بابٌ من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15- 16].
في الصحيح: عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ الخميصة، تعس عبدُ الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يُشفع.
الشيخ: يقول رحمه الله في كتاب "التوحيد": "باب من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا" هذا الشرك قد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، فإن أراد بإسلامه وأعماله الدنيا صار منافقًا، وشركه شرك أكبر، أما إن أراد بعمله في بعض الأشياء، هو يعبد الله وحده، وهو مسلم، ولكن قد يقرأ للدنيا، أو يعمل عملًا آخر للدنيا، فهذا تكون عبادته لأجل الدنيا حابطة، ليس له فيها نصيب؛ لقوله جلَّ وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أي: لا يُنقصون أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يعني: الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18- 19]، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] يعني: مَن أراد بإسلامه وعباداته الدنيا فقد يُعجل له ما يريد، وقد يقتر عليه ولا يُعطى إلَّا ما كتب الله له من الشيء اليسير؛ فيخسر الدنيا والآخرة، وهذه حال المنافقين الذين أظهروا الإسلام لأجل الدنيا، فهم بهذه الصفة: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16].
أما المسلم الذي يعبد الله ويُوحده، ولكن قد يعمل بعض الأعمال للدنيا؛ قد يعود المريض للدنيا، قد يقرأ في المسجد ويرفع صوته للدنيا، قد يطلب العلم للدنيا، فهذا نوع من الشرك الأصغر؛ لأنَّ الرسول قال: أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء، وهكذا أن يُصلي يُزين صلاته ليمدح، أو يقرأ ويُحسن صوته ليمدح، لا للآخرة، ولا لله، وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر، يُبطل العمل الذي قارنه، صاحبه مذموم وعلى خطرٍ.
فالواجب الحذر منه، إذا قرأ يقرأ لله، إن صلَّى صلَّى لله، إن عاد مريضًا عاده لله، وهكذا يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه.
في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: تعس عبدُ الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة الخميصة: كساء له أعلام، والخميلة: كساء سادة ليس له أعلام، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش دعاء عليه أنَّ الله لا يُسهل عليه حتى إزالة الشوكة.
ومعنى تعس عبد الدينار يعني: يعمل للدينار، عبد الدرهم يعمل للدرهم، عبد الخميصة يعمل لها، وعبد الخميلة يعمل لها لا لله، فصار عبدًا لها لأنه يُوالي لها ويُعادي عليها.
والواجب على كل مكلفٍ أن يقصد بأعماله وجه الله، وطلب رضاه ، فإذا قصد من عمله رياء زيد أو عمرو صار عملًا باطلًا، ويُسمَّى: شركًا أصغر؛ فلهذا يقول ﷺ: أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء، يقول الله يوم القيامة: اذهبوا إلى مَن كنتم تُراؤون في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم من جزاء؟!.
فالواجب على المؤمن في جميع أعماله الإخلاص لله، وأن يقصد وجهه جلَّ وعلا في صلاته، وقراءته، وصدقاته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وغير هذا، يقصد وجه الله والدار الآخرة، وأنه يقصد بهذا العمل امتثال أمر الله ورسوله، والعمل بما شرع الله.
ثم دعا تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم دعاء عليه بالمشقة والتَّعاسة إذا كانت عبادته للدِّينار والدرهم والخميصة والخميلة، ليست لله، تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة هؤلاء يُعطون دراهم أو دنانير أو قمص أو خمائل ليكذبوا، أو ليظلموا أحدًا، أو ما أشبه ذلك، قد تعسوا بهذا، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط هذه صفته، صفة العبد لها؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، هو يرضى إذا حصل مطلوبه بالدرهم والدينار، ويسخط إن لم يحصل، ليس عطاؤه لله، ولا منعه لله، بل هو تابع لهواه؛ فلهذا قال: تعس وانتكس دعاء عليه وإذا شيك فلا انتقش يعني: إذا أصابته شوكةٌ فلا يتيسر له مَن يُزيلها، دعاء عليه على سُوء عمله.
الواجب على المؤمن الصدق في شهاداته، وفي أيمانه: طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة هذا يُخبر عن حال الطيب المؤمن؛ أنه له طوبى، الذي يُجاهد في سبيل الله، ليس قصده الدنيا وخُرافاتها، إنما جاهد لله جلَّ وعلا، وهكذا مَن تصدَّق لله، مَن صلَّى لله، مَن طاف لله، هؤلاء هم السُّعداء إن كانت أعمالهم لله وحده دون ما سواه، هؤلاء هم السعداء، والأشقياء قد صرفوا العبادات لغير الله، واعتاضوا عن الله رياء الناس، فهذا خطر عظيم، وشرٌّ وخيم؛ ولهذا نبَّه عليه ﷺ وحذَّر منه: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة دعا عليهم بالتَّعاسة إذا فعلوا هذه الأمور للدرهم والدينار، ليس قصدهم وجه الله، فإما أن يجلس مع المسلمين ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مجاملةً، وإلا فهو لا يعتقد ذلك، وهذه حال المنافقين الذين قال الله فيهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4].
وإذا شيك فلا انتقش يعني: لم يقدر له مَن يُعينه على الشوك، دعاء عليه بالتَّعاسة.
ثم قال في وصف الممتثل الطيب: طوبى لعبدٍ يعني: أي عبدٍ، أي إنسانٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه يعني: مجتهد في الجهاد، يمشي على قدميه، يُصيبهما الغبار وبقية بدنه من أجل الصبر على مُقارعة الأعداء.
فينبغي للمؤمن أن يُلاحظ هذا الأمر العظيم، وأن يكون في أعماله كلها مخلصًا لله، بعيدًا عن الرياء والسمعة، وهذا الذي أثنى عليه النبيُّ ﷺ قد أخلص لله، وجمع قلبه على الله، ولم تشغله الدنيا عن إخلاصه لله: طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه يعني: لم يتفرغ لتطييب الرأس ومشطه ونحو ذلك، بل مشغول بالجهاد، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه من صبره في الجهاد إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة يعني أنه رجل جيد، إذا كان في منصبٍ ضبطه؛ إن كان في الحراسة ضبط الحراسة، وإن كان في ساقة قومه يحميهم كان في ساقتهم، يعني أنه مجاهد جيد نشيط، حيث جُعل ثبت والتزم.
أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة يعني: ما عنده تنظف بالصابون أو غيره، مشغول بالجهاد، قد علاه الغبار إن كان في الحراسة كان في الحراسة يعني: عملًا، لا ترسُّمًا، بل عمل جيد، وهو يعمل بنشاطٍ وقوةٍ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة حفظ الساقة؛ حفظ الجيش واعتنى بما يصون الجيش عن هجوم العدو، إن شفع عند الملوك لم يُشفع؛ لأنهم ما يعرفونه، مغمور في الناس، وإن استأذن لم يُؤذن له لأنه غير معروفٍ، هذا من دلائل إخلاصه وصدقه؛ أنه مشغول بالجهاد، لو أتى على صاحب فرسٍ أو غيره لأمرٍ ما لم يُبال به؛ لأنه غير معروفٍ.
والحاصل أنه يُستحب للمؤمن، بل يُشرع له ويتأكَّد عليه أن تكون أعماله كلها لله وحده خالصةً، ليس فيها شكٌّ ولا ريبٌ ولا تساهلٌ، بل يجب أن يعمل لله في كل أعماله، ومن ذلك الصلاة والنوافل، يجب أن تكون لله وحده؛ لأنَّ بعض الناس قد يحرص على ما ظاهره الخير وهو ليس من أهله، بل فعله لغير الله، فله الخيبة، وله النَّدامة، لكن إذا جاهد نفسه على فعل الخيرات ومساعدة أهل الخير صار بهذا حريًّا بالتوفيق، حريًّا بالثبات.
وفَّق الله الجميع.
باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتَّخذهم أربابًا من دون الله
وقال ابن عباسٍ: "يُوشك أن تَنْزل عليكم حجارةٌ من السماء؛ أقول: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!".
وقال الإمام أحمد: عجبتُ لقومٍ عرفوا الإسنادَ وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رَدَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبيَّ ﷺ يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، فقلتُ له: إنَّا لسنا نعبدهم! قال: أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه؟ ويُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه؟ فقلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتهم رواه أحمد والترمذي وحسَّنه.
الشيخ: يقول رحمه الله: "باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتَّخذهم أربابًا" يعني: الواجب على جميع المسلمين أن يُحلُّوا ما أحلَّه الله، ويُحرموا ما حرَّمه الله، وألا يعبدوا مع الله غيره في التَّحليل والتَّحريم، كما لا يعبدون غير الله في العبادة والدّعاء والخوف والذبح والنذر وغير ذلك، فالواجب إخلاص العبادة لله وحده: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، ويقول: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3].
فالواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده، وأن يُعظموه بفعل ما أمر، وترك ما نهى ، وألا يعبدوا معه لا ملكًا، ولا نبيًّا، ولا شجرًا، ولا حجرًا، ولا صنمًا، ولا نجمًا، ولا غير ذلك، العبادة حقّ الله وحده: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
وقد بعث اللهُ الرسلَ عليهم الصلاة والسلام بذلك؛ قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36] يعني: وحِّدوا الله بدعائه وخوفه ورجائه، والصوم له، والصلاة له، والطواف، والصدقة، وغير هذا، كل ذلك لابتغاء وجهه، وطلب القُربة لديه، والثواب من عنده ، ولا يجوز أن يُعبد مع الله لا ملك، ولا نجم، ولا جن، ولا شجر، ولا حجر، ولا صنم، ولا ملك، ولا نبي، ولا غير ذلك، العبادة حقّ الله وحده.
أما الأنبياء فيُتَّبعون، الرسل الواجب اتباعهم وطاعتهم، كما قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وهكذا لا يجوز اتّخاذ قبورهم معابد وأوثانًا تُعبد مع الله.
ولا يجوز طاعة العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّمه الله؛ ولهذا قال رحمه الله: "باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرَّمه الله فقد اتَّخذهم أربابًا" والمقصود من هذا تحريم ذلك، قال الله عن اليهود والنصارى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، هذا شأن عامَّة اليهود والنَّصارى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أحبارهم: علماءهم وَرُهْبَانَهُمْ عُبَّادهم، اتَّخذوهم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يعبدونهم، يدعونهم، يستغيثون بهم، ينذرون لهم، يعكفون على قبورهم، يبنون عليها المساجد، يُحلون ما أحلُّوا، ويُحرمون ما حرَّموا ولو خالف شرع الله؛ فلهذا حذَّر الله من التأسي بهم ومُوافقتهم على باطلهم.
قال ابن عباسٍ ، وهو عبدالله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي ﷺ، وهو من صغار الصحابة، قال لما خالفه بعضُ الناس فيما ينقله عن النبي ﷺ قال: "يُوشك" يعني: يقرب "أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!" يعني: تُخالفون أمر الرسول ﷺ لقول أبي بكر وعمر، يعني: هذا منكر يُخشى منه العقوبة ووقع حجارة من السماء لمن خالف الرسول وأطاع أبا بكر وعمر، فكيف بمَن خالف الرسول وأطاع مَن لا يكون غسالةً لرجل أبي بكر وعمر؟! كيف بمن أطاع من لا يُعدّ من العلماء، ولا يُعدّ من الرهبان؟! يكون أبعد وأبعد وأخطر.
وهذا قاله في العمرة، كان ابنُ عباسٍ يقول للناس: "مَن دخل مكةَ في أشهر الحج فليكن عمرةً"، إذا جاء للحج يُحرم بالعمرة؛ يطوف ويسعى ويُقصر ويحلّ، ويقول له بعضُ الناس: إن أبا بكر وعمر رأيا أنه يُفرد بالحجِّ ويبقى على إحرامه إلى وقت الحجِّ، فقال لهم ابنُ عباس: "يُوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله" يعني: أنه أمر بالمتعة، داخل مكة في أشهر الحج يُلبي بالعمرة، وتقولون: قال أبو بكر وعمر: إنه يُلبي بالحجِّ، تُخالفون قول الرسول ﷺ.
وهذا الذي قاله ابنُ عباسٍ هو الحق، هو الصواب، السنة لمن جاء إلى مكة في أشهر الحج بعد رمضان أن يُحرم بالعمرة، هذا هو السنة، يُحرم بالعمرة ويطوف ويسعى ويُقصر ويحلّ، فإذا جاء يوم الثامن يُلبي بالحج، إلَّا مَن كان عنده الهدي، إن كان معه إبل أو بقر أو غنم ولو واحدة أهداها هذا يُلبي بالحجِّ والعمرة جميعًا، ولا يحلّ إلا يوم النحر حين يذبح هديه؛ لأن الرسول أمر مَن معه أن يُحلوا ويجعلوها عمرةً، إلا مَن ساق الهدي فإنه يبقى على إحرامه حتى يحلّ يوم النحر، وكان النبي ممن ساق الهدي، كان ساق مئة بدنةٍ، بقي على إحرامه حتى حلَّ يوم النحر عليه الصلاة والسلام، وهكذا مَن ساق الهدي بقوا على إحرامهم حتى حلّوا يوم النحر.
