باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
وقال ابن عباس: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟".
وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وعن عدي بن حاتم : «أنه سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] الآية فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم رواه أحمد، والترمذي، وحسنه.
الشيخ: يقول رحمه الله: (باب من أطاع العلماء والأمراء فقد اتخذهم أربابًا من دون الله) مراده بهذه الترجمة رحمه الله تحقيق التوحيد، واتباع الشريعة، وتعظيم أمر الله ونهيه، والحذر من تقليد الشيوخ، والآراء بخلاف شرع الله لأن ... العبادة، وبيان ما ينافيه، أو ينافي كماله الواجب، أو يقدح فيه ... فأراد أن يبين تحريم التقليد الأعمى للأشياخ، والعلماء، والمعظمين، بخلاف شرع الله جل وعلا، ولهذا قال: (باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابًا) معناه أن الواجب على أهل العلم والإيمان أن يعظموا أمر الله ونهيه، وأن يحلوا ما أحله الله ورسوله، وأن يحرموا ما حرم الله ورسوله، وأن لا يطيعوا أحدًا في خلاف ذلك.
فالعلماء والأمراء إنما يطاعون في طاعة الله إنما الطاعة في المعروف فإذا أمر العالم، أو الأمير، أو السلطان، أو أبوك، أو زوج المرأة، أو غير ذلك بفعل ما حرم الله لم يجز، أو ترك ما أوجب الله لم يجز إنما الطاعة في المعروف.
فكيف إذا حلل ذلك تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله؛ أكبر وأعظم! إنما الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا من أطاع العلماء والأمراء والرهبان وغيرهم في تحريم ما أحله الله، أو تحليل ما حرمه الله، فقد اتخذهم آلهة مع الله، والعياذ بالله كما يأتي من حديث عدي.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو عبدالله، إذا أطلق ابن عباس فهو عبدالله، العباس له أولاد عدة ، لكن أشرفهم وأفضلهم وأكثرهم علمًا وفضلًا هو عبدالله بن عباس رضي الله عن الجميع.
يوشك يعني يقرب، يقال: أوشك على كذا يعني قرب منه، يوشك يعني يقرب أن تنزل عليكم حجارة من السماء، يعني عقوبة، أقول: قال رسول الله، يعني: أقول لكم في الأمر الذي احتج عليكم به وأذكره لكم قال رسول الله، وتحتجون علي تقولون: قال أبو بكر وعمر، وتردون عليّ بخلاف أمر الله ورسوله بقول أبي بكر وعمر، فهذا ابن عباس، معناه أنه لا يجوز للمسلم إذا عرف شرع الله، وأن الله أمر بهذا، والرسول أمر بهذا أن يخالف ذلك، ولو بقول أبي بكر وعمر، ومعلوم حال أبي بكر وعمر، وفضلهما، وأنهما أفضل الصحابة، وخير الناس بعد الأنبياء، ومع ذلك لا يجوز طاعتهما في خلاف شرع الله، فإذا غلط أبو بكر، أو غلط عمر في شيء، لم يجز أن يطاعا في ذلك إذا خالف شرع الله ، فإذا كان هذا في أبي بكر وعمر، فكيف بحال من دونهم من الناس.
المعنى من باب أولى أنه لا يجوز، بل الواجب تقديم طاعة الله ورسوله؛ لأن الله جل وعلا قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، ويقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، هذا من ابن عباس معناه الحث على اتباع الشريعة، وعلى طاعة الله ورسوله، وتعظيم أمر الله ورسوله، والحذر من تعظيم الرجال حتى يخالف شرع الله من أجلهم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله، الإمام المشهور، أحد الأئمة الأربعة المشهورين المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة، في وسط القرن الثالث، يقول رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يعني عرفوا الإسناد أنه صحيح عن النبي ﷺ إلى الصحابة، وإلى النبي ﷺ، يذهبون إلى رأي سفيان! يعني ابن سعيد الثوري الإمام المشهور، والمتوفى سنة إحدى وستين ومائة، وهو شيخ مشايخ أحمد رحمه الله، يذهبون إلى رأي سفيان يعني وهو مخالف لما جاء به النص، هذا من أحمد رحمه الله يبين إنكاره في هذا الأمر، وأنه لا يريد بالعامل غير ذلك.
ثم قال: والله يقول سبحانه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] يخالفون يعني يحيدون ويتركون أمره عليه الصلاة والسلام أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ثم قال: أتدرون ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله -قول النبي ﷺ- أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، فيخشى عليه أن يفتن يقع في الشرك والردة، هذا في معناه الحذر من مخالفة النص.
فإذا جاء النص عن رسول الله ﷺ فليس للعلماء أن يخالفوا ذلك، ليس لأهل العلم أن يخالفوا نص الرسول ﷺ، أو يفتوا الناس بخلافه، فعليهم أن يتبعوا ما قاله الرسول، وأن يدعوا ما خالفه من أقوال الناس، وإن كان من خالفه عظيمًا وعالمًا كبيرًا، لكنه قصاراه أن يكون تابعًا للرسول ﷺ، فإذا خالف النص وجب اطراح قوله ورأيه، ويأخذ بالنص.
وهكذا قال العلماء جميعًا، قال الصحابة، قال العلماء، كلهم يقولون: إذا خالف قولنا قول الرسول فالواجب ترك قولنا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يعلمون أن الرسول ﷺ هو المتبع، وهو المطاع، وهو المشرع، والمبلغ عن الله، فليس لأحد أن يخالف أمره عليه الصلاة والسلام، بل يجب أن يطاع ويتبع فيما جاء به، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
قال عدي لما قدم على النبي ﷺ، قال له ﷺ في شأن أحبارهم ورهبانهم إنكم تعبدونهم، قال: وتلا قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال: لسنا نعبدهم! ظن عدي أنه السجود لهم، أو الركوع لهم، أو نحو ذلك، قال: أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم، فالمعنى أن طاعة العلماء في تحريم الحلال، وفي تحليل الحرام، واعتقاد أن هذا جائز مع العلم بأن الخلاف شرع الله يكون عبادة لهم، أما إذا فعل ذلك جهلًا منه ما يكون عبادة لهم، إنما هذا إذا اعتقد ذلك واستحل ذلك فإنه يكون عابدًا لهم، ويكون كافرًا نسأل الله العافية.
أما ما يقع من الناس جهلًا من غير علم، وغير بصيرة، ويتبع العلماء في شيء يظنه حق، ويظنه دينًا، ولا يعلم أنه مخالف لشرع الله فهذا لا يكون من هذا الباب، ولا يكون عبادة لهم لأن الإنسان يخطئ ويصيب، قد يتبع عالما في فتواه، ويأخذ بفتواه، ويظن أنها صواب، ويعتقد أنها صواب، فلا يدخل في هذا الوعيد، إنما هذا الوعيد فيمن استحل محارم الله بفتوى زيد أو عمرو، هذا هو الذي يدخل في هذا الوعيد، ويكون عابدًا لمن قلده في ذلك، واتبعه في ذلك؛ لأنه قدمه على شرع الله وهو يعلم، وهو عامد، ولهذا استحق هذا الوعيد، نعوذ الله.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.