04 من حديث (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا, فأشكل عليه..)

عن أبي هريرة -تقدم؛ هو عبدالرحمن بن صخر الدوسي - عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا أخرجه مسلم.

هذا الحديث يدل على أنَّ الشك في الحدثِ لاغٍ لا يُؤثر ولا يُعتبر، والطهارة باقية على أصلها حتى يتحقق ما ينقضها، وفي هذا دلالة على الأخذ بالأصول في أمور الطلاق والنكاح والمعاملات والصلاة وغير ذلك كالطهارة، هذا أصل أصيلٌ عند أهل العلم، وهو أنَّ الواجب الأخذ بالأصول والتَّمسك بالأصول؛ حتى يُعلم ما يُخالفها ويُناقضها، وأنَّ هذا الأصل زال.

يقول: فلا يخرجنَّ من المسجد ..... حتى ولو كان في غير الصلاة، المعنى: أن طهارته باقية ومُعتبرة، ويُستمسك بها؛ لأنها الأصل، حتى يعلم ما يُخالف ذلك.

ومن هذا المعنى: ما رواه الشَّيخان من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم المازني أنه قال: يا رسول الله، الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، وهو مثل حديث أبي هريرة في الدلالة على وجوب الأخذ بالأصل -وهو الطهارة- حتى يُوجد ما يُزيله عن يقينٍ: بسماع الصوت -صوت الضراط- أو يجد الريح -ريح الفساء- الرائحة التي تخرج من الدبر، فإذا وجد صوتًا للخارج أو ريحًا له أو تحقق ذلك ولو ما وجد، المقصود التحقق، فبعض الناس قد يخرج منه شيءٌ، لكن ما يكون له ريحٌ، ولا يكون له صوتٌ، فإذا علم أنه خرج منه شيء انتقض، وإنما ذكر النبيُّ الصوتَ والريحَ لبيان الحقيقة، يعني: حتى يتحقق.

وهكذا لو خرج البللُ من ذكره، أو من دبره شيءٌ، ولو لم يجد الصوت والريح؛ فإنَّ الوضوء ينتقض، وهذا بإجماع المسلمين، ليس في هذا نزاع، بإجماع أهل العلم أنه متى وجد شيئًا حقيقةً: بسماع صوتٍ، أو وجود ريحٍ أو رطوبةٍ في الفرج، أو رطوبة في الدُّبر؛ يعلم أنه خرج من الدبر شيء، فإنه بهذا ينتقض وضوؤه، وتنتقض طهارته؛ فعليه أن يُجدد طهارته للصَّلاة ونحوها، أما ما دام الأمر شكًّا وتوهُّمًا فلا يُعتمد عليه، بل يُصلي، ويطوف للطواف، ويمسّ المصحف، إلى غير ذلك من أحكام الطَّهارة.

وكذلك لو شكَّ: هل طلَّق أو ما طلَّق؟ فالزواج مضبوط، قد تزوج، ولكن شكَّ: هل صدر منه الطلاقُ أو ما صدر منه الطلاقُ؟ فإنه لا طلاقَ، والأصل بقاء النكاح حتى يعلم أنه طلَّق، أو جاء ما يُزيل النكاح.

وكذلك لو شكَّ: هل أعتق أو ما أعتق؟ عنده أرقَّاء -رقيق- ولكن شكَّ: هل صدر منه عتقٌ لهم أم لا؟ فالأصل بقاؤه.

كما لو شكَّ: هل أوقف المحل الفلاني أو ما أوقفه؟ سبله أو ما سبله؟ الأصل أنه ما سبله.

شكَّ: هل باع على فلانٍ أو ما باع؟ الأصل ما باع.

وهكذا العمل بالأصول حتى يُوجد ما يُخالفها عن يقينٍ.

والحديث الثاني والثالث: حديث طلق بن علي وبُسرة بنت صفوان في موضوع مسِّ الفرج:

حديث طلق بن عليٍّ: هذا هو الحنفي اليماني، من بني حنيفة، فيه أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، مسستُ ذكري، أو قال: الرجلُ يمسُّ ذكره في الصلاة، أعليه وضوء؟ فقال: إنما هو بضعة منك، البضعة: القطعة من الشيء، يعني: لحمة منك، المعنى: لا ينقض الوضوء.

مسَّ من باب فَرِحَ، أصله: مَسِسَ يمسس، فأُدغمت السين في السين في مسَّ، فهو من باب فَعِلَ يفعل.

والحديث حُجَّة لمن قال أنَّ مسَّ الذكر لا ينقض الوضوء؛ لأنَّ الرسول قال: إنما هو بضعة منك، فدلَّ ذلك على أنه لا ينقض، وكان هذا في أول الإسلام، كما قال جماعةٌ من أهل العلم: كان هذا في أول الإسلام، ثم نُسخ بحديث بسرة وما جاء في معناه.

فدلَّ الحديثُ على أنه ينقض الوضوء، هذا أحسن ما حُمل عليه، وقال آخرون: بل يُسلك مسلك الترجيح؛ لأنه ليس هناك تاريخ واضح بأنَّ حديث طلق هو الأول، وحديث بُسرة هو الآخِر؛ فيُسلك مسلك التَّرجيح.

وعلى كل تقديرٍ، إن سلكنا مسلك النَّسخ بأنَّ حديث طلقٍ هو الأول فلا إشكالَ، وإن لم تتوفر شروطُ النسخ فحديث بُسرة وما جاء في معناه هو أصح وأولى، كما قال البخاري.

وإن كان ابن المديني شيخه رحمه الله وعِلمه بهذا الشيء لا يُنكر، له اليد الطولى في علم الحديث، ولكن فاته أشياء في هذا، وتلميذه البخاري في هذا الموضع أولى بالأخذ بقوله؛ لأنه قال بقول يعضده أمور، وقد يُصيب التلميذ ويُخطئ الأستاذ في مسائل كثيرة.

فبسرة حديثها سليم الإسناد، وحديث طلق فيه طعن.

وحديث بسرة متأخر، وحديث طلق قيل أنه كان وقت تأسيس مسجد النبي ﷺ، قدم عليه وقت تأسيس المسجد قديمًا.

حديث بُسرة له شواهد تُعضده، وحديث طلقٍ لا شواهدَ له.

حديث بسرة أصحّ لوجوهٍ: من جهة سنده، ومن جهة شواهده، فقد جاءت له شواهد: من حديث زيد بن خالد الجُهني، ومن حديث أبي هريرة، ومن أحاديث أخرى كلها جيدة صحيحة، وفيها دلالة على أنه يجب الوضوء من مسِّ الفرج، فالأخذ به أولى، وهو المتعين.

ولهذا الصواب أنَّ مسَّ الذكر ومسَّ الدبر ومسَّ الفرج ينقض الوضوء، وفي حديث أبي هريرة: مَن أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فقد وجب عليه الوضوء هذا يدل على أنه ناقض، وأنَّ حديث طلق بن عليٍّ إما منسوخ، وإما مرجوح من جهة الصنعة فيما يتعلق بالرواية والأسانيد والشَّواهد.

ومعلوم أنَّ الشريعة ناقلة عمَّا كان عليه الناس في الأصل، الأصل أنَّ أي عضوٍ لا ينقض مسُّه، هذا هو الأصل، فجاءت الشريعة ناقلةً بجعل مسِّ الفرج ناقضًا للوضوء، وما كان ناقلًا فهو مُقدَّم على ما كان مبقيًا على الأصل.

والحديث الرابع: حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال: مَن أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبنِ على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم خرجه ابن ماجه، وضعَّفه أحمد وغيره.

هذا الحديث عند أهل العلم ضعيف، لا يُحتج به، ولا يُتعلق عليه؛ لضعف إسناده.

القيء: ما يخرج من بطن الإنسان مع فمه، إذا تكرر يُسمَّى: قيئًا، وإذا كان مرةً واحدةً قليلًا يُسمَّى: قلسًا، وهو مليء الفم فأقل لا يتكرر.

والرعاف: ما يخرج من الدم من الأنف.

والمذي: ما يخرج من الذكر عند تحرك الشَّهوة، إذا تحركت الشَّهوة ..... الذكر وضعف ظهر هذا المذي، وهو ماء لزج أصفر يعلو طرف الذكر عند ضعف الذكر، وعند عدم تيسر ما تحركت لأجله الشَّهوة، هذا غير المني؛ المني يخرج دَفِقًا بلذةٍ، عند قوة الشَّهوة يندفق ويخرج بقوةٍ، وهو ماء قوي ثخين، أما المذي فهو ماء لزج ضعيف ينساب من الذكر عند تحرك الشَّهوة ثم خمودها وضعفها.

أما خروج المذي فهو ناقض بالإجماع كالبول.

وأما الرّعاف والقلس والقي ففيه خلاف: ذهب قومٌ إلى أنه ينقض الوضوء، وذهب آخرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، وليس هناك حُجَّة قائمة واضحة في نقضها للوضوء.

جاء في حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قاء فتوضأ. وفي لفظٍ: قاء فأفطر. وفيه كلام لأهل العلم، وقصاراه يدل على الاستحباب، قصاراه يدل على استحباب الوضوء، لا على وجوب الوضوء، فإذا توضأ من باب الاحتياط -من باب الأخذ بالأولى- فهذا حسن.

وهكذا الرعاف ليس هناك ما يدل على نقضه للوضوء في الأحاديث الصحيحة، لكن جاءت أحاديث فيها ضعف، فإذا رعف رعافًا كثيرًا فالأحوط له والأولى الوضوء؛ خروجًا من خلاف العلماء، أما الوجوب فليس هناك ما يدل على الوجوب إلا هذا الحديث الضَّعيف.

والقلس: ما قد يقع من أشياء تخرج من الفم عند الشِّبع في الغالب وعند الامتلاء يخرج من جوفه شيء قليل من فمه، هذا .....، ولا يضرّ صومه، ولا يضرّ طهارته على الصحيح.