وقال الإمامُ أحمد بن حنبل رحمه الله -العالم المشهور: "عجبتُ لقومٍ عرفوا الإسنادَ وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: سفيان بن سعيد الثوري، يعني: عجبتُ لهم، يعني: أخاف عليهم من غضب الله ، والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن أمر النبي ﷺ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، يقول رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله" بعض قول النبي ﷺ "أن يقع في قلبه شيء من الزَّيغ فيهلك" يتعجب من قومٍ في زمانه يتَّبعون قول سفيان الثوري وغيره: كالأوزاعي والشافعي ومالك وغيرهم، ويتركون الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ، خاف عليهم أن تُصيبهم فتنة، وهي الشرك، أو يُصيبهم عذاب أليم بعقوبةٍ عاجلةٍ.
والمعنى أنَّ الواجب على المسلمين طاعة الله ورسوله، ومتى ظهر أمر الله وأمر الرسول ومتى ثبت وجب الأخذ به، ولا يجوز خلاف ذلك في طاعة أحدٍ من الناس؛ لا مالك، ولا أحمد، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا غيرهم؛ لأنَّ الله يقول: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، ويقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ عن أمر النبي ﷺ، يُخالفون: يحيدون أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، والمعنى أن الواجب على المسلمين طاعة الله ورسوله، والانقياد لشرع الله، وأنه لا يجوز لهم أن يُخالفوا شرع الله لقول بعض العلماء؛ لأنَّ العالم قد يُخطئ، يُريد الصواب ويغلط، أما ما ثبت عن الرسول فهو الحقّ، يجب الأخذ به، فإذا اختلف العلماءُ -عالمان أو أكثر- في مسألةٍ، وأحدهما معه حُجَّة عن الرسول ﷺ –حديث- وجب الأخذ بالحديث واتِّباع الحقِّ.
وقرأ النبيُّ ﷺ قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، فقال عدي بن حاتم الطائي: يا رسول الله، لسنا نعبدهم! لما سمع قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ يعني: علماءهم وَرُهْبَانَهُمْ يعني: عُبَّادهم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قال عدي -وهو من النصارى ذاك الوقت: لسنا نعبدهم! فقال له النبيُّ ﷺ: أليس يُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه؟ ويُحرمون ما أحلَّ الله فتُحرمونه؟ فقلت: بلى، فقال: فتلك عبادتهم ما دام يُطاعون في التَّحليل والتَّحريم فهذه عبادتهم، إذا أحلُّوا ما حرَّم الله أطاعوهم، وإذا حرَّموا ما أحلَّه الله أطاعوهم وتركوا الشرع، هذه عبادة لهم، منكر عظيم يجب تركه.
فالحلال ما أحلَّه الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، فإذا العالم أخطأ وغلط وأحلَّ الحرام أو حرَّم الحلال غلطًا منه لم يجز اتِّباعه في الغلط، بل يترك القول الذي غلط فيه، ويأخذ بالحقِّ ومَن قال بالحقِّ، وهكذا اليوم وبعد اليوم الواجب على العلماء أن يتحروا ما قاله الله ورسوله، وأن يُفتوا الناس بما قاله الله ورسوله، وأن يحذروا ما يُخالف ذلك، وعلى غيرهم أن يتبعوا الحقَّ، وأن يتبعوا ما قاله الله ورسوله، وأن ينقادوا للحقِّ، وألا يميلوا عنه لطاعة فلانٍ أو فلانٍ.
وفَّق الله الجميع.
باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11].
وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به.
قال النووي: حديثٌ صحيحٌ، رويناه في كتاب "الحُجَّة" بإسنادٍ صحيحٍ.
وقال الشعبي: "كان بين رجلٍ من المنافقين ورجلٍ من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمدٍ -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة- وقال المُنافق: نتحاكم إلى اليهود -لعلمه أنَّهم يأخذون الرشوة- فاتَّفقا أن يأتيا كاهنًا في جهينة فيتحاكما إليه، فنَزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية".
وقيل: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدُهما: نترافع إلى النبي ﷺ، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدُهما القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله ﷺ: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله".
الشيخ: يقول رحمه الله: باب قول الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:60]، ويقول جلَّ وعلا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة:11- 12]، وقال تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف:56]، وقال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
أراد بالترجمة رحمه الله بيان وجوب التَّحاكم إلى الشريعة، وأنه يجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى شرع الله في كل شيءٍ، وليس لهم التحاكم إلى غير الله، لا إلى اليهود، ولا إلى النصارى، ولا إلى غيرهم من المسلمين وغير المسلمين، ولا إلى أي قانونٍ، ولا إلى نظامٍ، بل يجب التَّحاكم إلى شرع الله في كل شيءٍ، قال الله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وقال : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
فالواجب على جميع المسلمين، وعلى جميع الدول الإسلامية التَّحاكم إلى الشرع؛ إلى ما قاله الله ورسوله فيما يتنازعه الناسُ، وفيما يعملون من عبادات ومعاملات وغير ذلك، هذا هو الواجب على الجميع أينما كانوا.
وفي الحديث يقول ﷺ: لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به يعني: حتى يكون عمله وإرادته وقوله وكل شيءٍ تابعًا لما جاء به ﷺ، يعني: لا يؤمن الإيمان الكامل حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسولُ ﷺ، فإذا خالف ذلك صار نقصًا في إيمانه بالمعاصي والسيئات، وإذا حكم بغير ما أنزل الله صار نقصًا في إيمانه إذا كان للرشوة والهوى، وكفرًا أصغر، فإذا حكم بغير ما أنزل الله يعتقد حلَّ ذلك ولا يُبالي بحكم الله يكون كفرًا أكبر، مَن زعم أنه لا بأس بترك حكم الله يكون كفرًا أكبر، نسأل الله العافية، أما إذا حكم لهوى وشهوة لقرابةٍ أو رشوةٍ أو غير هذا فهذا يكون كفرًا أصغر، وظلمًا أصغر، وفسقًا أصغر.
