَّ الرأس ليس من العورة في شيءٍ عند الجميع، لكن إذا صلَّى بزينةٍ كاملةٍ يُغطي رأسه بالعمامة، أو بالغترة المعتادة، أو بالبرنس، أو بغير ذلك كان أكمل؛ لأنَّ هذا هو كمال الزينة والله أعلم.

س: ...............؟

ج: هو أظهر؛ لحديث أبي هريرة هذا.

س: لكن يأثم إن تركه عن قُدرةٍ؟

ج: نعم يأثم، وتبطل صلاته.

س: ..............؟

ج: ما في شكّ، لكن الجمهور يرونه مستحبًّا، الأكثرون على أنه مستحب؛ جمعًا بين الأخبار: صلاته في الثوب الواحد على الجواز، والنهي لبيان الأفضلية والأكمل.

س: ..............؟

ج: لا، ما يحتاج شيئًا إذا فقده، مثلما فقد الماء.

س: ..............؟

ج: فحش بطلت الصلاة، أما إذا كان شيئًا يسيرًا ولم يطل الفصلُ يُعفا عنه، ينتبه له، شيء يسير وينتبه له وغطَّاه لا تبطل الصلاة؛ لأنَّ هذا يعرض للناس في الفتوق اليسيرة والخروق اليسيرة، ولا سيما العمال والفقراء، الشيء اليسير الذي -يعني- لا يطول، ولكن انتبه له وستر العورةَ؛ يُعفا عنه، بخلاف ما إذا فحش وصار كثيرًا أو طال واستمر؛ فينبغي له الإعادة؛ لأنه اختلَّ الشرط .......

س: المرأة إذا كانت لا يراها أحدٌ هل عليها سترُ قدميها؟

ج: هذا محل البحث.

يقول المؤلفُ رحمه الله -الحافظ رحمه الله- وعن عامر بن ربيعة أنه قال: كنا مع النبي ﷺ في سفرٍ في ليلةٍ مظلمةٍ، فأشكلت علينا القبلة وصلينا، فلما أصبحنا علمنا أنا صلينا إلى غير القبلة، فأنزل الله جلَّ وعلا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]. أخرجه الترمذي وضعَّفه.

هذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، ولكن معناه صحيح عندهم؛ فإنَّ المؤمن ليس عليه إلا طاقته ووسعه، فإذا اجتهد في طلب القبلة صحَّت صلاته وإن صلَّى إلى غيرها؛ لأنه بذل ما عليه، والله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والحديث وإن كان ضعيفًا، ولكنه يُعضده عموم الأدلة والأصول المتبعة في الشريعة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

والواجب على المسافر إذا حضرت الصلاةُ أن يجتهد ويتحرى القبلة، وينظر في الوسائل التي تُعينه على ذلك، ثم يُصلي حسب اجتهاده، فإن ظهر بعد ذلك أنه صلَّى إلى غير القبلة أجزأته صلاته؛ لأنه قد أدَّى ما عليه واجتهد.

وقد ظهرت منذ زمن هذه الآلة التي تُستعمل (البوصلة) يُستعان بها في معرفة القبلة، وأخبرني الجمُّ الغفير الذين استعملوها أنها جيدة، وأنها مفيدة جدًّا في هذا الباب.

فالحاصل أنَّ المؤمن يجتهد: سواء بالبوصلة أو بغيرها، يجتهد ويتحرى القبلة في المكان الذي حضرت فيه الصلاةُ، فإذا فعل ما يلزم -اجتهد- فإنه يُجزئه وإن ظهر أنه صلَّى إلى غير القبلة.

والآية الكريمة من حيث العموم ظاهرة في هذا لمن اجتهد وأدَّى ما عليه، حيثما صلَّى فقد صلَّى لله، وإلى وجه الله، والوجه هنا يُستعمل بمعنى الجهة والجانب، ويُستعمل بمعنى الوجه الذي هو الصِّفة: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ  [الرحمن:27]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

فالله يُوصف بالوجه، لكن ليس كالوجوه، فوجهه حقّ، وصفته حقّ يجب إثباتها لله، وإمرارها كما جاءت، كما نُثبت لله اليد والقدم والأصابع والنَّفس والرحمة والغضب والرضا والعلم والكلام والسمع والبصر، إلى غير ذلك، نُثبتها لله كما جاءت بها النصوص، ونُمرها كما جاءت، وقراءتها تفسيرها، ليست بحاجةٍ إلى شيءٍ آخر، إنما نُقرّها ونُمرها كما جاءت، مع الإيمان بها، وأنها حقّ، وأنها صفات لله على الوجه الذي يليق به، لا يُشابه فيها خلقه جلَّ وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .

