36 من: (باب في التفَكُّر في عظيم مخلوقات الله تعالى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس وتهذيبها وحملها على الاستقامة)

 
9- باب في التفَكُّر في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة
قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]
وَقالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ الآيات [آل عمران:190-191].وَقالَ تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۝ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ۝ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ۝ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:17-21] وَقالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا الآية [محمد:10] والآيات في الباب كثيرةٌ. ومِنْ الأحَاديث الحديث السَّابق: الْكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَه.
 
10- باب في المبادرة إلى الخيرات وحثَّ من توجَّه لخير على الإِقبال عليه بالجدِّ من غير تردَّد
قَالَ الله تَعَالَى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] وَقالَ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]
وأما الأحاديث:
1/87-فالأوَّل: عَنْ أبي هريرة أنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بادِروا بالأعْمالِ فِتَناً كقطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلمِ يُصبحُ الرجُلُ مُؤمناً ويُمْسِي كَافِراً، ويُمسِي مُؤْمناً ويُصبحُ كَافِراً، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا رواه مسلم.
2/88-الثَّاني: عنْ أبي سِرْوَعَةَ -بكسرِ السين المهملةِ وفتحها- عُقبةَ بنِ الْحارِثِ قَالَ: صَلَّيتُ وراءَ النَبيِّ ﷺ بالمدِينةِ الْعصْرَ، فسلَّم ثُمَّ قَامَ مُسْرعاً فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بعْضِ حُجَرِ نسائِهِ، فَفَزعَ النَّاس مِنْ سرعَتهِ، فَخَرَجَ عَليهمْ، فَرأى أنَّهُمْ قدْ عَجِبوا منْ سُرْعتِه، قالَ: ذَكَرتُ شَيئاً مِنْ تبْرٍ عندَنا، فكرِهْتُ أنْ يحبسَنِي، فأمرْتُ بقسْمتِه رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: كنْتُ خلَّفْتُ في الْبيتِ تِبراً مِنَ الصَّدقةِ، فكرِهْتُ أنْ أُبَيِّتَه.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الآيات الكريمات والحديث الشريف والآيات الأخرى بما يتعلق بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى الطاعات كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يفكر في آيات الله ومخلوقاته في هذه الأرض، ويفكر ويتدبر أيضاً فما شرع له وما أمره الله به ويتفكر في الآخرة وما يكون فيها من الأهوال والعجائب والصراط والميزان وتوزيع الكتب وانقسام إلى فرقين فريق في الجنة وفريق في السعير حتى يعد العدة متى فكر في آيات الله ومخلوقاته وعظيم شرعه وما أعد لأوليائه وما أعد لأعدائه وما يكن في الآخرة من الأهوال، لو نظر في مخلوقات الله بعين الاعتبار عرف الأمر العظيم والعجب العجيب وكان هذا من أسباب خضوعه لله واستقامته على أمر الله وتعظيمه لله ووقوفه عند حدود الله ومسابقة إلى الطاعات ومسارعة إليها؛ اغتنامًا للفرصة واغتنامًا للحياة يقول الله جل وعلا: قل يا محمد للناس إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] يعني آمركم بالتفكر انظر فكر في هذه الأرض أرساها الله بالأوتاد بسطها لك تبني عليها، تحرث عليها،  لو اهتزت هلكت أنت ومعك، لو اهتزت بك سقط البناء وسقط كل شيء واختلت الأمور، لكن الله ثبتها وأرساها بالأوتاد، وإذا وجدت هزة في أي بقعة من البقاع اختلت الأمور وهلك الكثير من الناس، ثم هذه الأشجار والأنهار التي في الأرض والمعادن والنبات وأنواع الخيرات التي خلقها لك في الأرض إذا  أنزل الله المطر أنبتت من كل شيء، وإذا زرعتها أنبتت من كل شيء، تفكر في هذه الآيات والعبر والنعم وهذه السماء فوقك تأملها، الله جعلها سقفًا لك فيها نجومها شمسها وقمرها آيات وعبر، كذلك ما في الأرض من أنهار وبحار ومخلوقات متعددة فيها عبرة، ومن ذلك الإبل والبقر والغنم وبقية الحيوانات أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:18] هذه الإبل العظيمة خلقها الله في أجسام جيدة وسخرها لك تركبها وتنيخها وتقودها ولو سلطت عليك لأهلكتك، لكن الله ذللها لك، وإذا هاج البعير أبعدت عنه وأبعد عنه الناس لخطره، والله ذلل لك هذه الإبل تركبها وتحمل عليها وتقودها، يقودها الصغير والكبير فضلاً من الله. وهذه الجبال نصبت ثبت الله بها الأرض وجعل فيها ما جعل من المعادن والغيران والمصالح والأشجار وغير ذلك، والأرض سطحها وبسطها لك فيها بيتك فيها حرثك فيها أموالك فضلاً من الله جل وعلا؛ فالواجب أن تنظر لهذه الأشياء هذه المخلوقات من الإبل من غنم ومن بقر ومن حيوانات أخرى ومن جبال ومن أرض مسطوحة وأنهار كلها آيات وعبر وهذه السماء فوقك فيها آياتها ونجومها وشمسها وقمرها.
وهكذا قوله جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب لأولي العقول الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ الْنَّارِ الآيات [آل عمران:190-191] يتفكر ويقول سبحانك ما خلقت هذا باطلاً ليس بعبث، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، بل خلقها لحكمة عظيمة وأنت مخلوق لحكمة لتعبد ربك، والحيوانات المأكولة طعامًا لك والاختيار امتحان وابتلاء هل تكف عنها؟ هل تفعل شيئًا معها مما يغضب الله؟ أنت مبتلى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  [الأعراف:168]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ  [محمد:31]، والله شرع لك المسابقة إلى الخيرات، فاحرص على ما ينفعك واستعن ولا تعجزن، وقال: الكيس من دان نفسه الحازم من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وقال سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ[الحديد:21]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران:133]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، فأنت مأمور بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أولئك  يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون:60-61].
وفي الحديث أنه ﷺ صلى العصر ذات يوم ثم قام مسرعًا فتعجب الناس من ذلك! فرجع إليهم وقال: إني تركت في البيت شيئًا من ذهب من الصدقة فكرهت أن أبيته، خاف أن ينساه فحرص أن ينفقه قبل الليل، ففي هذا المسارعة، وإذا كان الإنسان أعد الشيء للصدقة أو زكاة أو أشياء من الكفارات يسارع يحرص لا يتساهل ربما ينساها فليحرص على إيصال الحق إلى مستحقه، الكفارة إلى مستحقيها، الزكاة إلى مستحقيها، الصدقة إلى مستحقيها، مادام ذاكر يبادر حتى لا ينسى.
وفيه التعجل إلى الخير، يقول موسى عليه الصلاة والسلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، فالمسابقة إلى الخيرات من شأن أهل الإيمان ومن شأن الرسل وأتباعهم. وفق الله الجميع.