وقال الشعبي رحمه الله، الشعبي تابعي يُقال له: عامر بن شرحبيل الهمداني، من التابعين، قال في تفسير الآية: نزلت في رجلين: مسلم ومنافق، المسلم يقول: نتحاكم إلى الرسول ﷺ. والمنافق يقول: نتحاكم إلى اليهود. فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: في رجلين اختصما، فأحدهما قال: نترافع إلى الرسول ﷺ. والآخر قال: إلى كعب بن الأشرف. وكعب بن الأشرف يهودي، ثم ترافعا إلى عمر، فقال عمر: أنت قلتَ هذا الكلام؛ أبيتَ الترافع إلى النبي ﷺ؟ قال: نعم، فضرب عنقه.
هذه حكاية فيها نظر، فيها ضعف، وعمر لن يقتله إلا بأمر النبي ﷺ، لكن المقصود أنه لا يجوز التَّحاكم إلى غير الله، أما هذه الرواية عن عمر فحكاها المؤلفُ بصيغة التَّمريض: قيل، ولم تثبت عن عمر؛ لأنَّ عمر لا يستطيع أن يتصرف بالقتل إلا بإذن الرسول ﷺ ومُراجعته عليه الصلاة والسلام.
فالحاصل أنَّ التحاكم إلى غير الله لا يجوز مطلقًا، بل يجب التَّحاكم إلى شرع الله بين الجميع في كل ما يتنازع فيه الناس، سواء كان الحكم بين المسلمين، أو بين المسلمين وغيرهم يجب الرجوع إلى حكم الله وشرع الله.
وفَّق الله الجميع.
باب مَن جحد شيئًا من الأسماء والصِّفات
وقول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30].
وفي "صحيح البخاري" قال علي: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتُريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ؟".
وروى عبدالرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ: أنه رأى رجلًا انتفض لما سمع حديثًا عن النبي ﷺ في الصِّفات -استنكارًا لذلك- فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقَّةً عند مُحكمه، ويهلكون عند مُتشابهه" انتهى.
ولما سمعت قريش رسولَ الله ﷺ يذكر "الرحمن" أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ.
الشيخ: يقول رحمه الله: "باب مَن جحد شيئًا من الأسماء والصِّفات" يعني: باب حكم مَن جحد، المقصود بيان حكمه، ما حكمه شرعًا إذا جحد شيئًا من أسماء الله وصفاته؟ حكمه أنه كافر، حكم مَن جحد شيئًا من أسماء الله الثابتة بالقرآن أو بالسنة الصحيحة يكفر بذلك، وقد أنزل الله في الكفرة لما قالوا يوم الصلح: لا نعرف إلا رحمان اليمامة. أنزل الله في حقِّهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ، فهكذا لو أنكر السميعَ أو البصيرَ أو العزيزَ أو الحكيمَ أو القديرَ أو غير ذلك يكفر بذلك، الله يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180].
والله سبحانه له الأسماء الحسنى، يجب الإيمان بها، وإمرارها كما جاءت، مع الإيمان بما دلَّت عليه من المعنى على الوجه اللائق بالله ، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل يجب على كل مؤمنٍ أن يُؤمن بأسماء الله وصفاته الموجودة في القرآن وفي السنة الصحيحة، وأنها أسماء لها معانٍ مُشتقة، ليست جامدةً، لها معانٍ، وأن الواجب إثبات معانيها لله على الوجه اللائق بالله؛ فالله دالٌّ على الألوهية، المعنى: الإله، والتَّأله: التَّعبد، والإله معناه: الذي يُعبد ويُقصد، والرحمن دالٌّ على الرحمة، والسميع دالٌّ على السمع، والبصير على البصر، والعزيز على العزة، وهكذا كلها دالة على هذه الصفات اللائقة بالله جلَّ وعلا.
فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق بالله سبحانه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، فمَن أنكر ذلك فقد كذَّب الله وكذَّب رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال علي ، وهو علي بن أبي طالب ابن عم النبي ﷺ، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، يقول: "حدِّثوا الناس بما يعرفون"، يأمر الوعاظ والنَّاصحين أن يُحدِّثوا الناسَ بما يعرفون، لا يُحدثونهم بالغرائب والمشكلات، لا، يُحدثونهم بالشيء الواضح؛ حتى يعتقدوه ويعملوا به، "حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتُحبون أن يُكذب الله ورسوله؟" لأنَّ العالم إذا حدَّث بالأشياء التي ما تحتملها عقول العامَّة قد يُكذبونه.
فالواجب على العالم أن يُحدث الناس بما يُناسبهم ويحتاجون إليه وتحتمله عقولهم؛ ولهذا قال علي : "حدِّثوا الناس بما يعرفون" يعني: من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، مما يفقهون معناه، وضِّحوا لهم حتى لا يكذبوا، "أتُريدون"، وفي اللفظ الآخر: "أتُحبون أن يُكذب الله ورسوله؟" يعني: إذا حدَّثتموهم بما يُشكل عليهم وبالغرائب قد يُكذبون، لكن حدِّثوهم بما ينفعهم، وبما هو واضح.
وروى عبدُالرزاق، الإمام عبدالرزاق بن همام اليماني رحمه الله، عن معمر شيخه، عن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباسٍ في قومٍ إذا سمعوا الآيات تقشعر جلودهم، ويهلكون عند مُتشابهه، يعجب ابنُ عباس من هؤلاء؛ يجدون رقَّةً عند محكم الآيات، ويهلكون عندما يشتبه عليهم.
والمقصود أنَّ الواجب على المؤمن الإيمان والتَّسليم بكلِّ ما جاء عن الله ورسوله، فلا يكون عنده استنكار أو تردد في أسماء الله وصفاته، بل كلها يجب الإيمان بها، وإمرارها كما جاءت على الوجه اللائق بالله، ولا يكن من هؤلاء المتشككين الذين يجدون رقَّةً عند محكم الآيات، ويهلكون عند مُتشابهها، بل يجب التَّسليم والإيمان والقبول عند جميع الآيات والنصوص، والإيمان بأنَّ الله سبحانه ليس كمثله شيء، قال جلَّ وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص]، وقال جلَّ وعلا: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فهو عليم وسميع وبصير وقدير، لكن ليس من جنس صفتنا، العبد قدير وسميع وبصير، ولكن ليس من جنس قدرة الله وسمعه وبصره، سمع الله وقُدرته وحكمته وبصره ويده وقدمه وغير ذلك كلها تليق به، لا يُشابه فيها خلقه ، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، أما المخلوقون فصفاتهم تُناسبهم، تُناسب ضعفَهم وعجزهم.
