06 من قوله: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم)

باب قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]

وقوله: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24].

عن أنسٍ: أن رسول الله ﷺ قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجاه.

ولهما عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار.

وفي روايةٍ: لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى.. إلى آخره.

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعمَ الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامَّة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا" رواه ابن جرير.

وقال ابنُ عباسٍ في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] قال: "المودة".

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]" هذا ذكره الله على سبيل الذم من الناس، يعني: بعض الناس -وهذا على سبيل الذم والعيب والإنكار- يُحبونهم كحبِّ الله: من أنبياء، أو صالحين، أو ملائكة، أو جن، أو كواكب، أو أشجار وأحجار، أو أصنام، أو غير ذلك: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ يعني: أشد حبًّا لله من هؤلاء المشركين لأندادهم وأوثانهم؛ ولهذا خضعوا له وعبدوه واتَّقوه وعظَّموا أمره ونهيه، بخلاف أهل الشرك فإنهم بسبب شركهم وضلالهم وجهلهم أشركوا مع الله غيره، وأحبوا معه غيره محبَّة العبادة، كما فعلوا مع اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها، وكما فعل غيرهم مع النجوم، ومع الشجر والحجر، ومع الملائكة، وغيرهم.

فهذا شرك عُبَّاد الأصنام، شرك الوثنيين، وشرك اليهود مع عزير، وشرك النصارى مع المسيح، وغيرهم ممن أشرك بالله وعاند الحقَّ من أنواع الكفرة، ومن ذلك كفر مَن ألحد في دين الله، وأنكر وجود الرب : كالشيوعيين الملاحدة وغيرهم.

فالواجب على كل مكلَّفٍ أن يعبد الله وحده، وأن يخصَّه بالعبادة، وأن يكون أحبَّ إليه من كل شيءٍ، وهكذا رسوله ﷺ يُحبه في الله محبةً تليق به، محبة تقتضي اتِّباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه، ومحبة الرسول من محبة الله، ومحبة أولياء الله من محبة الله، فمن حُبِّ الله أن تُحب أنبياءه ورسله وعباده الصالحين، وأن تُحب ما أحبَّ من الطاعة، وأن تكره ما كره من الشرك والمعصية.

وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24] يعني: انتظروا عقاب الله.

كثير من الناس آثر هذه الدنيا؛ آثار آباءه، أو أبناءه، أو زوجاته، أو غيرهم من أقاربه، أو ماله، أو غير ذلك، آثر ذلك على طاعة الله ومحبَّة الله، فهو متوعد بالعذاب.

فالواجب على المؤمن أن يُؤثر حقَّ الله وطاعته على نفسه وأبيه وأمه وأولاده وعشيرته وغيرهم، فالله خلقه ليعبده، خلقه لعبادة الله، فالواجب أن يعبده وحده، وأن يقدم ذلك على هوى نفسه، وعلى هوى غيره من الناس، سواء كانوا آباء أو أمهات أو أبناء أو عشيرة أو أصدقاء أو غيرهم، يجب أن يُقدم طاعة الله وطاعة رسوله، وحبَّ الله ورسوله على هوى نفسه وهواه، ويجب أن يخصَّ الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه، وأن تكون محبته للناس تابعةً لمحبة الله ، وهذا هو حب العبادة.

أما الحب الطبيعي؛ أنه يُحب المال الذي ينفعه، يُحب التِّجارة الرابحة، يُحب زوجته محبةً طبيعيةً، يُحب أولاده المحبة الطبيعية التي لا تمنعه مما أوجب الله، ولا تُوقعه فيما حرَّم الله، هذا لا بأس به، كما قال النبي ﷺ: حُبب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب، فحب الإنسان لزوجته وأهله وأمواله وعشيرته أمر لا يُنكر، لكن هذه المحبة لا بدَّ أن تكون في حدودها؛ بحيث لا تحمله على معصية الله، أو تحمله على ترك ما أوجب الله، أو تحمله على الوقوع في معصية الله، أو تحمله على إيثار أقربائه أو زوجته أو غير ذلك على طاعة الله، فالواجب عليه أن يُقدم ما أوجب الله على كلِّ أحدٍ، وأن ينتهي عمَّا حرَّم الله وإن أبى عليه بعض الناس، فإنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف.