وأما قوله: ثم ليَبْنِ على صلاته عرفتم أنه ضعيف، فلا يُتعلق بهذا، والصواب أنَّ الحدث يُفسد الصلاة كالمذي، فإذا أحدث بأن فسا في الصلاة أو أمذى أو خرج منه بولٌ أو ما أشبهه مما ينقض الوضوء فإنه تفسد صلاته، هذا هو الصواب؛ لحديث عليِّ بن طلقٍ الآتي في كتاب "الصلاة": إذا فسا أحدُكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليُعد الصلاة أخرجه الخمسة، وصححه ابن خزيمة.

هذا الحديث جيد لا بأس به، وهو مقدم على حديث عائشة هذا؛ لأنه ضعيف، والصواب أنَّ الحدث في الصَّلاة ينقض الوضوء ويُبطل الصَّلاة، وعلى مَن وقع منه ذلك أن يُعيد، هذا هو الراجح والمعتمد في هذا الباب.

س: إذا أصابه الرعافُ وهو يُصلي، هل يُعيد صلاته؟

ج: إذا كان شيئًا يسيرًا فلا يضرّ، أما إذا كان كثيرًا فإنه يحمل نجاسةً؛ لأنَّ الدم نجس بالإجماع، فالأولى أن يقطع صلاته ويتنزَّه من الدم ويتوضأ من باب الاحتياط والأخذ بالحيطة لصلاته، هذا هو الأولى.

س: القلس هل له حدٌّ معين؟

ج: ..... فأقل إذا كان لا يتكرر، يخرج ولا يتكرر.

س: القلس بتسكين اللام أو فتحها؟

ج: يقول بعضُهم بهذا وهذا فيما يظهر: بالفتح وتسكين اللام، وهو شيء واحد.

س: هل الجروح تنقض الوضوء؟

ج: الصواب أنها لا تنقض الوضوء، لكن لو كان كثير دم يُشبه الرعاف فيتوضأ من باب الاحتياط والخروج من الخلاف، فلا بأس، ولكن ليس هناك حاجة واضحة لنقض الوضوء.

.............

هذا حديث جابر بن سمرة : أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئتَ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم خرجه مسلم.

هذا يدل على أنَّ الوضوء من غير الإبل مُخيَّر: مَن شاء فعل، ومَن شاء ترك، وكان النبيُّ ﷺ قد أمر أولًا بالوضوء مما مسَّت النار، ثم ترك ذلك، فنسخ الوجوب وبقي الاستحباب، وهذا الحديث يدل على بقاء الاستحباب؛ قال: إن شئتَ، علمنا أنه مستحبٌّ، ولو لم يقل: إن شئتَ فيكون عبثًا في الوضوء حينئذٍ وإضاعةً للماء بلا فائدةٍ، يدل ذلك على أنه مستحب الوضوء والطهارة على طهارةٍ مما مسَّت النار، فيتوضأ وتكون طهارةً على طهارةٍ، فهو مستحب.

أما لحم الإبل فقال: نعم، فلم يجعل له مشيئةً، قال: نعم توضأ، فيدل على وجوب الوضوء من لحم الإبل، فهو غير مُخَيَّر، بخلاف الغنم والبقر والصيود فإنه مُخيَّر، وأما لحم الإبل فليس بمُخيَّرٍ.

ومما يدل على هذا المعنى أيضًا: ما رواه أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: توضَّؤوا من لحوم الإبل، ولا توضَّؤوا من لحوم الغنم.

فقوله: ولا توضَّؤوا دلَّ على عدم الوضوء من لحوم الغنم، وأنه لا يُشرع الوضوء منها.

وحديث جابر يدل على شرعيته، فقوله: ولا توضَّؤوا يدل على عدم الوجوب، يعني: لا توضَّؤوا منها على سبيل اعتقاد الوجوب وأنَّ هذا شيء واجب، بخلاف مَن توضَّأ على سبيل الاستحباب والنَّشاط وتحري فضل الوضوء.

أما لحم الإبل فالأمر مفروغٌ منه، وجزم بذلك، فدلَّ على وجوبه، قال: توضَّؤوا من لحوم الإبل، فدلَّ على الوجوب، وهذان الحديثان الصَّحيحان حُجَّة في ذلك.

وذهب إلى هذا أحمد وجماعة من أهل الحديث رحمهم الله، وقولهم هو الصواب.

وذهب آخرون -وهم الأكثرون- إلى عدم الوضوء من لحوم الإبل، واحتجُّوا بما رُوي عنه ﷺ: أنَّ آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسَّت النار. ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ هذا المراد به جنس ما مسَّت النار، وليس المراد به لحم الإبل، ويدل عليه أن نفس جابر في الروايات المصرحة عنه أنه أكل من لحم غنمٍ وتوضَّأ، ثم أكل منه مرةً أخرى فلم يتوضأ: "آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسَّت النار" يعني: ترك الوضوء من لحم الغنم وأشباهه، فإذا أكل لحم إبلٍ فهو غير داخلٍ في ذلك.

ولم يثبت عنه ﷺ أنَّ آخر الأمرين ترك الوضوء من لحم الإبل، لا، إنما هذا مما مسَّت النار، فهذا عام، وحديث جابر بن سمرة وحديث البراء خاصٌّ، والعام لا يقضي على الخاصِّ، بل الخاص يقضي على العام، على القاعدة الأصولية: (الخاص يقضي على العام، ويخصّ منه العام ولا يعمّه العام).

ولذلك نظائر كثيرة، مثل: قوله جلَّ وعلا: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] في سورة النساء، يُستثنى من هذا النَّهي الجمع بين المرأة وعمَّتها، والمرأة وخالتها، خصّت السنة الكتاب العزيز، كذلك زيارة القبور خصَّت السنة النساء، إلى غير ذلك.

فالحاصل أنَّ لحم الإبل الصحيح أنه ينقض الوضوء، وهو الحق؛ لهذين الحديثين الصَّحيحين، وإن خالف مَن خالف.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي ﷺ قال: مَن غسل ميتًا فليغتسل، ومَن حمله فليتوضأ.

احتجَّ به بعضُ أهل العلم على شرعية الغُسل أو وجوبه من غسل الميت، وعلى استحباب الوضوء لمن حمل الميت، قال بعضُهم: ولعل المراد الوضوء إذا أراد الحمل ليُصلي على الجنازة، مَن أراد حمله فليتوضأ حتى يكون جاهزًا للصَّلاة على الميت إذا قُدم للصلاة. وهو من باب التأويل، لكن الجواب عن هذا أنَّ الحديث ضعيفٌ لا يُحتجُّ به؛ في إسناده ضعف، كما قال أحمد رحمه الله وغيره.

وأما الغُسل فمُستحب لأحاديث أخرى جاءت في الباب: كحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يغتسل من أربعٍ. وذُكر منها غسل الميت.

كذلك حديث أسماء بنت عميس لما تُوفي أبو بكر الصديق، وصار الماء باردًا، استفتت الصحابةَ: هل يجب عليها الغسل؟ فأفتوها بعدم ذلك، فدلَّ على أنَّ الغسل من غسل الميت أمر معروف عندهم، على أنه مستقر عندهم أنه مستحب، وليس بواجبٍ.

مَن غسل ميتًا فالسنة له أن يغتسل، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن تغسيل الميت قد يُورث الغاسل انكسارًا وضعفًا في القوة، بسبب مشاهدة الميت، وتذكر ما وراء الموت من القبر وأمر الآخرة؛ فيحصل للإنسان ضعفٌ وانكسارٌ وانحلال القوة، فيكون الغسل جبرًا لهذا الشيء، وقوة بعد الضعف والتَّماسك، كما يُشرع الغسل بعد الجماع لما يحصل من الجماع من الضَّعف، فينجبر بالغسل.

وهكذا الغسل من غسل الميت، وهكذا الغسل من الحيض والنفاس؛ لأنَّ الدم يُضعف القوة -خروج الدم- فيُشرع الغسل بعد انقطاع الدم وحصول الطَّهارة جبرًا لما حصل من الضَّعف، وتقويةً للبدن، وتنشيطًا له بعدما حصل له من الاختلال والضَّعف.

ولله حكم وأسرار في أحكامه قد تخفى على البشر، مع العلم اليقيني أنه حكيم عليم، وأنَّ أحكامه سبحانه كلها على محض الحكمة، وأنه لا يشرع شيئًا عبثًا، وإنما يشرعه لحكمةٍ بالغةٍ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] .

وبهذا يُعلم أنه لا يُستحب الوضوء من حمل الميت؛ لعدم صحة الحديث، أما الغسل فيُستحب من تغسيل الميت.

واختلف العلماءُ: هل يجب الوضوء أم لا يجب؟

على قولين: قال بعضُهم: يجب، ورُوي عن بعض الصَّحابة.

وقال بعضُهم: لا يجب، وهو محل نظرٍ، يبقى عدم الوجوب؛ لأنَّ الوجوب يحتاج إلى دليلٍ، إلا أن يكون مسَّ عورة الميت، فلو مسَّ عورته فيجب الوضوء، وإن كان المشروع أن لا يمسّها، بل تكون عليه خرقة يمسح بها العورة، لا يمسّ العورة، لكن لو قُدر أنَّ يده أخطأت أو أن جهل ومسّ العورة فيجب عليه الوضوء.

أما إذا لم يمسّ العورة، وإنما غسلها فقط، أو صبَّ الماء على المغسل، فليس هناك شيء واضح بوجوب الوضوء، ولا وجوب الغسل، بل يُستحب الغسل، وإذا توضأ فمن باب أولى، إذا توضأ واغتسل فهذا أفضل وأكمل؛ لما فيه من الانجبار والطَّهارة التَّامة.

الحديث الثاني: حديث عبدالله بن أبي بكر، عبدالله بن أبي بكر هذا هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله عنه وعن أبيه وأجداده.