فالواجب هو احترام أسماء الله وإثباتها لله على الوجه اللائق بالله، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، هذا هو الواجب على الجميع؛ إمرار الآيات -آيات الصفات وأحاديثها- كما جاءت، والإيمان بما دلَّت عليه من المعاني من أسماء الله جلَّ وعلا على الوجه اللائق بالله جلَّ وعلا، من غير تشبيهٍ لله بخلقه، قال تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وهو سبحانه لا سميّ له، ولا كفأ له، ولا ندَّ له، ومَن تدبر القرآن الكريم والسنة المطهرة علم أنَّ الله سبحانه له الكمال المطلق في كل شيءٍ، وأنه لا مثيلَ له، ولا شبيه له، ولا كفأ له، ولا ندَّ له، بل هو الكمال في ذاته وفي صفاته وأسمائه وأفعاله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وفَّق الله الجميع.
باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83]
قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي".
وقال عون بن عبدالله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا".
وقال قتيبة: "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالدٍ الذي فيه: أنَّ الله تعالى قال: أصبح من عبادي مُؤمن بي وكافر .. الحديث، وقد تقدم: "وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذمّ سبحانه مَن يُضيف إنعامه إلى غيره ويُشرك به".
قال بعضُ السلف: هو كقولهم: كانت الريحُ طيبةً، والملاح حاذقًا، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثيرٍ.
الشيخ: يقول رحمه الله تعالى: "باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا" المراد بهذه الترجمة بيان وجوب الاعتراف بنعم الله وشُكرها قولًا وعملًا، وأن الواجب على المسلمين أن يعترفوا بنعم الله في أموالهم وأبدانهم وذُرياتهم وغيرهم: نعمة الإسلام، ونعمة الصحة، ونعمة المال، وغير هذا من النعم، فالواجب مع الاعتراف باللسان هو العمل، يكون اعترافًا باللسان وبالجنان وبالجوارح، وذلك بشكر الله على نعمه، وأداء حقِّه، والحذر من معاصيه، هكذا الشاكر، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وقال سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وقال بعضُهم في تفسير الآية: يقول بعضُهم: هذا مالي ورثته عن آبائي. والآخر يقول: لولا فلان لم يكن كذا. والآخر يقول: هذا بشفاعة آلهتنا. وهذا جاءنا من كذا، ومن كذا. ينسى المنعم .
والمقصود هو الاعتراف بنعم الله قولًا وعملًا، يعني: باللسان وبالجوارح، وذلك بالشكر على نعمة الصحة، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة المال، نعمة الجاه، نعمة الوظيفة، إلى غير هذا، يشكر الله بطاعته وترك معصيته، ولا يتشبه بأعداء الله الكفار الذين يعرفون نعمة الله، وأنها من عند الله، ثم يُنكرونها بأعمالهم وأقوالهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ قال الله لهم: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس:31] يعني: أفلا تتقون الله الذي أنعم عليكم بهذه النعم وأنتم مُعترفون بهذا، فاتَّقوا الله في عبادته، وفي توحيده وأداء حقِّه واتِّباع رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عند حديث: يقول الله جلَّ وعلا: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر عند نزول المطر فأما مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب، هكذا حال الناس عند وجود الأمطار والسيول أو النعم الأخرى؛ ما بين شاكرٍ وكافرٍ، ما بين شاكرٍ لنعم الله، مُعترفٍ بها، مستعين بها على طاعة الله، وما بين كافرٍ مُعرضٍ عنها، ناسب لها إلى غير الله .
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: وهذا كثير في الكتاب والسنة -يعني: في النصوص من الكتاب والسنة- يذمّ سبحانه مَن يُضيف إنعامه إلى غيره ويُشرك به.
فأنت يا عبدالله جديرٌ بك أن تعترف بنعم ربك، وأن تشكره عليها بقولك وبعملك، لا تكن من جنس الكفرة؛ يقول باللسان، ويكفر بالجنان والأعمال، ولكن تعترف بنعم الله وتشكره عليها بطاعته، وترك معصيته، والقيام بحقِّه، والإحسان إلى عباده.
ويقول بعضُهم في مثل هذا من إنكار النِّعم: كانت الرياح طيبة، والملاح حاذقًا. يعني: إذا درجت السفينةُ وسارت سيرًا حسنًا قال: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا. ولم يذكر نعم الله، ويشكر الله الذي يسر الريح الطيبة، ويسر الملاح الحاذق، كون السفينة طيبة أو السيارة أو الباخرة أو الطائرة كل هذا من نعم الله، فاشكر الله على ما أنعم عليك بما ركبت من طائرةٍ أو سيارةٍ أو باخرةٍ أو غير ذلك، كله من نعم الله، فالشكر يكون بالقلب والعمل، لا بمجرد اللسان.
رزق الله الجميع التَّوفيق والهداية.
باب قول الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]
قال ابنُ عباسٍ في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النَّمل على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللّصوص. ولولا البطّ في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا; هذا كله به شرك" رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب : أن رسول الله ﷺ قال: مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك رواه الترمذي، وحسَّنه، وصحَّحه الحاكم.
وقال ابن مسعودٍ: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا".
وعن حُذيفة ، عن النبي ﷺ قال: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ.
وجاء عن إبراهيم النَّخعي: أنه يُكره أن يقول: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: ولولا الله وفلان.
الشيخ: يقول رحمه الله: "باب قول الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" ذكر تفسير الآية بالشرك الأصغر، والآية تعمّ الأمرين: تعم الأكبر والأصغر، كما في قوله جلَّ وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، اتِّخاذ الأنداد على قسمين:
- أحدهما: الشرك الأكبر، وهو دعوة الأموات، والاستغاثة بالأموات، والنذر لهم، والذبح لهم، ونحو ذلك، هذا الشرك الأكبر الذي لما قيل: يا رسول الله، أي الشرك أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك.
- النوع الثاني: شرك أصغر، وهو ما ذكره المؤلفُ عن ابن عباسٍ: أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي .. إلى آخره، لولا البطّ في الدار، ولولا كليبة هذا، ما شاء الله وشاء فلان، فهذا من الله ومن فلان. كل هذا من الشرك الأصغر.
