04 من (باب إنك لا تهدي من أحببت)

باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]

وفي الصحيح عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسولُ الله ﷺ، وعنده عبدالله ابن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملَّة عبدالمطلب؟! فأعاد عليه النبيُّ ﷺ، فأعادا. فكان آخر ما قال: هو على ملَّة عبدالمطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي ﷺ: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113].

وأنزل الله في أبي طالب: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].

الشيخ: هذا الباب ذكره المؤلفُ رحمه الله، وهو الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب بن سليمان التَّميمي رحمه الله؛ ليُبين أنَّ الرسل عليهم الصلاة والسلام -وأفضلهم وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام- لا يملكون شيئًا من أمر الله إلا ما ملَّكهم الله إياه، وأنهم لا يستطيعون هدايةَ البشر إلا مَن هداه الله، فهم مربوبون، مقهورون، ليس لهم من التَّصرف إلا ما جعل اللهُ لهم ؛ ولهذا لا يصلحون لأن يُعبدوا من دون الله، بل العبادة حقّ الله وحده؛ لأنهم مخلوقون، مربوبون كسائر البشر، لكن الله أكرمهم ورفع شأنهم بالرسالة والنُّبوة عليهم الصلاة والسلام، فلهم خصائصها، ولهم فضائلها، لكنها لا تقتضي أنهم يتصرفون في الكون، أو يهدون مَن شاءوا، أو يعلمون الغيب إلا ما علَّمهم الله وأخبرهم به .

وإذا كان رسولُ الله ﷺ وهو أفضل الخلق لم يستطع أن يهدي عمَّه أبا طالب، ولا عمه أبا لهب، دلَّ ذلك على أنَّ الأمر بيد الله ، وأنه هو الذي يهدي مَن يشاء، فهو الذي تُطلب منه الهداية ، فيُقال: يا ربّ، اهدني سواء السَّبيل، اللهم اهدني صراطك المستقيم، هو الذي بيده كل شيءٍ .

قال المؤلفُ رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]) المعنى بيان أنَّ الهداية التي مضمونها الرضا بالحقِّ وقبوله وإيثاره لا يملكها أحدٌ إلا الله ، هذه بيد الله ، لا يملكها لا نبيّ مرسل، ولا ملك مُقرب، ولا غيرهما، بل هي بيد الله، فهو الذي يُطلب منه الهداية، وهو الذي يُلجأ إليه في طلب ذلك ، أما الهداية التي معناها البلاغ والبيان والإرشاد والدَّعوة فهذه بيد الرسل، وبيد أتباعهم من العلماء والدُّعاة، قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] يعني: دللناهم وأرشدناهم فلم يقبلوا الهدى، نسأل الله العافية، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يعني: تُرشد وتدل وتدعو إلى صراطٍ مستقيمٍ.

فالهداية التي معناها البلاغ والبيان والإرشاد هذه موجودة بيد الرسل وبيد الدُّعاة إلى الحقِّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يُؤثروا في القلوب حتى تقبل الحقَّ، وحتى تُريده، وحتى تخضع له، وحتى تُنكر الباطل، بل هذه بيد الله ، هو الذي يهدي مَن يشاء جلَّ وعلا.

(عن ابن المسيب) صحيح، من "صحيح البخاري"، وهكذا روى مسلم معناه عن سعيد بن المسيب بن حزن ابن أبي وهب المخزومي، وهو تابعي، وأبوه صحابي، وجده صحابي.

يقول رحمه الله: عن أبيه المسيب، يقال: المسيَّب بالفتح، هذا هو الأشهر، وضبطه بعضُهم بالكسر، ولكن الأشهر المعروف عند المحدثين هو بالفتح: المسيَّب.

قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ. عمّ النبي ﷺ، لما ظهرت عليه علامات قرب الأجل أتاه النبيُّ ﷺ فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله.

أبو طالب كان ممن حمى النبيَّ ﷺ ونصره، واجتهد في الذَّبِّ عنه، والكفاح عنه في مكة، وهو كان كافرًا، فاحترمه الملأُ من قريشٍ، وقدَّروا له حمايته؛ لأنه رئيس فيهم، وكبير فيهم.

وكان من حكمة الله ومما حمى به نبيَّه: أن بقي أبو طالب على دين قومه، حمى اللهُ به نبيَّه ﷺ ودافع عنه، حتى أظهر الله دينه، وأعلى كلمته، ثم تُوفي أبو طالب في مكة قبل الهجرة، فلما حضرته الوفاةُ أحبَّ النبي ﷺ أن يدعوه إلى الحقِّ دعوةً جديدةً، دعوةً خاصَّةً عند قُرب الأجل لعله يهتدي، وقد دعاه قبل ذلك ولكنه لم يستجب، مع أنه يعلم أنَّ محمدًا حقٌّ، وأنَّ دينَه حقٌّ، ولكنه أبى؛ لئلا يجرَّ على قومه وأشياخه مسبَّةً بزعمه، كما قال في شعره:

ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبَّةٍ لوجدتني سمحًا بذاك مبينا

ويقول في شعره الآخر:

فلولا أن نجيء بسبَّة تجرّ على أشياخنا في المحافل

لكنا اتَّبعناه على كل حالةٍ

فذكر أنه إنما منعه من الدُّخول في الدين لئلا يُقال: إنَّ آباءه ضالُّون، وإنَّ أشياخه ضالُّون، نسأل الله السلامة والعافية، فأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

وكان عنده عبدالله ابن أبي أمية المخزومي، وأبو جهل ابن هشام المخزومي، فقالا له: أترغب عن ملَّة عبدالمطلب؟! يعني: عبادة الأوثان والأصنام، فأعاد عليه النبيُّ ﷺ يقول له: يا عمّ، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاج لك بها عند الله يعني: نشهد لك بها، وأحرص لك بها على نجاتك، فأعاد عليه الجليسان: عبدالله ابن أبي أمية، وأبو جهل: أترغب عن ملَّة عبدالمطلب؟! فطاوعهما ومال إليهما، وقال: هو على ملَّة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، وكان هذا هو آخر ما قاله؛ لأنه قد سبقت له الشَّقاوة، ولم يُرد الله له الهداية؛ لحكمةٍ بالغةٍ.

هذا هو الحقّ في أبي طالب: أنه مات على دين قومه، وجاءت به الأحاديث الصَّحيحة: أن النبي رآه في غمرات من النار، فشفع فيه حتى صار في ضحضاحٍ من النار، يغلي منه دماغه، نسأل الله العافية.

أما ما يرويه بعضُ الناس أنه أسلم في آخر حياته، وأنه أجاب، فهو موضوعٌ، لا أصلَ له، ولا أساسَ له، فإنَّ الأحاديث الصَّحيحة الثابتة كلها دالة على أنَّه مات على دين قومه، على الكفر بالله، نسأل الله العافية.

فقال النبي ﷺ: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله جلَّ وعلا: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، وأنزل في أبي طالب تسليةً وتعزيةً للنبي ﷺ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني: يا محمد إنك لا تهتدي من أحببتَ هدايته وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، فهذا يُسلي الناس الذين أسلم بعضُ قومهم، أو بعض أُسرهم، ولم يُسلم الآخرون: أنَّ الأمر بيد الله جلَّ وعلا، وهكذا مَن أسلم ولم يُسلم أبوه، أو أمه، أو أخوه، له تعزية بهذا، فعمّ النبي ﷺ، بل عمَّاه: أبو طالب وأبو لهب كلاهما امتنعا، ولم يُسلما، ولم يقدر لهما السَّلامة، ولم يقدر لهما الإسلام لحكمةٍ بالغةٍ، وهو الحكيم العليم ، فلمَن تأخَّر بعضُ أقاربه عن الإسلام تعزية في هذا، وأنَّ الله هو الذي يهدي مَن يشاء، ويرحم مَن يشاء، وهو الحكيم العليم .

وفيه دلالة على أنَّ الرسول ﷺ لا يستطيع أن يهدي أحدًا؛ ولهذا عند العامَّة والخاصَّة يقولون عند تعذر هداية بعض أقاربهم يقولون: محمد لم يهدِ عمَّه. يعني: فلنا فيه أسوة، يعني: إذا لم يهتدِ أبوك أو أخوك أو عمُّك أو خالك فليس بيدك إلا الدَّعوة والتَّوجيه والدُّعاء له بالهداية، والأمر بيد الله ، لو كان أحدٌ يستطيع أن يهدي أحدًا لكان محمدٌ أولى بهذا عليه الصلاة والسلام، والرسل، وهكذا إبراهيم ما هدى أباه آزر، امتنع عليه حتى مات على دين الشِّرك والضَّلالة، والعياذ بالله، وهكذا نوحٌ لم يهدِ ابنَه، بل أبى وخالف، وصار من المغرقين، ولما سأل له نُهي عن ذلك، وبُيِّن له أنه عمل غير صالح، قال الله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

فإذا كان نوحٌ لم يستطع هدايةَ ابنه، وإبراهيم ما هدى أباه، ومحمد ما هدى عمَّيه، فأنت يا عبدالله من باب أولى ليس لك أن تعترض، وأنت لا تستطيع: لا أبًا، ولا عمًّا، ولا غير ذلك من باب أولى.

نسأل الله للجميع الهداية والعافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.

باب ما جاء أنَّ سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصَّالحين

وقول الله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

وفي الصحيح عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قول الله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِي العلمُ عُبدت.

وقال ابنُ القيم: قال غيرُ واحدٍ من السَّلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعبدوهم.

وعن عمر: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا تُطروني كما أطرت النَّصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله أخرجاه.

وعن ابن عباسٍ: قال رسولُ الله ﷺ: إياكم والغلو؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ.

ولمسلمٍ عن ابن مسعودٍ: أنَّ رسول الله ﷺ قال: هلك المتنطِّعون، قالها ثلاثًا.

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب ما جاء أنَّ سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصَّالحين) يعني: باب بيان الأدلة الدالة على أنَّ سبب كفر بني آدم -يعني: أغلب كفرهم وتركهم الدين- هو الغلو في الصَّالحين، وهناك أسباب أخرى، مثل: الحسد، والبغي، والأغراض الدنيوية، فكثيرٌ من الناس كفروا بأسبابها من اليهود وغيرهم، لكن غالب الأمم إنما كفروا بسبب الغلو، فهذا أغلبه، كفروا بسبب الغلو، أحبُّوا الصَّالحين، وأحبوا الأنبياء، ولجهلهم زادوا في المحبَّة فصاروا غلاةً مُتنطعين، فوقعوا في الشِّرك.

