باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:102].
وقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51].
قال عمر: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان".
وقال جابر: "الطَّواغيت كهَّان، كان يَنْزل عليهم الشيطانُ، في كل حيٍّ واحد".
وعن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: اجتنبوا السَّبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب ما جاء في السِّحر)، السحر -بكسر السين- هو ما يتعاطاه الساحر من عُقَدٍ، ومن أدويةٍ، ومن نفثٍ في العُقد، ومن غير ذلك مما يتعاطاه أربابُ هذا الفن، يُسمَّى: سحرًا، سُمي سحرًا لأنه يتعاطونه بطرقٍ خفيَّةٍ؛ ولهذا قيل له: سحر، والسحر هو ما يسحر الناس ويُغير شعورهم بأي نوعٍ كان، لكنها في الغالب تكون خفيَّةً؛ ولهذا قيل: السحر، ويقال: آخر الليل سحر؛ لأنه يكون في آخر الليل عند هجعة الناس، ويقال للرئة: سحر؛ لأنها في داخل الجوف مخفيَّة.
فالسحر: عُقَد ورُقًى يفعلها السَّحرة، وينفثون في عقدهم، وأشياء يجمعونها، وأشياء يتلقونها عن الجنِّ والشياطين حتى يُنفذوها فيمَن يُريدون، وهو مُنكر، ومن الشرك؛ لأنه لا يُتوصل إلا بخدمة الشياطين والتَّقرب إليهم وعبادتهم من دون الله، قال جلَّ وعلا: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة:102]، فدلَّ على أن تعلمهم إياه يُوجب الكفر، قال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ اشتراه يعني: اعتاضه، يقول : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ يعني: اعتاضه وفعله، ما له عند الله من خلاقٍ، يعني: من حظٍّ ولا نصيبٍ. هذا يدل على تحريمه وإنكاره، وأنه من المنكرات التي يجب تركها.
قال بعده: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، دلَّ على أنه ضدّ الإيمان، وضد التقوى، فالسحر ضدّ الإيمان، وضد التقوى، ومَن اعتاضه واستعمله ليس له عند الله من خلاقٍ؛ ولهذا قال أهلُ العلم: إنه من الكفر، إنه ضلال وكفر؛ لأنه لا يُتوصل إليه إلا بعبادة الجنِّ والشياطين.
وقال بعضهم: يُستفصل، فما كان مما يتعلق بالجنِّ وعبادة الشياطين فهذا من الكفر بالله، وما كان من أدويةٍ تضرّ، ليس لها تعلق بالشياطين ولا عبادة لهم، فهو من المحرَّمات والمنكرات التي فيها ظلم العباد والتَّعدي عليهم، فإنهم قد يتعاطون أشياء تُفسد الرأس، وتُغير العقل.
فما كان من طريق عبادة الشياطين، والتَّقرب إلى غير الله، والذبح للجنِّ، ونحو ذلك، فهذا كفرٌ أكبر، وشركٌ أكبر. وما كان من تعاطي بعض الأدوية التي يتعاطونها لإفساد العقول وتغيير العقول، فهذا من الكبائر، ومن ظلم العباد.
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]، هذه نزلت في اليهود، أخبر اللهُ سبحانه أنهم يُؤمنون بالجبت والطَّاغوت، الجبت قال عمر فيه: "السحر، والطاغوت: الشيطان"، وقال أئمةُ اللغة: الجبت هو الشيء الذي لا خيرَ فيه، فكل شيءٍ لا خيرَ فيه يُسمَّى: جبتًا، كالسحر، والصنم، وكل شيءٍ لا خيرَ فيه.
والطاغوت من الطُّغيان، وهو تجاوز الحدِّ، وهذا يُطلق على الشياطين من الجنِّ والإنس، يقال لهم: طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا الحدود بكفرهم وضلالهم وعُدوانهم.
وقال جابر: "الطواغيت: الكُهَّان، كان ينزل عليهم الشيطانُ، في كل حيٍّ واحد"، يعني: أنَّ الكهَّان من الطواغيت، وعرفت أنَّ الطاغوت يشمل الكهَّان والسَّحرة ودُعاة الضَّلالة ومَن يُشرك به وهو راضٍ، كلهم يُقال لهم: طواغيت.
قال ابنُ القيم رحمه الله فيه حدًّا جامعًا، فقال: "الطاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدَّه" يعني: كل شيءٍ تجاوز به العبدُ حدَّه: من معبودٍ، أو متبوع، أو مُطاع، يُقال له: طاغوت، مَن عُبد من دون الله وهو راضٍ يُقال له: طاغوت، أو متبوع على غير الحقِّ وهو راضٍ، فهو طاغوت، وهكذا لو كان غير راضٍ، إذا كان على غير الحقِّ يدعو إليه فهو طاغوت، أو مُطاع في غير الشَّريعة، يعني: يدعو إلى غير الشَّريعة فيُسمَّى: طاغوتًا أيضًا.
فالمعبودون من دون الله وهم راضون، ومَن اتَّبعوه في الباطل، وأطاعوه في الباطل، دُعاة الضَّلالة يُقال لهم: طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا الحدود، وتعدّوا الحدود، ورؤوسهم خمسة: إبليس -لعنه الله- هو رأسهم، والدَّاعي إلى كل باطلٍ، ومَن عُبد وهو راضٍ، ومَن دعا إلى عبادة نفسه كفرعون، فإنه رأس الطواغيت أيضًا، ومَن عُبد وهو راضٍ كذلك، ومَن ادَّعى علم الغيب، ومَن حكم بغير ما أنزل الله يتعمد ذلك. كل هؤلاء طواغيت، ويجمعهم ما تقدم، يجمعهم أنهم: كل معبودٍ وهو راضٍ، أو متبوع، أو مُطاع في غير الشَّريعة، هؤلاء يُقال لهم: طواغيت، ومن جُملتهم الكُهَّان والسَّحرة، وهو الشاهد هنا، الساحر: طاغوت؛ لأنه تجاوز الحدَّ بتعاطي ما يُؤذي الناس ويضرّ الناس، أو بتعاطيه دعوى علم الغيب، أو بتعاطيه عبادة الشياطين، وعبادة الجنِّ، والذَّبح لهم، والنَّذر لهم، فهو بهذا قد خرج عن حدِّ العبادة، فصار من الطواغيت، لا من عباد الله، بل صار من الطواغيت الذين خرجوا عن الطريق، وحادوا عن السَّبيل.
وكل هذا يُوجب الحذر من عملهم، وأنهم طواغيت؛ لأنهم يتعاطون الشَّر والأذى للمسلمين، وهم السَّحرة، فيقال لهم: طواغيت من هذا المعنى؛ لإيذائهم، وظلمهم، وخروجهم عن الطريق.
وعن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: اجتنبوا السَّبع الموبقات، اجتنبوا يعني: ابتعدوا عنها، سُميت: مُوبقات؛ لأنها مُهلكة، الموبقة: المهلكة.
ثم ذكر تفصيلها فقال: الشرك بالله وهو أعظمها وأقبحها وأشدّها جريمةً، والسحر جعله بعده لأنه منه؛ لأن في الغالب أنَّ السِّحر من الشرك؛ لأنه عبادة للجنِّ، واستعانة بهم، وذبح لهم، وتقرب إليهم، هذا هو الغالب عليه، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وهذا أيضًا من أعظم الجرائم.
والرابع: أكل الربا، والخامس: أكل مال اليتيم، والسادس: التَّولي يوم الزحف، يعني: التَّولي عند التقاء العدو، عند اجتماع الصَّفين للقتال يخذل قومه ويتولى، نسأل الله العافية.
والسابعة: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، يعني: قذفهن بالفاحشة، سُمين: غافلات لأنهن في الغالب لا يشعرن بمَن رماهن، وليس هذا خاصًّا بالنساء، لكن لما كان الغالبُ أنه يكون للنساء جاء النصُّ في النساء، وإلا فقذف المحصنين كذلك، قذف الرجل المحصن المعروف بالخير أيضًا من الكبائر، يستحق صاحبُه حدَّ القذف، فقذف المحصَن والمحصَنة من الرجال والنِّساء بالفاحشة يُوجب حدَّ القذف: ثمانين جلدة، وهو من كبائر الذنوب، من الذنوب العظيمة التي يجب الحذرُ منها؛ لما فيه من الفساد والشَّر على المسلمين، وإثارة الشَّحناء والعداوة بين الناس، فإنَّ المقذوف سوف يتأثر بذلك، ويُسبب الشَّحناء بينه وبين القاذف، وربما أفضى إلى فتنٍ وقتالٍ وعداواتٍ، وربما تعدَّى إلى القبيلة والأسرة جميعها، فشرُّ القذف عظيم، وقد يُفضي إلى ما لا تُحمد عقباه من الفتن؛ فلهذا حرَّمه الله وحذَّر منه عباده، وجاء فيه الوعيد، الله يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.
المقصود أنَّ هذه السبع من أخبث الجرائم، ومن أقبح الجرائم والكبائر، فيجب الحذر منها، ومن جُملتها السِّحر، فهو جريمة كفرية عظيمة، يجب الحذرُ منها، ويأتي بقيةُ الكلام في السحر إن شاء الله فيما بعد هذا.
س: كمَن دعا الناس إلى عبادة نفسه؟
ج: يعني قال: ادعوني وأنا أفعل لكم كذا، اذبحوا لي، انذروا لي وأنا أقضي حاجتكم. مثلما يفعله بعضُ المعبودين من دون الله، نسأل الله العافية.
س: ................؟
ج: لا يجوز تعاطي هذا، ولو ظنَّ أنَّ فيها سحرًا، بل تُعالج بالأدوية الشَّرعية، أما الذَّهاب إلى السَّحرة: الصحيح عند أهل العلم أنه لا يجوز، ولو من باب التَّداوي، ولو أنه لا يرضى بذلك، لكن من باب التَّداوي؛ لأنَّ ذهابَه إليهم معناه دعوتهم إلى أن يُشركوا، دعوتهم إلى أن يفعلوا ما هو مُحرَّم، نسأل الله العافية.
