4/251- وعن أَبي العباس سهلِ بنِ سعدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ بلَغهُ أَنَّ بَني عَمْرِو بن عَوْفٍ كَانَ بيْنهُمْ شَرٌّ، فَخَرَجَ رسولُ اللَّه ﷺ يُصْلِحُ بَيْنَهمْ فِي أُنَاسٍ مَعَه، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّه ﷺ وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ بِلالٌ إِلَى أَبي بَكْرٍ رضي اللَّه عنهما فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ حُبِسَ، وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَهَلْ لكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاس؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، وَتقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ وكبَّرَ النَّاسُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّه يَمْشِي في الصُّفوفِ حتَّى قامَ في الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ، فَإِذَا رسولُ اللَّه ﷺ، فَأَشَار إِلَيْهِ رسولُ اللَّه ﷺ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يدَهُ فَحمِد اللَّه، وَرَجَعَ القَهْقَرَى وَراءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقدَّمَ رَسُولُ اللَّه ﷺ فَصَلَّى للنَّاسِ، فَلَمَّا فرغَ أَقْبلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ما لَكُمْ حِين نَابَكُمْ شَيْءٌ في الصَّلاةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّما التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شيءٌ فِي صلاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمعُهُ أَحدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ إِلَّا الْتَفَتَ، يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا منعَك أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حِينَ أَشرْتُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ أَبُو بكْرٍ: مَا كَانَ ينبَغِي لابْنِ أَبي قُحافَةَ أَنْ يُصلِّيَ بِالنَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ اللَّه ﷺ متفقٌ عَلَيهِ.
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فهذا الحديث العظيم في قصة إصلاح النبي ﷺ بين بني عمرو بن عوف، وبنو عمرو بن عوف من جملة الأنصار ، حصل بينهم شنآن ونزاع، فخرج إليهم النبي ﷺ للإصلاح بينهم، فهذا يدل على أنه ينبغي لولي الأمر ولأعيان الناس إذا حصل نزاعٌ بين بعض القبائل أو بعض البيوتات أن يصلح بينهم، وإذا تقدم من خواصِّ المؤمنين مَن يقوم بذلك كان ذلك أيضًا مشروعًا؛ فإنَّ الإصلاح بين الناس من القربات، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، فالإصلاح بين الإخوة، أو بين القبيلة، أو بين القبائل، أو بين الجيران، أو بين الأقارب؛ كله طيب ومطلوب، وفيه فضل كبير، فيُشرع لكل مؤمنٍ -ولا سيَّما أهلُ الحل والعقد ومَن يُسمع له- التوسط للإصلاح كما فعله النبي ﷺ بين بني عمرو بن عوف، وكما أصلح بين كعب بن مالك وغريمه ابن أبي حدرد، وغير ذلك من الوقائع التي فيها الصلح.
فلما حضرت الصلاة حبسه الأنصار على طعامٍ لهم، يعني: لزَّمُوا عليه أن يتغدَّى فيأكل طعامهم، فحضرت الظهر، فأتى بلالٌ إلى أبي بكرٍ فقال له: هل لك أن تُصلي بالناس؛ لأن النبي ﷺ قد حُبِسَ؟ يعني: قد تأخَّر في بني عمرو، فقال له أبو بكر: نعم، فتقدم أبو بكر وكبَّر وكبَّر الناس، فبينما هو في أول الصلاة إذ جاء النبيُّ ﷺ واخترق الصفوف حتى قام خلف الصديق، فأكثر الناسُ التصفيق لما عرفوا أنَّه الرسول ﷺ؛ تنبيهًا للصديق ، فلما أكثروا التفت فرأى النبيَّ ﷺ، فأشار له النبيُّ ﷺ أن يبقى وأن يستمر في صلاته ويُصلي بالناس، فرفع الصديقُ يديه وحمد الله أن الرسول ﷺ أشار إليه بالبقاء، وأنه لم يغضب عليه، حمد الله على ذلك، ثم تأخَّر الصديق على القهقرى -على قفاه- وتقدَّم النبيُّ ﷺ فصلى بالناس، فلمَّا سلَّم قال للناس: ما لكم لما نابكم شيءٌ أخذتم بالتصفيق؟ إنما التصفيق للنساء، مَن نابه شيءٌ في صلاته فليُسبِّح، ثم قال: ما لك يا أبا بكر لا تُصلي بالناس لما أشرتُ لك؟ فقال الصديقُ : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدَّم بين يدي رسول الله ﷺ يعني: ما يليق مني أن أتقدم وأنت موجود رضي الله عنه وأرضاه.