قال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الآية [النساء:171]، قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، وهم النصارى واليهود كذلك، لكن الغلو في النَّصارى أكثر، واليهود غُلاة أيضًا، وهكذا جمٌّ غفيرٌ من عُبَّاد الأوثان والصَّالحين غلوا بعد ذلك.

وهناك قومٌ من اليهود وغير اليهود حملهم الحسدُ والبغيُ على الكفر بالله، وإلا هم يعلمون حقيقةَ الدين، حقيقة الذي جاء به الرسولُ ﷺ، ولكن حملهم البغيُ وحبُّ الرياسة على ترك الحقِّ.

والمقصود من هذا الباب التَّحذير من الغلو، وأنَّ محبَّة الأنبياء ومحبَّة الصالحين دين .....؛ ولهذا قال: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، فحب الصَّالحين وحب الأنبياء من الدين، أي: مما شرعه الله ، فالحب في الله، والبُغض في الله من أهم واجبات الإسلام: ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، لكن هذا الحبّ الذي هو دين لا يجوز الغلو فيه، حب الأنبياء باتِّباعهم، والسير على منهاجهم، وطاعة أوامرهم، وترك نواهيهم. لا بعبادتهم من دون الله، والاستغاثة بهم، والنَّذر لهم، واعتقاد أنهم يعلمون الغيبَ، هذا باطلٌ، هذا من الغلو.

كذلك حبّ الصَّالحين، وحبّ الصحابة، وحبّ مَن بعدهم من الصَّالحين والأخيار لا يكون بالغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، لا، لكن يكون بالتَّرضي عنهم، والدُّعاء لهم بظهر الغيب بالرحمة والمغفرة، واتِّباع سبيلهم الطيب، والسير على منهاجهم الصالح، هذا هو الذي ينبغي معهم.

أما أن يُغلى فيهم، ويقال فيهم: أنهم يعلمون الغيب، أو أنهم ينجدون مَن استعان بهم، ويُعطونه مطالبه، وأنه يُستغاث بهم، وأنه يُطلب منهم المدد، وأنه يُطاف في قبورهم. هذا شركٌ أكبر، لا يجوز هذا، هذا ليس من محبَّتهم، هذا من مُعاداتهم، وهذا من إساءة الظنِّ بهم: أن تعتقد أنهم يرضون منك بهذا، هذا سُوء ظنٍّ بهم، هم لا يرضون بهذا منك: لا الأنبياء، ولا الصَّالحون، بل يُعادون هذا، ويُنكرون هذا.

فالواجب على أهل الإسلام أن يتقيَّدوا بالمحبَّة الشرعية، وألا يزيدوا على الحبِّ الشرعي بالغلو.

يقول في "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قال ابنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوحٍ، فلما هلكوا -يعني: هلكوا في زمنٍ مُتقاربٍ- أسف عليهم قومُهم، وحزنوا عليهم، وشقَّ عليهم فراقهم، فجاءهم الشيطان وزيَّن لهم وقال لهم: صوِّروا صورهم، وانصبوها في مجالسهم؛ حتى تتذكروهم، تتذكروا عباداتهم، تتأسّوا بهم. وقصد الخبيثُ أن يصيدهم ويصيد مَن بعدهم في وقوع الشِّرك، وقد وقع ما أراد الخبيثُ؛ فصوَّروهم ونصبوا صورهم في مجالسهم، فجاءهم الشيطانُ بعد ذلك، أو جاء مَن بعدهم وقال: إنما صنع أوائلكم هذا الأمر، صنعوا هذا لأنهم كانوا يستغيثون بهم، وينذرون لهم، وكانوا يُقدمونهم إذا جاء الجدبُ والقحطُ، فيستغيثون بهم ويُغاثون، إلى غير هذا من الأكاذيب، حتى عبدوهم من دون الله، عُبدت فصارت آلهةً في قوم نوحٍ، فجاءهم نوحٌ عليه الصلاة والسلام وأنذرهم ودعاهم، وأبدى وأعاد، ولكنهم أبوا، واستمروا على طغيانهم وكفرهم وضلالهم، ولم يُؤمن منهم إلا قليل.

فلما استمروا في الطغيان والكفر والضَّلال أمر الله نوحًا بصنع السَّفينة، فصنع السَّفينة وركب فيها هو ومَن آمن معه، ومن كلِّ زوجين اثنين، ثم أرسل الله الماء على أهل الأرض من فوق ومن تحت حتى غرقوا على آخرهم بسبب هذا الشِّرك العظيم والذَّنب الوخيم، نعوذ بالله.

هذه حال الغلو، أدَّى بأهله إلى هذه الحالة، إلى الشرك بالله، والكفر به، ثم الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، نعوذ بالله.

وقوله: (ونُسِيَ العلم)، وفي البخاري: "ونُسخ العلم" يعني: ذهب العلمُ الذي من أجله زيَّن لهم الشيطان هذا التصوير، هذا العلم ذهب، وجاء ناسٌ لا يعلمون، ولا يفهمون، فعبدوها من دون الله.

وهذا يدل على أنَّ العلم متى ذهب من الأرض وقع فيها الباطلُ، فالعلم هو الذي يُحارَب به الجهل، وتُحارب به الفتن والشُّرور والكبائر والشِّركيات والبدع، فإذا مات العلماءُ أهلُ الحقِّ ظهرت الجاهلية، وظهر الشِّرك والفساد في الأرض.

وبهذا يُعلم شدة الحاجة، بل شدة الضَّرورة إلى علم الشريعة، لا بدَّ من العلماء، أهل الشرع؛ حتى ينفوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله ﷺ تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، واعتقاد المبطلين، وحتى ينهوا الناس عن البدع والمنكرات، وحتى يدعوهم إلى التوحيد والإيمان والسنن.

وفي هذه الأزمنة الأخيرة والقرون الأخيرة قلَّ العلمُ، وانتشر الشِّرك والباطل في الدنيا، وانتشرت البدعُ، وقلَّ المنكرون لها من أهل العلم؛ لقلَّتهم، وكثرة خصومهم.

قال ابنُ القيم رحمه الله: لما ماتوا -يعني: مات أولئك الذين صُوِّروا بالصور- لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمدُ فعبدوهم. وهذا محتمل، محتمل أنَّ الذين صوَّروها لما طال الأمدُ عبدوها من دون الله، وتغير أمرهم. ويحتمل أنهم لما ماتوا وجاءت ذرياتهم ومَن بعدهم فعلوا هذا، نسأل الله العافية.

وبكل حالٍ فالبدع والمعاصي شرُّها عظيم، وبلاؤها كبير على مَن فعلها، وعلى مَن يأتي بعده، نسأل الله العافية.

قال عمرُ : عن النبي ﷺ أنه قال: لا تُطروني كما أطرت النَّصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله.

فالنبي يُحذر من إطرائه، والإطراء: هو مجاوزة الحدِّ في المدح، هذا هو الإطراء، يقال: أطرى فلانٌ فلانًا، يعني: جاوز الحدَّ ووصفه بما لا ينبغي.

فالرسول ﷺ ينهى أمَّته أن تصفه وأن تمدحه بما ليس جائزًا له، وليس في حقِّه، فلا يقال: إنه يُعبد من دون الله، ولا يقال: أنه يعلم الغيب، ولا يقال: أنه يُستغاث به مع الله بعد وفاته ﷺ، ولا يقال: أنه يتصرف في الكون، كل هذا إطراء، ولكن يُمدح بما هو أهله، يقال: أنه رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه أفضل الخلق، وأنه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده. هذا حقٌّ، هذا ليس بإطراءٍ، فالإطراء هو الزيادة، وأما قول البوصيري في البُردة:

دع ما ادعته النَّصارى في نبيهم واحكم بما شئتَ فيه واحتكم

هذا من الجهل والضَّلال، يعني لا يُقال: أنه ابن الله، فقط ويكفي، هذا غلط، لو كان هذا المراد لقال: لا تقولوا لي ابن الله، وسكت، بل قال: لا تُطروني المعنى: لا تمدحوني المدح الزائد الذي ليس بجائزٍ لي.

وأنصار صاحب البُردة يقولون: إنه يُمدح بكل شيءٍ، لكن لا يقال: أنه ابن الله فقط. هذا من جهلهم وضلالهم، فلا يُمدح إلا بما أجاز اللهُ وشرع اللهُ ، ولا يُمدح ويُطرى بالشيء الذي ليس له، بل هو من خصائص الله ، لا هو، ولا غيره من الأنبياء والصَّالحين؛ ولهذا قال بعده: وإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدالله ورسوله، ما قال: أنا ابن الله، قال: إنما أنا عبد، فوضح أنه عبد نبي لله، مربوب، مخلوق، يجب ألا يُعبد من دون الله، ويجب ألا يُطرى، ويجب ألا يُغلى فيه عليه الصلاة والسلام، مع أنه أفضل الخلق، سيد ولد آدم، وله من الصِّفات والفضائل ما ليس لغيره، لكن لا يجوز أن يُوصف بأوصاف الله فيُقال: أنه يعلم الغيب، أو يُعبد من دون الله، أو يتصرف في الكون، لا، هذا غلطٌ كبيرٌ، والله سبحانه يقول: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].

وقد ضاع عقد عائشة وهم في الغزو، وأمرهم أن يطلبوا العقد ويلتمسوه، فلم يجدوه، فلما قام البعيرُ وجدوه تحت البعير، ولم يعلمه ﷺ، وهو عنده موجود بين أيديهم لم يعلمه هو ولا أبو بكر ولا عمر ولا بقية الصحابة، كلهم لا يعلمون الغيب: لا الرسول، ولا غيره، لا يعلم الغيبَ إلا الله ، وإنما يعلمون من الغيب ما علَّمهم اللهُ إياه، وما شرعه لهم، وما بيَّنه لهم، هذا هو المعلوم من الغيب، وما استأثر اللهُ به ولم يُطلع عليه الناس لا يعلمه إلا هو .

وهكذا قوله في حديث ابن عباسٍ: وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو، هذا رواه الإمامُ أحمد وبعضُ أهل السنن بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبيَّ أمره أن ..... يوم حجة الوداع يلقط له سبع حصيات، فالتقطها ابنُ عباسٍ ووضعها في يده، فقال: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين.

وهو حديثٌ صحيحٌ يدل على أنَّ الغلو في الدِّين من أسباب الهلاك، والزيادة في الدين، والابتداع، هذا هو الغلو: الزيادة، يقال: "غلا القدر" إذا ارتفع ماؤها بسبب النار، فالغلو هو الزيادة في الدين، والابتداع في الدين ما لم يأذن به الله، هذا ما يجوز، منكر.

