وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أيْ مَضَتْ، لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ إِنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَالِحِينَ لا ينفعكم انتسابكم إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا خَيْرًا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ التِي عَمِلُوهَا وَلَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.الشيخ: وهذا الأثر حديث صحيح رواه مسلم ...... من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه يعني تلك الأمم التي مضت من الأنبياء والمرسلين لهم أعمالهم ولكم أنتم أعمالكم فلا ينفعوكم إذا لم تتبعوهم ولو كنتم أولادهم وإن كنتم من أولاد الأنبياء لا تنفعكم أعمالهم وما قدموا من خير ذلك لهم (........) لهم ما كسبوا ولكم أنتم ما كسبتم، ولا ينبغي لعاقل أن يعتمد على أبيه أو جده أو قبيلته وكأن عملهم ينفعه، لا حتى يعمل هو ويتبعهم في الحق ويسير على نهجهم.
فهذا إبراهيم أبوه آزر فما أغنى عنه شيئًا ؛ لأن آزر مات على الكفر وصار إلى النار، وهكذا محمد ﷺ أبوه عبد الله وأمه آمنة ليسا على دينه وفي الحديث: "إن أبي وأباك في النار" رواه مسلم في الصحيح، وأمه استأذن أن يستغفر لها فلم يؤذن له، وعمه أبو لهب يتلى في كتابه الله أنه من أهل النار تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وهكذا أبو طالب لم تنفعه نصرته وحدبه على رسول الله ﷺ في النجاة من النار وإنقاذه من النار؛ لأنه مات على دين قومه، وإن كان نفعه بعض الشيء؛ وهو أنه كان في غمرات النار فأخذه الله إلى ضحضاح من النار بسبب أعماله مع محمد ﷺ كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن ذلك قال: كان في غمرات من النار .... حتىى خرج إلى ضحضاح من النار يغلي منها دماغه.
فهذا إبراهيم أبوه آزر فما أغنى عنه شيئًا ؛ لأن آزر مات على الكفر وصار إلى النار، وهكذا محمد ﷺ أبوه عبد الله وأمه آمنة ليسا على دينه وفي الحديث: "إن أبي وأباك في النار" رواه مسلم في الصحيح، وأمه استأذن أن يستغفر لها فلم يؤذن له، وعمه أبو لهب يتلى في كتابه الله أنه من أهل النار تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وهكذا أبو طالب لم تنفعه نصرته وحدبه على رسول الله ﷺ في النجاة من النار وإنقاذه من النار؛ لأنه مات على دين قومه، وإن كان نفعه بعض الشيء؛ وهو أنه كان في غمرات النار فأخذه الله إلى ضحضاح من النار بسبب أعماله مع محمد ﷺ كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن ذلك قال: كان في غمرات من النار .... حتىى خرج إلى ضحضاح من النار يغلي منها دماغه.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عبداللَّهِ بْنُ صُورِيَّا الْأَعْوَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا.
وَقَوْلُهُ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ لَا نُرِيدُ ما دعوتمونا إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ مُسْتَقِيمًا، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعِيسَى بْنُ جَارِيَةَ، وَقَالَ خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: مُخْلِصًا، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَاجًّا، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسْنِ وَالضَّحَّاكِ وَعَطِيَّةَ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْحَنِيفُ الذِي يَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ بِصَلَاتِهِ، وَيَرَى أَنَّ حَجَّهُ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حَنِيفًا أَيْ مُتَّبِعًا. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: الْحَنِيفُ الذِي يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَنِيفِيَّةُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَدْخُلُ فِيهَا تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْخِتَانُ.الشيخ: والصواب في معنى الحنيف مثل ما تقدم الحنيف هو الذي أقبل على توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه متبعًا الأنبياء مستقيمًا على الشرع هذا هو الحنيف من الحنف وهو الميل، الحنيف هو الذي مال عن الأديان الباطلة وأعرض عنها واستقام على توحيد الله واتباع شريعته وإن خالفه الناس كلهم ؛ كما قال جل وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] فالحنيف هو الموحد المخلص المتبع للحق المائل عن الباطل ويدخل في ذلك توحيد الله والإخلاص له ويدخل في ذلك الإيمان بالرسل، ويدخل في ذلك استقبال القبلة، ويدخل في ذلك الحج مع الاستطاعة، ويدخل في ذلك كل ما شرعه الله ، الحنيف هو المقبل على الله المستقيم على دينه المعظم لحرماته التارك لما خالف ذلك.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُفَصَّلًا وما أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُجْمَلًا، وَنَصَّ عَلَى أَعْيَانٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَجْمَلَ ذِكْرَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النِّسَاءِ:150، 151] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن بشار، أخبرنا عثمان بن عمر، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبدالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أنزل الله.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَكْثَرَ مَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِــ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الْآيَةَ، وَالْأُخْرَى بِــ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آلِ عِمْرَانَ:52] .