ويقول ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، الرسول ﷺ قال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبّ إليَّ من كل شيءٍ إلَّا من نفسي، فقال رسول الله ﷺ: لا يا عمر حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك، فقال عمر : لأنت أحبّ إليَّ من كل شيءٍ حتى من نفسي، فقال النبي ﷺ: الآن يا عمر يعني: الآن تم الإيمان وأديت الواجب.

فكونه يُحب الرسول أكثر من حبِّ نفسه مما يُوجب طاعة الرسول، وتقديم ما أمر به على هوى نفسه، وترك ما نهى عنه وإن اشتهته نفسه؛ طاعةً لله ولرسوله، ومحبَّةً لله ولرسوله، وإيثارًا لمحابِّ الله ورسوله.

وقال ﷺ: ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار هذا من كمال الإيمان وتمامه، ولا يجد الإنسانُ محبةَ الإيمان وحلاوته إلا بهذا؛ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من كل شيءٍ؛ من أبيه وأمه وكل شيءٍ، محبة تُوجب طاعة الله وتقديم محابِّه التي أمر بها، وترك ما نهى عنه.

وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله هذا من كمال الإيمان، ما تكون محبته تابعةً لهواه، بل يُحبه لله؛ لكونه مؤمنًا، لكونه من عباد الله الصالحين.

وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار يعني: يكره الكفر بالله والوقوع في الكفر بالله مثلما يكره الوقوع في النار أو أشدّ من ذلك.

وقال في اللفظ الآخر: لا يجد أحدُكم حلاوةَ الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وحتى يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر.. إلى آخره، يعني: ما يحس بالحلاوة وطعم الإيمان إلا بكمال محبته في الله، وبغضه في الله، ومُوالاته في الله، ومُعاداته في الله، كمال إيمانه في أداء ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، وحبّه في الله، وبغضه في الله، ومُوالاته في الله، ومُعاداته في الله، كما قال ابن عباس: "مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك" لمحبته وولايته للعبد، "ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك" يعني: حتى يُحب في الله، ويبغض في الله، ويُوالي في الله، ويُعادي في الله، فعند هذا يجد حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإيمان ولذته، وإيثار محابّ الله على هوى نفسه.

وقال في تفسير قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] قال: "المودة" يعني: المشركين كانت المودة التي بينهم في الدنيا للقرابة والدنيا وتبادل المنافع الدنيوية، انقطعت يوم القيامة، ما نفعتهم؛ لأنها ما كانت لله، فالمحبة للدنيا والتّجارة والقرابة والصداقة ما تنفع يوم القيامة، إنما تنفع المحبَّة في الله، تحبه لأنه من أحباب الله، تُواليه لأنه من أولياء الله، تبغضه لأنه كافر من أعداء الله، هذا الذي ينفع: "مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك" يعني: محبته وولايته للعبد، "ولن يجد عبدٌ طعمَ الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك".

باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]

وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18].

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].

عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: إنَّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يُؤتك الله، إنَّ رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.

وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في "صحيحه".

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب قول الله جلَّ وعلا: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" يُبين بهذا رحمه الله أنَّ الواجب خوف الله ومُراقبته، وألا يُبالي الإنسانُ بما يُرجف به المرجفون، فإنَّ الناس لما وقعت وقعةُ أحدٍ أرجف الناسُ وصاروا يُخوفون الناس بقريش وجنودهم وقوتهم ونحو ذلك، قد وقعت وقعةُ أحدٍ تمحيصًا للمسلمين، ورحمةً لهم، وحثًّا لهم على الاستعداد، وبيان أن الأمر بيد الله، ليس بأيديهم، كما قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]؛ ليستعدوا للقاء أعدائهم؛ وليعتمدوا على الله أكثر؛ وليعلموا أنَّ القوة بيده، والنصر بيد الله، لا بيد أحدٍ من الناس: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].

قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ يعني: جمع المسلمين وجمع الكفار يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]، فهو أوقع الواقعة عن علمٍ وبصيرةٍ وحكمةٍ جلَّ وعلا، يُمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين، فليس ذلك عن صدفةٍ، بل عن علمٍ وحكمةٍ قدر ما قدر يوم أحدٍ من الهزيمة والجراح والقتل، كما قدر ما قدر يوم بدرٍ، يوم بدر نصر الله المسلمين، وأعز جنده، وأذل الكفار، وقُتل منهم سبعون، وأُسِرَ سبعون، وفي يوم أحدٍ ابتلى المسلمين وأصابهم من الجراح ما أصابهم؛ تمحيصًا لهم، وبيان أنَّ الأمر بيده، وأن النصر بيده، ليست بيد العباد؛ ليلجؤوا إليه، وليُعظموه، وليخافوه، وليعتمدوا عليه ، فهو سبحانه الذي بيده تصريف الأمور، وبيده العز والنصر، وبيده ضدّ ذلك.