على العباد أن يتقيَّدوا بالدين، ويقفوا عند الحدود، ولا يزيدوا، فالله أكمل الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فليس لأحدٍ أن يزيد في الصلاة، أو في الصيام، أو في الحجِّ، أو في غير ذلك، لا، وليس له أن ينقص، بل يجب أن يتقيد بالشرع، لا زيادة، ولا نقصان، هذا هو الواجب على المسلمين، فإذا زادوا وقعوا في الخطأ، وقعوا في البدع، أو في الشرك الأكبر.

وهكذا قوله ﷺ في حديث مسلم من حديث ابن مسعودٍ: هلك المتنطِّعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون قالها ثلاثًا، المتنطِّع: المتكلف، المتشدد، الغالي الذي يزيد في الأمور ولا يكتفي بالحدِّ منها، يقال له: مُتنطع، وأصله في الكلام إذا صار الإنسانُ يتكلم بأقصى حلقه، ويتكلف في الكلام سُمي: مُتنطِّعًا، وهكذا كل غالٍ إذا غلا يُسمَّى: مُتنطعًا، فلا يجوز التَّنطع: لا في الكلام، ولا في الفعال، بل يجب الاقتصار على الحدِّ المحدود الشرعي بكلامك، لا تتنطع، لا تزيد في الكلام على ما ينبغي، وفي أفعالك لا تزيد على ما ينبغي، اقتصر على الحدِّ المشروع في كل شيءٍ، فلو صلَّى خمسًا قال: أنا أحب الخير، ودي أزيد لربي ركعةً في الظهر والعصر والعشاء. هذا باطل، هذا منكر، ولو قال: المغرب ثلاث، وددتُ أن أتمها أربعًا من باب الفضل، ومن باب الزيادة. هذا باطل ومنكر، تبطل الصلاة، وإذا أصرَّ على هذا يكفر، إذا قال: هذا أفضل، يكفر، ولو قال: الفجر أحطّها أربعًا، ما هي بثنتين، أو الجمعة أربعًا، هذا ما يجوز، زيادة باطلة، منكرة، واعتقادها منكر، وقد يُفضي بأهله إلى الردة؛ لأنه استحسن ما لم يشرعه الله .

المقصود أنه لا يزيد الإنسانُ، ولا ينقص الإنسانُ، ولا يتنطَّع، بل يقف عند الحدود، فالله أكمل الدين، وأتم النعمة، فليس لأحدٍ: لا ملك، ولا رئيس جمهورية، ولا وزير، ولا عالم، ولا تاجر، ولا غيرهم، ليس لهم أن يزيدوا في الدين، وليس لهم أن ينقصوا من الدين، بل عليهم جميعًا أن يتَّبعوا، ولا يبتدعوا، هذا هو الواجب على المسلمين، وفَّق الله الجميع.

باب ما جاء من التَّغليظ فيمَن عبد الله عند قبر رجلٍ صالحٍ، فكيف إذا عبده؟

في الصحيح عن عائشةَ: أنَّ أمَّ سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسةً رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ أو العبدُ الصالحُ بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شِرار الخلق عند الله.

فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التَّماثيل.

ولهما عنها قالت: "لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، يُحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يُتَّخذ مسجدًا" أخرجاه.

ولمسلم عن جندب بن عبدالله قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلًا كما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ مُتَّخذًا من أمتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.

فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق مَن فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجدٌ، وهو معنى قولها: "خشي أن يتَّخذ مسجدًا"، فإنَّ الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكل موضعٍ قُصدت الصلاةُ فيه فقد اتُّخذ مسجدًا، بل كل موضعٍ يُصلَّى فيه يُسمَّى: مسجدًا، كما قال ﷺ: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا.

ولأحمد بسندٍ جيدٍ عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: إنَّ من شرار الناس مَن تُدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتَّخذون القبورَ مساجد، ورواه أبو حاتم في "صحيحه".

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب ما جاء من التَّغليظ فيمَن عبد الله عند قبر رجلٍ صالحٍ، فكيف إذا عبده؟) هذا الباب عظيم، وهكذا الأبواب التي قبله أبواب عظيمة، تُوضح حقيقة الأمر الذي وقع فيه الناسُ حتى غيَّروا دينَهم، وحتى وقعوا في الشِّرك.

يقول رحمه الله: (باب ما جاء من التَّغليظ) يعني: باب ما جاء من الأدلة، يعني: من الكتاب والسنة، (من التَّغليظ فيمَن عبد الله عند قبر رجلٍ صالحٍ، فكيف إذا عبده؟) إذا كان التَّغليظ أنه إذا عبد الله عند قبرٍ: صلَّى عند قبره، أو جلس عند قبره يدعو ويقرأ، هذا مُنكر، فكيف إذا عبده واتَّخذ قبره إلهًا من دون الله؟ يكون التَّغليظ أشدَّ وأكبر؛ لأنَّ هذا هو الشِّرك، الأول وسيلة، والثاني شرك أكبر، التَّعبد عند القبور والصلاة عندها وسيلة، فإذا عبد أصحابها ودعاهم واستغاث بهم وقعت الكارثةُ، وقع الأمرُ الأكبر الذي حُرم الأول لأنه وسيلة له، وهو الشرك الأول، والكفر الأعظم، نسأل الله العافية.

(باب ما جاء من التَّغليظ فيمَن عبد الله عند قبر رجلٍ صالحٍ) يعني: أو نبي، (فكيف إذا عبده؟) لأنَّ الصالحين يشمل الأنبياء ..... وغيرهم من عباد الله الصَّالحين.

في الصحيح عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ أم سلمة، وفي اللفظ الثاني: وأم حبيبة بنت أبي سفيان ذكرتا للنبي ﷺ كنيسةً رأتاها في أرض الحبشة، وما فيها من الصور، كانت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة، أم سلمة مع زوجها أبي سلمة عبدالله بن عبدالأسد، وأم حبيبة مع زوجها عبيدالله بن .....، فأم سلمة وأم حبيبة ذهبتا إلى الحبشة مُهاجرتين مع أزواجهما، فرأتا كنيسةً في أرض الحبشة، وما فيها من الصور، كانت كنيسةً لها شأن، يقال لها: مارية، مُعظَّمة، لها صور، تحسينات، فذكرتا هذا للنبي ﷺ فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ أو العبدُ الصَّالح، شكَّ الراوي: هل قال: عبد، أو قال: رجل، والمعنى واحد، بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، قال: أولئك شِرار الخلق عند الله.

هذا يُبين لنا حال النَّصارى، وأنهم يغلون في أمواتهم، ويُعظِّمون كنائسهم؛ دعايةً للباطل والكفر، نعوذ بالله، من ذلك: فإذا مات فيهم الرجلُ الصَّالح من نبيٍّ أو عبدٍ صالحٍ بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور لهذا الرجل، أو له ولأتباعه، كما جرى لقوم نوحٍ في الباب السابق.

قال النبي ﷺ: أولئك يُخاطب أم سلمة أولئك شِرار الخلق عند الله يعني: الذين فعلوا هذا الفعل هم شِرار الخلق عند الله، فبين ﷺ أنَّ مَن فعل هذا الأمر من شِرار الخلق، يعني: مَن بنى على القبور وصوَّر فيها الصور هم شِرار الخلق عند الله؛ لأنهم فعلوا أسبابَ الشِّرك، والغالب أنهم يفعلونه لاعتقادهم الشِّرك، وطلبهم فعل ذلك؛ فلهذا سمَّاهم: شِرار الخلق؛ لأنهم يبنون البنايات على القبور لتُعبد، ولتُعظم، وليُستغاث بها، ويُنذر لها، ويُطلب منها المدد، فبهذا صاروا شِرار الخلق.

وبهذا يُعلم أنَّ مَن فعل ذلك من هذه الأمة فقد تشبَّه بالنَّصارى، وعمل عملهم، ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم.

والمقصود من هذا التَّحذير أن نفعل كفعلهم، هذا المقصود، حين ذكر هذا ﷺ حتى يُحذرنا أن نفعل فعلهم، وقد وقع في الأمة هذا البلاء العظيم، وتشبَّهوا بالنَّصارى واليهود، وأتوا من ذلك الشيء الكثير، وأعظم من سبق إلى هذا، وأكثر مَن سبق إلى هذا الرافضة الشيعة، غُلاة أهل البيت، فهم أول مَن بنى على القبور، واتَّخذ عليها المساجد، وعظَّمها، وعبدها من دون الله، ثم اتَّبعهم غيرهم من الناس ممن ينتسبون إلى السنة وعدم التَّشيع، قلَّدوهم وشابهوهم في ذلك، فبنوا على القبور، وعظَّموها، واتَّخذوا عليها المساجد، وعبدوها من دون الله، كما هو الواقع الآن في مصر والشام والعراق، وفي بلدانٍ لا تُحصى، عُظِّمت القبور، وبُنيت عليها المساجد، وعُبدت من دون الله ، وفُرشت، وطُيبت، وطيف بها، طافوا بها كما يُطاف بالكعبة، كل هذا واقعٌ، هذه الأمة وقعت فيما وقعت فيه الأمم قبلها، كما أخبر به النبيُّ ﷺ حيث قال: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة، قد وقع؛ تابعوا اليهود والنصارى، بل زادوا عليهم في الشَّر والفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال المؤلف: (فهؤلاء) يعني: هؤلاء الكفرة (جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التَّماثيل) القبور عظَّموها، وبنوا عليها، والتَّماثيل: الصور، وكلاهما فتنة: من الصور فتنة، ومن القبور فتنة، فالنصارى جمعوا بين الفتنتين، وهكذا مَن شابههم من هذه الأمة ممن صوَّر صور الصَّالحين والأنبياء ونصبها على قبورهم وعظَّمها، وفي مجالسهم، شابهوا اليهود والنصارى، وشابهوا قوم نوحٍ الذين هلكوا، أهلكهم الله بالطوفان بسبب غلوهم في ودٍّ وسواعٍ ويغوث ويعوق ونسرا، كما تقدم.

(ولهما عن عائشةَ رضي الله عنها) يعني: البخاري ومسلمًا، (عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزل برسول الله ﷺ) يعني: نزل به ملكُ الموت، نزل به يعني: نزل الموتُ به عليه الصلاة والسلام، (طفق يطرح) أي: جعل يطرح (خميصةً له على وجهه) الخميصة: كساء له أعلام، تارة يضعه على وجهه، وتارة يرفعه؛ لأنه يغمّه فيرفعه عن وجهه في سكرات الموت.