توهم بعضُ الشراح أنَّ عبدالله بن أبي بكر هذا هو ابن أبي بكر الصديق، وهذا وهم كبير، وغلط عظيم، فإنَّ عبدالله بن أبي بكر الصديق ليس له رواية فيما نعلم، وليس من رواة هذا الحديث، وإنما هو عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري؛ ولهذا قالوا في الرواية: إنه مرسل، ولو كان عن عبدالله بن أبي بكر الصديق ما كان مرسلًا؛ لأنه صحابي جليل.

المقصود أنَّ هذا هو عبدالله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري.

أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يمسّ القرآن إلا طاهر، استدلَّ العلماء على تحريم مسِّ المصحف إلا على طهارةٍ؛ لهذا الحديث، ولأحاديث أخرى جاءت في الباب يشدُّ بعضُها بعضًا.

والحديث رواه مالك مُرسلًا في "الموطأ"، ووصله النَّسائي وابن حبان، وهو معلول، ورواه أبو داود في "المراسيل" أيضًا.

وجاء في بعض طرقه الموصولة ما هو جيد، كما عند أبي داود ..... صاحب "نصب الراية" الزيلعي.

فالحديث جيد ولا باس به، وله طرق جيدة موصولة، وهو حجة على تحريم مسِّ المصحف، وما جاء في الأحاديث الأخرى والشَّواهد الأخرى تقويه وتُؤيد معناه، وهذا كله في مسِّ المصحف، أما إذا كانت القراءةُ عن ظهر قلبٍ فلا بأس أن يقرأ على غير طهارةٍ، إذا كان ليس بجنبٍ يقرأ على غير طهارةٍ ولا بأس؛ لهذا الحديث الرابع -حديث عائشة- أنَّ النبي ﷺ كان يذكر الله على كلِّ أحيانه. رواه مسلم، وعلَّقه البخاري.

فذكر الله يشمل القرآن وغير القرآن، فيجوز للمسلم أن يقرأ القرآنَ ويذكر الله وإن كان على غير طهارةٍ، وهذا من فضل الله وتيسيره جلَّ وعلا؛ فإنَّ الإنسان بحاجةٍ إلى الذكر، بحاجةٍ إلى التَّعبد به، فأباح الله له الذكر وإن كان على غير طهارةٍ؛ لئلا يتكلف؛ ولئلا يُحرم من هذا الخير العظيم، وهذا من فضل الله وإحسانه إلينا .

وأما مسّ المصحف فلا بدَّ فيه من الطَّهارة، كما دلَّ عليه هذا الحديث، وكما دلَّت عليه فتاوى الصَّحابة.

قال أبو العباس ابن تيمية أنَّ الصحابة أفتوا بأنه لا يجوز مسّ المصحف إلا لمن كان على طهارةٍ.

أما مَن تأوَّل بأنَّ المراد بالطاهر المسلم، فهو تأويل ضعيف؛ لأنَّ الطاهر في عُرف الشارع هو المتوضِّئ، فلا يمسّ القرآن إلا مَن هو متوضئ، هذا هو الصواب، وعليه الأئمة الأربعة وجمع من أهل العلم.

وجاء عن بعضهم بأنه يجوز مسّ المصحف ولو على غير طهارةٍ، ولكنه قول ضعيف مرجوح مخالف للسنة، ومخالف لما أفتى به أصحابُ النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا يُلتفت إليه.

ولكن يُستثنى من هذا الجنب؛ فإنه لا يقرأ القرآنَ عن ظهر قلبٍ، بل ينتظر حتى يغتسل.

وقولها: "كان يذكر الله على كل أحيانه" هذا عام، مخصوص بالجنب؛ لحديث عليٍّ الآتي: أن النبي ﷺ كان ..... جنابة. وهو مُستثنًى على الصحيح.

واختلف العلماءُ في الحائض والنفساء: هل تُستثنى من العموم، أو أنه يجوز لهما القراءة كسائر الذكر؟

على قولين:

  • أحدهما: أنهما كالجنب بجامع أنَّ كل واحدٍ منهما على الحدث الأكبر.
  • القول الثاني: أنهما ليسا كالجنب؛ لأنَّ مدتهما تطول، بخلاف الجنب.

وقد احتجَّ أصحابُ القول الأول بحديثٍ رواه الترمذي عن ابن عمر: أن النبي ﷺ قال: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن، ولكنه ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، وهو ليس من الشَّاميين، ورواية إسماعيل عن غير الشَّاميين ضعيفة عند أهل العلم، وإنما تكون جيدةً إذا روى عن أهل بلاده.

والأقرب هو القول الثاني: وهو أنه لا حرجَ في قراءة القرآن للحائض والنُّفساء؛ لأنَّ مدتهما تطول، لكن من غير المصحف، بل عن ظهر قلبٍ، ولا سيما عند الحاجة: كالمدرسة والطالبة المحتاجة إلى ذلك، فإنَّ حاجتهما ظاهرة في هذا، والقياس على الجنب ليس بظاهرٍ، ولا يصح قياسهما على الجنب.

س: أحسن الله إليك، مسّ المصحف للأطفال الصِّغار؟

ج: الأقرب -والله أعلم- أنهم يُعلَّمون، إذا بلغ السبعَ وعقل يُعلَّم أن يمسَّ المصحف على طهارةٍ، ومَن دونهم فالأولى ألا يُعطى المصحف؛ لأنهم يعبثون به ..... يُكتب له ما تيسر إذا دعت إليه الحاجةُ .....

س: دخول الخلاء بالمصحف أو بجزءٍ من المصحف؟

ج: ما يجوز هذا، ما يجوز.

س: هل ورقة المصحف تُعتبر مصحفًا؟

ج: قد يقال أنَّ الآيات مُلحقة بالأصل، التَّعظيم للجميع، فالآيات تكون في الورقة، ينبغي ألا يدخل بها الحمام لأنها مُلحقة بأصلها، أما جنس ذكر الله من جنس الأسماء، وأما الأسماء والرسائل فالأمر فيها واسع؛ ولأنَّ الناس يحتاجون إلى هذا حاجةً كثيرةً، فالأمر فيها واسع إن شاء الله.

س: ............ المعلول؟

ج: معلول بضعف الاتِّصال، المحفوظ فيه الإرسال، ولكن القول الثاني أنَّ وصله جيد أولى، والمعروف أن المرسل يعضد المتصل، فيتقوى هذا بهذا، مع فتوى الصحابة، ومع الشواهد الأخرى، فهو من باب الحسن لغيره، والمقبول أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره.

وحديث عمرو بن حزم من القسم الرابع على هذا القول، وقد يكون من القسم الثالث إذا افترضنا صحَّة السند الذي أرسله أبو داود في "المراسيل" وغيره ........

س: أحسن الله إليك، مَن يقول أنَّ الوضوء من لحم الإبل للاستحباب؟

ج: ليس بجيدٍ؛ لأنَّ قوله: توضؤوا ظاهره على الوجوب، وليس هناك ما يصرف، وما يدل على ذلك أنه قال في الغنم: إن شئتَ، فدلَّ على أنَّ الوضوء من لحوم الإبل.

فهذه الأحاديث بقية أحاديث باب نواقض الوضوء، تقدم بعض معناها في الأحاديث السَّابقة.

حديث أنسٍ ، وهو ابن مالك بن النضر الأنصاري، خادم النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك أنس آخر يُقال له: أنس بن مالك الكعبي، صحابي أيضًا معروف، لكن إذا أُطلق أنس فهو خادم النبي ﷺ: أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وقد عمَّر حتى جاوز المئة، مات سنة اثنتين وتسعين أو ثلاث وتسعين من الهجرة، وكان وقت الهجرة ابن عشر سنين، وعمره حين مات مئة وسنتان أو ثلاث رحمه الله.

أن النبي ﷺ احتجم وصلَّى ولم يتوضأ. أخرجه الدارقطني وليَّنه، لين إسناده؛ لضعف بعض الرواة.

وهذا مما احتجَّ به مَن قال بأنَّ الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنَّ الحجامة يخرج معها دمٌ، فدلَّ ذلك على أنه لا ينقض الوضوء، وإن كان السند فيه لين وضعف، لكن يعتمد الأصل، الأصل سلامة الطهارة وبقاؤها، فلا تزول إلا بناقضٍ متيقنٍ، هذا هو الأصل.

تقدم حديث عائشة: مَن أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو قلسٌ أو مذيٌ فلينصرف وليتوضأ الحديث، احتجَّ به على النقض بالرعاف، يعني: الدم، وجاء في هذا المعنى أحاديث كلها ضعيفة لا تخلو من مقالٍ، والصواب أنَّ خروج الدم لا ينقض الوضوء، ولكن إذا احتاط وتوضأ الإنسانُ خروجًا من الخلاف فلا بأس. أما الصواب فهو أنه لا ينقض الوضوء؛ لعدم الدليل الدال على أنه ينقض الوضوء.

وإنما الذي ينقض الوضوء هو ما قام عليه الدليلُ: كالبول والغائط والريح والمني والمذي، ونحو ذلك مما هو معلوم، كذلك لحم الإبل كما تقدم، ومس الذكر كما تقدم.

أما ما لم يقم عليه دليلٌ واضحٌ فالأصل سلامة الوضوء، سلامة الطهارة حتى يوجد ناقضٌ متيقنٌ يزيل ذلك الأصل المعروف، وهو سلامة الطَّهارة.

أما ما يتعلق بالنوم فتقدم حديثُ أنسٍ في النعاس، وأنه لا ينقض الوضوء، وتقدم حديث صفوان بن عسال في النوم، وأنه ينقض الوضوء، قال: لكن من غائطٍ أو بولٍ أو نومٍ، فجعل النوم مع البول والغائط، فدلَّ على أنه ينقض الوضوء.

