ثم قال المؤلف رحمه الله يقول تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] ذكر هذه الآية لما فيها من بيان تحريم الشرك، قُلْ: يعني قل يا أيها الرسول للناس، تَعَالَوْا يعني هلموا وأقبلوا، أَتْلُ يعني أخبركم وأقص عليكم، مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ يعني عن علم وعن يقين لا عن شك وظن أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا يعني حرم الله عليكم أن تشركوا به شيئًا، لا صلة المعنى حرم عليكم الشرك به كما حرم ما حرم من المحرمات من الزنا والسرقة والعقوق والربا وغير ذلك، حرم الشرك لكن الشرك هو أعظم المحرمات وأشدها وأغلظها وأولها تحريمًا وهو ضد التوحيد، ضد لا إله إلا الله، فالتوحيد إخلاص العبادة لله وحده، والشرك صرف العبادة أو بعضها لغير الله من جن، أو إنس، أو ملائكة، أو أنبياء، أو أصنام، أو أشجار، أو أحجار، أو كواكب، أو غير ذلك.
فالعبادة حق الله وحده، ليس لأحد أن يصرف منها شيء لغير الله، وليس لأحد أن يدعو الملائكة والأنبياء، أو الجن، أو الكواكب، أو الأصنام، أو يسجد لهم، أو يركع لهم، أو يستغيث بهم، أو غير ذلك من أنواع العبادة كلها لله وحده .
ثم قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151] هذه الآية وما بعدها اشتملت على عشرة أمور: أولها: تحريم الشرك، والثاني: قوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الأمر بالإحسان إلى الوالدين فدل ذلك على أن حقهما عظيم لأن الله قرنه بحقه وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] وهنا كذلك قرنهما بتحريم الشرك، والشرك أعظم الذنوب، فدل ذلك على أن عقوقهما وعدم الإحسان إليهما من أقبح السيئات والجرائم.
ثم قال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] هذه الثالثة، والإملاق الفقر، كان بعض الجاهلية إذا افتقر قتل بعض أولاده، وربما قتل البنات خوف العار فنهاهم الله عن ذلك، وأخبر أن الرزق بيده ، هو الذي يرزقهم ويرزق أولادهم.
الرابع قال: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151] الفواحش المعاصي، سميت فواحش لأن العقل السليم والفطرة السليمة تنكرها وتراها فاحشة وتراها خبيثة كالعقوق، وقطيعة الرحم، والربا، والزنا، واللواط، وظلم الناس في أموالهم ودمائهم، وغير ذلك مما حرم الله.
الخامسة: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151] هذه الخامسة، والفواحش ظاهرها وباطنها كلها محرم، جميع الفواحش، جميع المعاصي الظاهرة والباطنة من النميمة، والغيبة، والزنا، والسرقة، والكبر، والخيلاء، والرياء كلها محرمة ظاهرها وباطنها ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] وصاكم بهذه الأشياء لتعقلوها، وصاهم بأن يحذروا الشرك، وصاهم بأن يحسنوا للوالدين، وصاهم بألا يقتلوا أولادهم من إملاق، وصاهم بأن يبتعدوا عن الفواحش ظاهرها وباطنها، وصاهم بألا يقتلوا نفسًا بغير حق ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151] الوصية أمر مؤكد، الوصية الأمر المؤكد الذي يؤكده الإنسان، يقال: وصى بكذا يعني أكد كذا، فالله وصانا بهذا يعني أكد علينا وأمرنا بهذه الأمور حتى نقوم بها ونلتزم بها إن كنا نعقل لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] فالعقلاء هم الذين يفهمون هذه الأمور، ويأخذون بها، ويلتزمون بها، بخلاف غير العاقل كالمجنون والطفل الذي لا يعقل.
المقصود هنا أن الله جل وعلا أوجب عليهم هذه الأمور، وحرم عليهم انتهاك هذه الحرمات ليلتزموها بما أعطاهم الله من العقول.
ثم قال بعدها في السادسة: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] اليتيم: هو الذي ما له أب، مات أبوه وهو صغير قبل أن يحتلم، يقال له: يتيم فإذا بلغ زال عنه اليتم، فالله أوصى بالأيتام، والإحسان إليهم، وحفظ أموالهم، وأن لا يفسد فيها، بل يعمل فيها بما هو أصلح حتى يبلغوا أشدهم، حتى يرشدوا.
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152] التي أحسن التجارة فيها والعمل فيها بما ينفع اليتيم حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] السابعة.