والسلف أخذوا بهذه العقيدة، واستقاموا عليها، ولم يتكلَّفوا، فأصابوا الحقَّ، وصارت هذه الطريقة هي الطريقة التي بها النَّجاة والعصمة، فهي الطريقة التي حازت العلمَ والحكمةَ والسَّلامة، فهي أسلم وأحكم وأعلم.

وقد أخطأ كثيرًا مَن قال: إنَّ طريقة السَّلف أسلم، وإنَّ طريقة الخلف أعلم وأحكم.

هذا غلط عظيم، بل طريقة السلف أسلم لسلامتها ومُوافقتها للحقِّ، وهي أعلم، وهي أحكم؛ لأنها وافقت الأدلة التي لا يجوز العدول عنها. وطريقة الخلف هي الطريقة الضَّالة المهلكة المخالفة للعلم والحكمة جميعًا.

فلا يليق هذا الكلام، ولا يجوز أن يُقال هذا الكلام؛ فطريقة السلف هي الطريقة السليمة الموافقة للعلم والحكمة، وهي إثبات آيات الصِّفات وأحاديثها، والإيمان بما دلَّت عليه من صفات وأسماء، وإثباتها لله على الوجه اللائق بالله، إثباتًا بلا تمثيلٍ، مع تنزيه الله عن مُشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل.

هكذا قال السلفُ الصالحُ من الصحابة ومَن سلك سبيلهم ، وقد أصابوا الحقَّ، ووفقوا للعلم والحكمة، ودرجوا على الصواب الذي درجت عليه الأنبياء.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة أيضًا عند الترمذي، وقوَّاه البخاري: ما بين المشرق والمغرب قبلة صحيح، وهذا يُؤيد عدم التكلف في الجهة، وأنه متى صلَّى إلى الجهة وإن انحرف عنها قليلًا هكذا أو هكذا فلا يضرّه ذلك، فجهته التي صلَّى إليها هي القبلة، فالجنوبي والشَّمالي ما بين المشرق والمغرب قبلة له، إن كان في جنوب الأرض وشمالها ما بين المشرق والمغرب قبلة.

فأهل المدينة واليمن والشام وأشباه ذلك ومَن كان في الشرق أو في الغرب فما بين الشمال والجنوب قبلة له، فلا يضرّه انحرافه هاهنا أو هاهنا يسيرًا، لا يُخرجه عن الجهة.

وهذا معنى الحديث: ما بين المشرق والمغرب قبلة يعني: في حقِّ أهل المدينة وأشباههم، وهكذا في قضاء الحاجة في حديث أبي أيوب: ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا يعني: في حقِّ الجنوبي والشّمالي إذا أراد قضاء حاجته يُشرق أو يُغرب؛ حتى لا يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة، والشرقي والغربي يُقال في حقِّه: ولكن جنِّبوا أو شمّلوا؛ حتى لا يستقبل القبلةَ عند قضاء الحاجة في الاستقبال والاستدبار.

والحديث الثاني: حديث عامر بن ربيعة، يقول : أنه رأى النبيَّ ﷺ يُصلي على راحلته حيث كان وجهه.

وهذا الحديث ثابت من حديث عامر بن ربيعة، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أنسٍ في "الصحيحين"، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أنه كان عليه الصلاة والسلام يُصلي على الراحلة حيث كان وجهه، يتطوع عليها، ويُوتر عليها، ولكن لا يفعل هذا في الفرائض، ينزل، إذا جاءت الفريضةُ نزل وصلَّاها في الأرض؛ فلهذا قال هنا: ولم ..... المكتوبة.

وفي اللفظ الآخر في البخاري قال: "إلا الفرائض"، فهو ﷺ كان يُصلي هذه الصلاة بالتطوع في الوتر، وفي الرَّواتب، وفي سنة الفجر، وفي صلاة الضحى، كان يُصلي على الراحلة، فإذا جاءت الفريضةُ نزل وصلَّى بأصحابه الفريضةَ في الأرض.