في روايةٍ أخرى يقول: إنَّ لهذا الموت سكرات، وهو سيد الخلق، وأفضل الخلق، أصابته شدَّة عند الموت؛ ليرفع الله من درجاته؛ وليكون أسوةً لغيره ممن يشتدّ به الموت من أمته.

ويقول في هذه الحالة الشَّديدة: لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد يُحذِّر الناسَ، يُحذِّرهم أن يفعلوا فعل اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، قالت عائشةُ: "يُحذِّر ما صنعوا"، يعني: يُحذرنا أن نصنع صنيعهم. قالت: "ولولا ذلك" يعني: ولولا تحذيره "لأُبرز قبره" يعني: في البقيع مع أصحابه، "غير أنه خُشي" يعني: خشي الصحابةُ "أن يُتَّخذ مسجدًا"؛ فلهذا دفنوه في حُجرته في بيت عائشة؛ لئلا يُغلا فيه؛ لئلا يُفتتن به، فلا يتّخذ مصلًّى ممن يأتي بعد الصحابة، الصحابة ما يفعلون هذا؛ لعلمهم، وإيمانهم، لكن خافوا ممن يأتي بعدهم من الجهلة؛ فلهذا دفنوه في بيته وصانوه؛ حتى لا يتَّخذه الجهلةُ مُصلًّى، أو معبدًا يعبدونه من دون الله، ولا حول ولا قوة إلا الله.

وقد وقع بعضُ هذا من الجهلة عند الحجرة: إذا وصلوا إليها صاروا يُنادون: يا رسول الله، افعل بنا، يا رسول الله، افعل بنا. شرك أكبر، نعوذ بالله، لكنه غير بائنٍ، من وراء الجدران.

وهذا يدل على غيرة الصحابة وحرصهم على سلامة هذا الدين وحمايته من أن يقع به الشِّرك، وأن يضلَّ به الناس؛ فلهذا حذَّروا الأمةَ، ونقلوا لهم الأحاديث عن رسول الله ﷺ المبينة نهيه عن اتِّخاذ المساجد قبورًا، ولعن مَن فعل ذلك؛ حتى لا يقعوا في هذا الأمر، فمنهم مَن أطاع وحماه الله وسلم، ومنهم مَن وقع في هذا البلاء، ولم ينتفع بهذه الأحاديث، نسأل الله العافية والسَّلامة.

وهكذا قوله في حديث جندبٍ: أنه سمع الرسولَ قبل أن يموت بخمسٍ، يعني: خمس ليالٍ، كما في الرواية الأخرى، وهو يقول: إنَّ الله قد اتَّخذني خليلًا كما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ مُتَّخذًا من أمتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا.

هذا يدل على فضل أبي بكر الصديق، وعلى أنَّ نبينا هو خليل الله عليه الصلاة والسلام، إبراهيم خليل الله، وهكذا نبينا ﷺ هو خليل الله، وهو أفضل من جدِّه إبراهيم عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

والخُلَّة أعلى المحبَّة، أعلاها، وأكملها، فالخليلان هما إبراهيم ومحمد، وهما أحبّ الخلق إلى الله عليهما الصَّلاة والسلام.

وفي هذا دلالة على فضل الصديق، وأنه أفضل الصحابة، ولو جاز له أن يتَّخذه خليلًا لاتَّخذه خليلًا، لكن محمد هو خليل الله، فلم يجز له أن يتَّخذ خليلًا يُزاحم حبُّه حبَّ الله .

ثم قال: ولكن أخوة الإسلام يعني: فيها كفاية، فالصديق بإجماع أهل العلم هو أفضل الخلق بعد الأنبياء، وهو أفضل الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، ثم يليه في الفضل عمر، وفي الخلافة كذلك، ثم يليه في الفضل والخلافة عثمان، ثم في الفضل والخلافة علي رضي الله عن الجميع وأرضاهم، وأصحاب النبيِّ هم خير الناس، هم أفضل الناس بعد الأنبياء، وأفضلهم على الإطلاق هم هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم جميعًا.

ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، عند مسلم: قبور أنبيائهم وصالحيهم، لكن سقطت هذه على المؤلف؛ لأنه نقلها .....، وقد سقط منه ذلك، والذي في مسلم: ألا إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.

وقد جمع في هذا التَّحذير عن اتِّخاذ القبور مساجد من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ذمّ مَن فعل ذلك.

الوجه الثاني: قوله: فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد.

الوجه الثالث: قوله: فإني أنهاكم عن ذلك.

فجمع أنواع النَّهي: ذمّ مَن فعل هذا، والتصريح بالنَّهي في قوله: لا تتَّخذوا، وبالفعل: فإني أنهاكم عن ذلك، هذه مبالغة منه ﷺ في التَّحذير من اتِّخاذ القبور مساجد؛ لأنَّ اتِّخاذها وسيلة قريبة إلى الشِّرك وعُبادة المقبورين من دون الله ، كما قد وقع، فبنوا على القبور، وعبدوا أهلها من دون الله، كما وقع في بلدانٍ كثيرةٍ، وهذا معنى قوله: "خُشي أن يتّخذ مسجدًا"، فإنَّ المقصود من ذلك أن يُصلَّى حوله، فإنَّ الصلاةَ عند القبور اتِّخاذٌ لها مساجد، قال النبي ﷺ: جُعلت الأرضُ لي مسجدًا وطهورًا، فكل موضعٍ يُصلَّى فيه يُسمَّى: مسجدًا، كل موضعٍ يصلح للصلاة فيه يُسمَّى: مسجدًا، كما في الحديث المذكور.

فالله جعل الأرضَ مسجدًا وطهورًا، فإذا صُلِّي عند القبر وجُعل معبدًا فقد اتُّخذ مسجدًا، مثل الذي بنى عليه، ولكن إذا بنى يكون أشدّ وأكثر شرًّا وفتنةً، فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولا البناء عليها، ولا اتِّخاذ القباب عليها، كل هذا منكر، وكله من وسائل الشرك، وكله من عمل الجاهلية.

وروى أحمد وأبو حاتم رحمة الله عليهما: عن ابن مسعودٍ ، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ من شِرار الناس مَن تُدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتَّخذون القبورَ مساجد.

فشرار الناس مَن بقوا حتى تقوم عليهم الساعةُ؛ لأنها لا تقوم إلا على الأشرار، على الكفَّار البواح، نسأل الله العافية، أما المؤمنون فتُقبض أرواحُهم قبل ذلك، في آخر الزمان يُرسل اللهُ ريحًا طيبةً تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الأشرار، فعليهم تقوم الساعة.

وهكذا المتَّخذون المساجد على القبور هم من شِرار الناس؛ لأنهم يتسببون في ضلال الناس، ويتسببون في وقوعهم في الشِّرك والكفر؛ فلهذا صاروا من شِرار الناس بأسباب أعمالهم التي تُضلّ الناس، وهي اتِّخاذ مساجد على القبور، والقباب على القبور؛ لأنَّ هذه أشياء تُضلّ العامَّة، ويقولون: ما دام بُني على هذا القبر واتُّخذ عليه كذا وكذا، فهذا دليلٌ على أنه يُدعا من دون الله، ويُستغاث به، ويُنذر له، فيقعون في الشِّرك بهذا السَّبب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فنسأل الله لنا ولكم العافية والسَّلامة، ونسأل الله للمسلمين الهداية والرجوع إلى الصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.

س: في بلدةٍ يقولون: فيها مقبرة، وفيها مسجد، لا يدرون أيّهما بُني أوَّلًا، والمسجد مُنفصلة قبلته عن المقبرة، فهل الصلاة فيه من قبيل الصلاة عند القبور؟

ج: يُصلون في المسجد ولا عليهم، ما دام ما فيه قبور ما يضرّ، وقربها منه لا يضرّ، لكن لو فُصل بينهما بجدارٍ أو بطريقٍ يكون أحوط.

باب ما جاء أنَّ الغلو في قبور الصَّالحين يُصيرها أوثانًا تُعبد من دون الله

روى مالك في "الموطأ": أنَّ رسول الله ﷺ قال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد.

ولابن جريرٍ بسنده عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] قال: "كان يلت لهم السّويق فمات، فعكفوا على قبره".

وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباسٍ: "كان يلت السّويق للحاجِّ".

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لعن رسولُ الله ﷺ زائرات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج". رواه أهل السنن.

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب ما جاء أنَّ الغلو في قبور الصَّالحين يُصيرها أوثانًا تُعبد من دون الله) هذا كلام صحيح، فالغلو في قبور الصَّالحين يُصيرها أوثانًا كما تقدم في الباب السابق: (باب ما جاء أنَّ سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصَّالحين)، وهنا يقول: (باب ما جاء أنَّ الغلو في قبور الصَّالحين يُصيرها أوثانًا تُعبد من دون الله) كما قد وقع.

وتقدم في الحديث -حديث ابن عباسٍ الذي رواه أحمد وجماعة من أهل السنن- أن النبي عليه السلام قال: إياكم والغلو في الدِّين؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بالغلو في الدين رواه أحمدُ وغيره بإسنادٍ صحيحٍ، فهذا الغلو يجعل المغلوَّ فيه: من شخصٍ، أو قبرٍ، أو شجرةٍ، أو صنمٍ، أو غير ذلك، معبودًا من دون الله؛ ولهذا لما غلا الناسُ في بعض الصَّالحين عُبدوا من دون الله، كما فعلوا مع الحسين بن علي بن أبي طالب، ومع نفيسة وزينب في مصر، والجيلاني في العراق، وجماعة آخرين.

فالغلو في الصَّالحين، أو مَن يُسمَّى بالصَّالحين، وإن كانوا ليسوا بصالحين، يجعل قبورَهم أوثانًا تُعبد من دون الله.

فالمقصود من هذا التَّحذير، وأنه ينبغي للمؤمن أن يحذر هذا الأمر الذي وقع فيه الناسُ، فمحبَّة الصالحين دينٌ، ومحبة الأنبياء دينٌ، لكن لا يجوز الغلو فيها، الله يقول: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، فالله وجَّه النَّهي لأهل الكتاب، والمقصود تحذيرنا أن نفعل مثلهم، لما غلوا في أنبيائهم وصالحيهم عبدوهم، وبنوا عليهم المساجد، وعظَّموها بالشِّرك، كما أخبر به النبيُّ ﷺ، هكذا هذه الأمة لما غلت وقعت في الشِّرك، غلت في الرسول فعبدوه من دون الله، واستغاثوا به، ونذروا له، ودعوا عند قبره، واستغاثوا، ومن بعيدٍ، ومن كل مكانٍ، ولما غلوا في بعض الصَّحابة: كعليٍّ ، والحسن، والحسين، وفاطمة، وغيرهم، وآخرين من الصحابة قال فيهم آخرون، عبدوهم من دون الله، وهكذا مَن بعدهم ممن يُنسب إلى الصلاح في القرون المتأخرة كذلك.