لكن دلنا حديثُ معاوية هذا عن النبي ﷺ أنه قال: العين وكاء السّه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء أخرجه أحمد والطبراني، وزاد: ومَن نام فليتوضأ، هذه الزيادة في هذا الحديث موجودة عند أبي داود من حديث عليٍّ مرفوعًا، دون قوله: استطلق الوكاء؛ لأنَّ المؤلف قال: وفي كلا الإسنادين ضعف، وقد صدق رحمه الله، كلاهما فيه ضعف، لكن يشد أحدُهما الآخر، ويدل حديث معاوية وحديث عليٍّ رضي الله تعالى عنهما على أنَّ النوم مظِنَّة، وليس بناقضٍ بنفسه، لكنه مظنة.

العين وكاء السّه إذا كانت العينُ يقظةً، الإنسان متيقظ، تحقق وعرف ما يخرج منه، وإذا نام ما درى، استطلق الوكاء، فهي بمثابة السِّقاء الذي له وكاء يُربط ما فيه من الماء أو اللَّبن ونحو ذلك، وإذا أُطلق الوكاء وترك السِّقاء هكذا مفتوحًا سال ما فيه إذا كان مائعًا.

وهكذا الإنسان إذا نام استطلقت أعصابه وعروقه، ولانت أمعاؤه، وصار مُعرَّضًا لخروج الريح وهو لا يشعر، فجعل اللهُ النومَ مظنَّةً لذلك؛ إذا نام نومًا مُستحكمًا مُستغرقًا يزول معه الشُّعور وجب الوضوء، وعليه حديث صفوان، أما النوم الذي لا يزول معه الشُّعور، بل هو نعاس وخفقان، وليس هناك نومٌ مُستغرقٌ؛ فهذا لا ينقض الوضوء، وعليه حديث أنسٍ المتقدم: بأنَّ أصحاب الرسول ﷺ كانوا ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسَهم، يُوقظون ثم ينامون، ثم يوقظون ثم ينامون؛ لأنه نعاس، هذا النعاس لا ينقض، سواء كان قاعدًا أو قائمًا أو ساجدًا أو مُضطجعًا على الصَّحيح.

وحديث ابن عباسٍ: إنما الوضوء على مَن نام مُضطجعًا ضعيف أيضًا، فهو من رواية أبي خالدٍ الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، وأبو خالد عندهم مُضعف، وقتادة مُدلس، ولم يُصرح بالسماع من أبي العالية.

فالحاصل أنَّ هذه الأحاديث كلها فيها ضعف، لكنها مجموعة مع حديث معاوية مع ابن عباسٍ مع حديث عليٍّ مع الحديث السابق -حديث أنس الصَّحيح الذي رواه مسلمٌ في الصحيح- كلها يشدّ بعضُها بعضًا، وتدل على أنَّ النوم مظنَّة، فإذا استغرق النائمُ وزال شعوره -قاعدًا أو قائمًا- انتقض وضوؤه، ووجب عليه إعادة الوضوء، وما دام معه بعض الشعور، وليس بمُستحكم النوم؛ فإنه يبقى معه أصل الطَّهارة، هذا هو أحسن الأقوال في ذلك، المسألة فيها أقوال، لكن هذا أحسنها وأصوبها، وبه تجتمع الأخبار الواردة في هذا الباب.

أما حديث ابن عباسٍ من قوله ﷺ: يأتي أحدَكم الشيطانُ فينفخ في مقعدته، فيُخيل إليه أنه أحدث، ولم يُحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا أخرجه البزار.

وأصله في "الصحيحين" من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم الأنصاري قال: شكى إلى رسول الله الرجلُ يجد الشيءَ في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا.

وهكذا رواه مسلم من حديث أبي هريرة كما تقدم في هذا الباب، قال عليه الصلاة والسلام: إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه: هل خرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا.

وللحاكم عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثتَ، فليقل: كذبتَ، وأخرجه ابن حبان، وفي روايته: فليقل في نفسه.

هذه الروايات تدل على حرص الشيطان -أعاذنا الله وإياكم منه- على إفساد طهارة الإنسان، وعلى التشويش عليه، وعلى إيذائه في صلواته؛ حتى تبقى معه الوساوس، والشيطان عدو مبين.

قال مطرف بن عبدالله بن الشّخير التابعي الجليل: "أغشُّ العباد للعباد هو الشيطان".

وأصدق من هذا وأعظم من هذا قوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فهو أغشّهم للناس، وأشرهم على الإنسان، وأعظمهم حرصًا على إيذاء الإنسان، وإدخال السُّوء عليه والوساوس؛ حتى يأتي إلى المقعدة وينفخ في المقعدة، حتى يُخيل إليه أنه خرج منه ريحٌ، وربما يُحدِّث نفسه يقول: إنَّك أحدثتَ، يُملي عليه؛ لأنه له لمة بالقلب، فيُملي عليه يقول: إنَّك أحدثتَ.

فالسنة للمؤمن إذا وجد هذا ألا ينصرف، وليُراغم الشيطانَ ولا ينصرف، ويقول في نفسه: "كذبتَ"، لا يتكلم بلسانه، يقول في نفسه، كما قال ابنُ حبان في روايته: "كذبتَ" ما جرى شيء.

وحديث ابن عباسٍ وحديث عبدالله بن زيد وحديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن أن لا يُطاوع الشيطان، ومتى وجد هذه الأشياء التي يُخيل إليه فيها أنه أحدث أن يعصيه ويُخالفه، ولا ينصرف من صلاته ولا من مسجده ولا من قراءته ولا غيرها من الأعمال الصَّالحة حتى يسمع صوتًا خرج من دبره، وهو صوت الضراط، أو يجد ريحًا، وهو الفساء، يعني: حتى يحسَّ بالشيء الخارج، والمعنى: حتى يتحقق، حتى ولو ما سمع صوتًا ..... بالصوت والريح؛ لأنَّ بهما التَّحقق، ولكن لم يتحقق؛ لأنه ما سمع صوتًا ولا وجد ريحًا، لكن إذا تحقق أنه خرج منه شيء يتوضأ؛ لأنه قد يكون ما له ريح، قد يكون بعض الأحيان ما له ريح، ولا سمع صوتًا، فإذا تحقق من خروج الريح أو البول فإنه يتوضَّأ.

وهكذا كما تقدم إذا مسَّ فرجه وإذا أكل لحم الإبل يتوضأ كما تقدم، وهكذا إذا استحكم النومُ وزال الشُّعور يتوضأ، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: الثوب يُغسل عند عامَّة العلماء، دم الحيض والنفاس وغيرهما.

س: ...............؟

ج: مثله على ظاهر الأدلة، بخلاف الشيء اليسير قد يُعفا عنه، لكن ينبغي تنظيفه.

....................

باب آداب قضاء الحاجة

للعلماء رحمهم الله تعالى عبارات في هذا الباب متنوعة: منهم مَن يُعبر بهذه العبارة، ومنهم مَن يقول: باب دخول الخلاء والاستطابة. ومنهم مَن يقول: باب الاستطابة. ومنهم مَن يقول: باب دخول الخلاء. ومنهم مَن يقول: باب قضاء الحاجة. وكل هذه عبارات متقاربة، والمراد حاجة الإنسان التي لا بدَّ له منها، يعني: باب آداب قضاء حاجته من بولٍ أو غائطٍ.

والشريعة الإسلامية جاءت بكل خيرٍ، وبالنهي عن كل شرٍّ، وجاءت بالآداب في باب العبادات والمعاملات، حتى قال سلمان عن بعض اليهود أنه قال: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ! فَقَالَ: أَجَلْ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.

والمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا أجرى على يد نبيه عليه الصلاة والسلام تعليم الناس كل ما يحتاجون إليه؛ فعلَّمهم عليه الصلاة والسلام كلَّ أمورٍ لهم فيها مصلحة وفائدة فيما يتعلق بالآداب، وفيما يتعلق بالأحكام، وفيما يتعلق بكلِّ ما يُبعدهم عن محارم الله وأسباب غضبه ، ومن ذلك أنه علَّمهم آداب التَّخلي، يعني: آداب قضاء حاجة الإنسان: كيف يدخل الخلاء؟ كيف يخرج؟ ماذا يقول عند الدخول؟ ماذا يقول عند الخروج؟ كيف يجلس؟ إلى غير ذلك.

عن أنسٍ ، أنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري النجاري الخزرجي، خادم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: كان النبيُّ ﷺ إذا دخل الخلاء -وفي لفظٍ: إذا أتى الخلاء- وضع خاتمه.

والخلاء محل قضاء الحاجة، قد يكون محلًّا مُعينًا في الحضر، وقد يكون في البرية، في الصحراء، إذا أراد أن يجلس لقضاء الحاجة، إذا أراد أن يغسل المحلَّ الذي فيه قضاء الحاجة فعل هذا، سُمي: خلاء؛ لأنه في الغالب لا يكون فيه أحد، النبي إذا أراد قضاء حاجته ذهب مذهبًا ليس فيه أحدٌ؛ حتى لا تُرى عورته، حتى لا يُسمع شيء من صوته؛ ولهذا قال الخلاء، عبَّر به عن الغالب، والغالب أن يكون الخلاءُ خلاءً.

وخاتمه كان نقشه: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، ولفظ الجلالة سطر، وكان في يد النبي ﷺ، يختم به ما يكتبه إلى الناس، ثم صار في يد الصديق، ثم صار في يد عمر، ثم صار في يد عثمان، ثم سقط في بئر أريس فلم يُعثر له على شيءٍ، واجتهد في نزع البئر والتماس الخاتم فلم يُعثر بعد ذلك عليه.

والمقصود أنه كان نقشه: محمد رسول الله، وفيه الجلالة، وكان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، أي: خارج ذلك؛ لئلا يدخل بشيءٍ فيه ذكر الله .

أخرجه الأربعة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، هؤلاء الأربعة في اصطلاح المؤلف واصطلاح الجمهور والمحدثين، إذا قال: الأربعة؛ أهل السنن: أبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه"، والنسائي في "سننه"، وابن ماجه كذلك في "سننه".