فالواجب الحذر من الشرك كله: دقيقه وجليله، الأكبر والأصغر، الأكبر: صرف العبادة لغير الله من الجنِّ والكواكب والشياطين والأنبياء والملائكة، هذا الشرك الأكبر، ودعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، أو بالجنِّ، أو بالملائكة، أو النذر لهم، هذا الشرك الأكبر الذي قال فيه سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقال فيه سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال فيه سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
أما النوع الثاني: هو الشرك الأصغر كما بيَّن المؤلفُ عن ابن عباسٍ، وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النَّمل، الشرك الأصغر يقع من الناس ولا يفطن له إلا الخواص؛ ولهذا قال: "أخفى من دبيب النَّمل على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل"، وما ذاك إلا لكثرة مَن يقع فيه من العوام وأهل الجهل، وهو أن تقول: والله وحياة فلان، أو وحياتي، أو لولا الله وفلان، أو هذا من الله ومن فلان. هذا الشرك الأصغر؛ الإتيان بالواو: لولا الله وفلان، هذا من الله ومن فلان، ما شاء الله وشاء فلان، والصواب أن يُقال: لولا الله ثم فلان، كما في رواية البزار: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان.
ولما قالوا: يا رسول الله، ما شاء الله وشئتَ، قال: أجعلتني لله ندًّا؟! بل: ما شاء الله وحده.
فهكذا الحلف بغير الله من الشرك الأصغر كما في حديث عمر: مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك، وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبّ إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا"؛ لأنَّ الحلف بالله كاذبًا معصية، والحلف بغير الله ما الشرك، وجنس المعصية أسهل من الشرك -نسأل الله العافية- وإن كان أصغر.
وقال في الحديث الصحيح: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان، وهكذا قول إبراهيم النَّخعي رحمه الله؛ كان يمنع أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، ويجوز أن يقول: لولا الله ثم فلان، شاء الله ثم فلان.
فالواجب على المؤمن أن يتأدب بالآداب الشرعية، وأن يحذر المحرمات الشركية، سواء كان الشرك أصغر أو أكبر، جميع المعاصي والمنهيات يجب الحذر منها، ولا سيما الشرك بأنواعه، فإنه يجرُّ إلى شرٍّ عظيمٍ، فالأصغر يجرّ إلى الأكبر، فالواجب الحذر من ذلك، ولا يقول: بالنبي، أو: بالأمانة، لا يحلف إلا بالله وحده.
باب ما جاء فيمَن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: لا تحلفوا بآبائكم، مَن حُلِف له بالله فليُصدِّق، ومَن حُلِف له بالله فليَرْضَ، ومَن لم يرضَ فليس من الله رواه ابن ماجه بسندٍ حسنٍ.
الشيخ: ذكر المؤلفُ رحمه الله في كتاب "التوحيد" هذا الباب لأنَّ الأيمان بالله جلَّ وعلا من تمام التوحيد؛ ولأنَّ الصدق في اليمين مما أوجبه الإسلامُ، والرضا بحكم الله مما ألزم به الإسلام، فالواجب على المؤمن أن يرضى بحكم الله، وأن يصدق في أيمانه، وأن يحذر من الكذب، فلما كانت هذه الأمور لها تعلق بالتوحيد ذكر المؤلفُ هذا الباب.
يقول المؤلفُ: "باب ما جاء فيمَن لم يقنع بالحلف بالله" يعني: باب ما جاء من الوعيد فيمَن لم يقنع بهذا الحلف، وأن الواجب على مَن حُلِفَ له بالله أن يقنع؛ لأن الرسول قال عليه الصلاة والسلام: لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه، وفي اللفظ الآخر: ولكن البينةَ على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر.
وجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ فلانًا عنده مالي -أو كلمة نحوها- فقال له النبيُّ ﷺ: شاهداك أو يمينه، قال: يا رسول الله، إذًا يحلف ولا يُبالي، قال: ليس لك إلا ذلك: إما البينة منك، وإما اليمين من الخصم، وهذا الواجب على المسلم؛ أن يرضى بحكم الله، إذا كان ما عنده بينة ليس له إلا اليمين، إلا إذا اصطلحا على شيءٍ فلا بأس: الصلح جائز، إذا قال: أنا أرضى بأن تُعطيني كذا ولا أحلفك، إذا اصطلحا على شيءٍ فلا بأس، ولكن ليس للمحلف أن يكذب، بل يتَّقي الله، إن كان عنده حقٌّ فليتَّقِ الله وليقرّ، ولا يحلف بالكذب، يقول النبيُّ ﷺ: مَن حلف على يمينٍ يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لقي الله وهو عليه غضبان، وفي اللفظ الآخر: مَن حلف على يمينٍ وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، وفي الحديث الآخر: مَن اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه يعني: كاذبًا فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، قيل: يا رسول الله، وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك.
فالواجب على المؤمن أن يصدق في الدَّعوى، وأن يصدق في اليمين، ليس للإنسان أن يدَّعي على الناس بالباطل، ويُكلفهم الأيمان، الواجب أن يتَّقي الله فلا يدَّعي إلا بحقٍّ إذا كان له، وإلا فليتَّقِ الله؛ لا يكذب على الناس ويُخاصم الناس بالباطل فيُؤذيهم، والمدَّعى عليه يتَّقي الله، عليه أن يتَّقي الله؛ إن كان عنده شيء لا يحلف، يُعطيه حقَّه، لا يستغل عدم الشهود، بعض الناس يكون ما عنده شهود، ويأكل حقّه، لا يستغل عدم الشهود، ربك يعلم كل شيءٍ، ولا تخفى عليه خافية، فاتَّقِ الله وأعطه حقَّه ولو كان ما عنده شهود؛ إذا كان ائتمنك ولم يُشهد عليك فاتَّقِ الله وأعطه حقَّه، فإن أبى وزعم أنه ليس عنده شيء فليس للمدَّعي إلا اليمين إذا لم يكن عنده شهود، مثلما قال ﷺ: البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر، وقال عليه الصلاة والسلام: شاهداك أو يمينه هذا له رضا، وإذا كان فرَّط ولا أشهد فاللوم عليه، هو الملوم في عدم الإشهاد، وأنت ترضى بحكم الله.
وقال ﷺ: لا تحلفوا بآبائكم، مَن حلف بالله فليصدق، ومَن حُلِفَ له بالله فليرضى، ومَن لم يرضَ فليس من الله، ليس لأحدٍ أن يحلف بأبيه أو بأمه أو بالسلطان أو بالنبي أو بالأمانة، لا، الحلف بالله فقط، يقول النبي ﷺ: مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلَّا وأنتم صادقون، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن حلف بغير الله فقد أشرك، وفي اللفظ الآخر: فقد كفر أو أشرك.