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقبلها قوله جلَّ وعلا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ يعني: يكفينا الله فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۝ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173- 175].

فالواجب خوف الله ومُراقبته وخشيته، والاستقامة على دينه، والحذر مما ينهى عنه، ولا مانع أن يخاف الإنسانُ الخوفَ الذي شرعه الله، وهو الخوف الذي يحمل على الاستعداد والحذر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فالخوف الذي يحمل على الإعداد والحذر ومُقابلة العدو بما ينبغي هذا واجب، لكن مع خوف الله ومُراقبته، فأنت تخاف الخوف الذي يحملك على فعل الأسباب وتعاطي الأسباب والاستعداد للعدو، لا خوف يمنعك من لقاء العدو، ويُورث في قلبك الجبن، لا، ولكن تخافه خوفًا يحملك على الإعداد والاستعداد والحذر، كما يخاف الإنسانُ من اللصوص فيضع الحرس، وكما يخاف من طول المرض أو شدة المرض فيتعاطى الأدوية، كل هذا لا بأس به، وكما يخاف من الجوع فيأكل، ومن الظمأ فيشرب، ومن السفر الذي يخاف فيتَّخذ الرفيقَ ويتخذ السلاح، كل هذا لا بأس به، إنما الخوف المذموم الذي يحملك على ترك واجبٍ، أو فعل محظورٍ، هذا الخوف المذموم، أو الخوف من المخلوق خوف السرِّ الذي يحملك على أن تعبده مع الله، وأن تعتقد فيه السر مع الله، وأن تخشاه كما تخشى الله، هذا شرك أكبر، وأما الخوف الحسي الطبيعي فهذا لا بأس به؛ خوف اللص فتتخذ الحرس، خوف الجوع فتأكل، خوف الظمأ فتشرب، خوف المرض فتتخذ الدواء، كل هذا لا بأس به.

وقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18] يعني: لم يخشَ خشية السر والخشية التي تحمل على فعل المحظور أو ترك الواجب، لم يخش إلا الله، أما الخشية التي أباحها الله فلا بأس بها؛ قال الله تعالى في قصة موسى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21] يعني: خائفًا من آل فرعون لما قتل النفس، وقال جلَّ وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] يعني: فرَّ من عذابهم إلى إرضائهم بسخط الله، وإلى خوفهم بسخط الله، فهذا هو المذموم.

وفي حديث أبي سعيدٍ: إن ضعف اليقين يعني: من ضعف الإيمان أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يُؤتك الله، فإنَّ رزق الله لا يجرّه حرص حريص، ولا يردّه كراهة كاره الإيمان يزيد وينقص، الإيمان يضعف ويقوى، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، يضعف بالمعاصي، ويزيد بالتقوى والإيمان، فمن ضعف الإيمان أن تُرضي الناس بسخط الله، هذا من ضعف إيمانك؛ أن تُطيعهم في معاصي الله، وأن تُرضيهم بمعاصي الله؛ خوفًا منهم، هذا من ضعف الإيمان، وأن تحمدهم على رزق الله الحمد الذي لا يستحقونه، وأما الحمد الذي يستحقونه: فمَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فالذي يُسدي معروفًا يُشكر ويُثنى عليه ويُكافأ، لكن أن تحمدهم على رزق الله الذي ليس لهم فيه تسبب، وليس لهم فيه يد، فهذا من ضعف يقينك، أو تحمدهم حمدًا لا يليق فلا يجوز، هذا من ضعف اليقين، أما حمدهم على معروفهم الطيب، على إعانتهم لك على الخير، على إحسانهم إليك؛ فهذا أمر مطلوب، من صفات المؤمن أن يُكافئ على المعروف: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه يقوله النبيُّ ﷺ، ويقول: مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله يعني: مَن لا يشكر الناس على أعمالهم الطيبة وفعلهم الطيب لا يكون شكره لله كاملًا.

إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره يعني: هو مكتوب ومقدر بأسبابه، لا تدفعه كراهة زيد، ولا يجلبه حرص فلان، فهو موقت مقدر، فعليك أن تأخذ بالأسباب، والله هو الرزاق، كما قال جلَّ وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56- 58]، وقال تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، فالرزق عند الله، والعبادة حقّه جلَّ وعلا.

