دواء العشق وعلاجه 10

فَصْلٌ

وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءُ الْقَتَّالُ: أَنْ يَعْرِفَ أَنْ مَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَهْلِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ تَوْحِيدَ رَبِّهِ وَسُنَّتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْتِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ دَوَامِ الْفِكْرَةِ فِيهِ، وَيُكْثِرُ اللَّجَأَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَأَنْ يُرَاجِعَ بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ أَنْفَعُ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يُوسُف:24].

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ مِنَ الْعِشْقِ وَالْفَحْشَاءِ مِنَ الْفِعْلِ بِإِخْلَاصِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أَخْلَصَ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ عِشْقُ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبٍ فَارِغٍ، كَمَا قَالَ:

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا

وَلْيَعْلَمِ الْعَاقِلُ أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ يُوجِبَانِ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلَهَا، وَإِعْدَامَ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلَهَا، فَإِذَا عَرَضَ لِلْعَاقِلِ أَمْرٌ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَمَفْسَدَةً، وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَمْرٌ عِلْمِيٌّ، وَأَمْرٌ عَمَلِيٌّ، فَالْعِلْمِيُّ: مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ طَرَفَيِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الرُّجْحَانُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيثَارُ الْأَصْلَحِ لَهُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الْمَخْلُوقِ وَذِكْرِهِ عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعَالَى وَذِكْرِهِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ هَذَا وَهَذَا إِلَّا وَيَقْهَرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لَهُ.

الثَّانِي: عَذَابُ قَلْبِهِ بِمعشوقهِ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ، كَمَا قِيلَ:

فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي

وَالْعِشْقُ وَإِنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْقَلْبِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ قَلْبَهُ أَسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ، يَسُومُهُ الْهَوَانَ، وَلَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لَا يَشْعُرُ بِمُصَابِهِ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ:

مَلَكْتَ فُؤَادِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا وَأَنْتَ خَلِيُّ الْبَالِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ

فَعَيْشُ الْعَاشِقِ عَيْشُ الْأَسِيرِ الْمُوثَقِ، وَعَيْشُ الْخَلِيِّ عَيْشُ الْمُسَيَّبِ الْمُطْلَقِ:

طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهْوَ أَسِيرُ عَلِيلٌ عَلَى قُطْبِ الْهَلَاكِ يَدُورُ
وَمَيتٌ يُرَى فِي صُورَةِ الْحَيِّ غَادِيَا وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
أَخُو غَمَرَاتٍ ضَاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ حُضُورُ

الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَضْيَعُ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، أَمَّا مَصَالِحُ الدِّينِ فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِلَمِّ شَعَثِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَعْظَمُ شَيْءٍ تَشْعِيثًا وَتَشْتِيتًا لَهُ.

وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَصَالِحِ الدِّينِ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ دِينِهِ وَضَاعَتْ عَلَيْهِ، فَمَصَالِحُ دُنْيَاهُ أَضْيَعُ وَأَضْيَعُ.

الْخَامِسُ: أَنَّ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَسْرَعُ إِلَى عُشَّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْعِشْقِ وَقَوِيَ اتِّصَالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ، فَأَبْعَدُ الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ، فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى غَيِّهِ وَفَسَادِهِ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ؟

السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.

وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، بَلْ بَعْضُهَا مُشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ، وَأَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:

قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ

السَّابِعُ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا، إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ مَعْشُوقِهِ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ»، فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ وَعُيُوبِهِ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ، وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَمَا قِيلَ:

هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا

وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ.

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِنَّمَا تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ.

وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُمْرِضُ الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْ قَتَلَهُمُ الْعِشْقُ.

وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ قَالُوا: بِهِ الْعِشْقُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فهذه الوجوه وهذا البحث العظيم كله يدل على وجوب الحذر من عشق الصور من النساء والمردان، والحذر من أسباب الفاحشة، وأن هؤلاء الذين ابتُلوا بعشق الصور من النساء والمردان تفسد عليهم عقولهم وأديانهم وأسماعهم وأبصارهم بأسباب عمى القلوب وميلها إلى الشَّهوات وإعراضها عمَّا أوجب الله من طاعته والكفِّ عن محارمه.