الشيخ: وهذا ثابت عنه عليه الصلاة والسلام فإنه تارة يقرأ هاتين الآيتين وتارة يقرأ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد في سنة الفجر، الآية الأولى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] آية البقرة، والآية الثانية آية آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] الآية وفيهما جميعًا بيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل والرد على المشركين والبراءة منهم في هاتين الآيتين، وفي السورة الكريمة وهما آية التوحيد وسورتا التوحيد والإخلاص فيبدأ نهاره بهاتين السورتين أو بهاتين الآيتين في سنة الفجر، ويبدأ ليله في سنة المغرب بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد؛ وهما سورتا الإخلاص والتوحيد والإيمان والبراءة من أهل الشرك.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَقَتَادَةُ: الْأَسْبَاطُ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ منهم أمة مِنَ النَّاسِ، فَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ: الْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر، وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه، وقال البخاري: الْأَسْبَاطُ قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ هَاهُنَا شُعُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أنزل الله مِنَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، كَمَا قال موسى لهم اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الْمَائِدَةِ:20]، وَقَالَ تَعَالَى: وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً [الأعراف:106] قال الْقُرْطُبِيُّ: وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السِّبْطِ، وَهُوَ التَّتَابُعُ، فهم جماعة، وَقِيلَ أَصْلُهُ مِنَ السَّبَطِ، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الشَّجَرُ، أي فِي الْكَثْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ، الْوَاحِدَةُ سَبْطَةٌ.الشيخ: ولا منافاة سواء قيل شعوب بني إسرائيل، أو قيل أولاد يعقوب وذرياته. المقصود أنهم جماعات كثيرة مثل قبائل العرب بعث فيهم أنبياء إقامة للحجة وقطعًا للمعذرة كما قال جل وعلا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فالله جل وعلا جعل فيهم أنبياء وجعل فيهم رسل يدعون الناس إلى توحيد الله ويعلمونهم شرائع الله ويحذرونهم مما حرم الله على عباده. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ [البقرة:136] ويبين السياق أن الأسباط أشخاصًا أوحى إليهم وصاروا بسبب كثرة نسلهم أو كثرة أتباعهم جماعات كثيرة فكل سبط جم غفير.
قَالَ الزجاج: ويبين لك هذا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُجَيْدٍ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةً: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وإبراهيم وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالسِّبْطُ الْجَمَاعَةُ وَالْقَبِيلَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوا بِكُتُبِهِ كُلِّهَا وَبِرُسُلِهِ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَا نَعْمَلُ بِمَا فِيهِمَا.الشيخ: وهذا حق فهذه الأمة أمرت بالإيمان بالرسل جميعًا وبما أنزل الله عليهم من الكتب إيمانًا مجملاً فيما لم يسم، وإيمانًا مفصلاً فيما قد سمي كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم، أما العمل فعليهم أن يعملوا بشريعة محمد التي كلفوا بها لأنه رسولهم الخاص وقد أمروا بأن يتبعوه ولهذا قال : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] فهم مأمورون باتباع هذا الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام الذي أرسل إليهم وإلى غيرهم من سائر البشر ومن سائر الجن، فهو رسول الله إلى الجميع، فعليهم الإيمان به واتباع شريعته، وما أقره الله في الشرائع السابقة في هذه الشريعة صار تبعًا لشريعة محمد ﷺ كما في قوله جل وعلا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ... إلى آخره [المائدة:45] فصار في شريعة محمد ﷺ لأنه أقر فيها وجاء فيها، وما لم يأت في شريعة محمد ﷺ فهم غير مأمورين باتباعه والأخذ به، وإنما هم مأمورون بالإيمان بما جاء به، أما الاتباع والعمل فعليهم بالشريعة التي اختصوا بها على يد محمد عليه الصلاة والسلام.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، أخبرنا مؤمل، أخبرنا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آمِنُوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ
يقول تعالى: فإن آمنوا يعني الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بِمِثْلِ مَا آمنتم به يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ فَقَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ وَأَرْشَدُوا إِلَيْهِ.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أَيْ فَسَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُظْفِرُكَ بهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.الشيخ: هذه بشارة من الله للنبي ﷺ والمؤمنين كما قال للناس: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] هذه العقيدة الصحيحة أن يكون العبد مؤمنًا بالله وبملائكته وكتبه وجميع الأنبياء جميعًا، مسلمٌ لذلك أي منقاد لهذا الأمر عابد ربه بذلك موحد له بذلك يرجو رحمته ويخشى عقابه فهو بهذا دخل في الإسلام، واستقام على الطريق السوي، والآخرون المدعون من قريش ومن غيرهم ومن اليهود ومن غيرهم إن قبلوا هذا وآمنوا بما آمنتم به ودخلوا بما دخلتم فيه فقد اهتدوا، وإن تولوا يعني أعرضوا عما أنتم عليه فإنما هم في شقاق، أي فإنما هم مشاقون لكم معادون ومخاصمون.
