التعاون مع العاشق تعاون على الإثم والعدوان 11

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِحُصُولِ غَرَضِ الْعَاشِقِ مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ فَأَمْرٌ لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمَعْشُوقِ، فَلِلْمَعْشُوقِ أَغْرَاضٌ أُخَرُ يُرِيدُ مِنَ الْعَاشِقِ إِعَانَتَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِدُ مِنْ إِعَانَتِهِ بُدًّا، فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَالْمَعْشُوقُ يُعِينُ الْعَاشِقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَسَيِّدِهِ وَزَوْجِهِ، وَالْعَاشِقُ يُعِينُ الْمَعْشُوقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَكُونُ غَرَضُ الْمَعْشُوقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ظُلْمِهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى أَغْرَاضِهِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ النَّاسِ، فَيَحْصُلُ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ للناس بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُبْحِ؛ لِتَعَاوُنِهِمَا بِذَلِكَ عَلَى الظُّلْمِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ الْعُشَّاقِ وَالْمَعْشُوقِينَ، مِنْ إِعَانَةِ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ عَلَى مَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَبَغْيٌ، حَتَّى رُبَّمَا يَسْعَى لَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ، وَفِي تَحْصِيلِ مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَفِي اسْتِطَالَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا اخْتَصَمَ مَعْشُوقُهُ وَغَيْرُهُ أَوْ تَشَاكَيَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمَعْشُوقِ، ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا، هَذَا إِلَى مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَاكَ مِنْ ظُلْمِ الْعَاشِقِ لِلنَّاسِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْشُوقِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْشُوقِهِ.

فَكُلُّ هَذِهِ الْآفَاتِ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تَنْشَأُ مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ تَنَصَّرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نَشَؤُوا فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْعِشْقِ، كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَ أَبْصَرَ امْرَأَةً جَمِيلَةً عَلَى سَطْحٍ، فَفُتِنَ بِهَا، وَنَزَلَ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَسَأَلَهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، فَإِنْ دَخَلْتَ فِي دِينِي تَزَوَّجْتُ بِكَ، فَفَعَلَ، فَرَقِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى دَرَجَةٍ عِنْدَهُمْ فَسَقَطَ مِنْهَا فَمَاتَ، ذَكَرَ هَذَا عَبْدُالْحَقِّ فِي كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ.

وَإِذَا أَرَادَ النَّصَارَى أَنْ يُنَصِّرُوا الْأَسِيرَ أَرَوْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةً، وَأَمَرُوهَا أَنْ تُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهَا؛ حَتَّى إِذَا تَمَكَّنَ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا إِنْ دَخَلَ فِي دِينِهَا، فَهُنَالِكَ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إِبْرَاهِيم:27].

وَفِي الْعِشْقِ مِنْ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ لِصَاحِبِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَا فِيهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ، وَظُلْمُهُمَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُلْمُهُمَا بِالشِّرْكِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعِشْقُ أَنْوَاعَ الظُّلْمِ كُلَّهَا.

وَالْمَعْشُوقُ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْعَاشِقَ لِلتَّلَفِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ، بِأَنْ يُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَزَيَّنَ لَهُ وَيَسْتَمِيلَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَالَهُ وَنَفْعَهُ، وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِئَلَّا يَزُولَ غَرَضُهُ بِقَضَاءِ وَطَرِهِ مِنْهُ، فَهُوَ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالْعَاشِقُ رُبَّمَا قَتَلَ مَعْشُوقَهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَادَ بِالْوِصَالِ لِغَيْرِهِ، فَكَمْ لِلْعِشْقِ مِنْ قَتِيلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَكَمْ أَزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ، وَأَفْقَرَ مِنْ غِنًى، وَأَسْقَطَ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَشَتَّتَ مِنْ شَمْلٍ، وَكَمْ أَفْسَدَ مِنْ أَهْلٍ لِلرَّجُلِ وَوَلَدِهِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ بَعْلَهَا عَاشِقًا لِغَيْرِهَا اتَّخَذَتْ هِيَ مَعْشُوقًا لِنَفْسِهَا، فَيَصِيرُ الرَّجُلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ خَرَابِ بَيْتِهِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا.

فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُحَكِّمَ عَلَى نَفْسِهِ عِشْقَ الصُّوَرِ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ بِنَفْسِهِ، الْمُغَرِّرُ بِهَا، فَإِذَا هَلَكَتْ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَهَا، فَلَوْلَا تَكْرَارُهُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ وَطَمَعُهُ فِي وِصَالِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ عِشْقُهُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْعِشْقِ الِاسْتِحْسَانُ، سَوَاءٌ تَوَلَّدَ عَنْ نَظَرٍ أَوْ سَمَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ طَمَعٌ فِي الْوِصَالِ وَقَارَنَهُ الْإِيَاسُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الطَّمَعُ فَصَرَفَهُ عَنْ فِكْرِهِ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِهِ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطَالَ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرَ فِي مَحَاسِنِ الْمَعْشُوقِ، وَقَارَنَهُ خَوْفُ مَا هُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُ مِنْ لَذَّةِ وِصَالِهِ: إِمَّا خَوْفٌ دِينِيٌّ كَدُخُولِ النَّارِ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَاحْتِقَابِ الْأَوْزَارِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ذَلِكَ الطَّمَعِ وَالْفِكْرِ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ، فَإِنْ فَاتَهُ هَذَا الْخَوْفُ فَقَارَنَهُ خَوْفٌ دُنْيَوِيٌّ: كَخَوْفِ إِتْلَافِ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ ذَهَابِ جَاهِهِ وَسُقُوطِ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ لِدَاعِي الْعِشْقِ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ، وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ؛ انْدَفَعَ عَنْهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ انْتَفَى ذَلِكَ كُلُّهُ، وَغَلَبَتْ مَحَبَّةُ الْمَعْشُوقِ لِذَلِكَ؛ انْجَذَبَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ كُلَّ الْمَيْلِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فقد سبق في كلام المؤلف العلامة ابن القيم رحمه الله التَّحذير من المعاصي والظلم وأنواع الفواحش: من الزنا واللواط وأسباب ذلك، وأن الواجب على المؤمن الحذر من ذلك، وتقوى الله جلَّ وعلا في جميع الأحوال، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحذر أسباب الفواحش، والركون إلى أهلها، وصحبة أهلها.

وذكر في هذه المباحث وما قبلها مضارَّ العشق وما يترتب عليه من الفساد العظيم -عشق الصور- سواء كان العاشق رجلًا أو امرأةً، فإنه يترتب على ذلك من الفساد العظيم والشر الكثير والعواقب الوخيمة ما لا يُحصى، فالواجب الحذر وغضّ البصر والبُعد عن أسباب الفتنة، لا من الرجال، ولا من النساء، الواجب على الجميع غضّ البصر، والحذر من محارم الله، والبُعد عن أسباب الوقوع فيها، هذا هو الطريق، فلا طريقَ إلا هذا، إلا بتقوى الله وتعظيمه، وغضّ البصر، وتذكر العواقب، والحذر مما وعد الله به مَن وقع في الفواحش.

والمؤمن يتعظ بغيره، فكم ممن أصابته الكوارث العظيمة والشر العظيم بأسباب عشق الصور وركوبه المعاصي والمحارم حتى هلك وأهلك، وحتى أصابه من البلاء في دينه ودنياه ما لا يُحصيه إلا الله.

فالواجب على العاقل أن يحذر كلَّ ما حرَّم الله عليه، وأن يحذر أسباب العشق: من النظر والخُلوة وغير ذلك، والتَّلذذ بالأصوات، وغير هذا، لا من الرجال، ولا من النساء.

والواجب على كل مؤمنٍ أن يتَّقي الله، وأن يستعفَّ بما يسر الله من الحلال من زوجته، وأن يحذر ما حرَّم الله عليه، وهي كذلك عليها أن تحذر ما حرَّم الله، وأن تكتفي بما أباح الله لها من زوجها، فهذا هو طريق النَّجاة، هذا هو طريق السعادة، ومَن تساهل مع البصر أو مع الكلام أو مع الخلطة فركب محارمَ الله هلك وأهلك، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

نسأل الله للجميع الهداية والعافية، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.