فالواجب على المؤمن أن يبتعد عن هذه الأسباب، وأن يجتهد في ذكر الله وطاعته، وصحبة الأخيار، والزواج إن كان لم يتزوج؛ حتى يصون نفسه عن محارم الله، هذا هو الواجب على المؤمن؛ أن يصون جوارحه عن محارم الله، وأن يبتعد عن أسباب الفساد من الزنا واللواط وأسباب ذلك، وأن يجتهد في صحبة الأخيار الطيبين، وأن يأخذ بالأسباب من تقوى الله وذكره وطاعته وسؤاله العافية، وتزوجه إن كان لم يتزوج؛ حتى يصون نفسه عن محارم الله، وحتى يصون نفسه عن الوقوع في الفواحش.

فالإنسان إذا تجرد مما أباح الله وقع في محارم الله، ولا سيما إذا صحب أهل الهوى وصحب الفساق، فإنهم يجرونه إلى باطلهم وإلى شرِّهم؛ ولهذا يقول ﷺ: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل، ويقول جلَّ وعلا في كتابه العظيم: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، ويقول: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، فمَن أعرض عن طاعة الله وذكره والقيام بحقِّه والاستقامة على طاعته تابع هواه، ولا أحد أضلَّ ممن اتبع هواه، ولا سيما إذا صحب الفساق والمعرضين عن الله؛ فإنهم يزيدونه بلاءً إلى بلائه، وشرًّا إلى شرِّه.

فالواجب على مَن بُلي بشيءٍ من هذا أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وأن يسأله العافية، وأن يجتهد في طاعة ربِّه، وفي صحبة الأخيار، وفي الزواج إن كان لم يتزوج؛ حتى يصون نفسه عن أسباب الهلاك. نسأل الله للجميع العافية والسلامة.

الثَّامِنُ: أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ الْعَاشِقِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَّةُ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ صَلَاحِهِ، كَمَا قِيلَ:

الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ يَأْتِي بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ

وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ، وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قِيلَ:

وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ

وَقَالَ آخَرُ:

تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا غَرِقْ

وَالذَّنْبُ لَهُ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ: "يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ".

فَصْلٌ

وَالْعَاشِقُ لَهُ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: مَقَامُ ابْتِدَاءٍ، وَمَقَامُ تَوَسُّطٍ، وَمَقَامُ انْتِهَاءٍ.

فَأَمَّا مَقَامُ ابْتِدَائِهِ: قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ مُدَافَعَتُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْشُوقِهِ مُتَعَذِّرًا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَبَى قَلْبُهُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى مَحْبُوبِهِ -وَهَذَا مَقَامُ التَّوَسُّطِ وَالِانْتِهَاءِ- فَعَلَيْهِ كِتْمَانُهُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا يَشْمَتَ بِمَحْبُوبِهِ وَيَهْتِكهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى الْمَعْشُوقِ وَأَهْلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ فِي مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْمَعْشُوقَ بِهَتْكِهِ فِي عِشْقِهِ إِلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ، وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَصدقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ فَعَلَ بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانَةَ، كَذَّبَهُ وَاحِدٌ، وَصَدَّقَهُ تِسْعُمِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ.

وَخَبَرُ الْعَاشِقِ الْمُتَهَتِّكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ، بَلْ إِذَا أَخْبَرَهُمُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى غَيْرِهِ جَزَمُوا بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، بَلْ لَوْ جَمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا لَجَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ وَعْدٍ وَاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَجَزْمُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الظُّنُونِ وَالتَّخَيُّلِ وَالشُّبَهِ وَالْأَوْهَامِ وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، كَجَزْمِهِمْ بِالْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ، وَبِذَلِكَ وَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الطَّيِّبَةِ الْمُطَيَّبَةِ، حَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، بِشُبْهَةِ مَجِيءِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَحْدَهُ خَلْفَ الْعَسْكَرِ؛ حَتَّى هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَلَوْلَا أَنْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَرَاءَتَهَا وَالذَّبَّ عَنْهَا وَتَكْذِيبَ قَاذِفِهَا لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْمُبْتَلَى عِشْقَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاتِّصَالُ بِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَذَاهُ مَا هُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَرُّضٌ لِتَصْدِيقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظُنُونَهُمْ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِمَنْ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ: إِمَّا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ، تَعَدَّى الظُّلْمُ وَانْتَشَرَ، وَصَارَ ذَلِكَ الْوَاسِطَةُ دَيُّوثًا ظَالِمًا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ لَعَنَ الرَّائِشَ -وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي إِيصَالِ الرِّشْوَةِ- فَمَا ظَنُّكَ بِالدَّيُّوثِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ فِي الْوَصْلِ؟ فَيَتَسَاعَدُ الْعَاشِقُ وَالدَّيُّوثُ عَلَى ظُلْمِ الْمَعْشُوقِ وَظُلْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ غَرَضِهِ عَلَى ظُلْمِهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ يَكُونُ حَيَاتُهَا مَانِعَةً مِنْ غَرَضِهِ، وَكَمْ قَتِيلٍ طُلَّ دَمُهُ بِهَذَا السَّبَبِ، مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَقَرِيبٍ، وَكَمْ خُبِّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَى بَعْلِهَا، وَجَارِيَة وَعَبْد عَلَى سَيِّدِهِمَا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْعَى فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِمَا؟