فسيكفيهم الله وهو السميع العليم فهذا وعد من الله أن الله يكفي نبيه ﷺ والمؤمنين شر أولئك المعاندين المخالفين المشاقين، فهذه إشارة تطمين لأهل الإيمان بأن الله يعينهم على عدوهم إذا صدقوا واستقاموا وصبروا على دينهم فالله يعينهم على من شاقهم وخالفهم، وإنما يؤتى المسلمون من جهة ذنوبهم وتقصيرهم إنما يؤتى الناس من جهة ما يفعلونه هم، فإذا استقاموا فالأمر بحمد الله واضح فلا يضرهم عدوهم كما قال : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] والصبر من التقوى؛ ونبه عليه لعظم شأنه وفي الآية الأخرى وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40، 41] فالنصر مشروط بهذه الأمور: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف يعني الاستقامة، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:120] إن تصبروا على أذاهم وعلى جهادهم وتتقوا الله فيما أمركم به لا يضركم كيدهم شيئًا، فكيدهم يرجع إليهم ويحيط به وهنا يقول: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم هو السميع لأقوالهم وهو العليم بأحوالهم لا يخفى عليه خافية، يسمع ما يقولون ويعلم ما يسرون وهو القادر على دفع شرهم وعلى نصر المؤمنين عليهم، وهذا يوجب الثقة بالله والتوكل عليه والإيمان به سبحانه والثقة بنصره إذا استقام المسلمون على ما أمرهم به.
ومما يفسر هذا المعنى ويوضحه قصة بدر؛ استقام المسلمون فيها وتوحدت كلمتهم ونصروا دينهم فلم يختلفوا، فنصرهم الله مع أنهم قليل وعدوهم كثير. وفي يوم أحد لما أخل الرماة بما أمروا به وفشلوا وتنازعوا؛ حصل ما حصل من الهزيمة والجراحات والقتل في المسلمين؛ مع أنهم أكثر من يوم بدر حيث قال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ تقتلونهم حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ [آل عمران:152] يعني سلطوا عليكم وحصل ما حصل من الهزيمة، هذا يوجب لأهل الإيمان ألا يتكاسلوا وألا يكلوا وألا يضعفوا وألا يذلوا بإيمانهم من غير القيام بالأسباب، ولو أن أحدًا ينصر بمجرد إيمانه في نفسه لنصر الرسول ﷺ يوم أحد ولم يضره فشل الرماة وفشل من معه، لكن لما كان الجيش واحدًا واختل بعضه وحصل ما حصل من الاضطراب والاختلاف ضرت المعصية الجميع، وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه" فالأسباب التي رتب الله عليها النصر لا بدّ من الأخذ بها والعناية بها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ولا يقول الغازي ورئيس الجند أو الجند: نحن كذا ونحن كذا لا، لا بدّ من الأخذ بالأسباب، والرسول قد أخذ بالأسباب ولبس اللامة ولبس درعين يوم أحد وهكذا الصحابة أمروا بالسلاح وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] في السلاح وأخذ الحذر والامتناع والصدق والصبر والتقوى كلها أسباب أما التنازع والفشل والاختلاف كل هذا هو الضرر العظيم وهو من أعظم أسباب الخذلان كما قال في الآية الأخرى في سورة الأنفال: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] فلا بدّ من الصدق وطاعة الله ورسوله، ولا بدّ من جمع الكلمة وعدم التنازع وعدم الفشل.