وعن جندب مرفوعًا: حدُّ السَّاحر ضربه بالسيف رواه التزمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي "صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمرُ بن الخطاب أن اقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصحَّ عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جاريةٍ لها سحرتها، فقُتلت.
وكذلك صحَّ عن جندبٍ، قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ.
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (وعن جندب مرفوعًا) يعني: قال رسولُ الله ﷺ: حد الساحر ضربه بالسيف، إذا قال العلماءُ: مرفوعًا، يعني: إلى النبي ﷺ، أو قالوا: رفعه، أو رواية، أو يُنميه، يعني: إلى النبي ﷺ.
والصواب في هذا كما قال الترمذي: أنه موقوف، وليس من كلام النبي ﷺ، وذلك أنَّ جندب الخير الأزدي المعروف، وهو أحد الصحابة ..... في صحابته مَن يقال له: جندب بن عبدالله بن سفيان البجلي المعروف، وفيهم جندب الخير الأزدي، هذا يُقال: إنه جاء إلى مجلسٍ فيه الوليد بن يزيد الفاسق، وعنده ساحر يقطع رأسه بزعمه ويُريه الناس، ثم يُعيده، فجاءه جندب من طريقةٍ لم يشعر بها هذا اللاعب، فضربه بالسيف وقتله، وقال: إن كان صادقًا فليُرجع رأسه إلى نفسه. وقال: حدُّ الساحر ضربه بالسيف. يعني: هذا هو الذي استنبطه من الأدلة الشرعية؛ فلهذا قال: حدّ الساحر ضربه بالسيف. وبعضهم رواه مرفوعًا، والصواب أنه من كلامه .
وهذا مثلما فعل عمرُ حين أمر بقتل السَّحرة، ومُراد جندب أنَّ الساحر يُقتل، ولا يُستتاب؛ لأنَّ توبته لا تُزيل أذاه وضرره، فقد يصدر التوبة ويكذب، ويبقى ضرره على الناس، فمتى ثبت سحره وجب قتله؛ لئلا يضرَّ الناس.
والساحر يتعاطى أمورًا كثيرةً: تارة بالعقد والنَّفث، وتارة بأشياء أخرى يتعاطاها مع الجنِّ والشياطين، يستخدمهم، ويعبدهم حتى يُمكنوه من بعض ما يُريد: من إدخال الشَّر على بعض الناس حتى يتغير عقله، أو يتغير فكره، فيبغض مَن كان محبوبًا، ويُحب مَن كان مُبْغَضًا بأشياء يفعلها ويستمدها من الجنِّ، فإذا عرف ذلك وجب قتله حتى يُستراح من شرِّه وضلاله على الناس.
وهكذا عمر كتب إلى أمراء الأجناد في الشام أن يقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة. قال بجالة بن عبدة: فقتلنا ثلاث سواحر.
والحكمة في هذا مثلما تقدم: أنَّ شرهم لا يزول بالتوبة التي يُظهرونها؛ ولأنهم في الغالب متَّهمون، مثل: توبة الزنديق المعروف بالنِّفاق، لا يُؤمن، فيُقتل.
وهكذا حفصة رضي الله عنها، أم المؤمنين بنت عمر، كانت عندها جارية، فعلمت أنها تعاطت السِّحر، فأمرت بقتلها فقُتلت.
قال أحمد رحمه الله: صحَّ ذلك عن ثلاثٍ من أصحاب النبي. يعني: صحَّ قتلُ السَّاحر عن ثلاثةٍ من أصحاب النبي، وهم عمر ، وحفصة، وجندب، وهذا هو الصواب في هذه المسألة: أنه متى عُرف في السِّحر الذي هو بواسطة الشياطين، ومَن يدَّعي علم الغيب، ويتعاطى أمورًا عظيمةً في إيذاء الناس وظلمهم، فلا حيلةَ في السَّلامة من شرِّه، ولا طريقًا للخلاص منه إلا بالقتل.
قال بعضُ أهل العلم -كالشافعي رحمه الله وجماعة- مَن كان سحره بأشياء معروفة تُؤذي ولا تُغير العقول، إنما تُؤذي وتُمرض، فلا يكون له حكم السحرة إذا كان ممن لا يستخدم الشياطين، ولا يتظاهر بعلم الغيب، ولا بعبادة غير الله، فإنه يُضرب ويُؤدَّب ويُسجن، ولكن لا يُقتل إذا عُرف أنه ليس من أهل السحر المعروفين بعبادة الشياطين واستخدامهم، وتعاطي ما حرَّم الله من الشِّرك، وهذا إذا علم ..... لا منافاةَ؛ لما جاء عن الصحابة، فليس بسحرٍ هذا، وإنما هو أذى وظلم، أما السَّحرة المعروفون فهم الذين يستخدمون الشياطين، يستخدمون الجنَّ ويعبدونهم، ويتعاطون في بعض الأحيان علم الغيب؛ حتى يتَّضح من أمرهم ما هو مخالفٌ لما عليه الناس من الأمور التي تضرّ بعض الناس: من تعاطي بعض الأدوية الضَّارة، أو المأكولات الضَّارة والمشروبات، هذا شيءٌ آخر.
والسحرة في الغالب هم الذين يتعاطون أمورًا شركيةً تتعلق بالجنِّ، وتتعلق بخدمتهم، والاستعانة بهم على ظلم الناس، وإيذائهم، وتغيير العقول؛ فلهذا وجب قتلهم، نسأل الله السَّلامة.
س: هل الرسول سُحِرَ؟
ج: ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سُحِرَ، ولكن سحرًا لم يُؤثر عليه شيئًا في تبليغ الرسالة، وإنما أثَّر فيه فيما بينه وبين أهله فقط.
باب بيان شيءٍ من أنواع السِّحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء: حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه: أنه سمع النبيَّ ﷺ قال: إنَّ العيافة والطَّرق والطِّيرة من الجبت.
قال عوف: العيافة: زجر الطير. والطَّرق: الخطّ، يخطّ بالأرض.
والجبت: قال الحسن: "رنّة الشيطان"، إسناده جيد.
ولأبي داود والنَّسائي وابن حبان في "صحيحه" المسند منه.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السِّحر، زاد ما زاد. رواه أبو داود، وإسناده صحيح.
وللنَّسائي من حديث أبي هريرة : مَن عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومَن سحر فقد أشرك، ومَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه.
وعن ابن مسعودٍ: أن رسول الله ﷺ قال: ألا هل أُنبئكم ما العضة؟ هي النَّميمة: القالة بين الناس رواه مسلم.
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ من البيان لسحرًا.
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب بيان شيءٍ من أنواع السِّحر)، المؤلفُ رحمه الله أراد بهذا أن يُبين شيئًا مما يُسمَّى: سحرًا؛ لينتبه المؤمنُ لهذه الخصال، ويجتنبها، ويبتعد عنها، وقد تُسمَّى: سحرًا من جهة أنها تضرّ وتُؤذي، وإن لم تكن سحرًا من جهة المعنى الذي هو الكفر والشِّرك وخدمة الشياطين وعبادتهم، فإن ..... قسمان: قسم منها سحر محض، وقسم منها يعمل عمل السحر، ويُؤذي، ويضرّ، وإن كان ليس سحرًا في المعنى الحقيقي.
يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب بيان شيءٍ من أنواع السحر) على سبيل الإطلاق والتَّعميم.
قال الإمامُ أحمد رحمه الله: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا عوف -وهو أبو جبيلة- عن حيان بن العلاء قال: حدَّثني قطن بن قبيصة، عن أبيه: أن النبي ﷺ قال: إنَّ العيافةَ والطَّرق والطيرة من الجبت، قال عمر : أنَّ الجبت: السحر. فالمعنى أنَّ هذه تُطلق على أنها يُقال لها: سحر من جهة ما فيها من الشَّر والفساد، ومن جهة ما قد يدَّعيه أصحابُها من علم الغيب.
فالعيافة: زجر الطير، كما قال عوف، يزجرون الطيور، ويزعمون أنها تدلهم على شيءٍ، فيتشاءمون بها تارةً، ويتيمنون بها تارةً أخرى. وهذا من عمل الجاهلية، والطيور ليس عندها خيرٌ ولا شرٌّ، وإنما هذا من جهلهم وضلالهم، فقد يتشاءمون بالغراب، أو بالبومة، أو بغيرهما، أو بحيوانٍ كريه الخلقة يتشاءمون به، وإذا رأوا حيوانًا حسن الخلقة تيمَّنوا به، وقالوا: هذا سفر طيب. أو هذا مخرج طيب. إذا صادفهم فيه هذا الشيء، وإن صادفهم حيوانٌ قبيحٌ، أو نعق الغراب، أو كذا، أو كذا، خافوا، وقالوا: هذا سفر أو هذا مخرج يكون فيه شرٌّ.
هذا كله من أمر الجاهلية، وهذا زجر الطير، يزجرون فيقولون: إنَّ هذا يدل على هذا، وهذا يدل على كذا، مثل قول الشاعر: ..... إذ الطير مرت؛ لأنهم يزجرونه ويقولون: إن تيامن صار كذا، وإن تشاءم صار كذا، وإذا ذهب كذا صار كذا. وهذا كله من جهلهم وضلالهم، وهذه الطيور مخلوقات سائرة في أمر الله، وفي تدبيره سبحانه، ليس عندها نفعٌ لأحدٍ، ولا ضرٌّ لأحدٍ، ولا خيرٌ، ولا شرٌّ.
فالعيافة يُقال: عاف يعيف، إذا زجر الطير وتيامن بها، وتشاءم بها.
والطرق: الخطّ، يخطّ في الأرض، يخطون الخطوط ويقولون: هذا يكون كذا، ويكون كذا، ويُلبسون على الناس، فقد يكون عبثًا في بعض الأحيان من اللاعبين، وقد يكون تخييلًا، وإلا فالمراد خدمة الشياطين والأخذ بأقوالهم من الجنِّ، ويزعمون أنَّ هذه الخطوط تهديهم إلى كذا، وتُرشدهم إلى كذا، فهو كذب، وإنما أطاعته الجنُّ، واستخدامهم، ودعوى العلم بواسطتهم، وإلا فهذه الخطوط لا تُفيدهم شيئًا، لولا ما يعملون مع الجنِّ.