فدلَّ هذا الحديث على فوائد:
منها -وهو المقصود-: الإصلاح بين الناس، وأنه يُشرع لأهل الإيمان أن يُصلحوا بين الناس: بين الأقارب، بين الجيران، بين قبيلتين، بين بيتين، بين حمولتين، فالإصلاح مطلوب كما أمر الله به، وفعله النبي ﷺ.
ومن الفوائد: إكرام الضيف؛ لأنهم أكرموه، يعني: حبسوه على طعامٍ، والضيف له حقٌّ، ولهذا لزَّموا عليه أن يأكل طعامهم.
ومن الفوائد: أن الإمام الراتب إذا تأخَّر عن وقت مجيئه يتقدم مَن يصلي بالناس، ولا يُحْبَسون، فإذا تأخَّر الإمامُ الراتب لعلَّةٍ من العلل فإنَّ المؤذن يلتمس مَن يُصلي بالناس حتى لا يحبسهم، وحتى لا يشقَّ عليهم، ولهذا التمس بلالٌ مَن يصلي بالناس، وطلب من الصديق أن يُصلي بالناس، فإذا تأخَّر الإمامُ عن عادته فالمؤذن يلتمس مَن يصلي بالناس، وإذا جاء الإمامُ صلَّى مع الناس، لا يتقدَّم ويُؤخِّره، لا، يُصلي مع الناس والحمد لله، ويترك الإمام على ما هو عليه.
بعض الأئمة ما يرضى بهذا، وهذا غلط، فإذا تأخَّر سقط حقُّه، فيُقدَّم مَن يصلي بالناس، وإذا جاء يُصلي مع الناس، وقد ثبت عن النبي ﷺ في غزوة تبوك أنه تأخَّر عن صلاة الفجر، فتقدم عبدُالرحمن بن عوف وصلَّى بالناس، فجاء النبيُّ ﷺ وقد صلَّى عبدالرحمن ركعةً، فأراد أن يتأخَّر فقال له النبيُّ ﷺ: كَمِّلْ فكمَّل عبدُالرحمن صلاة الفجر، وصفَّ النبيُّ ﷺ معه ومعه المغيرة بن شعبة، فلما سلَّم عبدُالرحمن قام النبيُّ ﷺ والمغيرة فقضيا الركعةَ التي فاتتهما، ولم يُصلِّ النبيُّ ﷺ خلف أحدٍ من أمته إلا خلف عبدالرحمن بن عوف .
وفيه من الفوائد: أنَّ مَن فاتته الصلاةُ إذا سلَّم الإمامُ يقوم ويقضي، كل واحدٍ يقضي لنفسه والحمد لله.
وفيه من الفوائد أيضًا: أن الإمام الراتب إذا جاء وقد كبَّر الإمامُ النائب وتقدَّم وصلَّى بالناس فلا حرج، كما فعل الصديقُ لما تأخَّر وتقدَّم النبي ﷺ.
وفيه من الفوائد: أنَّ الرجال لا يُصفِّقون، إنما يقولون: سبحان الله، سبحان الله، أما النِّساء فتُصَفِّق؛ لأنها عورة، قد يكون في صوتها شيءٌ من العورة، لا سيَّما إذا رخَّمته وليَّنته، فشُرع لهن التَّصفيق دون الكلام.
