قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ "مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ" شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ صَاحِب كِتَابِ "الْإِنْشَاءِ": وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى قَافِيَتِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ:
قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ | هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ |
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ | إِنْ ثَنَى الْحَدَّ عَنْ دَمٍ مُهْرَاقِ |
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ تَصْـ | ـفَحَ عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ |
إِنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ | وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًى وَهْوَ بَاقٍ |
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْخَطَّابِ مَحْفُوظِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَلوْذَانِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ: مَسْأَلَةٌ | جَاءَتْ إِلَيْكَ وَمَا خُلِقَ سِوَاكَ لَهَا |
مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ | لَاحَتْ لِخَاطِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا |
فَأَجَابَهُ تَحْتَ السُّؤَالِ:
قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ | سَرَّتْ فُؤَادِيَ لَمَّا أَنْ أَصَخْتُ لَهَا |
إِنَّ الَّتِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ | خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا |
إِنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ | فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا |
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ: حَجَجْتُ سَنَةً، ثُمَّ دَخَلْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ إِذْ سَمِعْتُ أَنِينًا، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:
أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ | فَأَهَجْنَ مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ |
أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ | أَهْدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ |
يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ | يَشْكُو السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ |
أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى | مُتَوَقِّدٍ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ |
فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ | مُغْرًى بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ |
مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا | حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي |
ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ | وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ |
وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ | وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ |
نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ | يَمٌّ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ |
وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ | مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ |
وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى | رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ |
يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ | إِلَّا الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ |
فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ | أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ |
قَالَ: وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ، قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ، فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ؟ فَقَالَ: أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ مِثْلَ الْقَطَا، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ، كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عُتْبَةُ، مَا تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا، وَأَنَا حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجْنَتَاهُ بِوَرْسٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ | فَيَا هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بُعْدِي |
فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ | وَعِنْدَكُم رُوحِي وَذِكْرُكُم عِنْدِي |
وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ | وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ |
فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ مِنْ ذَنْبِكَ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ، فَقُلْتُ: قُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ كُرْبَتَكَ، فَقَالَ: أَرْجُو ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ طَاعَتِكَ، فَذَهَبْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
يَا للرِّجَالِ لِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَمَا | يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبًا |
مَا إِنْ يَزَالُ غَزَالٌ مِنْهُ يَقْتُلُنِي | يَأْتِي إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ مُنْتَقِبًا |
يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ الْأَجْرَ هِمَّتُهُ | وَمَا أَتَى طَالِبًا لِلْأَجْرِ مُحْتَسِبًا |
لَوْ كَانَ يَبْغِي ثَوَابًا مَا أَتَى صَلَفًا | مُضَمِّخًا بِفَتِيتِ الْمِسْكِ مُخْتَضِبًا |
ثُمَّ جَلَسْنَا حَتَّى صَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَإِذَا بِالنِّسْوَةِ قَدْ أَقْبَلْنَ، وَلَيْسَتِ الْجَارِيَةُ فِيهِنَّ، فَوَقَفْنَ عَلَيْهِ وَقُلْنَ لَهُ: يَا عُتْبَةُ، مَا ظَنُّكَ بِطَالِبَةِ وَصْلِكَ، وَكَاسِفَةِ بَالِكَ؟ قَالَ: وَمَا بَالُهَا؟ قُلْنَ: أَخَذَهَا أَبُوهَا وَارْتَحَلَ بِهَا إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ، فَسَأَلْتُهُنَّ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَقُلْنَ: هِيَ رَيَّا بِنْتُ الْغِطْرِيفِ السُّلَمِيِّ، فَرَفَعَ عُتْبَةُ رَأَسَهُ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ:
خَلِيليَّ رَيَّا قَدْ أُجِدَّ بكُوْرهَا | وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ غَيْرُهَا |
خَلِيليَّ إِنِّي قَدْ عَشِيتُ مِنَ الْبُكَا | فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقْلَةٌ أَسْتَعِيرُهَا؟ |
فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ بِمَالٍ جَزِيلٍ أُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السَّتْرِ، وَوَاللَّهِ لَأَبْذُلَنَّهُ أَمَامَكَ حَتَّى تَبْلُغَ رِضَاكَ وَفَوْقَ الرِّضَا، فَقُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَنْصَارِ، فَقُمْنَا وَسِرْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ، فَسَلَّمْتُ، فَأَحْسَنُوا الرَّدَّ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلَأُ، مَا تَقُولُونَ فِي عُتْبَةَ وَأَبِيهِ؟ قَالُوا: مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُمِيَ بِدَاهِيَةٍ مِنَ الْهَوَى، وَمَا أُرِيدُ مِنْكُمْ إِلَّا الْمُسَاعَدَةَ إِلَى السَّمَاوَةِ، فَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً، فَرَكِبْنَا وَرَكِبَ الْقَوْمُ مَعَنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَنَازِلِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأُعْلِمَ الْغِطْرِيفُ بِنَا، فَخَرَجَ مُبَادِرًا فَاسْتَقْبَلَنَا، وَقَالَ: حُيِّيتُمْ يَا كِرَامُ، فَقُلْنَا: وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ، إِنَّا لَكَ أَضْيَافٌ، فَقَالَ: نَزَلْتُمْ أَكْرَمَ مَنْزِلٍ، ثُمَّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ الْعَبِيدِ، أَنْزِلُوا الْقَوْمَ، فَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَالنَّمَارِقُ، وَذُبِحَتِ الذَّبَائِحُ، فَقُلْنَا: لَسْنَا بِذَائِقِي طَعَامكَ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَنَا، فَقَالَ: وَمَا حَاجَتُكُمْ؟ قُلْنَا: نَخْطُبُ عَقِيلَتَكَ الْكَرِيمَةَ لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّتِي تَخْطبُونَهَا أَمْرُهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَأَنَا أَدْخُلُ أُخْبِرُهَا، ثُمَّ دَخَلَ مُغْضَبًا عَلَى ابْنَتِهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ، مَا لِي أَرَى الْغَضَبَ فِي وَجْهِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ وَرَدَ الْأَنْصَارُ يَخْطبُونَكِ مِنِّي، فَقَالَتْ: سَادَاتٌ كِرَامٌ، اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَلِمَنِ الْخطْبَةُ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ عُتْبَةَ هَذَا: إِنَّهُ يَفِي بِمَا وَعَدَ، وَيُدْرِكُ إِذَا قَصَدَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ لَا أُزَوِّجَنَّكِ بِهِ أَبَدًا، وَلَقَدْ نَمَى إِلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِكِ مَعَهُ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذْ أَقْسَمْتَ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَا يُرَدُّونَ رَدًّا قَبِيحًا، حَسِّنْ لَهُمُ الرَّدَّ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: أَغْلِظْ عَلَيْهِمُ الْمَهْرَ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتِ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ فَتَاةَ الْحَيِّ قَدْ أَجَابَتْ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، فَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ: أَنَا، فَقُلْ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَمِئَةُ ثَوْبٍ مِنَ الْأَبْرَادِ، وَخَمْسَةُ أَكْرِشَةٍ مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهَلْ أَجَبْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَأَنْفَذْتُ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَ، ثُمَّ صُنِعَتِ الْوَلِيمَةُ، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فَتَاتَكُمْ وَانْصَرِفُوا مُصَاحِبِينَ، ثُمَّ حَمَلَهَا فِي هَوْدَجٍ، وَجَهَّزَهَا بِثَلَاثِينَ رَاحِلَة مِنَ الْمَتَاعِ وَالتُّحَفِ، فَوَدَّعْنَاهُ وَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ تُرِيدُ الْغَارَةَ، أَحْسَبُهَا مِنْ سُلَيْمٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، وَجَرَحَ آخَرِينَ، ثُمَّ رَجَعَ وَبِهِ طَعْنَةٌ تَفُورُ دَمًا، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَانْثَنَى بِخَدِّهِ، فَطُرِدَتْ عَنَّا الْخَيْلُ وَقَدْ قَضَى عُتْبَةُ نَحْبَهُ، فَقُلْنَا: وَاعُتْبَتَاهُ، فَسَمِعَتْنَا الْجَارِيَةُ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْبَعِيرِ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ بِحُرْقَةٍ، وَأَنْشَدَتْ:
تَصَبَّرْتُ لَا أَنِّي صَبِرْتُ وَإِنَّمَا | أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ |
فَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى | أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ |
فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ | خَلِيلًا وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مُوَافِقَهْ |
ثُمَّ شَهِقَتْ وَقَضَتْ نَحْبَهَا، فَاحْتَفَرْنَا لَهُمَا قَبْرًا وَاحِدًا وَدَفَنَّاهُمَا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْحِجَازِ وَوَرَدْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ قَبْرَ عُتْبَةَ أَزُورُهُ، فَأَتَيْتُ الْقَبْرَ، فَإِذَا عَلَيْهِ شَجَرَةٌ عَلَيْهَا عَصَائِبُ حُمْرٌ وَصُفْرٌ، فَقُلْتُ لِأَرْبَابِ الْمَنْزِلِ: مَا يُقَالُ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ قَالُوا: شَجَرَةُ الْعَرُوسَيْنِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ مِنَ الرُّخْصَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلتَّشْدِيدِ إِلَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَسَانِيدِ، وَهُوَ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -يَرْفَعُهُ: "مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ وَكَتَمَ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ"، وَرَوَاهُ سُوَيْدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ، عَنِ الْأَزْهَرِيِّ، عَنِ الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ قُطْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْهُ، وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخرِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﷺ: نَظَرَ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ! وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِطَلَاقِهَا قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَوَّجَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَسُولِهِ ﷺ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْ رَسُولِهِ ﷺ، وَعَقَدَ نِكَاحَهَا مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الْأَحْزَاب:37].