والجبت: قال الحسن: رنّة الشيطان.
وأما الطيرة: فهي التَّشاؤم من مرئيٍّ أو مسموعٍ، هذه الطيرة، وهي مُحرَّمة، ومن الشِّرك الأصغر، وقد تكون أكبر -والعياذ بالله- إذا اعتقد أنَّ هذا الطائر، أو أنَّ هذا الحيوان يتصرف في الكون، أو يُدبر أشياء، أو ما أشبه ذلك، هذا من الشِّرك الأكبر، لكن الغالب عليهم أنهم يتشاءمون بها فقط، يعني: يتشاءمون، فيمضون في حاجات إن رأوا ما يسرهم، ويرجعون عن حاجات إن رأوا ما يسوءهم.
والطيرة: ما ردَّ الإنسان عن حاجته؛ ولهذا قال: والطِّيرة، (إنَّ العيافة والطرق والطيرة من الجبت)، وحديث ابن مسعودٍ: الطيرة شرك، الطيرة شرك.
فالحاصل أنَّ هذه الأشياء من عمل الجاهلية، وهي مُنكرة، وهي من الجبت ..... في الجبت: إنه السحر، كما قال عمر، وقيل: الجبت: الشيء الذي لا خيرَ فيه، وهو الباطل. وقيل: الجبت: إنه الصنم المعبود من دون الله. وقيل غير ذلك.
والحاصل أنَّ الجبت هو الشيء الذي لا خيرَ فيه، والشيء الباطل الذي لا فائدةَ فيه، ولا خير فيه، فالمعنى: أنها من الشيء الذي لا خيرَ فيه، بل فيه الشَّر.
والمقصود من هذا الزجر عن هذه الأشياء، والنَّهي عنها، وألا يتأسَّى بالجاهلية فيها، فإنَّ الجاهلية أخطأوا فيها وغلطوا، فليس من زجر الطير فائدة، ولا في الخطِّ فائدة، ولا في الطيرة فائدة، كلها باطلة، فالطيور ليس عندها شيء وإن زجروها، وإن تيامنت أو تشاءمت، والخطوط لا فائدةَ فيها، وإنما يُلبسون على الناس باتِّباع الجنِّ، والأخذ بأقوال الجن والشياطين، والطيرة لا خيرَ فيها ولا فائدة، وإن زعموا أنَّ فيها فائدةً فهي باطلة.
ولأبي داود والنَّسائي وابن حبان، المسند منه يعني: المرفوع، وهو قوله ﷺ: إنَّ العيافة .. إلى آخره.
أما قوله: "العيافة: زجر الطير، والطرق: الخطّ، يخطّ في الأرض" هذا ليس عند النَّسائي وأبي داود، بل هو عند أحمد رحمه الله.
وحديث ابن عباسٍ يدل على أنَّ تعلم النجوم للتأثير، وزعم أنه يكون كذا ويحصل كذا إذا طلع النجمُ الفلاني، أو غاب النجم الفلاني، أو صارت ..... الفلانية، كله من أقوال المنجمين والمشعوذين الذي لا وجهَ له، بل هو باطل.
المقصود أنَّ التَّعلق بالنجوم، والزعم أنَّ لها تأثيرًا في الكون: في الحوادث، في موت فلانٍ، أو حياة فلانٍ، أو زوال ملك فلانٍ، أو ملك فلانٍ، كل هذا باطل لا أصلَ له؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر، زاد ما زاد يعني: كلما زاد اقتباسه في النجوم زاد اقتباسه في السِّحر والشَّر.
فالتَّعلق بالنجوم على أنها تدل على كذا -على الحوادث- هذا هو التَّنجيم المنكر، وتأتي له ترجمة خاصَّة إن شاء الله، فالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية هذا هو التَّنجيم، وهذا هو الباطل، أما الاستعانة بالنجوم وسيرها على منازل الناس، وعلى القبلة، وعلى أوقات البذر والحرث، هذه ليس فيها شيء، يقال لها: علم التَّسيير، وليس علم التأثير، ولكنه علم التسيير، وهذا الصواب فيه أنه لا حرج فيه أن يتأسَّى بالنجوم في طرق البلدان، وفي جهة القبلة، وفي أوقات الصيف والربيع والشتاء، ونحو ذلك، مثلما قال جلَّ وعلا: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]، هذا يُقال له: علم التَّسيير، علم الشيء بالكواكب حتى يُستدلَّ بها على منازل الناس، ومياههم، وقبلتهم، وأوقات الزمان: الصيف والشتاء والربيع والخريف، وأشباه ذلك، هذه لا بأس بها، ولا حرج فيها على الصحيح، وإنما المنكر علم التأثير: الاحتجاج بالنجوم، والتَّعلق بها على أنه يقع كذا، ويكون كذا، وإذا طلعت الثُّريا صار كذا، مات فلان، انتقل فلان إلى كذا، سقط ملك فلانٍ، وإذا طلع النجم الفلاني صار كذا، وإذا اجتمع النجم الفلاني والنجم الفلاني صار كذا، هذا هو الذي أنكره العلماء، وهو المراد بالحديث: مَن اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السِّحر، زاد ما زاد يعني: زاد في اقتباس السحر وعلم النجوم ما زاد في تعلمه النجوم، وما يظنّ أنه يُؤثر على الناس.
س: بعض الناس إذا دخل شهرُ صفر لا يُزوج ولا يتزوج؟
ج: هذا من باب التَّشاؤم بالزمان، وهذا غلط، وهذا من عمل الجاهلية، وبعضهم يتشاءم بشوال، وهذا غلط أيضًا.
يقول المؤلفُ رحمه الله: (وللنَّسائي)، والنَّسائي هو أبو عبدالرحمن، إمام كبير من العلماء يُقال له: النَّسائي، أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النَّسائي. النسائي [نسبة إلى] بلدٍ معروفة في الشرق يُقال لها: نسا، نُسب إليها، وهو إمام من أئمة الحديث، وهو صاحب السنن المعروف.
روى رحمه الله: هنا ذكره المؤلفُ بصيغة الوقف، والحديث رواه النَّسائي مرفوعًا عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومَن سحر فقد أشرك، ومَن تعلق شيئًا وُكِلَ إليه.
أراد المؤلفُ بهذا بيان ما أشار إليه فيما تقدم في شيءٍ من أنواع السحر، وأنَّ العقد والنَّفث من أنواع السِّحر، مَن عقد عقدةً ثم نفث فيها -يعني- من السَّحرة الذين يعقدون العقد وينفثون فيها بأنفسهم الخبيثة، وأرواحهم الشريرة، مع ما ينضم إلى هذا من خدمتهم للشياطين، وتعاملهم مع الشياطين، فيقع بعض ما أرادوا بإذن الله ، كما قال تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فقد يقع ما أرادوا بإذن الله الكوني القدري، قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق]، وهن السَّواحر.
فالسحر قسمان:
قسم يكون بالعقد والنَّفث والأدوية التي تضرّ، وهذا موجود، وله وجود.
وقسم يكون من باب التَّخييل والتَّلبيس والتَّزوير، كما قال تعالى عن أصحاب فرعون: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، وقال في الآية الأخرى: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، سمَّاه: سحرًا عظيمًا؛ لما فيه من التَّلبيس والتَّخييل والتَّزوير على الناس، والتلبيس عليهم.
ومَن سحر فقد أشرك، مَن سحر يعني: مَن تعاطى الشِّرك فقد أشرك؛ لأنه يقوم بعبادة الشياطين، وعبادة الجن، والتَّعلق عليهم، ودعائهم، والاستغاثة بهم، والنَّذر لهم، والذبح لهم، فيقع الشِّرك بذلك؛ ولهذا قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة:102]، فدلَّ على أنَّ تعلم السِّحر يُوجب الكفر، نسأل الله العافية: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102- 103].
هذا كله يُبين لنا قبح السحر، وأنه ضد الإيمان، وضد التقوى، وأنَّ مَن اشتراه فقد هلك، وليس له عند الله من خلاقٍ؛ ولهذا كتب عمرُ إلى عمَّاله في الشام أن يقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ؛ لما في تعاطيهم السِّحر من الفساد والشَّر على الناس.
وثبت عن حفصة -أم المؤمنين رضي الله عنها- أنها قتلت جاريةً لها سحرتها، وهكذا جندب قتل الساحر المعروف.
المقصود أنَّ السحرة شرهم كبير، والغالب عليهم أنَّ سحرهم يكون بواسطة الشياطين وخدمة الجنّ ودعائهم من دون الله، أما مَن كان سحره بدون ذلك من أدويةٍ تضرّ الناس، وأشياء يحصل بها ضرر، هذا غير ما يتعلق بالسحر المعروف، هذا يُعاقب بما يستحقّ مما يتعاطى مما يضرّ الناس في أبدانهم، أو في عقولهم.
والحاصل أنَّ ما يُسمَّى: سحرًا بحيث يحصل به التَّخييل والتَّزوير على الناس والتَّلبيس، أو تحبيب المرأة إلى زوجها، أو الزوج إلى امرأته، أو صرف الناس عن حبٍّ إلى بغضٍ، أو عن حبٍّ إلى بغضٍ بسبب ما يتعاطى من أعمال الشَّعوذة، فهذا هو السِّحر الذي يكفر صاحبه، ويجب أن يُقتل إذا عُرف بذلك.
والحديث هذا وإن كان فيه ضعفٌ فإنه من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقد ذكر جمعٌ من أهل العلم أنه لم يسمع من أبي هريرة، فيكون فيه انقطاع، وهو من رواية أيضًا ..... عباد بن ميسرة فيه ضعف، لكن له شواهد من حيث المعنى؛ ولهذا ذكره المؤلف رحمه الله، وحسَّنه ابنُ مفلح لشواهده.
قال: ومَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه هذا معناه أنَّ مَن تعلَّق على الله كفاه الله ما أهمَّه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، ومَن تعلَّق على السِّحر والتَّمائم والشَّعوذة والشَّياطين خاب وخسر، ووكله اللهُ إليهم، نسأل الله العافية.