وهذا هو الواجب على الأمة: أن تنزل إذا جاءت الفريضةُ، ولا تُصلي على الراحلة، ولا على السيارة، بل تُصلي في الأرض، فإذا كانت الصلاةُ نافلةً فلا حرجَ أن يُصلي إلى جهة سيره: على بعيره، على فرسه، على حماره، على سيارته، في الباخرة، في السَّفينة، في المركبات الفضائية، في أي مكانٍ كان يُصلي حيث كان وجهه، وإن استطاع في السَّفينة والطائرة ونحوهما أن يقف وأن يركع ويسجد فعل، فإن لم يستطع صلَّى قاعدًا، وأومأ بالركوع والسجود، سواء كان في الباخرة، أو في الطائرة، أو في السيارة، على حسب طاقته: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وفي حديث أنسٍ: كان يستقبل ﷺ عند التَّكبير، وإذا كبَّر صلَّى حيث كان وجه ركابه. خرَّجه أبو داود بإسنادٍ حسنٍ.

هذا ظاهره خلاف الأحاديث الصَّحيحة؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة في "الصحيحين" ليس فيها ذكر استثناء؛ حديث عامر بن ربيعة وابن عمر وأنس في الصحاح ليس فيها أنه كان يستقبل عند الإحرام، وجاءت زيادة في حديث أنسٍ، وهو لا بأس به، من جملة الأحاديث الحسنة، فلا مانع أن تكون مقيدةً، وأن يكون هذا على سبيل الاستحباب؛ إذا تيسر له أن يستقبل عند الإحرام فهذا حسنٌ؛ جمعًا بين النصوص، وإلا فحديث ابن عمر وعامر وأنس وغيرهم أصح وأثبت، وليس فيها ذكر الاستقبال عند التَّكبير، إذا فعله الإنسانُ على سبيل الاحتياط والجمع بين الأخبار فهو حسنٌ إذا تيسر ذلك، وإلا فالصلاة إلى جهة سيره مطلقًا -من أولها إلى آخرها- صحيحة مُجزئة؛ عملًا بالأحاديث الصَّحيحة الظَّاهرة التي ليس فيها استثناء، وهي أثبت وأكثر، لكن إذا فعل الإنسانُ الاستقبالَ عند الإحرام عملًا بحديث أنسٍ فهذا حسنٌ، من باب الحيطة، ومن باب الجمع بين الأخبار، والله أعلم.

س: ما دام سنده حسنًا فلماذا لا يُقال بالوجوب؟

ج: لوجهين: أحدهما: أنه يُعارض الصحابة الآخرين، وهم أكثر، وأحاديثهم أثبت، فيدل على عدم وقوعه، ولو وقع لذكروه، وهم أكثر.

والأمر الثاني: أنه خالف مَن هو أوثق به، والقاعدة: أنَّ مَن خالف تكون روايته شاذةً: إما مطلقًا، وإلا عند المنافاة وعدم الجمع.

هذه الزيادة فيها نظر من جهتين: من جهة أنَّ الصحابة الكثيرين ما رووها، ومن جهة أنه يقع في النفس شيءٌ من جهة عدم ضبط هذا الراوي عن أنسٍ، ثبت أنه في "الصحيحين" كان يُصلي إلى جهة سيره، ونُقل عن النبي: كان يُصلي إلى جهة سيره، ولم يرو عن الحافظ من أصحابه أنه كان يستقبل، فجاء مَن هو دونه في الحفظ والضَّبط والرواية فنقل عن أنسٍ أنه كان يستقبل، ففي صحة هذه الزيادة نظر؛ فيكون استعمالها من باب الحيطة فقط؛ لأنَّ أنسًا ما روى عنه أصحابه الأثبات والثِّقات هذه الزِّيادة.

س: .............؟

ج: في الفريضة يعني.

س: في الطائرة؟

ج: مثل السيارة سواء بسواء، ومثل الباخرة، هذه على الماء، وهذه على الهواء.

س: ..............؟

ج: الفريضة والنافلة نعم.