وَهَذَا دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، ثُمَّ أَحَبَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ فَتَزَوَّجَهَا وَكَمَّلَ بِهَا الْمِئَةَ.
الشيخ: اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
أما بعد:
فقد بيَّن المؤلفُ كثيرًا من الآفات التي تُصيب العشاق، والبلايا التي تُصيبهم، والمحن التي تُصيبهم والأمراض، وهذا كله من أسباب ما يقع في نفوسهم من الحبِّ لبعض النساء، أو بعض مَن يُخبرون عنه: إما بمشاهدةٍ، وإما بأخبارٍ.
فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن الحذر من هذه الأشياء التي قد تُفسد عليه دينه ودنياه، وتُفسد عليه أخلاقه، فينبغي له أن يحذر هذه الأمور، وأن يبتعد عن أسبابها بالكلية، وأن يتحرى في زواجه المرأة الصالحة ذات الدين، ويُبادر، أما تطلب أخبار فلانة، وأخبار فلانة، وما فعلت فلانة، وما فعلت فلانة، فهذا يجرُّ شرًّا كثيرًا، ويُؤدي إلى مفاتن كثيرةٍ، كما وقع لكثيرٍ من العُشَّاق حتى ماتوا بعشقهم ولم ينالوا خيرًا.
فالحاصل أنَّ الواجب على المؤمن أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يتباعد عن أسباب عشق الصور، وأن يحرص على الزواج الشرعي من المرأة ذات الدين، وأن يحرص على سؤال الله العافية والسلامة مما بُلي به الكثير من الناس.
والمؤلف قصد بهذا كله الإخبار عمَّا بُلي به العشاق، وما يُصيبهم من البلاء والمحن بأسباب ما يقع في نفوسهم من حبِّ فلانة أو فلانة: إما بالخبر عنها، وإما بأنه شاهدها في لمحةٍ، أو في طريقٍ، أو في كذا، ثم يُبتلى بذلك، فينبغي للمؤمن أن يحذر هذه الأمور كما بيَّن المؤلف، وأن يتباعد عن أسباب الشرِّ الذي هو العشق الضار المهلك لكثيرٍ من الناس.
وفيما أباح الله الغنية والعافية عمَّا حرم الله، فإذا أراد الزواج سأل وتبصر، وسأل أهل الخير، فإذا وجد المرأة الصالحة خطبها وتزوجها، وعفَّ وابتعد عن أسباب الشر وأسباب الفساد: إما بمخالطة النساء، أو بالنظر إليهن، أو بأخبار زيد وعمرو عن فلانة وفلانة؛ فيضرّ نفسه، ويضرّ غيره، فينبغي له العفَّة والاكتفاء بما أباح الله، والحذر مما حرَّم الله، وأن هذا هو الذي يجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ؛ البُعد عمَّا حرم الله، والحرص على ما أباح الله، والحذر من صفات الهالكين وصفات المبتلين بعشقٍ محرمٍ وبلاءٍ محرمٍ وعواقب وخيمة.
نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا الذي ذكره أنه نبت على القبر كلها فرية وكذب، والقبور لا يُكتب عليها، ولا يُغرس عليها شجر ولا غير ذلك، القبر إنما يُدفن ويُرفع قدر شبر، ويُوضع عليه الحصباء والماء ويكفي، أما أن يُغرس عليه شجر أو يُكتب عليه كل هذا لا يجوز.
والنبي ﷺ لما أطلعه الله على قبرين يُعذَّبان غرس عليهما جريدتين وقال: لعله يُخفف عنهما ما لم تيبسا، هذا خاصٌّ بهما لما أطلعه الله على عذابهما، أما بقية القبور فلم يكن يجعل عليها شيئًا، لا في البقيع، ولا في غيره، فالواجب ترك ذلك، وألا يُوضع عليها شيء، لا قليل، ولا كثير، إلا مجرد الحصباء والتراب الذي يُمسكها ويُبين أنها قبور.
وفَّق الله الجميع، ورزق الجميع العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.