وفي حديث عائشة يقول ﷺ: مَن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس هذا يُوجب الحذر من إرضاء الناس بإسخاط الله، أما إرضاء الله بإسخاطهم فهذا حقٌّ، يجب عليك أن تُرضي الله، وأن تُؤدي حقَّه وإن سخط الناس: إنما الطاعة في المعروف، لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، فمَن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.

وفي روايةٍ عنها رضي الله عنها قالت: مَن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله لم يُغنوا عنه من الله شيئًا الأمر بيده ، فالتماس رضاهم بسخط الله لن يُغني عنك من الله شيئًا، بل ربما سلّطوا عليك، ولكن الحزم أن تُرضي الله وتجتهد في طاعته وإن سخط الناس عليك، أن تُؤدي الواجب، وأن تحذر ما حرَّم الله عليك وإن لم يرضَ عنك فلان أو فلان، وإن سخط فلان أو فلان، حتى أبوك، وحتى أمك، وحتى أميرك، عليك أن تُؤدي الحقَّ، وأن تؤدي الواجب وإن لم يرضَ فلان وفلان، وعليك أن تحذر طاعةَ المخلوق في معاصي الله أين كان.

وفَّق الله الجميع.

باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]

وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل؛ قالها إبراهيمُ ﷺ حين أُلقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]" رواه البخاري والنسائي.

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أراد بهذه الترجمة بيان وجوب التوكل على الله، وأن الواجب على أهل الإيمان في جميع أمورهم أن يتوكلوا على الله، لا على غيره، يعملون ويكدحون مع التوكل على الله، يعني: التفويض إليه، التوكل معناه: التفويض إلى الله، والاعتماد عليه في كل الأمور، وأنه حسب العبد وكافيه، بيده تصريف الأمور جلَّ وعلا.

فعلى العبد أن يتوكل على الله في كل أموره، مع الأخذ بالأسباب، يتوكل ويأخذ بالأسباب، فالإنسان يبيع ويشتري، ويعقل الدابة، ويحفظ ماله ويتخذ الحرس، وغير ذلك، وهو مع هذا متوكل على الله جلَّ وعلا، فالإيمان والعمل لا يُنافي التوكل، هذا وهذا، يتوكل بقلبه، ويعمل الأسباب بجوارحه، هكذا المؤمن؛ فهو يخرج في سبيل الله، يبيع ويشتري، يحرث ويزرع، يُسافر، إلى غير هذا، مع التوكل على الله في كل أموره، يعمل الأعمال التي يحتاج إليها مع التوكل على الله في كل الأمور، يعني: التفويض إليه، والاعتماد عليه، وأنه مصرف الأمور، بيده تصريف الأمور، وبيده العون، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ يعني: كافيك الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] يعني: يكفيك الله ويكفي أتباعك من المؤمنين، بيده الكفاية جلَّ وعلا، ويقول سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، ويقول: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني: فهو كافيه.

والتوكل معناه: التفويض إلى الله، والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب، يتوكل على الله في أن الزرع يحصد، يبذر الزرع، يسقي ويتوكل على الله في النجاح، يغرس الشجر ويتوكل على الله في النجاح، يتَّجر: يبيع ويشتري ويتوكل على الله في النجاح والربح، يتزوج ويتوكل على الله في العفَّة وحصول الذرية، وهكذا يأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله في كل الأمور، فالتوكل معناه: التفويض بالقلب إلى الله في كل شيء، والإيمان بأنه مُسبب الأسباب، ومُصرف الأمور، مع الأخذ بالأسباب.

يقول النبيُّ ﷺ: لو أنَّكم توكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا الطير ما عنده شيء، ما عنده خزانة، تغدو في الصباح خماصًا: جياعًا، تسعى في أرض الله وتبحث عن الرزق؛ من هنا، ومن هنا، ومن هنا، وترجع آخر النهار إلى أوكارها بطانًا قد رزقها الله ما يعيشها ذلك اليوم.

فأنت كذلك يا عبدالله، إذا أخذت بالأسباب وتوكلت على الله فإنَّ الله يرزقك: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فعليك الأسباب.

ويُروى عنه ﷺ أنه قال لأعرابي لما قال: أعقلها أو أتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل اعقل الدابة وتوكل على الله.