س: ..............؟

ج: إذا أمكن أن يقوم ويجلس ويركع ويسجد، وإذا ما أمكن ينزل في الأرض، والطائرة كذلك، إذا أمكن تأجيل الصلاة إلى أن ينزل أجَّلها، مثل: الظهر يجمعها مع العصر، والمغرب مع العشاء، في الطائرة، في السيارة، فهذا أفضل، وإن ما تيسر؛ لأنَّ الركاب مستمرون، وليسوا في هواءٍ، ما يستطيعون أن ينزلوا، أو في الطائرة، جميع الطائرة صلّوا ولا يُضيعون الوقت، يُصلون على حسب أحوالهم، ولا يجوز إضاعة الوقت.

ومن هذا ما ورد -وإن كان في سنده ضعف- أنَّ النبي ﷺ في بعض أسفاره صادف مطرًا، فصلَّى على الركاب، تقدم بهم وصلَّى بهم على ركائبهم؛ لأنَّ الماء من فوقهم، والماء ينزل من تحتهم، فصلَّى بهم على الركاب، واستقبل القبلة، وصلوا على ركائبهم بالإيماء.

وفي سنده ضعف، لكن معناه صحيح، فلو وقع في البرِّ والناس على الركائب أو على الخيل صلّوا على ركائبهم، إذا كان السيلُ من تحتهم لا يستطيعون النزول صلّوا على الركائب، وقدموا الإمامَ وصفوا خلفه على الإبل بالإيماء.

س: إذا ما توضأ في الطَّائرة؟

ج: يتيمم إن ما تيسر له ماء، الطائرة فيها ماء، لكن إذا ما تيسر يتيمم.

س: .............؟

ج: نعم إذا ما استطاع، مثلما يُصلي الفريضة يتنفل.

س: .............؟

ج: ينبغي أن يُصلي قاعدًا أو قائمًا، المضطجع في تنفله نظر -خلاف- وإنما التَّنفل من القاعد لا بأس، على النصف، وأما إجزاؤه من ..... فيه نظر واختلاف، وجاء في الأحاديث بعض الاشتباه؛ فإنَّ ظاهر الأحاديث في الفريضة: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ، وأنَّ هذا في الفريضة خاصَّةً على حسب قُدرته، أما في النافلة فلم يُحفظ عنه ﷺ أنه صلَّى إلا قاعدًا فقط، ولم يُحفظ أنه صلَّى على جنبه، فالأولى ألا يُصلي على جنبه، بل يُصلي قاعدًا فقط، والأفضل القيام في النافلة -يعني- فإن صلَّى قاعدًا مع القُدرة فعلى النِّصف -نصف الأجر-.

س: ..............؟

ج: هذا عام، عدم الاستطاعة عام، لكن التَّقييد فيما إذا كان مع الاستطاعة، هذا يُصلي على جنبه، أو يكتفي بالقعود في النافلة -يعني- إذا كان قادرًا ليس به مرضٌ، هذا محل السُّؤال.

س: .............؟

ج: هذا يقوله حسب البوصلة، هذه ..... إلى جهة الشمال .....، ولكن الصَّلاة صحيحة؛ لأنَّ الميل اليسير لا يضرّ: ما بين المشرق والمغرب قبلة كما قاله النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام.

س: ............؟

ج: ما يضرّ، الأمر يسير إن شاء الله، ما يضرّ، الناس على حالهم، وقد رسمها المشايخُ والعلماءُ، وبنيت على إرشاد أهل العلم، فالميل اليسير لا يضرّ، أما كونه ..... بعد البناء فهذا سهل.

هذه الأحاديث الخمسة تتعلق بشروط الصلاة، والشروط تتعلق بالطَّهارة، وتتعلق بالسترة، وتتعلق بمكان العبادة -مكان الصلاة- وتقدم لنا ما يتعلق بالطَّهارة، وتقدم ما يتعلق بالسترة.

وهذا الحديث -حديث أبي سعيد- وما بعده فيما يتعلق بالمكان، فلا بدَّ للمُصلي أن يكون مكانه طاهرًا، أن يُصلي في مكانٍ طاهرٍ، لا يُصلي على النَّجاسات، بل يُصلي في مكانٍ طاهرٍ، وفي ثوبٍ طاهرٍ، وبدنٍ طاهرٍ، وعلى طهارةٍ من الأحداث.

كل هذا من شرط الصلاة: أن يُصلي وهو طاهر من الأحداث الصَّغيرة والكبيرة، وكذلك طاهر في ثيابه وملابسه وبدنه.