ففي هذا الحثّ والتَّحريض على التَّوكل على الله، وأنه يكفي مَن توكل عليه: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني: كافيه. فالتوكل على الله لازم وفريضة، أما التوكل على التِّولة والتَّمائم والسِّحر والشياطين فهذا معناه الخذلان والضَّلال والهلاك، نسأل الله العافية.
وحديث ابن مسعودٍ عن النبي ﷺ أنه قال: ألا أُنبئكم ما العضه؟.
"أُنبئكم" أي: أُخبركم، "ما العضه" هكذا ضبطه المحدِّثون: بالعين المفتوحة، والضاد الساكنة، والعضه معناه: الكذب، ومعناه: النَّميمة، ومعناه: السحر. قال في "القاموس": عضه: كذب وسحر ونَمَّ. ويُطلق "العضه" على النَّميمة، وعلى السحر، وعلى الكذب؛ ولهذا ذكر المؤلفُ هذا الحديث هنا؛ لأنَّ السِّحر يحصل به البُهتان، ويحصل به الكذب، ويحصل به التَّلبيس؛ ولهذا سُمي: عَضهًا؛ لما يحصل به من الكذب والتَّلبيس على الناس، والغشّ، والخيانة، والضَّرر.
قال: العضه هي النَّميمة، القالة بين الناس: النَّميمة، تُسمَّى: عضهًا؛ لأنها تضرّ الناس، ويترتب عليها من الكذب والفرية وشحن القلوب ما يترتب، وهي القالة بين الناس، فإنه سمَّاها: بهتًا، وسمَّاها: سحرًا؛ لما فيها من الشَّر والفساد، كما أنَّ السحر فيه شرٌّ وفسادٌ؛ ولهذا قال يحيى ابن أبي كثير كما روى عنه ابن عبدالبر، قال: يُفسد النَّمام والكذَّاب في الساعة أكثر مما يُفسد الساحر في السنة. يُفسد الكذَّاب ويُفسد النَّمام في الساعة الواحدة أكثر مما يُفسده السَّاحر في السنة، فالكذَّابون والنَّمامون شرهم كبير، وبلاؤهم عظيم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنةَ نمَّامٌ، فهذا فيه الحذر من الكذب والنَّميمة وتعاطي أنواع السحر، وأنها شرٌّ بين الناس، وفسادٌ بين الناس.
والحديث الثالث حديث ابن عمر: يقول المؤلفُ: (ولهما عن ابن عمر مرفوعًا): إنَّ من البيان لسحرًا.
إنَّ من البيان يعني: الفصاحة والبلاغة لسحرًا، فالبليغ صاحب البيان قد يسحر الناس ببيانه وأسلوبه وفصاحته، فربما لبَّس عليهم الأمر، وربما خفت عليهم الحقائق وخدعهم.
فأصل الحديث قال الجمهور: إنه للنَّدب والدلالة على البيان إذا كان في الحقِّ.
وقال آخرون: بل هو للذَّم والعيب. حكاه ابنُ عبدالبر عن جماعةٍ، ورجَّح الأول وقال: إنه للمدح إذا كان في الحقِّ والهدى، فالبيان في نصر الحقِّ وبيانه والدَّعوة إليه ممدوح، أما البيان في تلبيس الأمور وأخذ الأمور بغير حقٍّ فهذا مذمومٌ، ومن هذا ما يُروى عنه أنه قال: إنَّ الله يبغض البليغَ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرةُ بلسانها.
فالمقصود أنه إذا كان البيانُ لنصر الحقِّ كما جاء كتابُ الله بأعظم بيانٍ، وهكذا جاءت السنةُ، فهذا ممدوح وطيب، أما إذا جاء البيانُ للبس والتَّخليط والخداع وأخذ الأمور بغير حقِّها فهو على الذَّم والعيب، والحديث يحتمل: إنَّ من البيان لسحرًا يحتمل هذا وهذا، وقد حمله الجمهورُ على المدح إذا كان في حقٍّ، فإنه يُوضح الحقائق، ويُبين الأمور؛ حتى لا يخفى هناك شيءٌ على طالب الحقِّ، وعلى مُريد الحقِّ، كما جاء كتابُ الله بذلك، وسنةُ الرسول بذلك في أوضح البيان، في بيان الحقائق، وإيضاح الأوامر والنَّواهي. ويكون للذَّم إذا أراد به إخفاء الحقيقة، ونشر الباطل، والتلبيس على الناس يكون مذمومًا.
فالسحر هنا الذي هو البيان والإيضاح يُذمُّ في الباطل، ويُمدح في الحقِّ.
ويُروى عن عمر بن عبدالعزيز أنَّ إنسانًا خطب عنده خطبةً بليغةً، فقال له عمر بن عبدالعزيز: "هذا والله هو السِّحر الحلال" الذي يُوضح الحقائق ويُبينها، لكنه بأسلوبٍ لا يخرج عن الطريق المتبعة في بيان الحقِّ وإيضاحه، وعدم التلبيس على الناس، وعدم الخداع، نسأل الله للجميع العافية والسَّلامة.
س: ..............؟
ج: المعروف أنه من الملائكة.
س: إذا كان ساحرٌ يُقتل حدًّا أو كفرًا؟
ج: يُقتل كفرًا، نسأل الله العافية؛ لأنه تعاطى الشِّرك وعبادة الجنِّ، ولا يُستتاب على الصحيح، نسأل الله العافية.
باب ما جاء في الكُهَّان ونحوهم
روى مسلم في "صحيحه" عن بعض أزواج النبيِّ ﷺ، عن النبي ﷺ قال: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ فصدَّقه لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا.
وعن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ رواه أبو داود.
وللأربعة والحاكم -وقال: صحيح على شرطهما- عن أبي هريرة: مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ.
ولأبي يعلى بسندٍ جيدٍ عن ابن مسعودٍ مثله موقوفًا.
وعن عمران بن حصين مرفوعًا: ليس منا مَن تطير أو تُطير له، أو تكهَّن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ رواه البزار بإسنادٍ جيدٍ.
ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ حسنٍ من حديث ابن عباسٍ، دون قوله: ومَن أتى .. إلى آخره.
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب ما جاء في الكُهَّان ونحوهم) نحوهم يعني: العرَّافين والرَّمالين والسَّحرة ونحوهم ممن يُشابههم في دعوى علم الغيب.
والكاهن هو الذي له رئي من الجنِّ.
المنجم يعني: صاحب من الجنِّ يُخبره عن بعض المغيبات، مثل: اليوم صاحب الزَّار، يعني: عنده جني فيُخبره ببعض الغيوب، يُسمونه: كاهن، ويقال: له رئي من الجنِّ، أي: له صاحب من الجنِّ.
حكمهم أنه يجب القضاء عليهم، وتعزيرهم، ومنعهم من تعاطي هذه الأعمال، وأما الحكم في تكفيرهم فهو محلُّ بحثٍ يأتي إن شاء الله.
المقصود أنَّ الكهَّان ونحوهم لا يُصدقون، ولا يُسألون؛ لأنهم يدَّعون علم الغيب، أو يتخرَّصون ويدَّعون أشياء لا صحةَ لها، فمثلهم لا يُسأل، ولا يُصدق؛ ولهذا ذكر المؤلفُ الأحاديثَ الدالة على ذلك في الباب:
منها ما رواه مسلم في "صحيحه" عن بعض أزواج النبيِّ ﷺ أنه قال: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا. هذا الحديث رواه مسلم في الصحيح عن بعض أزواج النبي ﷺ، قال المخرجون لهذا الحديث: إنها حفصة رضي الله عنها. والذي في مسلم ليس فيه: فصدَّقه، والمؤلف هنا قال: فصدَّقه، فلعلَّ المؤلفُ رحمه الله وهم بهذه الكلمة، أو نقلها من نسخةٍ فيها هذه الزيادة، أو نقلها ممن نقل ذلك عن مسلم فزاد كلمة "صدَّقهم"، والذي رأيناه في مسلم وتتبعناه في روايات مسلم ليس فيها هذه الزيادة، إنما في رواية مسلم: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا، هذا يدل على أنَّ السؤال المجرد لا يجوز؛ لأنه وسيلة إلى التَّصديق؛ ولأنَّ في سؤالهم إظهارًا لشأنهم، وتعظيمًا لقدرهم، وإظهارًا لأمرهم بين الناس، وتقديرًا لما يقومون به من جهودٍ، فيسألهم الناس، ويرجع إليهم الناس، وفي هجرهم وفي ترك سؤالهم تلافيًا لهم، وإغفال لهم، وعدم رفع شأنٍ لهم، فلا يجوز سؤالهم ولو لم يصدقوا؛ لأنَّ سؤالهم وسيلة إلى التَّصديق؛ ولأنه وسيلة أيضًا إلى أن يتَّصل بهم الناس، ويعظم أمرهم الناس؛ ولهذا لما سُئل رسول الله عن الكهَّان قال: ليسوا بشيءٍ، قال: لا تأتوهم، هو من جنس هذا، من جنس النَّهي عن سؤالهم: لا يُؤتون، ولا يُسألون؛ احتقارًا لهم، وإعراضًا عنهم، وإماتةً لشأنهم.
وفي اللفظ الثاني: مَن أتى كاهنًا، في حديث أبي هريرة: مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ، وفي اللفظ الثاني: مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
هذا يدل على أنه لا يجوز تصديقهم، ولا سؤالهم، فلا يجوز سؤالهم؛ لأنه وسيلة إلى التَّصديق؛ ولأنَّ فيه شيئًا من رفع شأنهم، وإظهار أمرهم، ولا تصديقهم؛ لأنهم يدَّعون الغيب، أو يتخرَّصون، فالمتخرِّص لا يُصدق، ومُدَّعي علم الغيب كذلك، ومَن صدَّقهم في علم الغيب كفر؛ لأنَّ علم الغيب إلى الله ، والكاهن إذا ادَّعى علم الغيب كفر أيضًا، فإذا كان يتخرَّص أو يظنّ وجب تعزيره والقضاء عليه؛ حتى يتمنع من هذا الأمر القبيح المنكر، لكن مَن ادَّعى علم الغيب من الكاهن أو الرَّمال أو غيرهم، أو ادَّعاه مَن يأتيهم ومَن يُصدقهم كفر بما أُنزل على محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الله قال: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، فمَن صدَّقه فقد كذَّب هذه الآية، وكذَّب قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [هود:123]، إلى غير ذلك، فلا يجوز سؤالهم، ولا تصديقهم.