قال ابن عباسٍ في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، قال ابن عباسٍ: "هذه الكلمة قالها إبراهيمُ حين أُلقي في النار" لما كسر أصنامهم في وقت النَّمرود أمر النَّمرود بإيجاد نار عظيمة، وأمر أن يُلقى فيها، فلما قُذف فيها قال وهو في الجوِّ: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فقال الله لها: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فجعلها الله بردًا وسلامًا، وأنجاه الله من شرِّهم، فهكذا لما أرجف المسلمون يوم أحد وقالوا لهم: إن المشركين قد جمعوا لكم، قال النبي ﷺ والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل فنصرهم الله وأيَّدهم يوم الأحزاب ويوم خيبر ويوم الفتح، وانتهى أمر المشركين إلى الذل والهوان، ثم دخلوا في دين الله أفواجًا، فالمؤمنون عليهم التَّوكل والصدق في ذلك، والأخذ بالأسباب في جهادهم وأسبابهم ومعايشهم، وفي كل شيءٍ، وفي أعمالهم الصالحة عليهم العمل والجد والصبر، مع التوكل على الله، والإنابة إليه، والتفويض إليه .

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]

وقوله: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ سُئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.

وعن ابن مسعودٍ قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبدالرزاق.

الشيخ: أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان وجوب الخوف من الله، والرجاء لما عنده، وأن يكون المؤمن بين الخوف والرجاء، فلا يأمن ولا يقنط، هذا الواجب على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ؛ أن يخاف الله سبحانه، ويحذر عقابه، وأن يرجو رحمته، ويُحسن به الظن جلَّ وعلا، فلا يغلب جانب الخوف فيقنط، ولا يغلب جانب الرجاء فيأمن، ولكن بين ذلك.

قال بعضُ السلف: ينبغي للمؤمن أن يسير بين الخوف والرجاء كالجناحين للطائر، ويُستحب له في حال الصحة تغليب جانب الخوف؛ حتى يحذر محارم الله، وفي حال المرض جانب الرجاء؛ حتى يُحسن ظنّه بربه جلَّ وعلا.

قال الله جلَّ وعلا: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ يعني: بتماديهم في الكفر والمعاصي وإصرارهم فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ يعني: عقوبته إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ لا يأمن ذلك إلا مَن خسر نفسه، وجهل ربه.

وقال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ، وقال تعالى: لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، والقنوط أشد اليأس.

وفي الحديث يقول ﷺ لما سُئل عن الكبائر قال: الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله اليأس من روح الله هذا القنوط، ضدّ الأمن.

وفي حديث ابن مسعود: "الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" اليأس هو القنوط.

فالواجب على كل مسلمٍ وعلى كل مسلمةٍ أن يكون جامعًا بين الخوف والرجاء، يسير إلى الله خائفًا من ذنوبه وسيئاته، راجيًا رحمة ربه، قال تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وقال جلَّ وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] هكذا المؤمنون؛ يرجون ويخافون، يحملهم توحيدهم وإيمانهم وطاعتهم لله على الرجاء وحُسن الظن بالله، ويحملهم ما يقع منهم من المعاصي والشرور والتَّساهل في بعض الأحيان، يحملهم ذلك على الخوف من الله، والحذر من غضبه، وكل بني آدم خطَّاء؛ فلهذا أوجب الله على الجميع الخوف والرجاء، مع الإخلاص لله والمحبة والتعظيم.

فالواجب على كل مؤمنٍ ومسلمٍ أن يُحب الله المحبة الصادقة من كل قلبه، وأن يُخلص لله في العمل: في صلاته وصومه ودعائه وزكاته وحجه وغير ذلك، يكون عمله لله وحده: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14].

وعليه مع الإخلاص والتوحيد والإيمان والصدق عليه مع ذلك أن يكون خائفًا، راجيًا، لا يأمن، ولا يقنط، بل يرجو رحمة ربه، ويُحسن به الظن، كما في الحديث: يقول الله جلَّ وعلا: أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فمَن ظنَّ بالله الخير فالله عند ظنِّه، فالواجب ظنّ الخير بالله، وحُسن الظن بالله، مع العمل الصالح والتقوى لله، والواجب الحذر من القنوط واليأس من روح الله.

فكن أبدًا في حياتك كلها سائرًا إلى الله في طريق الرجاء والخوف، لا تأمن، ولا تقنط، ترجو رحمة ربك، وترجو فضله وإحسانه وجوده، وتحذر غضبه وعقابه، وتخاف مكره؛ لأنك مأمور بذلك، مأمور بأن تخاف وترجو، فالزم هذا الخلق الكريم واستقم عليه أينما كنت، خائفًا من ربك، وخائفًا من شرِّ ذنوبك، راجيًا رحمة ربك، وراجيًا فضله بسبب أعمالك وتوحيدك وإحسانك.