قال ابن أبي حاتم: قرأ عَلَى يُونُسَ بْنِ عبدالْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أخبرنا زِيَادُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلِيَّ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ مُصْحَفَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِيُصْلِحَهُ، قَالَ زِيَادٌ: فَقُلْتُ له: إن الناس ليقولون إِنَّ مُصْحَفَهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ حِينَ قُتِلَ فَوَقْعَ الدَّمُ عَلَى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَقَالَ نَافِعٌ: بَصُرَتْ عَيْنِي بِالدَّمِ عَلَى هذه الآية، وقد قَدُم.الشيخ: وهذا سند جيد يدل على أنه قتل والمصحف بين يديه كما في الرواية الأخرى رضي الله عنه وأرضاه حتى سقط الدم على هذه الآية الكريمة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولعلها من (.....) التي حصلت لأنهم عذبوا بسبب هذا القتل وجرى عليهم من المحن ما لا يحصيه إلا الله بسبب عدوانهم، ولم يزالوا يذلون ويقبحون على عملهم إلى يوم القيامة.
وقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دِينُ اللَّهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعبداللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَانْتِصَابُ صِبْغَةَ الله إما على الإغراء كقوله فِطْرَتَ اللَّهِ [الروم:30] أي الزموا ذلك عليكموه، وقال بعضهم: بدلا من قوله: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الروم:30] وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ انْتَصَبَ عَنْ قوله آمَنَّا بِاللَّهِ كقوله وَعْدَ اللَّهِ [النساء:122].
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عباس أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قال إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله، هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ. فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: نَعَمْ، أَنَا أَصْبُغُ الْأَلْوَانَ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا مِنْ صَبْغِي وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفٌ وَهُوَ أشبه إن صح إسناده والله أعلم.الشيخ: مثل ما قال المؤلف يحتمل مرفوع ويحتمل موقوف والموقوف أشبه لأنه مما رواه ابن عباس عن أخبار بني إسرائيل، ولم يذكر المؤلف من قبل أشعث فإن سند ابن أبي حاتم وابن مردويه قوي وبين أشعث وبين أبي حاتم واحد أو اثنان.
ولا ريب أن هذا أن كل ما وجد هو من خلقه سبحانه؛ فهو الذي خلق الأسود والأحمر والأبيض وغير ذلك جل وعلا منه خلقه وإيجاده جميع الألوان، والمراد هنا صبغة الله دين الله يعني الزموا مفعول لفعل محذوف هذا أحسن ما قيل يعني الزموا دين الله الذي صبغ العباد به؛ هذا كافر وهذا مسلم وهذا تقي وهذا مجرم .... جاء بهذه الأديان فمنهم من يوفق وتكون صبغته كاملة ويكون كامل الإيمان كامل التقوى، ومنهم من يخل بشيء من ذلك فتكون صبغته ناقصة لعدم استكماله ما أمره الله به ... الإيمان .. التقوى .. البر.. من استكمل الإيمان فهو مؤمن كامل واصطبغ بصبغة الله صبغة كاملة، ومن أخل بشيء من ذلك اختل من هذا الوصف وصار إيمانه ناقصًا وصبغته ناقصة وإسلامه ناقصًا وبره ناقصًا.
يقول تعالى: فإن آمنوا يعني الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بِمِثْلِ مَا آمنتم به يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ فَقَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ وَأَرْشَدُوا إِلَيْهِ.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أَيْ فَسَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُظْفِرُكَ بهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.الشيخ: هذه بشارة من الله للنبي ﷺ والمؤمنين كما قال للناس: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] هذه العقيدة الصحيحة أن يكون العبد مؤمنًا بالله وبملائكته وكتبه وجميع الأنبياء جميعًا، مسلمٌ لذلك أي منقاد لهذا الأمر عابد ربه بذلك موحد له بذلك يرجو رحمته ويخشى عقابه فهو بهذا دخل في الإسلام، واستقام على الطريق السوي، والآخرون المدعون من قريش ومن غيرهم ومن اليهود ومن غيرهم إن قبلوا هذا وآمنوا بما آمنتم به ودخلوا بما دخلتم فيه فقد اهتدوا، وإن تولوا يعني أعرضوا عما أنتم عليه فإنما هم في شقاق، أي فإنما هم مشاقون لكم معادون ومخاصمون.