فالواجب الحذر من الأيمان بغير الله: لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالأمانة، ولا بأبيك، ولا بفلان، الحلف بالله وحده، عليك أن تحلف بالله، يقول ﷺ: مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، ومَن حلف ليصدق، يتَّقِي الله، لا يكذب، يقول: والله ما عندي له شيء، والله ما شريت منه شيئًا، والله ما أقرضني شيئًا، وهو يكذب، اتَّقِ الله، الله يعلم خائنة الأعين، يعلم ما وقع، وأنت مُلاقٍ ربك، ومُجازيك على جحودك وعلى ظلمك، فاتَّقِ الله ولا تكذب في اليمين، واتَّقِ الله أيُّها المدَّعي، لا تدَّعِ بالباطل، ولا تُؤذي الناس بالدَّعاوى الباطلة، ولكن مَن فرَّط وليس عنده بينات فليس له إلا اليمين: شاهداك أو يمينه.
ويقول ﷺ: لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر، وقال ﷺ: مَن حلف بالله فليصدق لا يكذب ومَن حُلِفَ له بالله فليرضى يرضى بالحكم الشرعي، وإن كان يعلم أنه كاذب فأمره إلى الله، سوف يجد مغبَّةَ كذبه، لكن أنت ترضى بالحكم الشرعي، ما لك إلا هذا، ترضى بالحكم الشرعي، أنت المفرط؛ ما أشهدت، ليس لك إلا هذا، والإثم عليه إن كان كاذبًا: مَن حلف بالله فليصدق، ومَن حُلِفَ له بالله فليرضَ، ومَن لم يرضَ فليس من الله، هذا وعيد، يرضى بحكم الله، ما هو معناه: يرضى عن المدَّعى عليه الكاذب، لا، يرضى بحكم الله فقط، وأما المدَّعى عليه الكذاب لا يرضى عليه، أمره إلى الله، يوم القيامة سوف ينتقم منه ويُعطيه حقَّه، كما قال ﷺ: مَن حلف على يمينٍ هو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لقي الله وهو عليه غضبان، وفي اللفظ الآخر: فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، هذا وعيد عظيم، فإذا كذب عليك وحلف بالكذب فهو على خطرٍ عظيمٍ، وأنت قد يُخلف الله عليك ما فات عليك، فاتَّقِ الله ولا تظلم ولا تكذب، وإذا كان ما عندك بينة فارضَ بحكم الله، ليس لك إلا اليمين، إلا الصلح؛ إذا اصطلحتُم فالصلح جائز، إذا قال: أنا أُعطيك كذا ولا تحلفني فلا بأس، إذا اصطلحتُم على شيءٍ بدل اليمين فلا حرج، يقول الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، ويقول سبحانه: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، ويقول ﷺ: الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا.
وفَّق الله الجميع.
باب قول: ما شاء الله وشئتَ
عن قُتيلة: أن يهوديًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: إنكم تُشركون، تقولون: ما شاء الله وشئتَ، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبيُّ ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئتَ. رواه النَّسائي وصحَّحه.
وله أيضًا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رجلًا قال للنبي ﷺ: ما شاء الله وشئتَ، فقال: أجعلتني لله ندًّا؟! ما شاء الله وحده.
ولابن ماجه عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال: رأيتُ كأني أتيتُ على نفرٍ من اليهود قلتُ: إنَّكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنَّكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررتُ بنفرٍ من النصارى فقلتُ: إنَّكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرتُ، ثم أتيتُ النبيَّ ﷺ فأخبرته، قال: هل أخبرتَ بها أحدًا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنَّ طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها مَن أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمةً كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده.
الشيخ: قد عقد المؤلفُ رحمه الله هذه الترجمة لبيان هذا الحكم الذي يغلط فيه الناس، وهو من وسائل التوحيد، وسائل الإخلاص لله والتعظيم له، يقول رحمه الله في هذا الكتاب -كتاب التوحيد: "باب قول: ما شاء الله وشئتَ" يعني: باب حكم هذا الكلام، وترك الحكم لأنَّ الأدلة دلَّت عليه، والحكم منع ذلك، "باب قول: ما شاء الله وشئتَ" يعني: باب حكم ذلك، وحكمه المنع، لا يجوز لأحدٍ أن يقول: ما شاء الله وشئتَ يا فلان، أو: ما شاء الله وشاء فلان؛ لأنَّ هذا تشريك مع الربِّ بالواو المقتضية للتَّساوي، وهذا منكر عظيم؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا مشيئته نافذة، بخلاف مشيئة المخلوق؛ فإنها عرضة لعدم النُّفوذ، ولا ينفذ من مشيئة المخلوق إلا ما شاء الله.
فلا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشئتَ، ولا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان، ما شاء الله ثم شئتَ، وهذا المقصود، المقصود بيان الحكم في هذا الباب، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، أو: ما شاء الله وشئتَ يا فلان، لا، ولكن يأتي بثُمَّ: ما شاء الله ثم شاء فلان، الدالة على التراخي وعدم المشاركة، فإذا قال: ما شاء الله ثم شاء فلان، أو: ما شاء الله ثم شئتَ، لا بأس.
ولما قال رجلٌ له ﷺ: ما شاء الله وشئتَ، قال: أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاء الله وحده، وبيَّن ﷺ أنه لا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان، وأمرهم أن يقولوا عند الحلف: بربِّ الكعبة، ولا يقولوا: والكعبة، بل: وربّ الكعبة، فالكعبة لا يُحلف بها وإن كانت عظيمةً، لكن لا يُحلف بها، وإنما يُطاف بها فقط، المشروع الطواف، أما الحلف بها فلا يجوز؛ ولهذا أمرهم أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئتَ، وأن يقولوا في الحلف: وربّ الكعبة، وربّ البيت.
وهكذا حديث ابن عباسٍ في هذا الحكم واحد، يعني: النَّهي عن قول: ما شاء الله وشاء فلان، وليقل: ما شاء الله وحده.