وهذه الدار هي دار الامتحان، ودار الاختبار، ودار العمل، هي دار الدنيا، هي متاع الغرور، أما الآخرة فهي دار الجزاء، دار المحاسبة والجزاء، دار المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، ويقول سبحانه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، ويقول سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وقال جلَّ وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [الحديد:20]، هذه حالة أكثر الناس؛ لهو في هذه الدنيا، وتكاثر في أموالها وأولادها ومناصبها وشهواتها، هذا الغالب على أكثر الخلق، فلا ينبغي أن تغترَّ بالأكثر، ثم مثَّلها بغيثٍ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا، هذه حال الدنيا؛ مثل: عشب رطب أخضر، ثم تهب عليه الرياح، وتأتيه الشمس فييبس ويتحطم، هذه الدنيا بينما هي خضراء تهتز، فإذا الموت نزل بصاحبها، أو قامت القيامة على أهلها وانتهوا.

فالواجب عليك أن تُؤثر الآخرة الباقية الدائمة، وأن تجعل هذه الدار متاعًا ومحل عملٍ، لا محل إقامة، ولا محل خلدٍ، ولا محل إيثارٍ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ، عذاب شديد لمن كفر بالله، ومغفرة من الله ورضوان لمن آمن بالله واتَّقى، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ يغتر بها الأكثرون، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].

باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

وقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] قال علقمةُ: هو الرجل تُصيبه المُصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويُسلم.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطَّعن في النَّسب، والنِّياحة على الميت.

ولهما عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: ليس منا مَن ضرب الخدود، أو شقَّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية.

وعن أنسٍ : أن رسول الله ﷺ قال: إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافى به يوم القيامة.

وقال ﷺ: إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضى، ومَن سخط فله السخط حسنه الترمذي.

الشيخ: هذه الأحاديث وهذا الباب يتعلق بالصبر وعظم شأنه، عقد المؤلفُ هذا الباب في بيان فضل الصبر على السراء والضراء، والشدة والرخاء، وأنه من صفات أهل الإيمان، ومن واجبات الشرع؛ لأن هذا الكتاب وُضع لبيان توحيد الله، وبيان مُكملاته وواجباته، وبيان ما يقدح فيه من المعاصي والبدع، فالصبر على أقدار الله من مُكملات الإيمان، ومن واجبات الإيمان، والجزع والسخط مما ينقص الإيمان ويُضعف الإيمان.

"باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله" يعني: على أقدار الله المؤلمة من مرضٍ أو جراحٍ أو فقرٍ أو ما أشبه ذلك، الواجب على المؤمن عند البلاء الصبر، وألا يجزع، بل يتحمل ويصبر، يرجو ما عند الله من المثوبة، قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:153].

فالصبر على أقدار الله من الإيمان، ومن مُكملات الإيمان، سواء كان القدر مرضًا أو جوعًا أو فقرًا أو غير ذلك، بحيث لا يجزع، لا يتكلم بما لا ينبغي، ولا يفعل ما لا ينبغي، ولا يجزع قلبه ويسخط قلبه، قال جلَّ وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11]، قال علقمة بن قيس النَّخعي -أحد كبار التَّابعين: "هو الرجل تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلم" في معنى قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، قال: هو الرجل تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلم، تنزل به المصيبة من مرضٍ أو خوفٍ أو فقرٍ أو غير ذلك فلا يجزع، بل يأخذ بالأسباب، ويسأل ربه العافية ولا يجزع.

في الحديث يقول ﷺ: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وفي روايةٍ: ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، وقد ابتُلي الأنبياء بالقتل والمرض وبغير هذا، لما قال الله عن اليهود: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، وقال عن أيوب: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وهو من أنبياء الله، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، قد تكون المصيبةُ بشيءٍ كسبه هو من معاصٍ أو أعمال جرَّت عليه المصائب بإذن الله وقدره، وقد يُصاب تمحيصًا وتكفيرًا لسيئاته، ورفعًا لدرجاته، كما يُصيب الأنبياء، فيكون ذلك رفعًا لدرجاته، كما أصاب أيوب، وأصاب نبينا وغيرهم، قال تعالى في مصيبة أحدٍ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يعني: يوم بدر قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا، قال تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:165- 167].