والكهنة والرَّمالون والمنجمون والعرَّافون وأشباههم يأتي بيانهم في كلام البغوي رحمه الله، وهم أناسٌ يدَّعون علم الغيب بأشياء تارةً من طريق الشياطين ومُسترق السَّمع، وتارةً من طريق التَّنجيم، وتارةً من طريق التَّخرص والشَّعوذة، يخطُّون خطوطًا، ويفعلون أشياء يُشعوذون بها، ولا حقيقةَ لها، فسؤالهم وتصديقهم كله منكر، وكله لا يجوز، والواجب على المؤمن أن يحذر هذه الأصناف، ويتباعد عن سؤالهم، والمجيء إليهم، أو تصديقهم بشيءٍ، وأن يُؤمن بأنَّ الله هو الذي يعلم المغيبات، ليس عند هؤلاء شيء من ذلك.
وهكذا حديث ابن مسعودٍ الذي رواه أبو يعلى: حديث ابن مسعودٍ بإسنادٍ جيدٍ عن ابن مسعودٍ موقوفًا، هذا الموقوف من جنس المرفوع؛ لأنَّ ابن مسعودٍ ما يقوله من جهة رأيه، بل معناه أنه ينقله عن النبي ﷺ، هذا لا يُقال من جهة الرأي، فإذا قال ابنُ مسعودٍ: "مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ"، معناه أنه ينقل هذا عن النبي ﷺ؛ لأنَّ هذا لا يُقال من جهة الرأي.
كذلك رواية عمران: "ليس منا مَن تكهَّن أو تُكُهِّن له، أو تُطير أو تُطِير له، أو سَحَر أو سُحِرَ له"، يعني: ليس منا مَن فعل ذلك، هذا وعيد يُفيد الحذر من هذه الأمور؛ لأنَّ "ليس منَّا" عبارة تدل على التَّحذير والتَّرهيب، وأنه ليس من أهل الإسلام، وليس من المتبعين للنبي ﷺ مَن يتعاطى هذه الأمور، وهذا وعيد شديد يُفيد الحذر، وظاهره تكفيره.
فالمقصود أنه يجب الحذر، أما التَّكفير فيُؤخذ من أدلةٍ أخرى تدل على التفصيل، لكن يُفيدنا هذا الحديث أن التَّطير لنفس الإنسان أو لغيره، والتَّكهن لنفس الإنسان أو لغيره، والسحر لنفسه أو لغيره كله منكر، وكله لا يجوز؛ ولهذا قال: "ليس منا مَن تَطير أو تُطِير له" يعني: تطير لنفسه، أو تطير له غيرُه برضاه، أو تكهَّن لنفسه، أو تكهَّن له غيره برضاه، أو سحر هو بنفسه، أو سُحر له، يعني: تُعوطي السِّحر من أجله.
ومَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ، هذا مثلما تقدم يُفيد أنه لا يجوز للإنسان أن يفعله بنفسه، ولا يرضى أن يفعله غيرُه من أجله، ما يرضى أن يتطير له، يقول له: تطير لي، وسفري مناسب أو ما هو مناسب، أو زواجي مناسب أو ما هو مناسب، لا يجوز له أن يتطير له أحد.
وهكذا التَّكهن له، أو كونه يتكهن بنفسه هو، يعني: يسأل الجنّ أو الشياطين، أو يتعلم من النجوم لعلم الغيب، أو ما أشبه ذلك، وتقدم لك من حديث ابن عباسٍ قوله ﷺ: مَن اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السِّحر، زاد ما زاد، فالتطير والتَّكهن والسِّحر كله منكر، وكله مما يجب الحذر منه، وأما التَّكفير ففيه التَّفصيل كما تقدم، وفَّق الله الجميع.
..............
قال البغوي: العرَّاف: الذي يدَّعي معرفة الأمور بمُقدمات يستدلّ بها على المسروق ومكان الضَّالة، ونحو ذلك.
وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يُخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يُخبر عمَّا في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العرَّاف: اسمٌ للكاهن والمنجم والرَّمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباسٍ في قومٍ يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: "ما أرى مَن فعل ذلك له عند الله من خلاقٍ".
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (وقال البغوي) البغوي هو صاحب التفسير المعروف، حسين المعروف رحمه الله، المتوفى سنة 516، يقول رحمه الله: العرَّاف هو الذي يدَّعي معرفة الأمور بمُقدمات، يعني: بأشياء ينظمها يستدلّ بها على المسروق ومكان الضَّالة ونحو ذلك، يقال له: عرَّاف، وقد يكون يعرفها بالآثار، بآثار الدَّابة ورعيها ونحو ذلك، وهذه تقع للناس، هذه الأمور قد تقع للناس، لكن لا يكون من العرَّافين المذمومين، وإنما يُذمُّ إذا ادَّعى بها علم الغيب، أما إذا كان يستدلّ على المسروق ومكان الضَّالة بطرق حسيةٍ معروفة فليس من هذا الباب، لكن مُراده الذي يدَّعي بهذه الأشياء علم الغيب، فيُسمَّى: عرَّافًا، وقيل: هو الكاهن، فالكاهن يُسمَّى: عرَّافًا، والعرَّاف يُسمَّى: كاهنًا إذا كان يدَّعي علم الغيب، والكاهن هو الذي يُخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يُخبر عمَّا في الضمير: فلان أراد كذا، وأراد كذا، مما يتلقاه عن رئيه من الجنِّ، وعن شياطينه.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العرَّاف يشمل الكاهن والمنجم والرَّمال ونحوهم ممن يدَّعي معرفة الأمور الغائبة بهذه الطرق الخبيثة.
هذه المقالات من البغوي، ومن غير البغوي، ومن شيخ الإسلام ابن تيمية معناها: أنَّ العرَّافين والكهنة والمنجمين والرَّمالين هم الذين ذمَّهم الشارع وعابهم، وحذَّر من إتيانهم وسؤالهم، حتى قال عليه الصلاة والسلام: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا، وقال: مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ عليه الصلاة والسلام كما تقدم، وقال: ليس منا مَن سَحر أو سُحر له، أو تَطير أو تُطير له، أو تُكهن أو تُكهن له، كل هذا تقدم.
فالمراد بهؤلاء هم الذين يدَّعون أمور الغيب بهذه الطرقات التي يزعمونها: تارة من طريق التَّنجيم، والتقاء بعض النجوم، وخروج هذا النجم، وسقوط هذا النجم، إلى غير ذلك. وتارةً بأشياء أخرى يتلقونها عن الشياطين. وتارةً بالرمل، يطلبون بالرمل فيجعلون هناك حصًى وأشياء ينظمونها في الأرض. وتارةً بغير ذلك من الأمور، هؤلاء يُسمون: الكهنة، ويُسمون: العرَّافين، فلا يجوز سؤالهم، ولا تصديقهم؛ لأنهم بهذه الطرق التي سلكوها يدَّعون علم الغيب، ويزعمون أنهم يُدركون أشياء من علم الغيب، فيُلبسون بها على الناس، ويأخذون أموالهم: هذا أصابه كذا، وهذا أصابه كذا، وهذا سوف يُصيبه كذا، وهذا العام العاشر يُصيبه كذا، كله رئي بالغيب وكذا، وقد يقع لهم شيء من الصِّدق، لكنه نادر، لكن العامَّة وأشباه العامَّة يتعلَّقون بكلمةٍ، ويُعرضون عن آلاف الكلمات الباطلة، كما في الحديث الصحيح المتقدم -حديث أبي هريرة- فيُقال: قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا، قد صدق، فيُصدقون واحدةً، ويجعلون بقية كلامه مثلها، يعني: يجعلونه صادقًا في الجميع بسبب ميول الناس إلى الباطل، وتعلُّقهم بما يُوافق أهواءهم؛ فلهذا يُصدِّقون العرَّافين والكهنة والمنجمين والرَّمالين وأشباههم.
فالواجب على المسلم أن يحذر هؤلاء، وألا يُصدقهم: لا فيما يتعلق بالأمراض، ولا فيما يتعلق بالحوادث، ولا فيما يتعلق بالسَّرقات، ولا في غير ذلك، مَن عُرف بهذه الطرق يجب تجنبه، وألا يُؤتى، وألا يُصدَّق، وألا يُسأل؛ لأنَّ الرسول منع من هذا عليه الصلاة والسلام؛ ولأنَّ تصديقه يُوجب وقوع الناس في شرٍّ كثيرٍ، ومفاسد عظيمةٍ، واعتقادٍ لغيوبٍ لا يعلمها إلا الله .
والشيطان قد يسمع في استراقه السَّمع، وقد يُلقي إلى الكاهن ونحوه فيصدق في واحدةٍ سمعها من السَّماء باستراقه السمع، ولكن يزيد معها ما لا يُحصى من الكذب الكثير الذي يضرّ الناس ويغشّهم ويُسبب وقوعهم في معاطب كثيرةٍ، فلا يجوز للمؤمن أن يصدق هؤلاء، ولا أن يسألهم، ولا أن يأتيهم، ولكن يُعالج بالأشياء التي أباحها الله، أو من طريق الأطباء المعروفين بالعلاج المعروف، بالأشياء المحسوسة: من مأكولٍ، ومشروبٍ، ومن دهانٍ، وغير ذلك، أما ما يتعلق بعلم الغيب فهذا لا يجوز سؤالهم، ولا تصديقهم، ولا إتيانهم.