فالذي قاله المؤلف واقعٌ، ودلَّ عليه قولُ النبي ﷺ: إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين، وفي سابق الزمان لما غلا قومُ نوحٍ في ودٍّ وسُواعٍ ويغوث ويعوق ونسر عبدوهم أيضًا، أولًا جاءهم الشيطانُ وقال لهم: صوِّروا صورَهم وانصبوها في مجالسهم للتّذكار؛ لذكر عبادتهم وأعمالهم، ثم لما طال الأمدُ زيَّن لهم أن يعبدوهم من دون الله، وقال: إنَّ أولئكم يستغيثون بهم، ويستنصرون بهم، ويدعونهم، وكذا، وكذا، حتى وقع الشركُ في قوم نوحٍ، فبعث اللهُ إليهم نوحًا عليه الصلاة والسلام، ودعاهم إلى التوحيد والإيمان، فأصرُّوا واستكبروا ولم ينقادوا للحقِّ إلا القليل الذين ركبوا معه في السَّفينة، وأما الأكثرون فأصرُّوا على الشرك، فأغرقهم اللهُ بالماء غرقًا عامًّا: بالماء من تحت، وبالماء من فوق، فنزل الماءُ من فوق، ونبع الماءُ من تحت، حتى غرقوا عن آخرهم، نسأل الله العافية.

فالمقصود أنَّ الغلو كما وقع في سابق الزمان في قوم نوحٍ، ووقع بعد ذلك في اليهود والنصارى، ووقع في هذه الأمة، هو ما ذكره المؤلفُ رحمه الله.

روى مالك في "الموطأ"، ومالك هو: مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر الأصبحي، القحطاني، من أصبح اليمن، إمام مشهور، وهو إمام دار الهجرة في زمانه، في المئة الثانية من الهجرة، كان إمامًا عظيمًا، وعالـمًا جليلًا رحمه الله، توفي سنة 179 في آخر القرن الثاني، وكان إمامًا مشهورًا، وله أتباع ومذهب معروف.

روى مالك في "موطئه"، في الكتاب الذي سمَّاه: الموطأ، عن النبي ﷺ أنه قال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، رواه مرسلًا عن عطاء بن يسار، ورُوي أيضًا عن يزيد بن أسلم، ورُوي متَّصلًا إلى النبي ﷺ، عن أبي سعيدٍ الخدري: أن النبي ﷺ قال: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد.

هذا يدل على أنهم إذا اتَّخذوها مساجد جعلوها أوثانًا، وهو واقعٌ، فإنهم لما بنوا عليها -على القبور- واتَّخذوا عليها مساجد، عظَّموها بالدعاء، واستغاثوا بها، وطافوا بها، ونذروا لها، فصارت أوثانًا.

وهكذا اللَّات لما غلا فيه أهلُ الطائف وعظَّموه جعلوه وثنًا، كما قال مجاهد: "كان يلت السّويق للحاجِّ فمات فعكفوا على قبره". وكذلك قال ابنُ عباسٍ: أنه كان يلت لهم السّويق ..... فيُطعمهم، فعظَّموه، وغلوا فيه، فلما مات عبدوه، وجعلوا عليه قُبَّةً وأستارًا وعظَّموه، وصار إلهًا لأهل الطَّائف ومَن سار على طريقهم.

فيجب على المؤمن أن يحذر هذه الأشياء، وعلى المسلمين جميعًا أن يحذروا هذه الأشياء التي وقع فيها الجهلةُ في العهد الأول، ووقع فيها الجهلةُ في العهد الأخير، فهذا أمرٌ مستمرٌّ، من عهد نوحٍ إلى يومنا هذا وهم يعبدون مَن غلوا فيه وعظَّموه ونسبوه للصلاح، ويقولون: إنه يشفع، فنحن ندعوه، ونستغيث به، وننذر له، وهو يشفع لنا عند الله. فجعلوهم قرابين يتقرَّبون بهم، جعلوهم شفعاء في عبادة من دون الله، فالله أنكر عليهم هذا، وأرسل الرسلَ، وأنزل الكتبَ تدعوهم إلى ترك ذلك، ونهاهم عن هذا الأمر، وأمرتهم الأنبياءُ أن يُخلصوا العبادةَ لله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فبين الربُّ أن اتِّخاذهم هذه الأصنام والقبور يعبدونها أنها اتِّخاذ آلهةٍ مع الله.

فلما قال الرسولُ لقريش: يا قوم، قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا، أنكروا هذا وقالوا ما ذكر اللهُ عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقالوا: أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36]، فزعموا أنَّ ترك آلهتهم أمرٌ لا ينبغي أن يُهمل، ولا ينبغي أن يُطاوعوا مَن نهاهم عن ذلك، هذا لجهلهم وضلالهم وفساد العقول وتلوثها بالشرك، نسأل الله العافية.

فعرفت بهذا أنَّ البناء على القبور واتِّخاذ المساجد عليها من الغلو، وأنه يُصيرها أوثانًا تُعبد من دون الله، ولو ما عبدوها أولًا، لو بنوا عليها قبَّةً أو مسجدًا ولم يعبدوها، بعد ذلك يأتي غيرهم -أولادهم أو بعد أولادهم- فيعبدونها؛ لأن الوسائل تجرُّ إلى الغايات؛ ولهذا حرَّم اللهُ الوسائل، وهي البناء على القبور، واتِّخاذ المساجد عليها، واتِّخاذ القباب؛ لأنها وسيلة تجرُّ مَن فعلها أو مَن بعدهم إلى أن يستغيثوا بهم، وينذروا لهم، ويطوفوا بقبورهم، فيقع الشِّركُ الأكبر.

وهكذا في حديث ابن عباسٍ: أن الرسول لعن زائرات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج.

فهذا الحديث دلَّ على مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: زيارة القبور للنِّساء: وهي مُحرَّمة على الصحيح؛ لأنَّ الرسول لعن زائرات القبور، فدلَّ على أنهن لا يزرنها، وهكذا في حديث حسان بن ثابت، فهي تدل على تحريم الزيارة للنساء، وهي مُختصة بالرجال على الصحيح.

والمسألة الثانية والثالثة: اتِّخاذ المساجد والسُّرج على القبور: فلا يجوز اتِّخاذ المساجد عليها؛ لما تقدم من الأحاديث: قوله ﷺ: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد متفق عليه. ولقوله فيما رواه مسلم في الصحيح عن جندبٍ: ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.

فبين ﷺ أنَّ مَن قبلنا كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وأنه ينهانا عن هذا، ألا نتأسَّى بهم؟ وألا نقتدي بهم؟ بل نحذر ذلك.

وفي حديث ابن مسعودٍ: إنَّ من شِرار الناس مَن تُدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتَّخذون القبورَ مساجد؛ لأنهم ..... الوسيلة، فيجب على المؤمن أن يحذر هذه الوسائل، ويُحذرها الناس في دعوته إلى الله أينما كان، يُبين لهم أنَّ هذه الوسائل تجرُّ إلى الشرك، وأنَّ الواجب هدم المساجد على القبور، وهدم الأبنية والقباب، وجعلها ضاحيةً بارزةً، ليس عليها شيء، كما كان أصحابُ النبي ﷺ في عهده وبعد عهده يجعلون قبورَهم بارزةً، ليس فوقها بناءٌ ولا قبابٌ ولا مساجد، بل بارزة، ضاحية للشمس، وهكذا قبور المسلمين في كل مكانٍ، حتى حدث هؤلاء الغُلاة من الرافضة ومَن تابع الرافضة.

نسأل الله للجميع العافية، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

.............

 

باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ جناب التوحيد، وسدّه كل طريقٍ يُوصل إلى الشِّرك

وقول الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ الآية [التوبة:128].

عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود بإسنادٍ حسنٍ، ورواته ثقات.

وعن علي بن الحسين : أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أُحدثكم حديثًا سمعتُه من أبي، عن جدِّي، عن رسول الله ﷺ؟ قال: لا تتَّخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ تسليمكم ليبلغني أينما كنتم رواه في "المختارة".

 

الشيخ: (باب ما جاء في حماية النبي ﷺ جناب التوحيد، وسدّه كل طريقٍ يُوصل إلى الشِّرك) هذه الترجمة بيَّن فيها المؤلفُ رحمه الله ما جاء به المصطفى ﷺ من حماية جناب التوحيد من الأقوال والأفعال الشِّركية، ويأتي في آخر باب في آخر الكتاب أيضًا: (باب ما جاء في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد، وسده طرق الشِّرك)، وهما بابان عظيمان، جديران بالتَّدبر والنَّظر والعناية؛ حتى يُحقق المؤمنُ وطالبُ العلم ما تضمناه.

فهذا الباب يقول فيه: (باب ما جاء في حماية النبي جناب التوحيد)، قال هنا: (جناب)، وجنب الشيء وجانبه: الجزء منه، والبعض منه، في الترجمة الأخيرة قال: (حمى التوحيد)، والحمى غير الجانب، الحمى زائد على الجانب، وزائد على الشيء، فالأخيرة أبلغ من الأولى؛ لأنَّ الأولى في الجانب، والأخيرة في الحمى.

وأيضًا هذه ذكر فيها حماية جانب التوحيد من جهة الوسائل الفعلية، وهناك من جهة الوسائل القولية، وإن كان البابان يشملان هذا وهذا من حيث المعنى، لكن هنا ذكر الحماية الفعلية، وهناك الحماية القولية، فافترق البابان، وليسا بمُكررين، بل هذا له شيء، وهذا له شيء، هذا من جهة الفعل، ومن جهة الجانب، وذاك من جهة القول، ومن جهة الحمى، وإن كان الحمى من جهة الجانب في الفعل، كذلك الحمى من جهة القول، كما في الترجمة الأخرى.

(باب ما جاء في حماية النبي ﷺ جناب التوحيد، وسدّه كل طريقٍ يُوصل إلى الشِّرك) يعني: بنهيه عن ذلك، بالنهي عن وسائل الشرك، والتَّحذير منها، فقد حمى جانبه، لما نهى عن وسائل الشرك وحذَّر منها صار بذلك حامٍ لجنابه من أن يقع في الشِّرك، من أن يقع أهلُه في الشِّرك بأفعالهم أو بأقوالهم.