فلما حصل ما حصل للناس في يوم أحدٍ من الهزيمة والإخلال بالموقف سلّط عليهم عدوهم، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ حتى يتبين هؤلاء من هؤلاء وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168] بلاهم بالمصائب والأمراض وغيرها، وبلاهم بالنعم والصحة والعافية؛ لعلهم يشكرون عند الصحة، ولعلهم يصبرون عند البلاء؛ فيكون ذلك أعظم لأجورهم، وأرفع لدرجاتهم.

وفي الصحيح يقول ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر يعني: فاشيتان في الناس، كثيرة في الناس: الطعن في النَّسب، والنياحة على الميت.

الطعن في النَّسب: تنقص أنساب الناس؛ نسبه كذا، الناس بنو آدم، وآدم خُلق من ترابٍ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فلا وجه للتنقص والعيب، هذا نقص في الإيمان، وضعف في الإيمان: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.

وهكذا النياحة على الميت، من كمال الإيمان ترك النياحة، لا بأس بالبكاء بدمع العين والحزن، لا بأس، لكن الصياح وشقّ الثوب ولطم الخدّ هذا لا يجوز.

وهكذا قوله ﷺ في الحديث السابق: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة النياحة من قلَّة الصبر.

وقال في حديث ابن مسعودٍ: ليس منا مَن ضرب الخدود أو شقَّ الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية هذا من قلَّة الصبر، يصبر، لا يشقّ جيبًا ولا درعًا، ولا يتكلم بما لا ينبغي، بل يحتسب، دمع العين لا بأس به، دمع العين والحزن لا بأس به، يقول النبيُّ ﷺ لما مات ابنه إبراهيم قال: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الربّ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون.

وحديث ابن مسعودٍ يدل على أنه لا يجوز ضرب الخدِّ، ولا شقّ الجيوب، ولا الدعاء بدعوى الجاهلية، والصياح عند المصيبة، بل الصبر والاحتساب والكلام الطيب.

يقول النبيُّ ﷺ: إذا أراد الله بعبده خيرًا عجَّل له العقوبةَ، وإذا أراد بعبده شرًّا أمسك عنه ذنبه حتى يُوافيه به يوم القيامة من علامات الخير: أن يُصاب الإنسان بالمصائب حتى تُكفر سيئاته، وتحط خطاياه، وقد يُعاقب عقوبةً يكفر الله بها خطاياه؛ من تلف مالٍ، أو موت ولدٍ، أو غير هذا من المصائب، فيُكفر الله بها خطاياه.

وإذا أراد بالعبد الشرَّ أمسك عنه ذنوبه يعني: أملى له حتى يلقى الله بذنوبه، كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، قد يملى للإنسان على ظلمٍ وشرٍّ حتى تكون العقوبةُ أشدَّ يوم القيامة.

فإذا أصاب الإنسان ما يكره من مرضٍ أو غيره فليحمد الله وليصبر وليحتسب، فإنَّ هذا كفَّارة لخطاياه، فالمؤمن صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، وفي الحديث: مَن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، فالحازم يلتمس رضا الله ويصبر ويحتسب ويسير على النهج القويم ولو غضب الناس، هذا هو الحزم، هذا هو الفقه، هذا هو الإيمان، ومَن تعجل الراحةَ بما يُغضب الله ندم في العاقبة، إذا قدَّم رضا الناس على إسخاط الله ندم في العاقبة.

فالواجب على المؤمن أن يكون رضاه وتصرفاته وعمله تابعًا لما يُرضي الله، تكون تصرفاته تابعةً لما يُرضي الله؛ فيفعل ما شرع الله من صلاةٍ وصومٍ وحجٍّ، وعيادة مريضٍ، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، ويصبر على ما أصابه مما قد يكره من جوعٍ أو خوفٍ أو مرضٍ أو تسليط أحدٍ عليه بضربٍ أو غيره، يحتسب، وليسأل ربَّه العافية وليحتسب، ولا يفعل ما يُغضب الله، وسوف يجد ثواب ذلك عند الله جلَّ وعلا، والمجرم هو الذي يندم، المجرم والعاصي هو النادم، أما المظلوم فمرده إلى خيرٍ؛ تكفير لسيئاته، ومن أسباب سعادته يوم القيامة.

باب ما جاء في الرياء

وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

وعن أبي هريرة مرفوعًا: قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركه رواه مسلم.

وعن أبي سعيدٍ مرفوعًا: ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي؛ يقوم الرجلُ فيُصلي فيُزين صلاته لما يرى من نظر رجلٍ رواه أحمد.