وهكذا حديث الطفيل أنه رأى رؤيا في النوم أنه مرَّ على ملإٍ من اليهود، فقال: إنَّكم لأنتم القوم –يعني: الجديرون بالمدح- لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، ثم مرَّ على آخرين من النَّصارى فقال: إنَّكم لأنتم القوم –يعني: الجديرون بالمدح- لولا أنَّكم تقولون: المسيح ابن الله، فلما أخبر طفيل بها مَن أخبر، ثم أتى النبي فأخبره، فقال له: أخبرتَ بها أحدًا؟ قال: نعم، فخطب الناس ﷺ وقال لهم: إن طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها مَن أخبر منكم، وإنكم كنتم تقولون كلمةً لم يمنعني أن أنهاكم عنها إلا كذا وكذا، وهي قول: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، وفي اللفظ الآخر: كان يمنعني الحياء من الله يعني: أن أنهى عن شيءٍ لم يأتِ به النَّهي، فلما جاء النَّهي نهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن يقولون: ما شاء الله وحده، أو: ما شاء الله ثم شاء فلان، لولا الله ثم فلان، هذا لا بأس، أما أن يقولوا: لولا الله وأنت، لا، ما يجوز، وما شاء الله وشئتَ، ما يجوز بالواو، ولكن بثم لا بأس: لولا الله ثم فلان صار كذا، ما شاء الله ثم شاء فلان، لا بأس.
وفَّق الله الجميع.
باب مَن سبَّ الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24].
في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: قال تعالى: يُؤذيني ابنُ آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، أُقلب الليل والنَّهار.
وفي روايةٍ: لا تسبوا الدهر; فإنَّ الله هو الدهر.
الشيخ: هذه الترجمة عقدها المؤلفُ رحمه الله في كتاب "التوحيد"، وهي التحذير من سبِّ الدهر؛ لأن سبَّ الدهر معصية، ونقص في التوحيد، ونقص في الإيمان، وتشبه بأهل الجاهلية، فلا يليق بالمؤمن أن يسب الدهر، ولا أن يتشبَّه بأعداء الله من الكفار، فالدهر هو الزمان، وهو خلق من خلق الله، متصرف فيه، ليس بيده شيء، لا حلّ، ولا عقد، ولا تدبير أمور، إنما هو ظرف للحوادث؛ ولهذا قال جلَّ وعلا عن الكفار ذامًّا لهم، وعائبًا لهم أنهم قالوا: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، يذمّهم بهذا، فالدهر ليس بمهلكٍ لهم، إنما هلكوا بأمر الله وتقديره آجالهم، فليست الدنيا دار إقامةٍ، ولكنها دار انتقال، دار عمل ودار انتقال، ودار الإقامة أمام الناس: إما الجنة، وإما النار.
وفي الصحيح يقول النبيُّ ﷺ: يقول الله جلَّ وعلا: يُؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، أُقلب ليله ونهاره، وفي اللفظ الآخر: لا تسبوا الدهر؛ فإنَّ الله هو الدهر يعني: خالقه ومُقلب ليله ونهاره، والدهر هو الزمان، فلا يجوز سبّه -سبّ الليل والنهار- ولكن يجب عليك أن تُصلح عملك، وأن تجتهد في صلاح عملك، فالمعول في النَّجاة وضدّها على إيمانك بالله وعملك الصالح واستقامتك، فمَن استقام فله الجنة، ومَن انحرف فله النار: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13- 14]، أما الزمان فليس بيده شيء، وهو الدهر، فقول الجاهلية: "وما يُهلكنا إلا الدَّهر" هذا من جهلهم وضلالهم، وإنما هلاكهم بيد الله، لهم آجال معلومة مضروبة، متى انتهت آجالهم هلكوا، ماتوا.
ومن هذا قول بعضهم: يا خيبة الدهر! لا بارك الله في هذه الساعة، قاتل الله هذه الساعة، أو: لعن هذه الساعة، كل هذا من سبِّ الدهر، ولكن عليك أن تُجاهد نفسك بإصلاح عملك، وأن تتَّقي ربَّك حتى يقيك الحوادث والشرور، وحتى تكون المصائب لك رحمةً تُؤجر عليها وتُثاب عليها.
وفَّق الله الجميع.
باب التَّسمي بقاضي القُضاة ونحوه
في الصحيح: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: إن أخنع اسم عند الله رجلٌ تسمَّى: ملك الأملاك، لا مالك إلا الله.
قال سفيان مثل: شاهان شاه.
وفي روايةٍ: أغيظ رجلٍ على الله يوم القيامة وأخبثه.
قوله: أخنع يعني: أوضع.
الشيخ: هذه الترجمة عقدها المؤلفُ في كتاب "التوحيد" لبيان بعض الأسماء المنكرة التي ينبغي تجنبها، وأن من كمال التوحيد ومن مُوجب التوحيد اجتنابها؛ لأنها تقدح في التوحيد؛ ولهذا قال رحمه الله: "باب التَّسمي بقاضي القُضاة"؛ لأن قاضي القضاة معناه: حاكم الحكام، لا ينبغي التَّسمي بذلك إلا إذا قُيد: قاضي قضاة البلد الفلانية، هذا أسهل، أما إطلاق: قاضي القضاة، فلا يجوز؛ لأنَّ معناه: حاكم الحكام.
يقول النبي ﷺ: إن أخنع اسم عند الله أخنع يعني: أوضع وأبغض اسم عند الله رجلٌ تسمَّى بملك الأملاك يعني: ملك الملوك، لا مالك إلا الله، قال سفيان: مثل: شاهان شاه.
المقصود أن التَّسمي بملك الملوك وما يُؤدي المعنى أيضًا: شاهان شاه، أو غير ذلك مما يُؤدي المعنى لا يجوز، مثل: حاكم الحكام، ملك الملوك، سلطان السلاطين، وما أشبه ذلك؛ أولًا هذا يُفضي إلى الكبر والعجب، وثانيًا فيه مشاركة لله فيما هو من خصائصه ، فلا يجوز. وفي بعض الألفاظ: أغيظ رجلٍ على الله وأبغضه رجلٌ تسمَّى: ملك الأملاك.
فالواجب على المؤمن أن يتحرى الأسماء المناسبة التي ليس فيها مخالفة لشرع الله، فلا يُعبد لغير الله، فلا يقال: عبد النبي، ولا: عبد الشجر، أو الحجر، ولكن يقال: عبدالله، عبدالرحمن، عبدالرحيم، عبدالعزيز، عبدالقدير، لا يُعبد إلا لله، لا للأنبياء، ولا للأحجار والأصنام، ولا غير ذلك من المخلوقات، وهكذا لا يتسمَّى بشيءٍ يُشارك الربَّ في عظمته: كملك الملوك، وحاكم الحكام، وسلطان السلاطين، ونحو ذلك؛ لأنَّ هذا أيضًا باطل وكذب؛ ولأنه قدح في التوحيد، وقدح في الإيمان؛ ولأن ذلك سوف يُفضي إلى العجب والكبر والتَّعاظم.
نسأل الله العافية والسلامة.