فسيكفيهم الله وهو السميع العليم فهذا وعد من الله أن الله يكفي نبيه ﷺ والمؤمنين شر أولئك المعاندين المخالفين المشاقين، فهذه إشارة تطمين لأهل الإيمان بأن الله يعينهم على عدوهم إذا صدقوا واستقاموا وصبروا على دينهم فالله يعينهم على من شاقهم وخالفهم، وإنما يؤتى المسلمون من جهة ذنوبهم وتقصيرهم إنما يؤتى الناس من جهة ما يفعلونه هم، فإذا استقاموا فالأمر بحمد الله واضح فلا يضرهم عدوهم كما قال : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] والصبر من التقوى؛ ونبه عليه لعظم شأنه وفي الآية الأخرى وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40، 41] فالنصر مشروط بهذه الأمور: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف يعني الاستقامة، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:120] إن تصبروا على أذاهم وعلى جهادهم وتتقوا الله فيما أمركم به لا يضركم كيدهم شيئًا، فكيدهم يرجع إليهم ويحيط به وهنا يقول: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم هو السميع لأقوالهم وهو العليم بأحوالهم لا يخفى عليه خافية، يسمع ما يقولون ويعلم ما يسرون وهو القادر على دفع شرهم وعلى نصر المؤمنين عليهم، وهذا يوجب الثقة بالله والتوكل عليه والإيمان به سبحانه والثقة بنصره إذا استقام المسلمون على ما أمرهم به.
ومما يفسر هذا المعنى ويوضحه قصة بدر؛ استقام المسلمون فيها وتوحدت كلمتهم ونصروا دينهم فلم يختلفوا، فنصرهم الله مع أنهم قليل وعدوهم كثير. وفي يوم أحد لما أخل الرماة بما أمروا به وفشلوا وتنازعوا؛ حصل ما حصل من الهزيمة والجراحات والقتل في المسلمين؛ مع أنهم أكثر من يوم بدر حيث قال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ تقتلونهم حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ [آل عمران:152] يعني سلطوا عليكم وحصل ما حصل من الهزيمة، هذا يوجب لأهل الإيمان ألا يتكاسلوا وألا يكلوا وألا يضعفوا وألا يذلوا بإيمانهم من غير القيام بالأسباب، ولو أن أحدًا ينصر بمجرد إيمانه في نفسه لنصر الرسول ﷺ يوم أحد ولم يضره فشل الرماة وفشل من معه، لكن لما كان الجيش واحدًا واختل بعضه وحصل ما حصل من الاضطراب والاختلاف ضرت المعصية الجميع، وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه" فالأسباب التي رتب الله عليها النصر لا بدّ من الأخذ بها والعناية بها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ولا يقول الغازي ورئيس الجند أو الجند: نحن كذا ونحن كذا لا، لا بدّ من الأخذ بالأسباب، والرسول قد أخذ بالأسباب ولبس اللامة ولبس درعين يوم أحد وهكذا الصحابة أمروا بالسلاح وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] في السلاح وأخذ الحذر والامتناع والصدق والصبر والتقوى كلها أسباب أما التنازع والفشل والاختلاف كل هذا هو الضرر العظيم وهو من أعظم أسباب الخذلان كما قال في الآية الأخرى في سورة الأنفال: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] فلا بدّ من الصدق وطاعة الله ورسوله، ولا بدّ من جمع الكلمة وعدم التنازع وعدم الفشل.
قال ابن أبي حاتم: قرأ عَلَى يُونُسَ بْنِ عبدالْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أخبرنا زِيَادُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلِيَّ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ مُصْحَفَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِيُصْلِحَهُ، قَالَ زِيَادٌ: فَقُلْتُ له: إن الناس ليقولون إِنَّ مُصْحَفَهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ حِينَ قُتِلَ فَوَقْعَ الدَّمُ عَلَى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَقَالَ نَافِعٌ: بَصُرَتْ عَيْنِي بِالدَّمِ عَلَى هذه الآية، وقد قَدُم.الشيخ: وهذا سند جيد يدل على أنه قتل والمصحف بين يديه كما في الرواية الأخرى رضي الله عنه وأرضاه حتى سقط الدم على هذه الآية الكريمة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولعلها من (.....) التي حصلت لأنهم عذبوا بسبب هذا القتل وجرى عليهم من المحن ما لا يحصيه إلا الله بسبب عدوانهم، ولم يزالوا يذلون ويقبحون على عملهم إلى يوم القيامة.
وقَوْلُهُ: صِبْغَةَ اللَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دِينُ اللَّهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَعبداللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ نَحْوَ ذَلِكَ. وَانْتِصَابُ صِبْغَةَ الله إما على الإغراء كقوله فِطْرَتَ اللَّهِ [الروم:30] أي الزموا ذلك عليكموه، وقال بعضهم: بدلا من قوله: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الروم:30] وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ انْتَصَبَ عَنْ قوله آمَنَّا بِاللَّهِ كقوله وَعْدَ اللَّهِ [النساء:122].