قال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، هذا وصفه عليه الصلاة والسلام: لَقَدْ جَاءَكُمْ خطاب لقريشٍ وغيرهم ممن يعرفه عليه الصلاة والسلام، وهو خطابٌ للأمَّة في الحقيقة جميعًا، لكنه خاطبهم لكونهم يعرفونه.

وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: تعرفون نسبَه، وتعرفون أمانته وصدقه، ليس بخافٍ عليكم، فهو من أنفسكم، فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وهم يعرفون بني هاشم، يعرفون قريشًا، ويعرفون فضل بني هاشم، هو شيء معروف عندهم.

قرأ بعضُهم: مِنْ أَنْفَسِكُمْ يعني: أشرفكم، والقراءة المعروفة: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: جزء منكم، ولد منكم، معروف عندكم بالأمانة والصِّدق، وكانوا يُسمونه: الأمين قبل أن يُوحى إليه عليه الصلاة والسلام؛ لأمانته، وفضله، وصدقه عليه الصلاة والسلام.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ يعني: شاقٌّ عليه، عزَّ عليه كذا: شقَّ عليه كذا، يعني: شاقٌّ عليه ما يشقّ عليكم، مَا عَنِتُّمْ ما مصدرية، يشقُّ عليه عنتكم وحرجكم ومضرَّتكم، يعني: يشقّ عليه الشيء الذي يُحرجكم ويشقّ عليكم ويُتعبكم؛ لرحمته بهم عليه الصلاة والسلام، وعطفه عليهم، وحنوه عليهم عليه الصلاة والسلام.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يعني: حريصٌ على هدايتكم، وإنقاذكم من النار، وإيصال الخير إليكم، ودفع الشَّر عنكم بدعائه، وبأعماله عليه الصلاة والسلام، وبما يملك من مالٍ وغيره.

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فهو رؤوفٌ بالمؤمنين، رحيم بهم، يُحسن إليهم، ويعطف عليهم، ويُواسيهم، ويذبّ عنهم، ولكنه على أعداء الله غليظٌ على أعداء الله، شديدٌ على أعداء الله، كما أمره الله بذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، وهو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ عليه الصلاة والسلام، وبأعداء الله شديد عليهم، غليظ عليهم؛ لكفرهم، وضلالهم، وبُعدهم عن الحقِّ.

فهذه أوصافه ﷺ: من أنفس قريش، ويشقّ عليه ما يُحرجكم ويشقّ عليكم، وهو حريصٌ على هدايتهم، وعلى سلامتهم، وعلى إنقاذهم من النار، وهو رؤوفٌ بهم، رحيمٌ بهم.

فهذه خمس صفاتٍ تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يدَّخر وسعًا فيما ينفعهم، وفيما يجلب الخيرَ إليهم، وفيما يدفع الشَّر عنهم، فالواجب عليهم وهم يعرفون هذه الصِّفات أن يتَّبعوه، وألا يُعادوه، ولكن وقع العكس، وقع منهم العكس: مع معرفتهم بهذه الصِّفات، معرفتهم لأمانته، وصدقه، وحدبه عليهم، وإحسانه إليهم، ورأفته، ورحمته بهم، مع هذا كله هم عاملوه بالعكس، وعادوه، وآذوه، حتى همُّوا بقتله، وعزموا على قتله، حتى أنجاه الله منهم، وهاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، ثم أظهره اللهُ عليهم، وعفا عنهم، وصفح عنهم عليه الصلاة والسلام.

فهذا كله مما وصفه الله به من الرأفة والرحمة عليه الصلاة والسلام، ومَن كان بهذه الصِّفات فإنه لا يُهمل أمَّته، بل ينهاهم عمَّا يضرُّهم، ويُحذِّرهم ما يضرُّهم، ويأمرهم بما ينفعهم؛ ولهذا نهى عن وسائل الشِّرك، وحذَّر من أسبابه، ودعا إلى التوحيد وأمر به، وحثّ الناس على لزوم الاستقامة، والبُعد عن أسباب الهلاك في أحاديث لا تُحصى، منها ما ذُكر في الباب، ومنها قوله في الأبواب الماضية: لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وقوله: إياكم والغلو في الدِّين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين، إلى غير هذا: هلك المتنطِّعون، إلى غير ذلك، كلها تدل على تحذيره من وسائل الشِّرك، فإنَّ الغلو في الدِّين وسيلة، التَّنطع وسيلة، الإطراء وسيلة، ومع هذا نهى عن هذا كله، قال: لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، هذا تحذيرٌ أيضًا من أسباب الشِّرك، ومن وسائله.

فهي أدلة كثيرة كلها تدل على حمايته ﷺ جنابَ التوحيد، وسدّه كل طريقٍ يُوصل إلى الشِّرك، ومن هذا ما ذُكر في الباب من حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا تجعلوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم، هذا أيضًا من حماية جناب التوحيد.

لا تجعلوا قبري عيدًا يعني: تكرار للمجيء إليه للدعاء عنده، أو الصلاة عنده، أو دعاؤه، والاستغاثة به، ونحو ذلك، فالعيد: ما يتكرر ويعود في اليوم، أو في الأسبوع، أو في الشهر، أو في السنة، يُقال له: عيد.

فنهاهم أن يتجمَّعوا عند قبره في الشهر، أو في الأسبوع، أو غير ذلك ليتَّخذوه عيدًا يدعون عنده، أو يجتمعون على الولائم عنده، أو ما أشبه ذلك .....، أما كونهم يُسلمون عليه فقط، من غير تجمُّعٍ، ولا اتِّخاذه محل عيدٍ، ولا محل صلاةٍ عند قبره، فإنَّ له مجرد السلام عليه عليه الصلاة والسلام، هذا لا يدخل في ذلك، فالسلام عليه، وزيارة قبره من غير شدِّ الرَّحْل لا بأس بها عند أهل العلم جميعًا.

ولا تتَّخذوا بيوتَكم قبورًا يعني: لا تجعلوا بيوتكم مثل القبور لا يُصلَّى فيها، ولا يُقرأ عندها، بل اقرؤوا في البيوت، وصلوا في البيوت؛ ولهذا في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتَّخذوها قبورًا، فدلَّ ذلك على أنَّ القبور لا يُصلَّى عندها، ولا يُقرأ عندها، فلا ينبغي تشبيه البيوت بها، لا، ينبغي لك أن تُصلي في بيتك التَّهجد بالليل، صلاة النافلة، صلاة الضحى، الرَّواتب صلِّها في البيت أفضل؛ حتى لا يكون بيتُك كالقبور، أما الفرائض فلا بدَّ من صلاتها في المساجد، في بيوت الله جلَّ وعلا، هذا أمرٌ معلومٌ، وإنما المراد النَّوافل.

وصلُّوا عليَّ هذا فيه حثٌّ على الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم.

وهكذا في حديث علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدِّه. أبوه هو الحسين بن عليٍّ، وجده هو علي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع، وعليٌّ هذا هو زين العابدين، يُلقب بزين العابدين، وهو من أفضل قريش وبني هاشم، ومن أفضل التابعين رحمه الله.

يقول: رأى رجلًا يأتي إلى فرجةٍ عند قبره ﷺ فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، ثم قال بعد ذلك: ألا أُحدثكم حديثًا سمعتُه من أبي، عن جدِّي، عن رسول الله ﷺ؟ أنه قال: لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ تسليمكم يبلغني أينما كنتم.

فهذا هو وحديث أبي هريرة كلاهما في معنى واحدٍ، يعني: يحثُّهم ﷺ ألا يتَّخذوا قبره عيدًا، وألا يخصُّوه بالصلاة عنده، بل يُصلون أين كانوا، يُصلون عليه ﷺ في الطرق، في البلدان البعيدة، في بيوتهم، في أي مكانٍ يُصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام: اللهم صلِّ عليه وسلم صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين. وليس قبره محلَّ الصلاة فقط، لا، بل الصلاة عليه مشروعة في كل مكانٍ عليه الصلاة والسلام.

وهذا علي بن الحسين -زين العابدين- أنكر على هذا الذي يأتي إلى الفرجة، وبيَّن له أنَّ هذا ليس بمشروعٍ، وأنك تُسلم عليه وتمضي لا تجلس عند القبر تدعوه.

وهكذا الحسن بن الحسن بن علي -ابن عمه- جاء عنه أنه رأى رجلًا يأتي إلى القبر ويدعو عنده، فقال: ما أنت؟ ومَن ..... إلا سواء .....: لا تجعلوا قبري عيدًا .. إلى آخره، هذه سنة جاءت عن أهل البيت: علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدِّه. والحسن بن علي كذلك، كلهم بيَّنوا أنَّ اتخاذ القبر عيدًا أمرٌ منكرٌ؛ لأنه وسيلة إلى الشِّرك، إذا عكفوا عنده، وجعلوه محلًّا للصلاة عنده، أو الدعاء عنده، جرَّهم هذا إلى الشِّرك والغلو ودُعائهم من دون الله ، فحسم النبيُّ ﷺ المادةَ، ونهاهم عن اتِّخاذه عيدًا؛ حتى لا يجرّهم هذا إلى الشِّرك.

وهكذا نهى عن اتِّخاذ القبور مساجد، يعني: البناء عليها وتجصيصها يجرّ إلى الشِّرك بها، إذا بُني عليها مسجد، أو نصبت، أو أُسرجت، أو فُرشت صار ذلك من أسباب تعظيم العامَّة، وظنَّ العامة أنها تُجيب النذر، وأنها تُجيب الدعاء، وأنها تنفع، وأنها، وأنها، فعبدوها من دون الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قد وقع.

فالرسول ﷺ حمى حمى التوحيد، وحمى جانب التوحيد من الطرق الموصلة إلى الشِّرك: القولية والفعلية عليه الصلاة والسلام، فلا خيرَ إلا دلَّ عليه، ولا شرَّ إلا حذَّر منه عليه الصلاة والسلام، فالواجب اتِّباعه، والواجب امتثال أمره، والحذر من نهيه، وأن يبتعد عن كلِّ ما يجرُّ إلى الشِّرك والغلو في الأموات، أو في الأنبياء، أو في غيرهم من الناس، وأن يلزم المؤمنُ الطريقَ السَّوي، وهو لزوم ما لزمه الصحابة، والسير على ما سار عليه الصحابة، واتِّباع نبيهم عليه الصلاة والسلام، فلم يبنوا على قبره مسجدًا، ولم يتَّخذوا قبره عيدًا، ولا قبر أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غير ذلك، بل ترضوا عنهم، ودعوا لهم، ولم يُحدثوا ما أحدثه الناسُ مع قبور اليوم من البناء عليها، واتِّخاذها مساجد، إلى غير ذلك مما وقع من الناس: من الطواف بها، وسؤالها، والاستغاثة بها، فالرسول نهاهم عن وسائل الشرك، وهم وقعوا في الشرك نفسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة، وفَّق اللهُ الجميع.