وَعُشَّاقُ الصُّوَرِ وَمُسَاعِدُوهُمْ مِنَ الدَّيَايِثَةِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا، فَإِنْ طَلَبَ الْعَاشِقُ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ وَمُشَارَكَةَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمِ ظُلْمِ الْغَيْرِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْصُرُ عَنْ إِثْمِ الْفَاحِشَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرَبَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْغَيْرِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّ اللَّهِ فَحَقُّ الْعَبْدِ بَاقٍ، لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ مِنْ ظُلْمِ الْوَالِدِ إِفْسَادَ وَلَدِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَمَنْ هُوَ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَظُلْمُ الزَّوْجِ بِإِفْسَادِ حَبِيبَتِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى فِرَاشِهِ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِهِ بِأَخْذِ مَالِهِ كُلِّهِ؛ وَلِهَذَا يُؤْذِيهِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَخْذُ مَالِهِ، وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا سَفْكُ دَمِهِ، فَيَا لَهُ مِنْ ظُلْمٍ أَعْظَمَ إِثْمًا مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وُقِفَ لَهُ الْجَانِي الْفَاعِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ: «خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ»، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَمَا ظَنُّكُمْ؟ أَيْ: فَمَا تَظُنُّونَ يَبْقَى لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَظْلُومُ جَارًا، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، تَعَدَّدَ الظُّلْمُ؛ فَصَارَ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِيذَاءِ الْجَارِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ، وَلَا مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.

فَإِنِ اسْتَعَانَ الْعَاشِقُ عَلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ -إِمَّا بِسِحْرٍ أَوِ اسْتِخْدَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ- ضُمَّ إِلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ كُفْرُ السِّحْرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ، كَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ غَيْرَ كَارِهٍ لِحُصُولِ مَقْصِدِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْكُفْرِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فقد أطال العلامةُ ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة -مسألة العشق؛ عشق الصور- وما ذاك إلا لما فيها من الشرِّ العظيم الذي عرفه ووقع في زمانه، ولا يزال يقع في كل زمانٍ، فإن عشق الصور مُسبب لوقوع الفواحش والمنكرات، ومسبب لأذى العاشق وفساد حاله إذا لم يحصل له مطلوبه.

فالواجب على المؤمن أن يحذر، فإذا تيسر له مطلوبه بالطريق الشرعي والزواج الشرعي فهذا الحمد لله، وإلا فليحذر وليكفَّ نفسه، وليحذر من أصحاب السوء وقُرناء السوء الذين يُعينون على الإثم والعدوان، فإنَّ هذا يجرّ عليه بلاء وعلى محبوبته التي عشقها وعلى أهلها، فالواجب الحذر، وأن يتَّقي الله كل مؤمنٍ، فإذا رغب في فتاةٍ من أقاربه أو غيرهم فليسلك الطريق السوي -الطريق الشرعي- بالخطبة الشرعية والوسائل الشرعية، وليحذر ما حرَّم الله عليه، وليحذر جُلساء السوء، وليحذر دُعاة الباطل، فإن شرَّ ذلك عظيم، يضره ويضر جماعته، ويضر المرأة ويضر أهلها، فالواجب الحذر من ذلك، وأن تكون الوسائل شرعية في طلب المعشوق بالزواج الشرعي، وإلا فالبعد عن ذلك، وفي الناس سوى المعشوق كثرة والحمد لله، فليس مطلوبه منحصرًا في هذا الشخص، ولكنه الشيطان يُزين له الباطل، ويدعوه إلى الباطل، فقد يجد في الناس مَن هو خير من ذلك، من هذه المعشوقة، ومَن هو أبرُّ وأتقى وأسلم، فليحذر وساوس الشيطان، وليحذر تزيين الشيطان وجُلساء السوء، وليسلك الطريق في الخطبة إن تيسر ذلك، وإلا فالناس سواها كثير والحمد لله.

نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والعافية.