وهكذا ما قال ابنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنه في قومٍ يكتبون أبا جاد، يعني: حروف أبجد: أ، ب، ت، ث، ج، هذه يُقال لها: حروف أبجد، حروف الهجاء، يكتبون حروفًا ويضمون بعضها إلى بعضٍ ويقولون: يقع كذا، ويقع كذا، ويقع كذا، يقول: "ما أرى لهم عند الله من خلاقٍ" يعني: من حظٍّ، ولا نصيبٍ؛ لأنهم إذا فعلوا هذا وادَّعوا علم الغيب كفروا، فالذي يجمع الحروف ويقول: سوف يقع كذا، وسوف يقع كذا، وإذا حلَّ النَّجمُ الفلاني في كذا، أو يجمع حصيات أو ودعًا أو غير ذلك، يضمّ بعضها إلى بعضٍ، أو يجعل لها حفرًا، أو خطوطًا، يجعل هذه على المحل الفلاني، وهذه على المحل الفلاني، وهذه في الزاوية الفلانية، ثم يقول: هذا يدل على كذا، ويقع كذا. كل هذا من أعمالهم الباطلة، كل هذا من دعواهم علم الغيب بالطرق الباطلة، فالواجب الحذر منهم، وألا يُؤتون، وألا يُسألون، نسأل الله السَّلامة والعافية.
...............
باب ما جاء في النّشرة
عن جابرٍ: أنَّ رسول الله ﷺ سُئل عن النّشرة، فقال: هي من عمل الشيطان.
رواه أحمد بسندٍ جيدٍ، وأبو داود، وقال: سُئل أحمد عنها فقال: ابن مسعودٍ يكره هذا كلَّه.
وفي البخاري عن قتادة: قلتُ لابن المسيب: رجلٌ به طبٌّ، أو يُؤخذ عن امرأته، أيحلّ عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يُريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينهَ عنه. اهـ.
ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يحلّ السحر إلا ساحر.
قال ابنُ القيم: النّشرة حل السِّحر عن المسحور، وهي نوعان:
أحدهما: حلٌّ بسحرٍ مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن، فيتقرب النَّاشر والمنتشر إلى الشيطان بما يُحبّ، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النّشرة بالرقية والتَّعوذات والأدوية والدَّعوات المباحة. فهذا جائزٌ.
الشيخ: هذا الباب في النّشرة: (باب ما جاء في النشرة) النشرة: حلّ السحر من المسحور، يقال: نشر عنه إذا حلَّ عنه ما أصابه.
عن جابرٍ رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه سُئل عن النّشرة فقال: هي من عمل الشيطان رواه الإمامُ أحمد وأبو داود بإسنادٍ جيدٍ.
هذا الحديث يدل على أنها منهيٌّ عنها، وهي النّشرة التي تُعرف عند الجاهلية؛ لأنَّ فيها "ال" للعهد الذِّهني، يعني: النشرة المعروفة عند أهل الجاهلية من الكفرة هي حلّ السحر عن المسحور بسحرٍ مثله، فقال النبيُّ فيها: إنها من عمل الشيطان؛ لأنَّ الساحر يتقرب إلى الشياطين بما يُحبون من عباداتهم، والنذر لهم، والذبح لهم، ودعائهم، والاستغاثة بهم، والسجود لهم، ونحو ذلك، فيُسعفونه في بعض مطالبه التي يطلب منهم: من بيان بعض الأشياء التي تخفى عليه: كعمل الساحر، وما حصل من الساحر لهذا المسحور؛ فلهذا قال فيها النبيُّ: إنها من عمل الشيطان؛ لأنَّ الشيطان يدعو إلى كل شرٍّ، ويدعو إلى كل فسادٍ، ويدعو إلى الشِّرك، فالنّشرة التي يتقرب بها الإنسانُ إلى الشيطان هي من عمل الشيطان.
ولما سُئل أحمد عن هذا قال: "ابن مسعودٍ يكره هذا كله"، يعني: عبدالله بن مسعود الصَّحابي الجليل يكره هذا كله، يعني: يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، وهي التي يتقرب فيها للسحرة، ويطلب من السحرة أن يحلّوا ما فعلوا، هذه التي من عمل الشيطان، وينهى عنها لما فيها من طاعة الشياطين وخدمتهم والتَّقرب إليهم بأنواع العبادة.
وسُئل ابن المسيب عن هذا فقال: "لا بأس به؛ إنما يُراد به الإصلاح". لما سُئل عن الرجل يُؤخذ عن امرأته، يعني: يُحبس عن امرأته، أو يُصاب بالسحر، فقال: "لا بأس به"، إنما يُنهى عمَّا لا ينفع، أما ما ينفع فلا يُنهى عنه؛ ولهذا قال: "إنما يُراد به الإصلاح"، فأما ما ينفع فلا يُنهى عنه.
فكلام ابن المسيب محمولٌ على الحلِّ الذي لا بأس به، وهو الحل بالرقية والتَّعوذات والأشياء المباحة، فهذا من باب الإصلاح، والإصلاح مأمورٌ به، والمنكر منهيٌّ عنه، فما ينفع فلا يُنهى عنه، وما لا ينفع لا يُنهى عنه، إذا كان الذي ينفع لا بأس به، ولا محذور فيه، فإنه يُباح التَّنشر به، والحلّ به: من قراءات، وتعوذات، وأدوية مباحة.
قال الحسن: "لا يحلّ السِّحر إلا ساحر"، يعني: لا يحله بالطرق الشيطانية إلا السحرة، أما حلّه بالطرق الإيمانية وبالطرق الشرعية فهذا يحلّه أهلُ العلم والبصائر، وأهل الخبرة والتَّجارب، فيُحلونه بأنواع من الأدوية والتَّعوذات والقراءة فيزول عن المسحور، كما حلَّ اللهُ السحرَ عن النبي ﷺ بالمعوذتين.
(قال العلامة ابنُ القيم رحمه الله) وهو أبو عبدالله محمد ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية، الإمام المشهور، والعالم الكبير، المتوفي 751، يقول: "النّشرة: حلّ السحر من المسحور" يعني: إزالة ما به من السحر، قال: وهي نوعان:
أحدهما: حلٌّ بسحرٍ مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن: "لا يحلّ السحر إلا ساحر"، فهذا هو المنهي عنه، وما يُتقرب به إلى الشياطين من طريق السَّحرة بالعبادات: بالنُّذور، بالذَّبح، بنحو ذلك، هذا هو المنكر، وهذا هو المنهي عنه.
النوع الثاني: حلٌّ بغير ذلك: كالتَّعوذات، والرقية، والدَّعوات، والأدوية المباحة، فهذا لا بأس به، ومن ذلك أن يقرأ عليه سورة الفاتحة، وتُكرر، أو آية الكرسي، أو يقرأ عليه كلتاهما: الفاتحة وآية الكرسي، ومن ذلك أن يقرأ عليه آيات السحر التي في الأعراف، وفي يونس، وفي طه، تقرأ عليه مع النَّفث، ومن ذلك قراءة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] والمعوذتين، كل هذه من الرُّقى الشرعية التي ينفع الله بها المسحور والمحبوس عن زوجته أيضًا، كل هذه الرقى الشرعية استعملها العلماءُ، ونفع الله بها المسحورين والمحبوسين عن زوجاتهم.
ومن ذلك ما ذكره بعضُ الأئمة عن كتب المتقدمين: أنه يُؤخذ سبع ورقات سدر أخضر فتُدقّ، ثم تُجعل في الماء، ثم تقرأ فيها آيات السحر المعروفة، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والمعوذتان، ويقرأ فيها آية الكرسي، ثم يشرب منها المسحور أو المحبوس ما تيسر: ثلاث حثوات، ثم يتروش بالباقي فيزول بإذن الله ما أصابه من السحر أو الحبس عن زوجته.
وهذا كله مُجرب، فنفع الله به، وهو نشرة بغير ما يفعله الكفرة، نشرة شرعية بالقرآن والتَّعوذات والأدوية المباحة، وهكذا مَن وجد دواءً جرَّبه ونفع، فهو من هذا الباب إذا كان ليس فيه محذور شرعًا: ليس فيه نجاسة، وليس فيه استعانة بالجنِّ، وليس فيه أشياء مما حرَّم الله، وهذا هو الحقّ والصواب.
وفَّق اللهُ الجميع.
[قال المعلِّق: وهذا الباب لم يُقرأ على سماحة الشيخ].
باب ما جاء في التَّنجيم
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاثٍ: زينةً للسَّماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها. فمن تأوَّل فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علمَ له به" انتهى.
وكره قتادةُ تعلم منازل القمر، ولم يُرخص ابنُ عيينة فيه. ذكره حرب عنهما.
ورخَّص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسولُ الله ﷺ: ثلاثة لا يدخلون الجنَّة: مُدمن الخمر، ومُصدق بالسحر، وقاطع الرحم رواه أحمد وابن حبان في "صحيحه".
الشيخ: قال المؤلفُ: (باب ما جاء في التَّنجيم) في كتابه: كتاب التوحيد، لما كان التَّنجيم شائعًا بين الناس، وله مَن يتبعه ويبني عليه أشياء، ذكر هذا في كتاب التوحيد تنبيهًا على بطلان التَّنجيم.
والتنجيم مصدر: نجَّم يُنجم تنجيمًا، يعني: حجر وحبس بما يعتقده في النجوم، والتَّنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، يُسمَّى: تنجيمًا، يعني: النظر في النجوم، واجتماعها، وافتراقها، وطلوعها، وغروبها، وتقاربها، وتباعدها، يستدلون به على أنه يقع كذا في الأرض، ويقع كذا، ويقع كذا، وهو باطلٌ، وهو من دعوى علم الغيب الباطلة التي أبطلها الله في قوله سبحانه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وفي قوله سبحانه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [هود:123].
المقصود أنَّ التنجيم من دعوى علم الغيب، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، هذا هو مقصود المؤلف من هذا الباب: بيان التَّحذير منه، وأما النظر في النجوم من باب التَّفكير، من باب معرفة منازل القمر؛ حتى تعلم الأوقات -أوقات الصَّلوات- وحتى تعلم القبلة، وتعلم الطرقات، هذا لا بأس به، كما قال أحمد وإسحاق، وإن كرهه قتادة، وكرهه ابن عيينة، ولم يروا التفصيل، لكن الصواب جواز تعلم المنازل لمعرفة جهات القبلة في الأسفار والبلدان، ولمعرفة أوقات الصَّلوات عند الغيم، وعند الحاجة إلى ذلك، هذه أمور لا بأس بها، ولأوقات الحراثة والفلاحة التي يحصل بها كذا في وقت كذا وفي وقت كذا، هذا لا بأس به.
قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاثٍ"، قتادة هو ابن دعامة –بالكسر- السَّدوسي، من كبار التابعين المعروفين بالرواية عن جماعةٍ من الصحابة، وهو من الثقات المعروفين، وكره قتادة تعلم منازل القمر، قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاثٍ: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها. فمَن تأوَّل فيها غير ذلك وزعم أنها تدل على كذا أو كذا من علم الغيب فقد أخطأ وأضاع نصيبه -يعني: من الآخرة- وتكلَّف ما لا علمَ له به"، قال الله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5]، وقال تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97].
هذا هو علم المنازل ..... هذه من فوائدها، وأما الاستدلال بها على أنه يُولد كذا، ويكون موت كذا، ويحدث كذا، هذا كله لا أصلَ له، بل هو باطل؛ ولهذا قال: (وكره قتادةُ) المذكور (تعلم المنازل) منازل القمر، (ولم يُرخص ابن عُيينة فيه) وهو سفيان بن عُيينة المعروف، العلامة المشهور، المتوفى سنة 198، هذا قول لهما، وهو ضعيف مرجوح عند أهل العلم، ورخَّص بتعلم المنازل أحمد وإسحاق: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وذلك لا بأس به كما تقدم؛ فإن منازل القمر والشمس يُعرف بها الأوقات: أوقات الصَّلوات، وجهات القبلة، وجهات الرياح ..... كلها تُعرف بالمنازل، كما قال الله جلَّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97].
وقال أبو موسى: وهو الأشعري، عبدالله بن قيس الأشعري ، صحابي جليل، يماني، يروي عن النبي ﷺ أنه قال: ثلاثٌ لا يدخلون الجنة: مُدمن الخمر هذا وعيدٌ شديدٌ، هذا من باب الوعيد؛ لأنَّ إدمان الخمر من كبائر الذنوب، وصاحبه تحت المشيئة إذا مات على ذلك، أما إن تاب فالتَّائب لا ذنبَ له، ولكن مُدمن الخمر إذا كان لم يستحلّها فهو عاصٍ، فإن استحلّها فهو كافرٌ -نعوذ بالله.
وقاطع الرحم كذلك، قطيعة الرحم من الذنوب العظيمة والكبائر، كما قال ﷺ: لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ، فهذه قطيعة الرحم من أكبر الكبائر، وكذلك إدمان الخمر من أكبر الكبائر، يقول النبيُّ ﷺ: لا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مُؤمن، ويقول ﷺ: إنَّ حقًّا على الله من الناس مَن يشرب الخمرَ أن يسقيهم من طينة الخبال، قيل: يا رسول الله، ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، أو قال: عرق أهل النار.
وهذا من باب الوعيد، وقد يدخل الجنةَ من أول وهلةٍ ويُعفا عنه، وقد يُعذب في النار في قطيعة الرحم وإدمان الخمر، ثم يكون في الجنة، إذا ماتوا على التوحيد والإسلام يخرجون من النار إلى الجنة كسائر العُصاة؛ لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
أما المصدق بالسحر فهذا هو الذي يدخل الكفر، إذا صدَّق بأنَّ السحر حقٌّ، وأنه يُغير كذا، ويُغير كذا، وأنَّ صاحبه على حقٍّ ومُصيب، أو أنَّ صاحبه يعلم الغيب، فهذا يكون كفرًا، ويكون صاحبه ضالًّا وكافرًا، أما إذا صدَّق بأنه موجود، وأنَّ له تأثيرًا، ولكنه حرام ومنكر، فهذا لا حرجَ عليه؛ السحر موجود، وقد أخبر الله عن وجوده فقال: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة:102]، فالسحر موجود، ولكنه مما يتألف من خدمة الشياطين وعبادتهم من دون الله، فالذي يُصدق به، ويرى أنه صواب، وأنه دين، وأنه جائز ولو كان فيه شرك أكبر وعبادة الشياطين، هذا يكون كافرًا والعياذ بالله؛ فلهذا توعد بعدم دخول الجنَّة.
أما مَن اعتقد وجوده، وأنه موجود، ولكنه مُنكر يجب محاربته، ويجب القضاء عليه ومحاربة أهله وقتلهم، هذا هو الحقّ؛ فإنَّ السَّحرة يجب قتلهم، ولا يُستتابون؛ لفسادهم في الأرض، كما تقدم في الباب ما جاء في السحر.
وفَّق اللهُ الجميع، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ.
س: ...............؟
ج: هذا وعيد إذا أُطلق فهو في الكفرة.
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82].
وعن أبي مالك الأشعري : أنَّ رسول الله ﷺ قال: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنِّياحة.
وقال: النَّائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جربٍ رواه مسلم.
الشيخ: (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء) الاستسقاء: طلب السُّقيا، طلب المطر، يعني: طلب الغيث، والاستسقاء شرعه الله بطلبه سبحانه، والضَّراعة إليه، والاستغاثة به أن يغيث العباد عند وجود الجدب والقحط، بدلًا مما عليه أهل الشِّرك من الاستسقاء بالنجوم، وطلبها، والضَّراعة إليها، والميل إليها، والتَّعلق بها، شرع الله للعباد أن يدعو ربَّهم عند وجود القحط، ويسألوه الغيث والمطر؛ حتى يُزيل ما بهم من جدبٍ وحاجةٍ، وشرع لذلك الصلاة مستقلة، وشرع الاستسقاء بدون صلاةٍ، وفي الخطب -خطب الجمعة وغيرها- كله ضراعة إلى الله، وكله دعوة له ، وتوجه إليه بخالص الدعاء حتى يُغيثهم.
أما الكفَّار فكانوا يستسقون بالأنواء، وهي النجوم، وهي ثمانية وعشرون نوءًا ينزلها القمر والشمس في مدارهما، القمر في الشهر، والشمس في السنة، يُقال لها: أنواء، ويقال لها: النجوم، وكان من سنة الجاهلية الاستسقاء بها، والاستغاثة بها، وهذا من شركهم وضلالهم وجهلهم، قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] إلى آخره، وقال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]، أخبر سبحانه أنهم جعلوا حظَّهم ونصيبَهم تكذيبهم بما أخبر الله به، وأنه يُنزل المطر، وأنه مغيث، وأنه الذي بيده التَّصرف، فجعلوا يسألون النجوم، ويستغيثون بها، ويستسقون بها بزعمهم أنها واسطة، وأنها تفعل ذلك بإذن الله، فكذَّبهم الله، وبيَّن أنه هو الذي يسقي ويغيث، وليس عند هذه النجوم شيء من هذا.
فوجب على أهل الإيمان الأخذ بما بيَّنه الرسولُ ﷺ والتَّمسك به، واطِّراح ما عليه أهل الجاهلية؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: أربعٌ في أمتي، من حديث أبي مالك الأشعري، قال: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة يعني: من قبرها وعليها سربال من قطران، سربال يعني: ثوب، لباس، ودرع من جربٍ؛ عقوبةً لها عند قيامها من القبر، غير عقوبة النار، نسأل الله العافية.
فهذا يُبين لنا أنَّ هذه أمور الجاهلية، وأنَّ الغالب على الأمة عدم تركها، وأنه يوجد فيها هذا الشيء: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن يعني: لا ينفع في الناس مَن يتعاطاها ويتأسَّى بالكفرة: الفخر بالأحساب: أنا ولد فلان، وأنا كذا، وأنا كذا، يحتجّ به على باطله، أو على ما يدَّعيه من أمورٍ يتعظم بها، ويفخر بها على الناس.
والأحساب: ما يكون للآباء من مآثر: من شجاعةٍ، أو جودٍ وكرمٍ، أو ما أشبه ذلك من التي تُعدّ كرامةً للرجل، فيفخر بها أولاده؛ للتَّرفع عن الناس، والتعظم بين الناس، وهذا من سُنة الجاهلية، فإنَّ رفعة الإنسان بعمله واجتهاده وما يتعاطاه من خيرٍ، هذا هو الذي يُزكيه عند الله وعند المؤمنين، أما عمل آبائه فلهم، وعمل أجداده لهم، ليس له.
والطَّعن في الأنساب كذلك هذا من سنتهم، يتنقصون الأنساب: فلان فيه كيت، وفلان فيه كيت، فلان نجار، وفلان حداد، على سبيل التَّنقص والعيب، لا على سبيل الخبر، أما الإخبار فلا بأس: فلان حداد، نجار، خراز، حراث، ما في بأس، من باب الإخبار، لكن الذي يُذمُّ التَّحدث عنه من باب التَّنقص، من باب العين، من باب الاحتقار، هذا هو المذموم الذي كانت تتعاطاه الجاهلية.
الثالثة: الاستسقاء بالنجوم، كونهم يستسقون بنجم كذا، وبنوء كذا، أو يسألونها مباشرةً، هذا من سنة الجاهلية.
ومن سُنتهم أيضًا أمر رابع: النياحة، إذا مات ميتهم صاروا يصيحون، ويشقون الثياب، وينتفون الشعور، ويحثون التراب على الرؤوس، هذا من سنة الجاهلية.
وكل هذا يوجد في بعض المسلمين، كل هذه باقية في بعض المسلمين، ورثوها عن الجاهلية، فيجب على المسلم أن يتجرد منها، ويتخلص منها، وألا تبقى فيه هذه السنة الجاهلية، وإن بقيت في بعض الناس، لكن ينبغي على المؤمن أن يُحاربها، وأن يبعد عنها، وأن يُنكرها على مَن فعلها؛ لأنها سنة جاهلية.
وقال عليه الصلاة والسلام: ليس منا مَن ضرب الخدود، أو شقَّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية، وقال عليه الصلاة والسلام: أنا بريءٌ من الصَّالقة، والحالقة، والشَّاقَّة، والصَّالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها، والشَّاقة: التي تشقّ ثوبها عند المصيبة، كل هذا من سنة الجاهلية يجب التَّخلص منه، والحذر منه.