وفيه من الفوائد أيضًا: أنَّ مَن يسَّر الله له نعمةً ولو في الصَّلاة أنه يحمد الله عليها، ويُثني على الله؛ لأنَّ الصديق لما أقرَّه النبيُّ ﷺ على إمامته وطلب منه أن يستمر رفع يديه وحمد الله أنَّ الرسول ﷺ رضي بهذا ولم يَرَهُ مُنكرًا، بل أقرَّه على ما فعل.
كذلك من الفوائد: أنه إذا جاء الإمامُ يشق الصفوف حتى يتقدَّم بين الناس، لا حرج.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: هل ظنَّ أنهم لم يُصلوا بعد فأراد أن يُصلي أمَّ لسدِّ فرجة؟
ج: ظاهر شقّ الصفوف أنه أراد أن يؤم الناس، ولهذا فهمه الصديق وتأخَّر، ظاهر تقدمه إلى الصف الأول خلف الصديق قد يظهر من هذا أنه ﷺ يريد أن يؤمَّ الناس، ولهذا فإن الصديق تأخَّر وتقدم عليه الصلاة والسلام.
س: إمام مسجد تأخَّر وصلوا الجماعة، ولما أتى وقد قضوا الصلاة قال: أقم، وصلَّى ثانيةً؟
ج: لا، هذا غلطٌ منه، جاهل بالحكم الشرعي أو غلط منه، وقد يكون الإمامُ الجديد تقدَّم عن الوقت المعتاد، فهذا ما له عذر أنَّه صلَّى بهم قبل وقت مجيء الإمام، فرأى أنَّ هذا غلط.
س: ما المقصود بالقهقرى؟
ج: القهقرى على ورائه.
س: حكم التَّصفيق والتَّصفير؟
ج: هذا من عمل الجاهلية، ما ينبغي: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
س: هل من فوائد الحديث: جواز الالتفات في الصلاة؟
ج: يجوز، هذا من فوائد الحديث: الالتفات عند الحاجة، إذا دعت الحاجة إلى الالتفات يلتفت برأسه فقط، في الفرض والنفل.
س: هل يجوز للأم أن تلتفت لولدها؟
ج: إذا دعت الحاجة تلتفت إليه وتحمله؛ لكي يسكت ويهدأ.
س: ما القهقرى؟
ج: القهقرى: أن يمشي على قفاه، يعني: يُدْبِر، أي: لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، يمشي على قفاه.
س: يقول السائل: ما معنى قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]؟ وما المقصود بخليفة؟
ج: يعني: يؤم الناس ويقضي حوائجهم، خليفة في الأرض ينوب عن الله في تبليغ أمره ونهيه، كالرسل والأمراء.
س: كيف علم الملائكةُ أنَّ ابن آدم سيُفسد في الأرض؟
ج: الله أعلم، بعض أهل العلم قالوا: علموه من أخبار الجن؛ لأنَّ الجنَّ قبل الإنس، وقد أفسدوا في الأرض، فظنُّوا أنَّ هؤلاء مثلهم، وبعضهم استنبطه من شيءٍ آخر.
س: العلماء يدخلون في كلمة الخليفة؟
ج: الخلفاء: العلماء والأمراء، العلماء خلفاء الرسل، والأمراء خُلفاء الإمارة.
س: والدُّعاة كذلك؟
ج: الدعاة من العلماء إن كان عندهم علم.
س: كيف علم الملائكةُ أنَّ ابن آدم سيُفسد في الأرض؟
ج: الله أعلم، بعض أهل العلم قالوا: علموه من أخبار الجن؛ لأنَّ الجنَّ قبل الإنس، وقد أفسدوا في الأرض، فظنُّوا أنَّ هؤلاء مثلهم، وبعضهم استنبطه من شيءٍ آخر.
س: العلماء يدخلون في كلمة الخليفة؟
ج: الخلفاء: العلماء والأمراء، العلماء خلفاء الرسل، والأمراء خُلفاء الإمارة.
س: والدُّعاة كذلك؟
ج: الدعاة من العلماء إن كان عندهم علم.