ومما يتعلق بالمكان: حديث أبي سعيدٍ، عن النبي ﷺ أنه قال: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام أخرجه الترمذي، وله علة؛ علته أنه أرسله بعضُ الرواة عن أبي سعيدٍ، وبعضهم وصله ولم يُرسله.

وقد رواه أبو داود وابن ماجه وجماعة موصولًا متَّصلًا بأسانيد جيدةٍ، فالعلة المذكورة ليست شيئًا، والصواب أنها ليست علةً، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم: أنه إذا أرسل الحديثَ بعضُ الرواة، ووصله بعضُهم، فالحكم للواصل إذا كان ثقةً؛ لأنها زيادة من الثِّقة، وزيادته مقبولة. وهكذا إذا قطعه راوٍ -خرمه- وجاء راوٍ ثقة ووصله فأزال الانقطاع، فالحكم له. فهكذا إذا اختصره راوٍ وتممه راوٍ، وكلاهما ثقة، فالحكم لمن تمم وزاد، لا لمن نقص.

وهذا الباب معروف في أقسام الحديث، وتقدم في المصطلح ما يدل على هذا المعنى، ومن ذلك قول الحافظ في "النخبة"، و"النخبة" على صغرها واختصارها جيدة، وعباراتها وجملها مفيدة وحكيمة، يقول رحمه الله: "وزيادة راويهما -يعني: الصحيح والحسن- مقبولة ما لم تقع مُنافية لمن هو أوثق".

ويقول: "فإن خُولف بأرجح فالراجح المحفوظ، ومقابله هو الشَّاذ، ومع الضَّعف الراجح المعروف، ومقابله المنكر".

فهذه الزيادة التي زادها بعضُهم من وصل الحديث -حديث أبي سعيدٍ- ..... النبي ﷺ زيادة مقبولة.

وقد ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" طرقه، وبيَّن جودتها وصحَّتها، وقد راجعته أيضًا في مظانه في مواضع إخراجه، فألفيتُها لا بأس بها، والذي وصله ورفعه موصولًا متصلًا أثبت وأولى .....

والحمام معروف في البلدان الخارجية: في الشام، في مصر، وفي غير ذلك، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أنهم يفتحون بلادًا فيها الحمام، ويُذكر فيها القيراط، وقد فتح المسلمون الشامَ وغير الشام، فوجدوا فيها الحمامات المعدة للغسل على نظامٍ خاصٍّ، تُكشف فيها العورات، ويغتسل فيها الرجال والنساء، تستعمل الحديث هذا: أنَّ الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام.

والمقبرة معروفة، لا يُصلَّى فيها؛ لأنَّ الصلاة فيها وسيلة إلى الشرك، وقد نهى النبيُّ ﷺ عن اتِّخاذ المساجد على القبور، وعن الصلاة عندها، قال: لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: يُحذِّر ما صنعوا.

وقال في حديث جندب عند مسلم وغير مسلم: ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك، فالصلاة عندها اتِّخاذ لها مساجد، فيُزجر عن ذلك.

ومن هذا حديث أبي مرثد الغنوي المذكور هنا -وهو الثالث- عن النبي ﷺ أنه قال: لا تُصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها، فالصلاة إليها والصلاة بينها كلها ممنوعة؛ لأنها وسيلة إلى الشرك وعبادة أهلها.

قال بعضُ الشُّراح وبعضُ الفقهاء: يعني بهذا إنما نهى عن الصلاة في القبور لأنها مظنَّة النَّجاسة؛ لأنَّ المقبرة قد تُنبش أو تُغير أو تُحفر، فيظهر آثارُ الموتى من دماءٍ وغير هذا، فيكون هذا من باب النَّجاسة.

وهذا غلط، ليس المقصود هذا؛ فإنَّ الغالب من المقابر تبقى على حالها ولا تُنبش، والنبي لم يفصل ولم يقل: المقبرة المنبوشة أو الجديدة، عمَّم، فالعلة ليست هذه النَّجاسة الحسية، لا، العلة كما قال الشَّافعي وغيره: نجاسة الشرك، وأنها وسيلة إلى الشرك وعبادة أهلها من دون الله .

ولو كان أيضًا هذا المقصود لما نُهي عن الصلاة في مقابر الأنبياء؛ فإنَّ الأنبياء لا تأكل أجسادَهم الأرضُ، كما جاء في الحديث.