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عباس أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قال إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله، هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ. فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: نَعَمْ، أَنَا أَصْبُغُ الْأَلْوَانَ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا مِنْ صَبْغِي وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا، وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفٌ وَهُوَ أشبه إن صح إسناده والله أعلم.الشيخ: مثل ما قال المؤلف يحتمل مرفوع ويحتمل موقوف والموقوف أشبه لأنه مما رواه ابن عباس عن أخبار بني إسرائيل، ولم يذكر المؤلف من قبل أشعث فإن سند ابن أبي حاتم وابن مردويه قوي وبين أشعث وبين أبي حاتم واحد أو اثنان.
ولا ريب أن هذا أن كل ما وجد هو من خلقه سبحانه؛ فهو الذي خلق الأسود والأحمر والأبيض وغير ذلك جل وعلا منه خلقه وإيجاده جميع الألوان، والمراد هنا صبغة الله دين الله يعني الزموا مفعول لفعل محذوف هذا أحسن ما قيل يعني الزموا دين الله الذي صبغ العباد به؛ هذا كافر وهذا مسلم وهذا تقي وهذا مجرم .... جاء بهذه الأديان فمنهم من يوفق وتكون صبغته كاملة ويكون كامل الإيمان كامل التقوى، ومنهم من يخل بشيء من ذلك فتكون صبغته ناقصة لعدم استكماله ما أمره الله به ... الإيمان .. التقوى .. البر.. من استكمل الإيمان فهو مؤمن كامل واصطبغ بصبغة الله صبغة كاملة، ومن أخل بشيء من ذلك اختل من هذا الوصف وصار إيمانه ناقصًا وصبغته ناقصة وإسلامه ناقصًا وبره ناقصًا.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُرْشِدًا نَبِيَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى دَرْءِ مُجَادِلَةِ الْمُشْرِكِينَ: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أَيْ تناظروننا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ الْمُتَصَرِّفُ فِينَا وَفِيكُمُ الْمُسْتَحِقُّ لِإِخْلَاصِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ ومما تعبدون وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يُونُسَ:41، 42] وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] إلى آخر الآية، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [الأنعام:80] إلى آخر الآية، وقال تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ:258]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ كَمَا أَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَيْ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ.الشيخ: فهذه الآية تشمل جميع طوائف الكفر؛ فإن الله جل وعلا أمر نبيه ﷺ أن يقول لهم قل: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139] يشمل اليهود ويشمل النصارى ويشمل الوثنيين ويشمل غيرهم فإن حجتهم داحضة جميعًا، فكيف يليق بهم وكيف يسوغ لهم أن يخاصموا في الله وفي إنكار العبادة له وحده والخضوع له والإسلام له والإخلاص له، وكيف يليق بهم أن يبدو هذه المخاصمة وهذه المحاجة وهو رب الجميع وإله الجميع وخالق الجميع ورازق العباد جميعًا، كلهم مقرون بهذا، هو الذي خلقهم وأوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم وخلق من قبلهم كيف يحاجون في عبادته وتصديق رسله واتباع ما جاءت به الرسل ولهذا قال: وإلهنا وإلهكم واحد كما أنه رب الجميع فهو الإله الحق الذي يجب أن تكون له العبادة وحده ولا يدعى معه إله آخر ولا يطلب الرزق إلا منه والشفاء إلا منه وهكذا كل العبادات يجب أن تكون له خالصة ولهذا قال: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ فيخلصون له العبادة فأي حجة لكم علينا ونحن قد فعلنا ما تقتضيه الأدلة الحسية التي قرر الله عليها العباد فضلاً عن الأدلة النقلية وفي الآية الأخرى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] أي منقادون له ذليلون لأوامره منتهون عن نواهيه خاضعون لحكمه ذليلون لأمره هذا هو الإخلاص وقال في سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6] هذا توحيد الله والإخلاص له فأقل شيء أن تكفوا شركم وألا تهاجموا من خالفكم وألا تشبهوا عليه وألا تقاتلوه وألا تمنعوه لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].