الأسئلة:

س: صحة الحديث: الكيس من دان نفسه؟
ج: في سنده بعض اللين، لكن معناه صحيح.
س: حديث أبي هريرة يقول: يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا ما معنى هذا الحديث؟
ج: يقول ﷺ: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع المظلم يقول: سارعوا بالأعمال الصالحة بادروا بها فتنًا كقطع الليل المظلم، فتن في الدين، وفتن في الأبدان، وفتن في الأموال، وفتن في المجتمع، الإنسان يحذر يبادر بالأعمال قبل أن يفتن قبل أن تقع فتنة تحول بينه وبين العمل بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم من اشتباهها وكثرتها وحيرة الفكر فيها، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا؛ لأجل اشتباهها وعدم وضوحها؛ قد يصبح مسلمًا ويمسي كافرًا مفتونًا بها، ويمسي مسلمًا ويصبح كافرًا؛ بسبب اشتباهها وكثرة ما فيها من الشرور، وفي اللفظ الآخر: بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال، فالدجال شرب غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر فالإنسان يبادر بالأعمال ويحرص على أعمال الخير ؛ لأنه قد يبتلى بشيء يمنعه قد يموت، قد يمرض، قد يشغل، فإذا هم بالعمل الصالح فليبادر. وفق الله الجميع.
الأسئلة:
س: فتن كقطع الليل المظلم في زماننا هذا؟
ج: لاشتباهها في زماننا وقبله وبعده.
س: ويصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا في زماننا؟
ج: يرتد، نعم بسبب اشتباهها يجي واحد يقول له كذا وكذا ويوافقه على الباطل على الردة ويرتد، يجيه واحد من أهل السنة والدعوة والخير فيسلم لاشتباه الأمور.
س: الحديث يدل على أن الرسول ﷺ ذكر التبر وهو في صلاته؟
ج: هذا الظاهر لما سلم أسرع.
س: في بعض الناس إذا التزم انتكس، ثم إذا انتكس يصعب أنه يرجع إلى الله عز وجل يعني يئسوا منه يقولون أنه يطلع أشد من أول، أول قبل ما يهتدي؟
ج: لا، ينصح حتى يتوب ويرجع فكثير من الناس ارتد ورجع  وحسن إسلامه، مثل عبدالله بن سعد بن أبي سرح وغيره. الإنسان إذا وجد منه شيء ينصح حتى يرجع إلى الصواب لا ييأس ولا ينبغي وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]  بعد موت النبي ﷺ ارتد كثير من الناس ثم هداهم الله وأسلموا ورجعوا إلى الحق.
س: ويثاب على أعماله قبل أن يرتد؟
ج: نعم أسلمت على ما أسلفت من خير، إذا أسلم واستقام حفظ الله له أعماله السابقة.
س: إذا ارتد ثم أسلم؟
ج: السابق حال إسلامه يعطى أياها، وكذلك أعماله في الجاهلية إذا أسلم أعماله الطيبة هي له.
س: هو مسلم مثلا حلق لحيته، أو ترك السنة..؟
ج: هو مسلم، هذه معاصي.