فالحاصل أنَّ هذا النَّهي عام، وأنَّ المقابر لا يُصلَّى فيها؛ لأنَّ الصلاة فيها وسيلة إلى الغلو في أهلها وعبادتهم من دون الله، وسؤالهم قضاء الحاجات، كما قد وقع للغلاة لما عظَّموا القبورَ وبنوا عليها المساجد وفرشوها وحرَّموها وطيَّبوها؛ اغترَّ العامَّةُ، وظنَّ العامَّةُ أنها تقبل النذر، وأنها تُدعى ويُستغاث بأهلها، وطلبوا منهم المدد والغوث؛ فوقع الشركُ في الناس بسبب هذه الجهالة، وبسبب هذا الغلو، وبسبب هذا التَّفريط الذي حذَّر منه النبيُّ ﷺ، ولعن مَن فعله.

وقلَّ أن تأتي مصرًا من الأمصار اليوم ودولةً من الدول -إلا مَن شاء ربك- إلا وتجد فيها تعظيمَ القبور والغلوَّ فيها في أهلها المشهورين، ودعوتهم من دون الله، وسؤالهم المدد وقضاء الحاجات؛ جهلًا من أولئك الدَّاعين، وغرةً بما فعله بمن يظنّ أنه من العلماء، وهو ليس من العلماء، فانتشر هذا البلاء، وعمَّ هذا البلاء في بلاد الله، إلا ما شاء ربك، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.

والحمام -يعني- موضع كشف العورات والنَّجاسات، فنُهي عن ذلك، فكل موضعٍ يكون مظنةَ النَّجاسة يُنهى عن الصلاة فيه، إلا بعد العلم بطهارته، أو فرشه -وضع فراش ..... ذلك- فالحمام مظنّة النَّجاسات؛ أو لأنه بيت الشيطان، وموضع إغراء الشيطان للناس بكشف العورات، واتِّصال بعضهم ببعضٍ، فالله أعلم بالعلة، فلا يُصلَّى فيه مطلقًا الحمام لهذا الحديث.

والحديث الثاني حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ نهى عن الصلاة في سبع مواطن: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، والحمام، و..... أخرجه الترمذيُّ وضعفه.

الحديث من حيث السند ضعيف عند أهل العلم، لا يصح، ولا تقوم به حُجَّة؛ لأنَّ في إسناده زيد بن جبيرة الأنصاري المعروف، المدني، وهو عندهم متروك الحديث، مُتَّهم، فلا تُقبل روايته، ولا يصح الاحتجاجُ به.

وهناك مَن قد يلتبس به؛ وهو زيد بن جبير -بضم الجيم وعدم الهاء- الطائي، وهو ثقة، من التابعين، من طبقة عمرو بن دينار والزهري وأشباههما.

فالمقصود أنَّ زيد بن جبير الطائي ثقة معروف من التابعين، وقد يشتبه بهذا، أما هذا فزيد بن جبيرة -بالهاء وفتح الجيم- فهو أنصاري، وذاك طائي، هذا ضعيف متروك الحديث، وهو الراوي لهذه الرواية -هذا الحديث- ولهذا ضعَّفه الترمذيُّ رحمه الله من أجل هذا الشَّخص.

لكن هذه السبع فيها تفصيل: المزبلة والمجزرة تُمنع الصلاة فيها لأنها محلّ النَّجاسات، المزبلة محل إلقاء القاذورات والعذرات وأنواع النَّجاسات. والمجزرة محل الدِّماء، فلا يُصلَّى فيها من أجل هذا. وقارعة الطريق لأنها مظنّة الدَّواب ومشي الناس فيها، فيتعرض المصلي فيها للأذى؛ يُؤذَى أو يُؤذي، ونهى النبيُّ عن النزول في قارعة الطريق في الليل؛ لأنها موضع الدَّواب، وموضع سير الناس، لكن إذا دعت الحاجةُ إلى قارعة الطريق فلا بأس، كما لو ضاق المسجدُ جاز أن يُصلَّى حوله في الطرق، كما نصَّ عليه العلماء؛ لأنَّ الطريق لا يُجزم بأنها نجسة، فإذا قدر أنَّ فيها نجاسةً وعلم أنَّ فيها نجاسةً فرش عليها ثوبًا أو حصيرًا أو غير ذلك وصلَّى عند الحاجة؛ لأنَّ الحديث هذا ضعيف، ولا تقوم به الحجَّة، فقارعة الطريق مثل غيرها إذا دعت الحاجةُ إليها. والحديث هذا لا يُحتج به فيما انفرد به: قارعة الطريق، والمقبرة معروفة كما تقدم، والحمام تقدم أيضًا، ومعاطن الإبل جاء فيها حديثٌ صحيح: أنَّ النبي نهى عن الصلاة في معاطن الإبل. فمعاطن الإبل لا يُصلَّى فيها؛ جاء فيها حديث صحيح غير هذا الحديث.