قال: وهو معلول؛ أعلَّه جماعة من الحفاظ؛ لأنَّ همام بن يحيى وهم فيه فرواه عن الزهري عن أنسٍ، قالوا: والصواب أنَّ همام رواه عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنسٍ في لبس خاتم الذَّهب ثم خلعِه، ثم لبس خاتم الورق، فوهم همام ورواه عن الزهري، وترك زياد بن سعد، وأتى بهذا اللَّفظ: "إذا دخل الخلاءَ وضع خاتمه"، هكذا قال جماعة.

وقال آخرون: ليس فيه وهمٌ؛ فهذا حديث، وهذا حديث، وهمام حافظ كبير ثقة يفهم هذا من هذا، فلا مانعَ من أن يكون عنده حديثان: همام عن زياد عن الزهري في لبس خاتم الذهب، ثم لبس خاتم الورق، هذا شيء، وهو وجه مُستقلّ، وله معناه.

وفي اللفظ الثاني: همام عن الزهري عن أنسٍ في وضع الخاتم، هذا شيء ثانٍ، ورجَّح هذا جماعة وقالوا: ليس فيه وهم، وليس فيه علَّة، وهما حديثان مُستقلان صحيحان، رواهما همام: أحدهما: بواسطة زياد بن سعد عن الزهري، والثاني: بغير واسطةٍ، وهذا أقرب وأولى؛ لأنَّ توهين الثِّقات وتغليطهم يحتاج إلى دليلٍ.

وبه استُدل على كراهة دخول الخلاء بما فيه ذكر الله، وإذا كان آيات من القرآن كان أشدَّ كراهةً، بل قال بعضُهم بالتحريم؛ لعظم حُرمة كلام الله .

وهذا كله إذا تيسر ذلك، وأما إذا خاف عليه أن تطير به الرياح، أو خاف أن يُسرق، أو خاف أن ينساه؛ فلا كراهةَ للحاجة والضَّرورة، فإنَّ كثيرًا من الناس يغلب عليه النِّسيان؛ قد يضعه ثم ينساه ويذهب، وبعض الناس ما يجد مكانًا مناسبًا يضعه فيه، أو يُسرق، أو يُؤخذ، أو تطير به الرياح، أو ما أشبه ذلك.

فالحاصل أنَّ هذا هو الأفضل إذا تيسر، وإلا فلا كراهةَ عند الحاجة إلى الدُّخول فيه بأوراقٍ فيها ذكر الله؛ لأنَّه قد يضعها خارجًا فتُنسى، أو تسقط في ماءٍ، أو يأخذها بعضُ الصبيان، أو ما أشبه ذلك.

هذا على تقدير ثبوت الحديث، والأولى كما تقدم هو القول بثبوته، والأصل في الثِّقات عدم الوهن وعدم الغلط، وأنه لا مانعَ من كونه روى هذا وروى هذا، لا مانع منهما.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ : أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاءَ قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وفي لفظٍ: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

وفي لفظٍ عن زيد بن أرقم: أن النبي ﷺ قال: إنَّ هذه الحشوش مُحتضرة، فإذا أتى أحدُكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

زاد سعيد بن منصور في روايته: كان يقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، قال الحافظ: رواه المعمري بإسنادٍ جيدٍ على شرط مسلمٍ.

أي: يقول عند الدخول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث عند الدخول.

وروى البخاري مُعلقًا عن سعيد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنسٍ قال: "كان النبيُّ إذا أراد أن يدخل"، رواه بلفظ: "إذا أراد"، وهذا هو المراد، يعني: إذا أراد الدخول، وهو كقوله جلَّ وعلا: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] يعني: إذا أردت القراءة فاستعذ بالله، فالإنسان يستعيذ بالله عند الإرادة، عند الشروع في القراءة لا بعدها.

هكذا إذا دخل الخلاء معناه: إذا أراد دخول الخلاء، كما في روايته عن سعيد بن زيد المعلَّقة عند البخاري تعليقًا مجزومًا به.

ورواها رحمه الله في "الأدب المفرد" متصلًا من طريق أبي النعمان شيخه، عن سعيد بن زيد، فهذه الروايات صحيحة وجيدة، مُعلَّقة ومُتَّصلة.

أنَّ النبي كان إذا أراد أن يدخل قال: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث.

والخُبُث بالضم على الأفصح، وتسكن باؤه، يقال: خبث، وقد جزم الخطابي رحمه الله صاحب "المعالم" بتغليط من سكَّنها، فغلَّطوه وقالوا: الصواب أنه يجوز التَّسكين، مثل: كُتُب وكُتْب، رُسُل ورُسْل -بالتَّسكين- صُحُف وصُحْف -بالتسكين- ولكن الأفصح هو بالضم، ضمتان، وهكذا الخبث بضمتين جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، أراد بهذا عند أهل العلم: ذكور الشياطين وإناث الشياطين، يعني: التَّعوذ من ذكورهم وإناثهم جميعًا؛ لأنهم يحضرون في الغالب في المواضع القذرة ومحل قضاء الحاجة، فيستعيذ بالله من شرِّهم جميعًا.

وقال بعضُهم: بتسكين الخبْث، الخبْث بالتَّسكين: الشرُّ والمكروه، والخبائث: الأفعال القبيحة، والمعنى: أعوذ بالله من الشرِّ كله، وأعوذ بالله من الخبائث التي هي الأفعال القبيحة.

فعلى القول الأول: استعاذ من أسبابها، فإنَّ الشياطين هي أسباب كل شرٍّ، فإذا استعاذ منهم قد استعاذ من أسباب الشرِّ كله، هذا من الآداب الصَّالحة، من الآداب الصَّالحة عند دخول الخلاء أن تقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث عند الدخول، عندما تريد دخول الخلاء، أو عندما تريد الجلوس في البرية، في المحلات التي تُريد قضاء الحاجة فيها، عندما تريد الجلوس تقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث.

هذه من الآداب الشَّرعية التي جاء بها هذا الشرع المطهر عن نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

والحديث الثالث: حديث أنس أيضًا قال: "كان النبي يدخل الخلاء" يعني: يقصد محلَّ الخلاء "وأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماءٍ وعنزة، فيستنجي بالماء".

هذا يدل على أنه كان يأمرهم أن يُهيئوا هذا الشيء، فإذا فرغ من حاجته استنجى.

وقوله: (غلام نحوي) يعني: قريب مني، قال بعضُهم أنه أراد به عبدالله بن مسعود، وليس بشيءٍ، فعبدالله بن مسعود ليس نحوه، وإنما هو من المهاجرين الكبار والسَّابقين؛ ولهذا جاء في إحدى الروايات عند البخاري أو مسلم: (من الأنصار)، (غلام نحوي من الأنصار)، فزاد (من الأنصار)، فزال بهذا توهم أنه ابن مسعود، وقد اتَّضح أنه غلام من الأنصار: كجابرٍ وأشباهه، مثل: النعمان بن بشير وأشباهه من صغار الصَّحابة.

والمقصود أنه كان يحمل هذه الإداوة، والإداوة: إناء من الجلد يُوضع فيه الماء، والعَنَزة: عصا صغيرة دون الرمح، وهي طويلة، يكون فيها زجّ، يكون فيها حديدة، كانت تُركز أمام النبي، إذا أراد أن يُصلي ركزت أمامه سترةً، وصلَّى دونها عليه الصلاة والسلام، كانت تُحمل معه، وقد يحتاج إليها عند قضاء الحاجة؛ ليُوضع عليها شيء يستره عند قضاء حاجته عليه الصلاة والسَّلام.

وفي هذا أنَّ أنسًا كان يخدمه ﷺ في السفر والحضر.

وفيه حمل الماء مع الإنسان إذا أراد قضاء الحاجة، وأنَّ هذا لا باس به، بل هذا من المشروع؛ لأنه إذا أبعد قد يصعب عليه المجيء للاستنجاء؛ لأنه قد لا يجد مكانًا مناسبًا يستنجي فيه؛ ولهذا ناسب أن يُحمَل معه حتى يستنجي في المحلِّ الخالي بعيدًا عن الناس.

وفيه دلالة على جواز الاستنجاء بالماء من دون استجمارٍ ..... باشر غسل النَّجاسة بيده من دون استجمارٍ؛ لقوله: (ويستنجي بالماء)، ولم يقل: (يستجمر)، وهو محتمل؛ فإنه ﷺ كان من عادته الاستجمار، وهكذا العرب كانوا يستجمرون، فلا مانعَ من كونه يستجمر في محلِّه، ثم يأتي فيستنجي بالماء علاوةً على ذلك؛ ولهذا قال العلماء: الاستنجاء ثلاثة أقسام:

  1. بالحجارة وحدها.
  2. بالماء وحده.
  3. بهما جميعًا.

فأكمل الثلاثة الحجارة والماء، ثم الماء وحده، ثم الحجارة وحدها، فهي مُجزئة عند أهل العلم، وإن استنجى بالحجارة وحدها أجزأ، وإن استنجى بالماء وحده أجزأ، ومَن جمع بينهما كان أكمل؛ فيستنجي بالحجارة أولًا عند قضاء حاجته، ثم ينتقل إلى مكانٍ آخر ليستنجي بالماء؛ لإزالة آثار الخبث.

وكانت العربُ في الغالب تستنجي بالحجارة واللَّبِن من الطين، تكتفي بذلك لقلة مبالاتهم بهذه الأمور، ولقلة الماء أيضًا عندهم في الأسفار، واستقرت الشريعةُ على هذا؛ فإنَّ النبي أمر أن يستجمر الإنسانُ بثلاثة أحجار ليس فيها عظمٌ ولا روثٌ، فدلَّ ذلك على أنها تكفي؛ ولهذا في اللفظ الآخر قال عليه الصلاة والسلام: فإنها تُجزئ عنه.