ثم شرع الله قتالهم وأمر بقتالهم حتى يخضعوا لهذا الأمر، كان هذا في أول الأمر.... كما قال في سورة النساء: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90] وكما في قوله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256] في أحد القولين، ثم أنزل الله الأمر بقتالهم وألا يتركوا بل يجب أن يقاتلوا حتى يخلصوا العبادة لله وحده سبحانه كما قال : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] وقال سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] فدل على أنه لا يخلي سبيلهم إلا إذا دخلوا في دين الله إلا من استثناه الله من أهل الكتاب فأهل الكتاب والمجوس هؤلاء إذا أدوا الجزية كف عنهم وتركوا حتى يدخلوا في دين الله أو يستمروا في أداء الجزية وهم صاغرون وهذا هو القول الثاني في معنى قوله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] أنها خاصة في أهل الكتاب والمجوس لا إكراه عليهم إذا أدوا الجزية قبل منهم، والقول الأول أنها عامة ولكنها نسخت في آية السيف وما في معناها.
ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَسْبَاطِ، كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ إِمَّا الْيَهُودِيَّةُ وَإِمَّا النَّصْرَانِيَّةُ، فَقَالَ: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ يَعْنِي بَلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا هُودًا وَلَا نَصَارَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] الآية والتي بعدها.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ قال الحسن البصري: كانوا يقرءون فِي كِتَابِ اللَّهِ الذِي أَتَاهُمْ إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامُ وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ، كَانُوا بُرَآءَ مِنَ اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك، وأقروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِلَّهِ، فَكَتَمُوا شَهَادَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، أَيْ أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بعلمكم وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أَيْ قَدْ مَضَتْ، لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ أَيْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ ولكم أعمالكم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وَلَيْسَ يُغْنِي عَنْكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مُتَابِعَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ، وَلَا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ الَّذِينَ بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.الشيخ: اليهود والنصارى عندهم شهادة من الله بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام فكتموها فلا أظلم منهم حين كتموا الشهادة التي عندهم من الله على صحة ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنهم حسدوا وكتموا الحق وآثروا الدنيا على الآخرة فخابوا وخسروا نعوذ بالله ولن ينفعهم انتسابهم من الأنبياء الماضين، وأنهم من ذرياتهم لا ينفعهم "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فكون الإنسان من ذرية الأنبياء أو من ذرية الصالحين لا ينفعه إذا لم يعمل بعقيدتهم وأعمالهم ولم يسر على نهجمهم، فهذا ولد نوح غرق مع الناس وهلك لما لم يتبع والده نوح عليه الصلاة والسلام، وهكذا والد إبراهيم لما لم يستجب لابنه إبراهيم ولم يصدقه هلك مع الهالكين وصار إلى النار ولم تنفعه أبوته، وهكذا والد نبينا محمد ﷺ وأمه أخبر عنه رسول الله ﷺ أن أباه في النار لأنه مات على دين قومه الكفر بالله، وأمه كذلك استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له أن يستغفر لها وهي أمه، وهذا عمه أبو طالب وعمه أبو لهب ماتا على دين الجاهلية فلم تنفعهما هذه القرابة فالقرابة إنما تنفع إذا استقام القريب على دين الله، أما إذا انحرف فلا تنفعه قرابته من أبيه ولا من غير أبيه تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]. وكما أنك لا تسأل عن أعمالهم وأخطائهم وأغلاطهم فأنت أيضاً لا تنفعك أعمالهم الصالحة إذا لم تعمل بها أنت فلا تضرك أعمالهم ولا تنفعك أعمالهم وإنما يضرك عملك وينفعك عملك هذا هو الأمر الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ وَاحِدٍ، فَقَدْ كفر بسائر الرسل ولا سيما بِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلى جميع الإنس والجن من الْمُكَلَّفِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أنبياء الله أجمعين.
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
قيل: المراد بالسفهاء هاهنا مشركو الْعَرَبِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ أَحْبَارُ يَهُودَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.الشيخ: وهي مثل ما قال المؤلف أنها عامة فيكون السفهاء من الناس تعم ما يقول هذا من المشركين ومن اليهود ومن المنافقين، فمن استنكر تحويل الله نبيه إلى الكعبة ..... واحتج على تكذيب الرسول ﷺ بذلك فهو من السفهاء، ومن آمن وتابع الحق فهو من أهل الإيمان والهدى ولهذا قال جل وعلا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] يقولون ذلك احتجاجًا واستنكارًا ومعارضة للحق وتكذيبًا للصدق ولهذا ذمهم الله وعابهم.