أما فوق ظهر بيت الله: فانفرد به هذا الحديث، ولا يُحتج به، فوق ظهر بيت الله لا حرج، صحيح؛ ولهذا يُصلى في الكعبة، ويصلى في الحجر يستقبل الكعبة.

وقال بعضهم: فوق ظهر بيت الله لأنه هواء، ليس أمامه شيء واقف يُصلَّى إليه.

والجواب عن هذا أن يُقال: ليس الحكم مناطًا بالقائم، وإنما الحكم مناط بهواء الكعبة و.....؛ ولهذا الذين في جبل أبي قبيس وما فوقه من الجبال صلاتهم صحيحة؛ لأنهم يستقبلون إلى الفضاء، الفضاء الذي يُساند الكعبة، فصاروا مُستقبلوها في المعنى، وإن كانوا يستقبلون الهواء -الفضاء- الذي فوقهم.

كذلك لو كان إنسانٌ أسفل؛ قد حفر بئرًا أو ما أشبهه، أو بدرومًا في الأرض في مكة؛ صحَّت الصلاة إلى جهة الكعبة، وهو إنما يُسامدها، أسفل لا يُسامدها هي، وإنما يُسامد ما تحتها، فتصح صلاته، والعبرة بهوائها وما يُسامدها، لا بنفس بنائها؛ ولهذا لو هُدمت -والعياذ بالله- صحَّت صلاةُ الناس إلى محلِّها، كما قد يقع في آخر الزمان حين يهدمها الحبشةُ، فهذه لو هُدمت صلاة الناس إليها صحيحة؛ لأنَّ المقصود محلّها، وليس المقصود بناءها.

والحديث الثالث: حديث أبي مرثدٍ، قد تقدم الكلامُ عليه فيما يتعلق بالقبور والصلاة إليها، عند استقبال القبور، فلا تُستقبل، لا تكون قبلة المصلي، ولا يُصلي بين القبور، لكن يكون بينه وبينها حائل من جدارٍ ونحوه، أو يكون بعيدًا عرفًا، إذا بعد عنها عرفًا جازت الصلاةُ، أما كونه يكون قريبًا منها فإنَّ الصلاة إليها تُشبه عبادتها، فيُنهى عن ذلك، ولا يُصلَّى إليها؛ لئلا يظنّ ظانٌّ أنه يعبدها؛ ولأنه في مُشابهة مَن عبدها، فلا يجوز فعل ذلك، ولكن إذا كان بينه وبينها حائل: إما جدار المسجد، أو زائد جدارٍ آخر على الصحيح غير جدار المسجد؛ جاز ذلك، أو حائل آخر من غير المسجد: كالجدران الأخرى التي في البرية، أو في محلٍّ بعيدٍ عنها عرفًا فلا بأس.

أما الجلوس عليها فلأنه امتهانٌ لها، ولا يجوز امتهان القبور المسلمة المحترمة، فلا تُمتهن، ولا يُوطأ عليها، ولا يُتَّكأ عليها؛ لما جاء به النَّهي عن ذلك، والجلوس عليها أشدّ في الامتهان.

قال بعضُهم: المراد بالجلوس عليها التَّغوط عليها، أما الجلوس لغير المتغوط فلا.

وهذا ليس بشيءٍ، ضعيف، والصواب أنَّ المراد الجلوس عليها مطلقًا، ولو لم يتغوَّط، أما إذا تغوَّط فهو أشدّ في القباحة والإثم، وهو يدل على أنَّ المراد الجلوس مطلقًا؛ للحديث الآخر الذي رواه مسلم وغيره: لأن يجلس أحدُكم على جمرةٍ فتحرق ثيابَه فتخلص إلى جسده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أنه لا يجوز الجلوس على القبور، ولا امتهانها بالوطء عليها والاتِّكاء عليها كما جاءت.