فالحاصل أنه إذا استنجى بثلاثة أحجار أو بثلاث لبِناتٍ أو بثلاث خرقٍ أو ما أشبه ذلك فيُمسح بها محلّ قضاء الحاجة، وتُنقي المحل كفى، فإذا أنقى المحلَّ بثلاثٍ أو بأربعٍ أو بخمسٍ أو بستٍّ كفى، والأفضل أن يُوتر فيقطع على وترٍ؛ للحديث الصحيح: مَن استجمر فليُوتر، فالأفضل أن يقطع على وترٍ، فإذا استنجى بأربعٍ وأنقى استحبّ أن يأتي بخامسةٍ إكمالًا للنَّقاء، وقطعًا على وترٍ، وإن لم يذهب إلا بستٍّ استحبّ أن يأتي بسابعةٍ حتى يقطع على وترٍ.

وفيه من الفوائد: أن الإنسان يذهب إلى المحلِّ الخالي الذي ليس فيه أحدٌ؛ حتى لا تُرى عورته، وحتى لا يُسمع له صوت، ولا يُعرف منه ريح، وكان من سنته كذلك عليه الصلاة والسلام في السَّفر أن يبتعد، ويُؤيد هذا حديث المغيرة أيضًا.

الحديث الرابع: عن المغيرة بن شعبة الثَّقفي قال: قال لي النبيُّ ﷺ: خذ الإداوة يعني: التي فيها ماء، فانطَلَقَ حتى توارى عني فقضى حاجته.

هذا يدل على استحباب البعد عند قضاء الحاجة، يكون بعيدًا عن الجيش، وعن السرايا، وعن الصحبة والرفاق، يكون بعيدًا عنهم في الأودية والمحلات البعيدة عن الناس؛ حتى لا يُرى، هذا هو الهدي في السنة، ثم بعد ذلك ينتقل فيستنجي في محلٍّ أيضًا بعيدٍ عن الناس، لا تُرى فيه عورته، كما فعل عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.

س: هل يُوتر في الاستنجاء؟

ج: الاستنجاء لم يرد فيه شيء، إنما ورد في الحجارة في الاستجمار.

س: ................؟

ج: إذا زاد على الثلاث أفضل، أما الثلاث لا بدَّ منها، لا يُجزئ ثنتان، لا بدَّ من ثلاثٍ فأكثر، فإذا أراد أن يستنجي يستكفي به عن الماء، يعني: لا بدَّ من ثلاثٍ فأكثر؛ لأنَّ الرسول نهى عن الاستنجاء بأقلّ من ثلاثة أحجار، فإذا أنقى بثلاثٍ كفى، وإذا احتاج لزيادةٍ يأتي برابعةٍ، ويأتي بخامسةٍ وترًا؛ حتى يقطعها على وترٍ.

س: لا بد من وتر؟

ج: أفضل، إذا زاد على الأربعة، أما الثلاث لا بدَّ منها، لازم.

س: تُجزئ بدون وترٍ؟

ج: تُجزئ نعم، فلو اكتفى بأربعٍ أجزأ إذا أماط الأذى وأنقى المحلَّ.

............

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.

أما بعد: فهذه الأحاديث المتعددة فيها إرشاد النبي ﷺ إلى الآداب الشَّرعية في قضاء الحاجة، كما تقدم من آدابه ﷺ: أنه كان يتوارى عن الناس، إذا أراد قضاء حاجته يبعد المذهب ويتوارى عن الناس؛ حتى لا تُرى العورة، ولا يُسمع الصوت، ولا توجد الرائحة.

هذا من الآداب الشرعية في الصحراء: أن يتوارى عن الناس، وفي البيوت أن يكون في الكنف التي يختلي فيها عن الناس، .....

وكذلك تقدم من الآثار أنه ﷺ إذا أتى الغائط قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، تقدم أنه إذا أراد أن يدخل قال هذا الكلام: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، هذا من الآداب الشَّرعية عند قضاء الحاجة.

ومن الآداب الشَّرعية ألا يتخلى في مواضع يحتاجها المسلمون، سواء كانت مستظلًّا أو مُتشمسًا أو غير ذلك مما يحتاجه الناس.

فمن الآداب الشرعية عند قضاء الحاجة: أن يتباعد عن المواضع التي ينتفع بها المسلمون؛ حتى لا يُؤذيهم فيها، وحتى لا يُكدرها عليهم، أو يمنعهم منها، كما جاء هذا في حديث أبي هريرة ، عن النبي أنه قال: اتَّقوا اللَّاعنين، سُمِّي الطريق لاعنًا، والظلّ لاعنًا؛ لأنه سببٌ للعن مَن تغوَّط فيه، الذي يتخلَّى في طريق الناس أو ظلِّهم، فكلاهما لاعن بمعنى أنه سبب للعن، وهذا فيه تجوّز على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى الأسباب تجوزًا، فالتَّخلي في الطريق وفي الظلِّ من أسباب لعن الناس لمن فعل ذلك وسبّهم له؛ لأنه آذاهم بذلك.

ومنه ما يُروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن سلَّ سخيمته في طريق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا كذلك: مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ فِي طُرقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لعنتهم إلى غير ذلك مما يدل على أنَّ إيذاء المسلمين في مواضع ارتفاقهم من أسباب لعنهم وإيذائهم له وسبّهم إياه.

فالواجب على المسلم أن يـتأدَّب بالآداب الشَّرعية، وأن تكون المواضع التي يقضي فيها حاجته بعيدة عمَّا يتأذى به المسلمون، وعما يُكدرهم، ولا شكَّ أن التَّخلي في الطريق يتأذَّى به الناس من الرائحة الكريهة، ومن وطئه بأقدامهم وبنعالهم وخفافهم، فيتأذون بذلك.

وهكذا ظلّهم الذي يجلسون فيه، فإذا تغوَّط فيه آذاهم بهذا، وحرمهم من هذا الظلِّ، وقد يحرمهم أيضًا بالبول، ولكن الأذى بالغائط أكثر، فينبغي له أن يتباعد عن هذه الأشياء التي فيها إيذاء إخوانه المسلمين.

وهكذا البَراز في الموارد وقارعة الطريق؛ لأنَّ أطراف الطريق التي يمر بها الناس قد يحتاجها الناس إذا كان الطريق واسعًا وله حافات لا يطؤها الناس، ويمكن أن يرتفق بها المحتاج فلا بأس؛ لأنها لا تضرّ الناس في هذه الحالة.

والبَراز بفتح الباء: هو التَّبرز في الصَّحراء، ويُقال للمحلِّ الخالي البارز (براز)، سُمِّي قضاء الحاجة برازًا لأنه يخرج الإنسان إلى البراز لأجل ذلك، كما سُمي الخلاء لأنه في الغالب يكون خاليًا من الناس، ويُقصد لقضاء الحاجة.

وأما البِراز بالكسر فهو مصدر بارز برازًا ومُبارزة، يعني: ما يُفعل في الحرب من تقدم الأقران فيما بينهم بين الصَّفين، هذه يُقال لها: المبارزة، أو يقال لها: البِراز، وهو التَّقدم من هذا الصف ومن هذا الصف بين الصَّفين في الحرب والقتال.

والموارد: جمع مورد، وهي موارد الماء، وموارد الأنهار؛ لأنَّ البَراز فيها يُكدرها على الناس ويُلوثهم إذا جاءوا إليها؛ فلهذا نُهي عن ذلك.

وقارعة الطريق كما تقدم والظلّ وهو موافق لحديث أبي هريرة، ولكن فيه ضعف، كما قال المؤلف؛ لأنه من رواية أبي سعيدٍ الحميري، قد قيل فيه: إنه مجهول، وهو مع هذا منقطع لم يلقَ معاذًا.

وكذلك حديث أحمد في نقع الماء، قيل في إسناده ابن لهيعة، وهو معروف، فهذه كلها وإن كان فيها ضعف لكن يشدّ بعضُها بعضًا، فإنَّ حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم يشهد لها في المعنى.

وكذلك القواعد الشَّرعية تشهد لهذه الأحاديث في المعنى، وكقوله جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، هذا أصل في هذا الباب؛ فإنَّ التَّغوط في طريق الناس أو البول في طريق الناس أو إلقاء القشر -قشر الرمان أو قشر الموز أو قشر البطيخ أو ما أشبه ذلك- أو القمامات في الطريق، كل هذا يُؤذي الناس، كل هذا يضرّهم، وهو من جنس ما يقع في طريق الناس من الحفر والمسامير والعظام، كل هذا فيه أذية للمسلمين، فيجب تجنبها والحذر منها.

وكذلك (نقع الماء) إذا كان في الغدران التي ينتفع بها الناس، فإنَّ البول فيها والتَّغوط فيها يُكدرها على الناس؛ ولهذا نهى النبيُّ عن البول في الماء الدائم، والتَّغوط أشدّ وأقبح، وأشد أثرًا في الماء، والنَّهي عنه أبلغ، وإن كان في السند ضعف، لكن الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة في النَّهي عن البول في الماء الدائم يشهد لهذا المعنى ويدل عليه.

وكذلك عرفت أيضًا الآية الكريمة فيمَن يُؤذي المؤمنين.

كذلك الأشجار المثمرة عند الطبراني: أنَّ الرسول نهى عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة، وعلى ضفة النهر الجاري؛ وذلك لأنَّ الناس يحتاجون إلى الجلوس تحت الأشجار المثمرة؛ ولأنهم يحتاجون ما يسقط منها، فإذا كان تحتها أذى سقطت الثِّمار عليه؛ فتأذَّى بذلك، وحُرم الناس فائدتها.

وضفة النهر الجاري: حافته، الناس يمرون عليه ويقفون عليه يتناولون منه الماء، فالبول عليه والتَّغوط عليه إيذاءٌ لهم.

والضِّفة بالكسر والفتح، تُكسَر الضاد وتُفتح.