باب ما جاء أنَّ بعض هذه الأمة تعبد الأوثان

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51].

وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60].

وقوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21].

عن أبي سعيدٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتُموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنَّصارى؟ قال: فمَن؟ أخرجاه.

الشيخ: قال المؤلفُ رحمه الله: (باب ما جاء أنَّ بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) يعني: باب ما جاء من الآيات والأحاديث الدالة على أنَّ بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، وأنه يختل النِّظام، ويقع الشِّرك.

وقد جاء في هذا الباب أحاديث وآيات كلها دالة على ما ذكر المؤلف، وأنها غير معصومةٍ بوقوع الشِّرك فيها، فقد دخل الناسُ في دين الله أفواجًا، ثم صاروا يخرجون من ذلك بعد ذلك، كما وقع في عهد الصديق من أهل الردة، ووقع بعد ذلك أيضًا.

قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا فأخبر أنَّ أناسًا أوتوا نصيبًا من كتابهم -وهم اليهود والنصارى- يؤمنون بالجبت وهو الساحر، والطاغوت وهو الشيطان: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، وهذا قاله اليهودُ: كعب بن الأشرف، وحُيي بن الأخطب، قالوا: إنَّ قريشًا أهدى من محمدٍ وأصحابه سبيلًا. قالوه وهم يعلمون أنَّ هذا باطل، لكن قالوه عنادًا وحسدًا وبغيًا، وإلا هم يعلمون أنَّ محمدًا وأصحابه أهدى، ولكن هذا من خُبثهم وحسدهم وبغيهم وخلافهم لما عندهم من الحقِّ، قالوا هذا الكلام وقد أوتوا نصيبًا، يعني: أوتوا حظًّا من الكتاب، ولكنهم لم يعملوا به، بل خالفوه، وآمنوا بالجبت والطاغوت، وقالوا في حقِّ المؤمنين من محمدٍ وأصحابه: إنَّ قريشًا أهدى منهم سبيلًا في حال كفرهم وضلالهم. فإذا كان هذا وقع من اليهود، فهو يقع من هذه الأمة أيضًا بعد نبيها عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الرسول قال: لتتبعن سنن مَن كان قبلكم، لتأخذنَّ مأخذ مَن قبلكم، فدلَّ ذلك على أنه يُوجد في أمة محمدٍ ﷺ مَن ادَّعى الإسلام، ودخل في الإسلام مَن يكفر ويقول: إنَّ الكفرة أهدى من أتباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام. كما قد وقع ذلك من أزمان طويلة، والآن يقع، يُفضلون اليهود والنَّصارى والملاحدة والشيوعية على ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا داخلٌ في قوله: لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة.

وهكذا قوله جلَّ وعلا: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60]، فإذا كان فيمَن قبلنا مَن عبد الطاغوت، وهو الشيطان، وكل ما يُعبد من دون الله يُسمَّى: طاغوتًا، فهكذا يُوجد في أمَّة محمدٍ مَن يعبد الطاغوت، يعني: مَن يعبد الأوثان، بدليل قوله ﷺ: لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة، وهكذا قوله جلَّ وعلا: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، إذا كان في الماضين مَن اتَّخذوا المساجدَ على القبور وعظَّموها، فهكذا في هذه الأمة يقع مَن يُعظم المساجد على القبور ويبنيها، وهذا قد وقع من أزمانٍ طويلةٍ، من عهد القرن الأول، في آخر القرن الأول من الرافضة، هم أول مَن بنى المساجد على القبور، وعظَّم القبور بالشِّرك -والعياذ بالله- ثم تابعهم مَن يدَّعي الإسلام، فعظَّموا القبور بالبناء عليها، واتِّخاذ القباب عليها والمساجد، حتى عُبدت من دون الله، كما فعلوا في غالب بلدان المسلمين، فاتّخذت المساجد على القبور، والقباب على القبور، وعظمت، وأُسرجت، وفُرشت، وطُيبت، وصار لها السَّدنة والدُّعاة إلى الشِّرك.

كل هذا مصداقٌ لما قال ﷺ: لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة، والقُذة: السَّهم، كانوا يرمون بالسِّهام في العهد الأول، ويكون ..... في أوله، وفي آخره، حتى يستعين بها الرامي في إصابة الهدف، فكما أنَّ هذه تشبه هذه، فهكذا مَن وقع من كفَّار هذه الأمة أشبهوا مَن قبلهم في الشِّرك بالله وعبادة الأوثان والأصنام، نسأل الله العافية.

وكما أنه وقع في الأولين مَن سبَّ أتباع الرسل، وسبَّ أتباع نوحٍ، وأتباع هود، وأتباع صالح، وأتباع موسى، وأتباع عيسى، هكذا وقع في هذه الأمة مَن سبَّ أتباع محمدٍ ﷺ، وسبَّ أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام: كالرافضة، والخوارج، وأشباههم.

فكل شرٍّ وقع في الماضين، وكل كفرٍ وقع في الماضين يقع في هذه الأمة مثله؛ لقول النبي ﷺ: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعةُ حتى تضطرب آلياتُ نساء دوسٍ حول ذي الخلصة رواه البخاري.

ودوس هم معروفون في جهة الجنوب الأدنى من اليمن، تبع هذه المملكة في بلاد دوس ..... وقع في عهدٍ قريبٍ قبل هذه الدولة مَن عظَّم هذا الصنم، وأعاده، وطافوا به، وسوف يقع بعد ذلك أيضًا، نسأل الله السلامة، صارت نساء تطوف به عبادةً له من دون الله .

وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعةُ حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئامٌ من أمتي الأوثان، وقد وقع.

قالت عائشةُ رضي الله عنها: عن النبي ﷺ: لا تذهب الليالي والأيام حتى تُعبد اللَّات والعزَّى رواه مسلم.

هذا كله سوف يقع كما أخبر به النبيُّ عليه الصلاة والسلام، هذا يُوجب للمؤمن الحذر، وألا يغترَّ بقول مَن قال: إنَّ هذه الأمة مُطهرة، لا يقع فيها شركٌ. هذا باطلٌ، هذا غلطٌ، الآن: بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، وقد عاد غريبًا كما بدأ.

فهؤلاء الذين يقولون: لا يقع شركٌ. هؤلاء جهلة، ما عرفوا الدِّين، ولا عرفوا الإسلام؛ ولهذا بيَّن أهلُ العلم في كتبهم أنَّ هذه الأمة يقع فيها الشِّرك، ويقع فيها الضَّلال، كما وقع فيمَن قبلها، فالواجب الحذر؛ ولهذا قال ﷺ: بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، لو كانت هذه الأمةُ مُطهرةً، ما يقع فيها شركٌ، فكيف يكون غريبًا؟!

المقصود من هذا كله الدلالة على التَّحذير من أسباب الشِّرك ووسائله وذرائعه، والحذر من دعوة أهل الباطل وتزيينهم الباطل الذي قد يلتبس على الناس حتى يظنّوه دينًا، حتى يظنوه شرعًا، وهو خلاف ذلك.

رزق اللهُ الجميع العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: ...............؟

ج: هو ييأس، لكن ما هو يأس معصوم، هذا يحتجّ به الجهَّال وعُبَّاد الأوثان، الشيطان ييأس من الشيء، ويحصل، لما رأى ظهور الدين وظهور الإسلام يئس، ولكنه وقع الشِّرك كما أخبر به النبيُّ ﷺ.

ولمسلم عن ثوبان : أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأُعطيتُ الكَنْزين: الأحمر والأبيض. وإني سألتُ ربي لأمَّتي أن لا يُهلكها بسنةٍ بعامَّةٍ، وأن لا يُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإنَّ ربي قال: يا محمد، إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُردُّ، وإني أعطيتُك لأمَّتك أن لا أُهلكهم بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا أُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، حتى يكون بعضُهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا، ورواه البرقاني في "صحيحه"، وزاد: وإنما أخاف على أمَّتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيفُ لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم السَّاعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئامٌ من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمَّتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النَّبيين، لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ منصورة، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمرُ الله تبارك وتعالى.

الشيخ: قال المؤلفُ رحمه الله: (ولمسلم) يعني: وروى مسلمٌ في "صحيحه" عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ أنه قال: إنَّ الله زوى لي الأرض يعني: زوى لنبيه ﷺ الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها يعني: جمعها له حتى رآها عليه الصلاة والسلام، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، هذا علمٌ من أعلام النبوة؛ فإنَّ ملكَ الأمَّة اتَّسع شرقًا وغربًا، فوصل في الغرب إلى طنجة، وإلى أقصى المغرب، وإلى إسبانيا، ووصل في المشرق إلى الصين وما حول ذلك، وأدَّى ملكُ الصين الخراجَ للمسلمين، فاتَّسع ملكُهم شرقًا وغربًا، وليس كذلك جنوبًا وشمالًا.

وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وإني أُعطيتُ الكنزين: الأحمر والأبيض هذه كنوز كسرى وقيصر، وهما أعظم دولةٍ في ذاك الوقت، الدَّولتان المذكورتان هما أعظم الدول ذاك الوقت، وأشهر الدول: الروم النصارى، والفرس الوثنيون، وقد أعطاه اللهُ كنوزهما، وفتح الله على أصحابه هاتين الدَّولتين، فإنَّ المسلمين غزوا الروم، وغزوا فارس، واستنقذوا بلاد الشام وبلدانًا كثيرةً من أيدي الروم، وحصلوا من كنوزهم العظيمة الشيء الكثير، وهكذا استنقذوا بلاد فارس وأخذوها من أيدي فارس، وقتلوا ملوكهم، وشرَّدوهم، واستولوا على بلادهم، لما أصرُّوا على الكفر ولم ينقادوا إلى الإسلام.

قال عليه الصلاة والسلام: لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، وقد وقع ذلك، وقد افتتحتا في عهد عمر ، وعهد عثمان، واستكمل فتحهما في عهد عثمان، وأُنفقت كنوزهما في سبيل الله، هذا مصداق ما أخبر به النبيُّ ﷺ، وهو علمٌ من أعلام النبوة.