قال الَبُخَارِيُّ: أخبرنا أَبُو نُعَيْمٍ، سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ راكعون، قال: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قَبِلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى القبلة قبل ان تحول قبل البيت رجال قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُكْثِرُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة:144] فقال رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ: وَدِدْنَا لَوْ عَلِمْنَا عِلْمَ مَنْ مَاتَ مِنَّا قَبْلَ أَنْ نُصْرَفَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَكَيْفَ بِصَلَاتِنَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ .... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ صَلَّى نحو بيت المقدس ستة عَشَرَ أو سبعة عشر شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ: فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْيَهُودُ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] أَيْ نَحْوَهُ، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، فَتَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكَعْبَةُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، هَلْ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مقدمه ﷺ المدينة، واستمر الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَالِابْتِهَالَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ التِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ؛ وَأُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ فأعلمهم بِذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَيْهَا صَلَاةُ العصر، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء. وَوَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدِ بن المعلى أنها الظهر، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلّى إلى الكعبة.
وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم: أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر، وذلك في مسجد بني سلمة، فسمي مسجد القبلتين، وفي حديث نويلة بنت مسلم: أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر، قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عبدالْبَرِّ النَّمِرِيُّ، وَأَمَّا أَهْلُ قُبَاءَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ إِلَى صلاة الفجر من الْيَوْمِ الثَّانِي، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ نُزُولُهُ وَإِبْلَاغُهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا، حَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ ارْتِيَابٌ، وَزَيْغٌ عَنِ الْهُدَى وَتَخْبِيطٌ وَشَكٌّ، وَقَالُوا مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أَيْ قالوا: مَا لِهَؤُلَاءِ تَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا وَتَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142]أَيِ الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ وَالْأَمْرُ كله لله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ولَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ:177] أَيِ الشَّأْنُ كُلُّهُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا وَجَّهْنَا تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ إِلَى جِهَاتٍ متعددة: فنحن عبيده وفي تصرفه، وَخُدَّامُهُ حَيْثُمَا وَجَّهَنَا تَوَجَّهْنَا، وَهُوَ تَعَالَى لَهُ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَأُمَّتِهِ عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ تَوَجُّهَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أَشْرَفَ بُيُوتِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ هِيَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.الشيخ: والمعنى في هذا أن الواجب على الأمة امتثال الأوامر وترك النواهي والتوجه حيث وجهوا وليس لهم الاختيار بأن يفعلوا ما يشاؤون؛ وإنما هم عبيد مأمورون فحيثما وجهوا توجهوا، وليس لأحد أن يعترض على الله في حكمه وشرعه فالسفهاء حين اعترضوا لم يعقلوا هذا الأمر ولم يفهموا هذا الأمر ولهذا اعترضوا، قالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] فرد الله عليهم قال: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم [البقرة:142]، وهو المتصرف في عباده كيف يشاء يولهم شرقًا أو غربًا أو جنوبًا أو شمالاً إلى الكعبة أو غيرها له الأمر والواجب على العباد الامتثال والطاعة حيث أمروا ائتمروا وحيث نهوا انتهوا عرفوا الحكمة أم لم يعرفوها، وإن عرفوا الحكمة والعلة فهذا علم ونور على نور وخير وهدى، فإن لم يعرفوا فالهدف والواجب والمقصود هو الامتثال.
وقول المؤلف فيما تقدم أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى الصخرة فهذا محل نظر وليس في النصوص شيء يتعلق بالصخرة، ولا يعرف لها فضل خاص، وإنما أمر المسلمون أن يتوجهوا إلى بيت المقدس إلى مسجد الأنبياء وهو القدس التوجه إلى جهة الشام لأن فيها المسجد العظيم وهو مسجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالتوجه إلى هناك لما في ذلك المسجد من الفضل، ولما فيه من البركة، ثم نسخ الله ذلك وجعل القبلة إلى بيته الحرام فله الحكمة البالغة في الأول والآخر .
أما ذكر الصخرة فلا أعلم لها فيما أعلم ذكر في النصوص وإنما عظمها النصارى فقط فلا ينبغي أن ينسب إليها شيء من الأحكام أو الفضل إلا بدليل وإنما القبلة جهة الشام لما فيها من معقل الأنبياء وأول بيت وضع للناس بعد الكعبة.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ حُصَيْنِ بن عبدالرحمن، عن عمرو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ.الشيخ: وهذا فيه علي بن عاصم فيضعف، وكان من ..... ولكن هذا المعنى صحيح فإن اليهود حسدوا المسلمين والله المستعان.
..............
انظر في التقريب عن علي بن عاصم؟
الطالب: علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التيمي مولاهم صدوق يخطىء ويصر ورمي بالتشيع من التاسعة مات سنة إحدى ومائتين وقد جاوز التسعين أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه.....