هذه الأحاديث والآثار كلها تدل على المنع من قضاء الحاجة في هذه المواضع، ومثل قضاء الحاجة كل ما يُؤذي: من وضع القُمامات، أو قشر الفواكه، أو الروث، أو العظام، أو أحجار، أو حفر، أو ما أشبه ذلك مما يُؤذي المؤمنين، كله ممنوع، كله داخل في هذا المعنى بجامع الأذى، بجامع التَّضرر للمسلمين في طريقهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فإزالة الأذى عن الطريق من حجرٍ وشوكٍ وغير ذلك أمر مطلوب، ومن شُعب الإيمان، والتَّعمد بفعل ذلك في الطرقات أمر منكر؛ لأنه تعمد للأذى للمسلمين.

وابن السكن: هو سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي، الإمام المشهور، أبو علي، له كتاب مشهور مُستخرج سمَّاه الصحيح، وهو من أعيان المئة الرابعة، مات سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاثمئة.

وابن القطان إمام مشهور، وله مؤلفات مشهورة، هو علي بن محمد بن عبد الملك الفارسي، أبو الحسن القطان، له كتاب جيد على الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، بيَّن فيه بعض الأوهام، كانت وفاته سنة ثمانٍ وعشرين وستمئة، وهو من أعيان المئة السادسة والسابعة رحمه الله.

وهو أعلَّه برواية عكرمة بن عمار اليماني، عن يحيى بن أبي كثير اليماني، فإنَّ بعض أئمة الحديث قالوا: إنَّ في روايته عن يحيى اضطرابًا. ولكن عرفت أنَّ الحديث هذا يُعضد بما تقدم ...... حديث جابر في النَّهي عن تحدث الشَّخصين وهما يقضيان الحاجة، وأنَّ الواجب عليهما التَّستر وعدم التَّحدث في هذه الحال؛ لأنها حالة سكون، وحالة انكسار بين يدي الله، وحالة اعتراف بضعف ابن آدم، وليس محلّ تحدثٍ، بل هو محل التَّفكير والنَّظر في نِعَم الله على العبد؛ كونه يسَّر له قضاء حاجته بعدما يسَّر له الأكل والشرب والانتفاع بما أعطاه الله من النِّعَم، ثم يسَّر له قضاء الحاجة، فهي حالة تفكير ونظرٍ في نِعَم الله على العبد، وما مَنَّ عليه بهذا الشيء الذي هو إخراج الأذى منه بعد أن مَنَّ الله عليه بنعمة الأكل والشرب ومنفعة الأكل والشرب، ثم مَنَّ عليه بإخراج هذا الأذى عنه، وليست محلًّا للتَّحدث، ثم التَّستر أمر لازم، ولا يجوز إبداء العورات.

ولحديث جابرٍ شاهد من حديث أبي سعيدٍ، وفي إسناده أيضًا ضعف، فالحديثان وما جاء في معناهما يدلان على أنه ينبغي للمؤمن إذا أتى الغائط أن يستتر، بل يجب عليه ذلك؛ حتى لا تُرى عورته، وألا يتحدث مع أخيه في هذه الحالة، وهذا في الحديث المعتاد، أما إذا عنّت حاجةٌ ودعت حاجةٌ غير الحديث المعتاد فالظاهر أنه غير داخلٍ في هذا: كأن يرد عن الكفيف خطرًا أو حيةً أو عقربًا أو شبه ذلك مما قد يحتاج الإنسانُ إلى التَّنبيه عليه، هذا غير داخلٍ في التَّحدث المعتاد، والله أعلم.

...........

هذه الأحاديث والتي قبلها في آداب قضاء الحاجة، سبق أنَّ النبي ﷺ بعثه الله بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وبعثه بالآداب الشَّرعية في كل شيءٍ، فهذه الشريعة العظيمة -شريعة الإسلام- قد جاءت بالآداب الصَّالحة والأخلاق الفاضلة في كل شيءٍ: فيما يتعلق بالعبادات، وفيما يتعلق بالمعاملات، وفيما يتعلق بالأحوال الشَّخصية: من طلاقٍ ونكاحٍ وعدةٍ وغير ذلك، فهي جاءت بكل خيرٍ، وحذرت من كل شرٍّ، فلا خيرَ إلا دلَّ عليه الرسولُ وأرشد إليه، ولا شرَّ إلا حذَّر منه وأبانه للأمة ليجتنبوه، ومن ذلك ما يتعلق بآداب قضاء الحاجة، وقد سبق في ذلك أحاديث، ومنها هذه الأحاديث.

حديث أبي قتادة الأنصاري، وهو الحارث بن ربعي الأنصاري، أحد الفرسان المعروفين الشجعان، من ..... الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.

يقول: عن النبي أنه قال: لا يمسَّنَّ أحدُكم ذكرَه بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء.

هذا الحديث اشتمل على آدابٍ صالحةٍ في قضاء الحاجة وفي الشرب، فلا ينبغي للمؤمن أن يمسك ذكره بيمينه عند البول، ولا يتمسح بها من الخلاء، بل اليمين كما جاء في النصوص تكون للأشياء الفاضلة والأشياء المقصودة: كالأكل والشرب والمصافحة والأخذ والإعطاء ونحو ذلك تكون باليمين، فلا يليق أن يُمسك بها الذكر؛ لأنه قد يُصيبها شيء من بولٍ فنُزِّهت عن هذا، وصارت اليسار لهذا؛، لإمساك ذكره، وللتمسح من الخلاء، والاستجمار، والاستنجاء يكون باليسار، فهي للأذى والمفضولات، واليمين للفاضل والمقصود، وهذا من آداب الشريعة ومن كمالاتها.

ولا يتنفس في الإناء، السنة ألا يتنفس في الإناء، ولا يخفى ما في هذا من المصلحة؛ لأنَّ التنفس في الإناء قد يُفضي إلى أن يشرق بالماء ويتأذَّى بذلك، وقد يُفضي إلى أن يخرج من فيه في الماء ما لا ينبغي ولا يحسن، وقد يكون هناك مَن يشرب بعده فيتكدر بهذا الشيء.

فالسنة أن يفصل الإناء عن فمه، والسنة أن يتنفس ثلاثًا كما جاء في الأحاديث الصَّحيحة، يتنفس ثلاثًا في الإناء، وأنه أمرأ كما قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، ويكون أيضًا عن فصل الإناء، يفصله عن فمه ويُزيله عن فمه عند التنفس؛ عملًا بهذه السنة العظيمة.

والأصل في النَّهي التحريم، هذا هو الأصل، وإن كان معروفًا لدى أهل العلم ذكر هذه المسائل من الآداب الشرعية والمستحبات، ولكن الأصل كما لا يخفى أنَّ النهي للتحريم والمنع، فينبغي للمؤمن أن يتأدَّب بهذه الآداب، وأن لا يتساهل فيها؛ لأنَّ الرسول نهى عنها وقال: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، والله يقول جلَّ وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فعلى المؤمن أن ينتهي عمَّا نهى عنه عليه الصلاة والسلام من هذه الآداب العظيمة النَّافعة.

الحديث الثاني: حديث سلمان الفارسي؛ أبي عبدالله المعروف، الذي جاهد في جاهليته، وحرص على اللقاء بمحمدٍ حتى يسَّر الله له ما أراد، وتطورت به الأحوال حتى وصل إلى المدينة قبل أن يُهاجر النبي، ثم هاجر النبيُّ وهو عند اليهود، فأسلم وأنقذه الله من اليهود، كاتب مالكه فخلصه الله منه.

المقصود أنه معروف، وجهاده معروف رضي الله عنه وأرضاه.

والحديث أنَّ الرسول علَّمهم ونهاهم أن يستقبلوا القبلةَ بغائطٍ أو بولٍ، في هذا الحديث كما هو معروف أنَّ بعض اليهود قال لسلمان: أعلَّمكم نبيُّكم كل شيءٍ حتى الخراءة؟! يعني: حتى آداب التَّخلي، فقال سلمان: نعم، مُجيبًا له: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بولٍ، وأن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي بروثٍ أو عظمٍ".

هذه كلها من الآداب التي علَّمنا إياها فيما يتعلق بالتَّخلي وقضاء الحاجة، هذه الأشياء الستة بينها سلمان وعلَّمها النبيُّ: النَّهي عن استقبال القبلة بغائطٍ أو بولٍ، والنهي عن الاستنجاء باليمين، وعدم الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، والنهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم، هذه ستة أشياء من الآداب الشرعية، ينبغي للمؤمن أن يلتزمها:

أولًا: عدم استقبال القبلة لا بغائطٍ ولا بولٍ، بل ينحرف عنها جهة الشمال والجنوب، يُشرّق أو يُغرّب، إذا كان في جهة المشرق أو المغرب يجنب أو يُشرق حتى لا يستقبلها لا بغائطٍ ولا بولٍ، هذا في الصحراء لا إشكالَ فيه، أما في البناء اختلفوا فيه:

فقال بعضُ أهل العلم: ما هناك فرق؛ لأنَّ الأحاديث عامَّة: حديث سلمان وحديث أبي أيوب، وما جاء في معناهما أحاديث عامَّة: كحديث أبي هريرة، كلها عامَّة، فتشمل البناء والصَّحراء.

وقال آخرون: بل يجوز استقبال ..... في البناء حيث تكون السترةُ، واحتجُّوا بما في "الصحيحين" من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وكان يليق بالمؤلف أن يذكره هنا، كما ذكره صاحب "العمدة"، أن يُضيفه هنا؛ حتى يعلمه القُرَّاء، وحتى يعلموا الجوابَ عنه عند مَن لا يعمل به، وهو أنه قال: "رقيتُ يومًا على بيت حفصةَ فرأيتُ النبي يقضي حاجته على لبنتين، مُستقبل الشام، مُستدبر الكعبة".

قالوا: هذا يدل على جوازه في البناء، وفعل النبي يُفسر أقواله، ويُبين مراده عليه الصلاة والسلام، هذه قاعدة: إذا نهى عن شيءٍ ثم فعل خلافه دلَّ على أنَّ النهي ليس للتحريم، بل للكراهة، وإذا أمر بشيءٍ ثم تركه دلَّ على أنَّ الأمر ليس للوجوب، بل للاستحباب والنَّدب.