ثم قال ﷺ مُؤكِّدًا للتحذير: النائحة عبَّر بالمرأة لأنَّ الغالب أنه فعل من النساء، الغالب أنَّ هذا النوح من فعل النساء، وقد يفعله الرجال، لكن الغالب أنَّ مَن يتعاطى هذه الأمور هم النساء: النوح، ونتف الشعر، وشقّ الثياب، الغالب عليه أنه من عمل النساء، وهو مُحرم على الجميع.
وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران؛ لأنه أشدّ في اشتعال النار -نعوذ بالله- والأذى، إذا كان هناك قطران ودرع من جربٍ يكون فيه الأذى والحكَّة والشَّر على مَن لبس هذا الدِّرع.
والحاصل من هذا أنه بيان لسوء عاقبتها، وسوء مُنقلبها، وسوء انتشارها من قبرها، نسأل الله العافية؛ لهذا العمل السيئ، إلا أن تتوب، فمَن تاب تاب اللهُ عليه، مَن تاب من الذنوب: من الشرك أو المعاصي تاب الله عليه؛ ولهذا قال: إذا لم تتب قبل موتها، فالتوبة تكون قبل الموت، فمَن تاب قبل الموت توبةً صادقةً: من شركٍ، أو معصيةٍ نهاه الله عنها، إذا ندم على الماضي وأقلع عن المعصية وعزم ألا يعود فيها؛ تعظيمًا لله، ورغبةً فيما عنده، تاب الله عليه من سائر الذنوب فضلًا منه وإحسانًا .
س: ...............؟
ج: هذه أمور عادية بين الناس، إذا كان ليس عن احتقارٍ قد تأبى عليه جماعته، قد يعيفونه، وقد يُؤذونه، لا بأس؛ لأنَّ العرب والعجم والموالي قد يأخذ بعضُهم، وقد لا يأخذ بعضُهم من بعضٍ، فالأمر واسع، وهو جائز أن يأخذ من الموالي، أو ما يُسمَّى .....، أو من العجم، فلا بأس أن يتزوج منهم مُصاهرةً، أو عاشرهم ..... إيمانهم وتقواهم، هذا هو الحقّ؛ لأنَّ الدِّين دين الله سوَّى بين العجمي والمولى والعربي والقرشي والهاشمي والقحطاني، هذا هو الحقّ: الأخوة الإيمانية، لكن لو ترك الهاشمي نكاح المولى أو العجمية خوفًا من أذى قومه، أو لأسبابٍ أخرى لا بأس، لا للاحتقار.
س: بعض القرى يذبحون في رؤوس الجبال للجنِّ من أجل المطر؟
ج: هذا شركٌ أكبر، الذبح للجنِّ، أو الأصنام والأشجار والأحجار، أو للميت فلان، هذا هو دين الجاهلية.
س: ولو جاءهم المطر؟
ج: ولو، قد يكون هذا مما يُبتلى به الناس.
.............
ولهما عن زيد بن خالدٍ قال: صلَّى لنا رسولُ الله ﷺ صلاة الصبح بالحُديبية على إثر سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكب. وأما مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكوكب.
ولهما من حديث ابن عباسٍ بمعناه، وفيه: قال بعضُهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:75- 82].
الشيخ: هذا الحديث الصحيح عن زيد بن خالدٍ الجهني في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء، تقديم حديث أبي مالك الأشعري، وأنه من سنة الجاهلية وأخلاقهم الاستسقاء بالأنواء: بالنجوم، وقولهم: مُطرنا بنوء كذا، ولقد صدق نوء كذا، وأنَّ الرسول أنكر ذلك، وبيَّن بطلانه، وأنَّ الله جلَّ وعلا هو الذي يسقي العباد، وينزل المطر، ويُغيث عباده ، لا سواه، فالأنواء ليس لها تصرُّفٌ في ذلك، وإنما خلقها الله زينةً للسَّماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البرِّ والبحر.
وهذا الحديث -حديث زيد- يُبين هذا المعنى، حديث زيد بن خالد الجهني يقول: صلَّى بنا رسولُ الله ﷺ ذات ليلةٍ على إثر سماءٍ من الليل بعد الصبح، وعلى إثر سماء يعني: على إثر مطرٍ، سُمي المطر: سماءً؛ لأنه ينزل من جهة العلو، من جهة السماء. فلما انصرف من صلاته أقبل على الناس، وكانت هذه عادته ﷺ إذا سلَّم يقول: أستغفر الله ثلاثًا، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم ينصرف إلى الناس، ويُعطيهم وجهه، ويُقابلهم عليه الصلاة والسلام، ويُكمل الأذكار الشَّرعية التي بعد الصلاة.
فلما انصرف إليهم وأعطاهم وجهه قال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ وعظهم وذكَّرهم، فقال في ذلك: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. هذه عادة الصحابة، إذا سُئلوا عمَّا لا يعلمون يقولون: الله ورسوله أعلم. هذا هو الواجب على كل إنسانٍ لا يعلم عن المسؤول أن يقول: الله أعلم. أو يقول: لا أدري. وفي حياة النبي ﷺ يقول: الله ورسوله أعلم. لأنه يأتيه الوحي من السَّماء؛ فلهذا يقول: الله ورسوله أعلم. أما بعد وفاته فيُقال: الله أعلم؛ لأنه ﷺ بعد وفاته لا يدري ماذا يحدث في الناس؛ ولهذا يُقال يوم القيامة حين يُؤخذ بعض الناس عن حوضه عليه الصلاة والسلام فيقول: أصحابي! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مُرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، قال: فأقول كما قال العبدُ الصَّالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117].
فهو لا يدري ماذا يقع بعده من الناس إلا ما أطلعه اللهُ عليه: كصلاتنا عليه عليه الصلاة والسلام، فإنه قال: صلوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم عليه الصلاة والسلام، فيقول الإنسانُ إذا سُئل عمَّا لا يعلم بعد وفاة النبي ﷺ يقول: الله أعلم، أو لا أدري. وهذا من العلم، هذا من الأدب أن يقول: لا أدري، لا يعلم، ولا يتكلف، ولا يقل بغير علمٍ؛ ولهذا قال بعضُ السلف: "نصف العلم لا أدري"؛ لأنَّ العلم شيئان: شيء تعرفه، وشيء لا تعرفه، فلا أدري نصف العلم.
فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الربُّ : أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر يعني: في هذه الليلة التي فيها المطر أصبح منهم كافر، ومنهم مؤمن، فأما مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكب يعني: مؤمن بالله؛ لأنه منزل الأمطار، ومغيث العباد ، وهو من فضله ورحمته، حيث أغاثهم وتفضَّل عليهم، هذا من فضله .
وأما مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكوكب هذا يُبين لنا أنه لا يجوز أن يُقال: مُطرنا بنوء كذا، وأنه من أنواع الكفر، ولا يُقال: صدق نوء كذا، عند نزول المطر: صدق نوء كذا .....، ولكن يُقال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيِّبًا نافعًا، كما بيَّنه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
وقوله: "مُطرنا بنوء كذا" إذا أراد بذلك أنَّ النوء هو الذي أحدث المطر، وهو المتصرف في الكون، هذا شركٌ أكبر -نعوذ بالله- وإن قال: مُطرنا بنوء كذا، ظنًّا منه أنه سبب، فهذا أيضًا من أنواع الكفر، وإن كان كفرًا أصغر؛ لإطلاق الحديث عليه: مُطرنا بنوء كذا، يعني: بسبب نوء كذا، فليس له التَّسبب، بل كله من الله ، فالكوكب لا يُحدث ولا يُنزل مطرًا وليس بسببٍ، وإنما هو ظرفٌ من الظروف تقع فيه الحوادث، كما تقع في الأيام والليالي، هو ظرفٌ وليس بمُحدثٍ ولا بمتسببٍ؛ ولهذا أنكر الربُّ على مَن قال ذلك، لا يجوز أن يُقال: مُطرنا بنوء كذا، ولو أراد أنه ظرفٌ لا يُعبر بهذا التَّعبير، أما إذا قال: مُطرنا بوقت كذا، ومطرنا في الصيف، مطرنا في الشتاء، مُطرنا في وقت الربيع، مطرنا في وقت كذا، لا بأس، من باب الإخبار عن الوقت، أما "بنوء كذا" فلا يجوز؛ لإطلاق النَّهي عن ذلك عن النبي ﷺ عن الله ، وهكذا قول: لقد صدق نوء كذا، فمن هذا الباب حديث ابن عباس لا يجوز، ولكن يقول: مُطرنا بفضل الله ورحمته.
ثم أنزل الله فيها قوله جلَّ وعلا: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ إلى قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:75- 82] يعني: تجعلون حظَّكم من نعم الله وفضله أنَّكم تُكذبون بذلك بقولكم: مُطرنا بنوء كذا، أو صدق نوء كذا، فالواجب هو الاعتراف بنعمة الله لله، وأنه من فضله ، ومن إحسانه إلى عباده، وأنه يجب الحذر من أعمال الجاهلية، وأخلاق الجاهلية، وألفاظ الجاهلية: مُطرنا بنوء كذا، أو لقد صدق نوء كذا، أو لقد صدق الحاجبُ الفلاني، أو ما أشبه ذلك مما يُوهم أنَّ هذه النجوم أنَّ لها تصرفًا أو تسببًا في هذا الغيث: مُطرنا بفضل الله ورحمته جلَّ وعلا، وليس لها تسبب، وإنما هي زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، ليس لها تعلق بالأمطار، ولا بالحوادث.
والتَّنجيم الذي يُعلق الحوادث بالنجوم هو المنكر، قد أنكره العلماءُ وبيَّنوا أنه كفر وضلال، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على حوادث الأرض، هذا هو المنكر، أما إذا قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا هو الحقّ، أو قال: مُطرنا في وقت كذا: في الربيع، في وقت الصيف، في رجب، في شعبان، المطر نزل في وقت كذا وكذا، في نوء الثُّريا، في نوء كذا، لا بنوء كذا، وإنما هو عن وقتٍ يُعرف ويُضبط، فهذا لا دخلَ له في ذلك ولا يضرّ.
وفَّق الله الجميع، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.
س: التشاؤم بشهر صفر؟
ج: هذا من أعمال الجاهلية.