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب ما جاء في الرياء"، يقول في كتاب "التوحيد": "باب ما جاء في الرياء"، والرياء هو المراءة بالعمل؛ يُصلي يُرائي الناس، أو يتصدق يُرائي الناس، أو يقرأ يُرائي الناس حتى يمدحوه، حتى يُثنوا عليه، حتى يقال: إنه قارئ، أو أنه جيد، أو أنه يُصلي، أو أنه يتصدق، هذا هو الرياء، والرياء من الشرك، يجب تركه والحذر منه، ورياء الناس لا ينفعه، بل يضره.

فالواجب الإخلاص لله في العمل؛ إذا صلَّى لا يُصلي إلا لله، ويقرأ لله، ويتصدق لله، لا لمراءة الناس، ولا لحمد الناس، ولا لثنائهم، ولكن تكون أعماله لله وحده: قراءة، أو صلاة، أو صدقة، أو صوم، أو عيادة مريض، أو اتِّباع جنازة، أو أمر بالمعروف، أو نهي عن منكرٍ، أو دعوة إلى الله، أو غير هذا، كله لله وحده، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، وقال جلَّ وعلا: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162- 163].

ويقول جلَّ وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] يعني: لا قليلًا، ولا كثيرًا، لا رياء ولا غيره، بل يجب أن تكون العبادة لله وحده: من صلاة، أو ذبح، أو نذر، أو صدقة، أو حج، أو عمرة، أو صيام، أو غير ذلك، كله لله وحده، لا يقصد رياء الناس، ولا ليحمدوه، أو ليثنوا عليه، أو ليقال أنه عابد، أو أنه جيد، أو أنه كذا، لا، لن ينفعوك، ولن يضروك، قال جلَّ وعلا: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].

فالعبد ليس عنده ضرٌّ ولا نفع إلا بإذن الله وقدره جلَّ وعلا، فالواجب الإخلاص لله، وطلب مرضاته في عبادته كلها.

يقول الله جلَّ وعلا في الحديث القدسي: أنا أغنى الشُّركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه معناه: أنه سبحانه غني عن الشرك، فمَن أخلص لله قبل عمله إذا وافق الشريعة، ومَن جعل الله شريكًا فهو لصاحبه، والله بريء منه؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري فهو لشريكه، ليس لي منه شيء، وفي اللفظ الآخر: تركته وشركه، فوجب الحذر من ذلك.

ويقول ﷺ: أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء، يقول الله يوم القيامة للمُرائين: اذهبوا إلى مَن كنتم تُراؤون في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم من جزاء؟!.

ويقول عليه الصلاة والسلام: أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الخفي، يقوم الرجلُ فيُصلي فيُزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه هذا الشرك الخفي، وهو الرياء، والشرك يكون خفيًّا بالقلوب كالرياء، ويكون ظاهرًا كالذبح لغير الله، والصلاة لغير الله يعلن ذلك، وما أشبه ذلك، فما كان في القلوب يُقال له: رياء، ومَن أظهره وبيَّن شركه فهذا شرك ظاهر.

والشرك شركان: أكبر وأصغر، فالتقرب لغير الله من الملائكة أو الأنبياء أو الأوثان أو النجوم بالذبح أو بالنذر أو بالدعاء هذا شرك أكبر، وكون الإنسان يُصلي لله، ويصوم لله، ويُرائي حتى يمدحه الناسُ، حتى يُثنوا عليه؛ هذا الشرك الأصغر، وهو الرياء.

فيجب الحذر منهما جميعًا؛ من الشرك الأكبر والأصغر جميعًا، ومن الشرك الأصغر أن يقول: لولا الله وفلان، هذا من الله ومن فلان، أو بالله وبفلان. أو يحلف بغير الله: بالنبي أو بالملائكة أو بالأمانة، كل هذا من الشرك الأصغر، وإذا قال: "لولا الله وأنت" هذا من الشرك الأصغر، "لولا الله وفلان" هذا من الشرك الأصغر، الصواب أن يقول: "لولا الله ثم فلان"، "لولا الله ثم أنت لكان كذا" لا بأس، أما "لولا الله وأنت"، "لولا الله وفلان" هذا من الشرك الأصغر، من جنس الرياء، يجب الحذر منه، ويجب أن يكون المؤمن على بصيرةٍ، وعلى حذرٍ من أنواع الشرك كله، صغيره وكبيره.

وفَّق الله الجميع.