مثلما نهى عن الشرب قائمًا ثم فعله، فدلَّ على أنَّ الشرب قائمًا مكروه، أو ينبغي تركه، وأنه خلاف الأولى، والشرب قائمًا جائز.

ومثل: لما قام للجنازة ثم جلس، فدلَّ على أن القيام لها ليس واجبًا؛ لأنه أمر به ثم جلس، فدلَّ على أنه ليس واجبًا، بل هو مُستحبٌّ.

وهكذا هنا قاله البخاري وجماعة من أهل العلم -من أهل الحديث وغيرهم- أنه يدل على جواز الاستقبال والاستدبار في البناء، وأحاديث النَّهي تدل على أنَّ الأفضل والكمال عدم الاستقبال وعدم الاستدبار في الصحراء والبناء جميعًا؛ جمعًا بين الروايات.

وقال آخرون: بل الواجب عدم الاستقبال وعدم الاستدبار مطلقًا، وحديث الفعل قد يكون خاصًّا، وقد يكون قبل النَّهي، يحتمل، قد يكون خاصًّا به، وقد يكون قبل النَّهي.

فالجواب عن هذا: أنَّ الأصل عدم الخصوصية، هذا هو الأصل، الأصل في أفعاله التَّأسي، وأما كونه قبل أو بعد فهذا لا يُوجب النَّسخ؛ لأنَّ التاريخ مجهول، فوجب حينئذٍ أن يخصّ به العام، ولكن يدل على الجواز، ويدل على الأفضلية، وأن الاستقبال والاستدبار تركه أولى، بل ينبغي للمؤمن ألا يستقبل ولا يستدبر، هذا هو الأولى والأفضل والأكمل، ولكن لا يُقال بتحريم ذلك في البناء مع فعل النبي في البناء.

وأما حديث أنه زاد أنه رأى النبيَّ قبل أن يموت بسنةٍ يستقبله، فهذا فيه نظر عند أهل العلم؛ في إسناده ضعف بالنسبة إلى هذه الأحاديث الصَّحيحة، وهو من رواية ابن إسحاق، وإن كان ابن إسحاق لا بأس به، ولكن ليس بمنزلة مَن روى أحاديث النَّهي، وهي أحاديث عدة، أحاديث صحيحة في "الصحيحين" وفي غيرها، والمحفوظ أنَّ الحكم باقٍ، ليس بمنسوخٍ، ولكن يُستحب في البناء عدم الاستقبال وعدم الاستدبار؛ أخذًا بالعموم، ويجب في الصحراء عدم الاستقبال وعدم الاستدبار؛ أخذًا بالعموم.

ولهذا في حديث أبي أيوب النَّهي عن ذلك مطلقًا، رواه السبعة: الإمام أحمد رحمه الله، وفي "الصحيحين"، والسنن الأربع، كما تقدم للمؤلف في أول الكتاب، يعني: رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأهل السنن الأربع، عن أبي أيوب مرفوعًا، واختصر قال: وللسبعة عن أبي أيوب، ولم يقل: مرفوعًا، للعلم به؛ لأنه حديث معروف ومشهور، لكن لو قال: مرفوعًا، لكان أولى، ولعله سقط من النسخة التي طُبِعَ عليها .......

فالحاصل أنَّ حديث أبي أيوب فيه النَّهي عن الاستقبال والاستدبار، وهو مرفوع إلى النبي، وهو من أصح الأحاديث وأضبطها، وهو موافق لحديث سلمان، وفيه زيادة الاستدبار.

وجاء هذا المعنى من حديث أبي هريرة عند مسلم أيضًا، وجاء في هذا المعنى أحاديث كلها تدل على التَّحريم في الاستقبال والاستدبار حال قضاء الحاجة للقبلة، إلا أنه في البنيان ليس للتحريم، بل لترك الأولى والكراهة على قول جماعةٍ من أئمة العلم: كالبخاري رحمه الله وجماعة من أئمة الحديث وغيرهم.

وهو موافقٌ للأصول، إلا أنَّ الأولى والأفضل والأحوط للمؤمن أن لا يستقبلها مطلقًا، حتى في البنيان؛ عملًا بالاحتياط، وأخذًا بالأمر القوي.

وفي حديث سلمان دلالة على أنه لا ينبغي الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجارٍ، ولا الاستنجاء باليمين، تقدم في حديث أبي قتادة النَّهي عن ذلك؛ عن الاستنجاء باليمين.

وأما هذا المتعلق بالاستجمار بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ، هذا فيما إذا كان يكتفي به، أما إذا كان يستعمل الماء فالأمر في هذا واسع؛ إذا استجمر بواحدةٍ أو بثنتين أو بثلاثٍ فالأمر واسع، وأما إذا كان يكتفي بالحجر فلا بدَّ من ثلاثة أحجارٍ فأكثر، ولا يُجزئ أقلّ من ثلاثةٍ، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث أخرى: من حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، كلها تدل على أنه يُجزئ الاستطابة بثلاثة أحجارٍ فأكثر، وتُغني عن الماء: فإنها تُجزئ عنه في حديث عائشة وغيره: فإنها تُجزئ عنه.

فالحاصل أنَّ ثلاثة أحجار فأكثر تُجزئ عن الإنسان إذا استطاب بها وأنقى المحلَّ، فإن لم تكفِ زاد رابعًا، فإذا أنقى بالرابع استحبّ له أن يُوتر على الخامس؛ لحديث أم سلمة: فليُوتر، فإذا أنقى بخامسٍ فالحمد لله، وإن احتاج للسادس وجب السادس، فإذا كان السادسُ وأنقى به المحلَّ استحبّ السابع؛ ليقطع على وترٍ، حتى يجمع بين الأحاديث في ذلك.

وإن اكتفى بالماء، استنجى بالماء ولم يستجمر كفى الماء، كما في حديث أنسٍ المتقدم: أنه استنجى بالماء عليه الصلاة والسلام، ولم يكن استجمارًا.

وإن جمع بينهما: استطاب بالحجارة أو ما تيسر منها أو باللّبِن أو بالخِرق، ثم أتبعه الماء؛ كان أكمل في النزاهة والنظافة، وهذا معروف، وعادة العرب الاستجمار، كان بعضهم ..... ليستنجي؛ لاعتياده الحجارة، ولعلَّ أسباب ذلك قلة الماء بينهم، وكثرة أسفارهم؛ ولهذا يجتزئون بالحجارة، فاعتادوها واكتفوا بها، وجاءت الشريعةُ مقرةً لذلك، لكنها قيدت ذلك بثلاثة أحجارٍ فأكثر، مع الإنقاء، مع السلامة من بقية الأثر، وهذا محل إجماعٍ بين أهل العلم؛ أن الاستنجاء ثلاثة أنواع: الحجارة وحدها، الماء وحده، الجمع بينهما.

فالحجارة وحدها تُجزئ، وإن كان كثير من الناس لا يعرف هذا، ويظن أنها لا تُجزئ، ولكنها تُجزئ كما ثبت في الأحاديث الصَّحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال به أهلُ العلم.

كذلك الرَّجيع والعظم لا يُستنجى بهما، كما دلَّ عليه حديثُ ابن مسعودٍ وحديث سلمان هذا، وأحاديث أخرى يأتيكم بعضُها، فالاستنجاء بالرجيع والعظم محرَّم ولا يُطهر، كما يأتي في حديث أبي هريرة، وقال: لا يُطهران، وفي حديث ابن مسعود: فإنه زاد إخوانكم من الجنِّ، فلا يُستنجى بهما.

فبالنسبة للنَّهي عن ذلك له علتان:

  • إحداهما: أنهما لا يُطهران.
  • والثانية: أنهما زاد إخواننا من الجنِّ.

لأنَّ الرسول دعا للجنِّ لما وفدوا إليه ونصحهم وذكرهم، فسألوه الزاد لهم ولدوابهم، فسأل الله جلَّ وعلا لهم أن لا يجدوا عظمًا إلا كان أوفر ما كان لحمًا، وهكذا البعر لدوابهم، فلا يُستنجى بهما.

والنهي عن الاستنجاء بالروث والعظم يُفهم منه أنَّ ما سواهما يُستنجى به: كاللَّبِن والأخشاب والخرق الخشنة التي يحصل بها المقصود، وما أشبه ذلك من الطَّاهرات.

وفي حديث عائشة الأمر بالاستتار عند قضاء الحاجة، وهذا تقدم في الأحاديث: أنه إذا أراد الحاجةَ أبعد بقصد الستر، والواجب التَّستر عند وجود الناس، وإذا كان ما هناك ناس -كان في الخلاء- فالتَّستر أولى إذا تيسر، كان يستتر بحائش نخلٍ عليه الصلاة والسلام وما تيسر من أنواع الستر، تقدمت الإشارةُ إلى حديث: ومَن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبًا من رملٍ فليستدبره؛ فإنَّ الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، والحديث فيه ضعف، ولكنه شاهد لهذا المقام.

فالحاصل أنَّ الواجب العناية بالستر عند رؤية الأبصار، فإن لم يكن هناك أبصار فالأولى العناية بهذا الشيء والحرص عليه حسب الاستطاعة؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، وعملًا بالأحاديث الواردة في هذا الباب.

منها حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ.

فعند قضاء الحاجات يتحرى الإنسانُ المقاعد المناسبة والمقاعد البعيدة عن الأنظار، وفي الصَّحاري يتحرى الأماكن المنهبطة: تحت حجرٍ كبيرٍ، إلى غير هذا مما يكون فيه السِّتر.

وحديث عائشة يدل على شرعية الدعاء عند الخروج من الغائط بهذه الكلمة: غُفرانك، وهذه الكلمة معناها: أسألك غفرانك. مفعول لفعل محذوف، كان الرسولُ إذا خرج من الغائط يقول: غُفرانك أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم.

أبو حاتم هو الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر الرازي، الإمام المشهور، الحافظ الجليل.