وإني سألتُ ربي لأمَّتي ألَّا يُهلكها بسنةٍ بعامَّةٍ، وألَّا يُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضَتهم، وإنَّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتُك لأمَّتك ألا أُهلكها بسنةٍ عامَّةٍ، وألا أُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم أي: من غيرهم، فيستبيح بيضتَهم مُجتمعهم، وخلاصتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها أقطار الدنيا، حتى يكون بعضُهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا.

هذا الحديث العظيم من أعلام النبوة، بيَّن فيه ﷺ أنه سأل ربَّه ألا يُهلك الأمَّة بسنةٍ عامَّةٍ، يعني: هلاكًا عامًّا، كما جرى على قوم صالح، وقوم هود، وقوم نوح، وقوم لوط، وأشباههم، فالله رحم هذه الأمة وحفظها من الهلاك العام؛ لأنها آخر الأمم، ولما جعل اللهُ لنبيها من البركة والخير والرحمة عليه الصلاة والسلام، فهذه الأمَّة تبقى إلى أن تقوم الساعةُ مع آخرها، ولا تهلك بسنةٍ عامَّةٍ، كما هلك مَن قبلها من الأمم.

وكذلك دعاه ألا يُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، فأجاب الله دعوته أنه لا يُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم حتى يُهلكهم، لكن قال: حتى يهلك بعضُهم بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا يعني: إذا تسلَّطوا فيما بينهم وتقاتلوا فيما بينهم سلّط عليهم أعداؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو واقعٌ، فإنهم لما تفرَّقوا واختلفوا وتقاتلوا طمع فيهم الأعداءُ، حتى أخذوا غالبَ ما في أيديهم، واستولوا على غالب ما في أيديهم من البلدان والأموال والكنوز والمعادن وغير ذلك، بأسباب اختلافهم، وبأسباب تقاتلهم فيما بينهم من دهرٍ طويلٍ، من قرونٍ مُتقدمةٍ.

وقوله سبحانه: فإني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُردُّ، هذا حقٌّ، معناه: أنه ما قضاه الله وقدَّره لا يردّه أحدٌ، فمَن سبق في علم الله أنه واقعٌ لا يردّه أحدٌ، فقد سبق في علم الله أنَّ هذه الأمة يقع فيها الاختلاف والنِّزاع، وأنَّ دعوته ﷺ لهم لم تُستجب في أنهم لا يختلفون ولا يتنازعون، بل مُنِعَ هذه الدَّعوة؛ فلهذا وقع فيهم النِّزاع، واختلفوا في العهد الأول، كما جرى بين عليٍّ ومعاوية، ثم ما وقع بعد ذلك من الخلافات والنِّزاعات الكثيرة، وما وقع يوم بغداد حين هدمت وسُلط عليهم العدو الملحد، وهم التتر، على يد رئيسهم جنكيز خان.

وهكذا وقعت أمور بعد ذلك كثيرة من اختلافٍ وقتالٍ فيما بينهم، حتى جرى ما جرى، وحتى أخذ العدوُّ منهم الشيء الكثير بأسباب عدم تمسُّكهم بالحقِّ على الوجه الأكمل، فلما غيَّروا غيَّر عليهم: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

وبهذا يُعلم أنَّ الأمة إذا اجتمعت على الحقِّ، وتعاونت، واستقامت، فإنها تغلب عدوَّها، ويُخلصها الله من عدوها، ويجمع لها الخير، ومتى تفرَّقت وانشقَّ بعضُها على بعضٍ طمع فيهم الأعداء، وسهل على الأعداء أخذ هؤلاء، وأخذ هؤلاء، نسأل الله السلامة والعافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول رحمه الله: (ورواه البرقاني)، حديث ثوبان تقدم، حديث ثوبان رواه مسلم، قال: (ورواه البرقاني) البرقاني يُضمّ ويُفتح ويُكسر: بُرقاني، وبَرقاني، وبِرقاني، على اختلافٍ في اسم البلد التي نُسب إليها.

(ورواه البرقاني في "صحيحه" وزاد) وبعضهم قال: بالفتح والكسر فقط، ولم يأتِ بالضم.

(ورواه البرقاني في "صحيحه" وزاد: وإنما أخاف) يعني: زاد في حديث ثوبان، ما رواه مسلم، ثم زاد على ذلك ما نصّه: وإنما أخاف على أمَّتي الأئمة المضلين، وهذا يُفيدنا أنَّ خطرهم عظيم، الأئمة المضلون هم الولاة -ولاة السوء- فإنهم يُتَّبعون، ويُتأثر بهم، ويُستعان بهم على الباطل؛ فلهذا خافهم على أمَّته عليه الصلاة والسلام.

وإذا وقع عليهم السيفُ لم يُرفع إلى يوم القيامة، والأئمة المضلون يشمل: الأمراء، والحُكَّام من القُضاة، يشمل هؤلاء وهؤلاء: الحاكم الضَّال، والقاضي الضَّال، كلهم ضررهم عظيم.

وإذا وقع عليهم السيفُ لم يُرفع إلى يوم القيامة وقد وقع ذلك، وهذه من علامات النبوة، فإنه لما قُتل عمر فُتح باب فتنةٍ، ثم قُتل عثمان فزاد الشَّرُّ والبلاء.

وفي الحديث الصحيح أيضًا: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم حذو القُذة بالقُذة كما تقدم، فهذا يدل على وقوع الشِّرك في الأمة: في الجزيرة، وفي غيرها، وأنها لن تقوم الساعةُ حتى يقع هذا في الجزيرة وفي غيرها، وقد وقع من هذا الشيء الكثير، فعبدوا القبور، واستغاثوا بالموتى، وتعلَّقوا بهم، ونذروا لهم، وذبحوا لهم، وهذه هي الوثنية، نسأل الله السَّلامة.

أما حديث: إنَّ الشيطان قد يئس أن يُعبد في جزيرة العرب فهذا عند أهل العلم له أجوبة عدة:

منها: أنَّ يأسه غير معصومٍ، وقد ييأس من الشيء ويحصل، وقد يرجوه ولا يحصل، ولم يقل النبيُّ: "إنَّ الله يأسه"، وإنما يئس هو، فهو قد يرجو الشيء ولا يحصل، وقد ييأس منه ويحصل، فليس بمعصومٍ.

وأجاب أهلُ العلم بجوابٍ آخر: وهو أنه يئس أن يعودوا على حالهم الأولى، ويُطبقوا على الشِّرك، ويعودوا على حالهم الأولى، وهذا لا يقع، فإنها لا تزال طائفةٌ على الحقِّ منصورة حتى يأتي أمرُ الله.

وجواب ثالث: وهو أنه أراد بذلك الصَّحابة؛ لأنه في الرواية الأخرى: أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، والمصلي "ال" للعهد، يعني: المصلين الصحابة؛ لأنَّ الله فتح عليهم، ووفَّقهم، وبصَّرهم، فيئس الشيطانُ أن يعودوا لجهلهم، مثلما في حديث عقبة: إني لا أخاف عليكم أن تُشركوا بعدي يعني: أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

وكل الأجوبة الثلاثة صحيحة، كلها صحيحة؛ فإنَّ يأسه غير معصومٍ، ومحتمل أن يكون أراد: يئس أن يُطبقوا ويعودوا إلى حالهم الأولى، ولم يعودوا، بل لا تزال طائفةٌ، كذلك يحتمل أنه أراد الصحابة، في الرواية الأخرى: أن يعبده المصلون، والله عصم الصحابة وحفظهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وإنه سيكون في أمَّتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النَّبيين، لا نبيَّ بعدي هذا فيه أنه يقع بعده كذَّابون يدَّعون النبوة، وهذا من علامات النبوة، فالذي أخبر به وقع عليه الصلاة والسلام، فدلَّ على أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، وقد تنبأ كثيرون وزعموا أنهم أنبياء، وهم كذَّابون، كفَّار، ضالون، منهم مُسيلمة في هذه الجزيرة هنا، ادَّعى النبوة، وقاتله الصحابةُ حتى قتلوه، ومنهم الأسود العنسي في اليمن، قُتل أيضًا في آخر حياة النبي ﷺ، ومنهم سجاح التَّغلبية، وقد تابت ورجعت عن غيِّها، ومنهم طُليحة الأسدي، وقد تابعه جمٌّ غفيرٌ من أسد، ثم هداه الله وتاب، ومنهم جماعة آخرون، وآخرهم الدَّجال يدَّعي النبوة، ثم يدَّعي أنه ربُّ العالمين، قاتله الله.

وأنا خاتم النَّبيين، لا نبيَّ بعدي فهو خاتم الأنبياء ﷺ، ليس بعده نبي، والمراد بهؤلاء المدَّعين يعني: الذين يكون لهم شوكة، ولهم صولة، ويكون لهم شبهة، وإلا المدّعون للنُّبوة كثيرون، لا يُحصون، بعضهم لجنونٍ، وبعضهم لخللٍ في عقله غير الجنون، وبعضهم لأسبابٍ أخرى، لكن المقصود الثلاثين الذين هم لهم شأنٌ، ولهم شوكةٌ، ولهم شُبهةٌ، ويتبعهم أناسٌ.

قال: ولا تزال طائفةٌ من أمتي على الحقِّ منصورة، لا يضرّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمرُ الله، كذلك هذا من علامات النبوة، ومن البشرى للمسلمين، وأنها لا تزال طائفةٌ على الحقِّ منصورة، ولم تزل هذه الطائفة والحمد لله، ونحن في القرن الخامس عشر هذه الطائفة لا تزال إلى أن يأتي أمرُ الله، ويأتي بالريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ثم يبقى الأشرار، فعليهم تقوم الساعةُ.

وهذه الريح تقع في آخر الزمان، وسوف تقع كما أخبر به النبيُّ ﷺ، يقبض اللهُ بها أرواح المؤمنين والمؤمنات، ثم يبقى الأشرارُ، فعليهم تقوم السَّاعة، نسأل الله العافية والسلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: هذه الطَّائفة المنصورة في أرض الشَّام؟

ج: جاء في بعض الرِّوايات أنها تكون في الشام، ولكن إن صحَّ يعني: تكون في بعض الأحيان، ما هو بدائم، والغالب في الرِّوايات أنها ضعيفة، وليس لها مكان معين: قد تكون في الشام، وقد تكون في غير الشام، قد تجتمع، وقد تفترق، ليس في الحديث ما يدل على تحديد هذا الأمر من الأحاديث الصَّحيحة.