والثامنة: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152] بالعدل، لا يبخسوا الناس ميزانهم ولا مكاييلهم، لا يظلموهم، أوصاهم الله بأن يعدلوا في الكيل والميزان، وألا يظلموا الفقير والمغفل والذي لا ينتبه، بل يجب أن يوفوا الكيل والميزان للجميع، والقسط العدل.
لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152] الواجب تحري الحق والحرص على الوفاء.
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] هذه التاسعة، ومعنى ذلك وجوب العدل بين العدو والصديق، بعض الناس قد يعدل في حق القريب والصديق، لكن ما يعدل مع العدو لا، الواجب العدل ولو كان عدوًا لك، ولو كان بينك وبينه شحناء، الواجب العدل وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] فعلى الحاكم والمصلح وغيرهما العدل في أقوالهم وأعمالهم مع القريب والصديق، ومع العدو والبغيض.
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152] عهد الله ما أوصى به عباده، وما أمرهم به من طاعته وتوحيده، والإخلاص له وترك معاصيه، هذا عهد الله وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40] عهد إلى العباد على أيدي الرسل أن يتقوه ويعبدوه، ويطيعوا أوامره، وينتهوا عن نواهيه، فعليهم أن يوفوا بهذا العهد.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] وصاهم بهذه الوصايا ليتذكروا هذه الوصية ويعملوا بها ويلتزموها.
ثم قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] يعني فعل هذه الأوامر وترك هذه النواهي هو صراط الله، الإخلاص لله، والاستقامة على أمره، وترك ما حرم هو صراط الله المستقيم، فعلى العباد أن يلتزموه ويستقيموا عليه حتى يموتوا وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ يعني الزموه وسيروا عليه واستقيموا عليه.
وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] السبل هي البدع والأهواء والشهوات المحرمة يجب الحذر منها، ويجب الاستقامة على الطريق السوي، وهو صرط الله الذي هو فعل أوامره وترك نواهيه، وهو الإسلام، وهو الإيمان، وهو الهدى.
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فالإنسان إذا أخذ بالأهواء والبدع والمعاصي ضيعته وأضلته السبيل، وصار في تيه الضلالة وبيداء الهلاك.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] وصاكم بهذه الوصايا لتتقوه وتعظموه وتستقيموا على أمره، ذكر العقل الأول، ثم الذكرى، ثم التقوى، وذلك لأن العبد إذا تأمل وتعقل عرف وتذكر، ثم يتقي، بعد المعرفة والذكرى والتعقل يتقي ربه ويأخذ بالصالح ويدع الفاسد، ويلتزم بالأوامر ويدع النواهي.
وهكذا أوامر الله ونواهيه يذكر بها أهل الألباب وأهل البصائر حتى يستقيموا عليها، ويأخذوا بها، ويدعوا ما نهى عنه .
قال ابن مسعود عند هذا ، وهو عبدالله بن مسعود الصحابي الجليل أحد علماء الصحابة، وأحد السابقين، مات سنة ثنتين وثلاثين من الهجرة، أو ثلاث وثلاثين من الهجرة في خلافة عثمان قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات" وكان الصحابة قد أسفوا لما أراد النبي ﷺ أن يوصي ثم ترك ذلك، وقال ابن عباس عند هذا: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين الرسول وبين أن يكتب الوصية" لما قال: هاتوا الكتاب أكتب لكم الوصية: ثم تنازعوا، قال بعضهم: أحضروا الكتاب، وقال بعضهم: لا تشغلوه وهو مريض، ثم أمر بإخراجهم وقال: ما ينبغي عند نبي التنازع، فقال ابن مسعود عند هذا: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه" يعني كأنه كتبها وختمها بختمه "فليقرأ هذه الآيات" فإنها وصية الله جل وعلا، ووصية الله هي وصية رسوله عليه الصلاة والسلام، فما وصى الله به عباده هو وصية أيضًا لرسوله عليه الصلاة والسلام.
هذا يدل على عظمة هذه الآيات، وأن شأنها عظيم، وقد جاء في الحديث: ألا تبايعوني على هذه الآيات عليه الصلاة والسلام، فالآيات هذه عظيمة وشأنها كبير لما فيه من الوصايا العظيمة، فينبغي للمؤمن والمؤمنة ولكل مسلم أن يلزم ما فيها، وأن يستقيم على ما فيها لأنه الصراط المستقيم، ولأنه دين الله الذي بعث به رسله عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.