بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة على رسول الله.
أما بعد:
فقد سبق لكم أيها الإخوان وأيها الأخوات؛ سبق لكم درس مختصر في صفة بعثة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وبيان ما كان عليه أهل الأرض قبل بعثته عليه الصلاة والسلام من الجهالة والضلالة والبعد عن الهدى، وما كانوا عليه من التفرق والاختلاف والظلم والعدوان والتناحر والفساد الكبير، وسبق لكم أيضا بيان ما كانت عليه العرب في جزيرتها من الجهل العظيم والفساد الكبير والأخلاق الذميمة والفرقة والاختلاف حتى جمعهم الله بهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
وسبق لكم أنهم كانوا متفرقين، قبائل متفرقة وأحوال مختلفة وديانات متشتتة، هذا يعبد حجرا، وهذا يعبد حجرا آخر، وهذا يعبد هيكلا لملك، وهذا يعبد جنيًّا، وهذا يعبد كذا وكذا، قد تفرقوا في أديانهم وأخلاقهم وأعمالهم، لا يجمعهم دين ولا يرأسهم قائد، ولا يخضعون لقائد ولا كبير، بل كبارهم كلهم رؤساء، وأهواؤهم متبعة، والظلم بينهم فاشٍ، والفقير غير محترم، فبعث الله هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بهذا الدين العظيم، الذي هو إخلاص العبادة لله وحده والاستقامة على أمره والحذر مما نهى عنه جل وعلا، والسير في منهاجه الذي رسمه على يد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
سبق لكم أن محمدًا عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى الناس عامة، بعثه الله إلى جميع أهل الأرض جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، وأمره أن يدعوهم إلى لا إله إلا الله، وإلى أن يشهدوا أنه رسول الله، ولم يزل على ذلك يدعوهم إلى الله جل وعلا ويقول لهم: آمنوا بي ووحدوا الله جل وعلا وأخلصوا له العبادة كما قال الله : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].
وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة، وقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والمقصود أن الله جل وعلا بعثه إلى الناس عامة، فقام بالدعوة أتم القيام، ودعا قومه إلى الله جل وعلا، ودعا العرب إلى الله ، وقال لهم: يا قومي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وإنما بدأ بهم لأنهم قومه، ولأنهم أهل اللسان، وقد أنزل الله القرآن بلسانهم، وبعث الرسول بلسانهم، فلهذا بدأ بهم والناس تبع لهم في ذلك، فلم يزل يدعوهم إلى الله جل وعلا ويرشدهم إليه ويصبر على أذاهم حتى حصل ما حصل مما تقدم من الأذى والمحنة له ولأصحابه، وحصرهم في الشعب -شعب أبي طالب- وأن يأتي من هاجر منهم إلى الحبشة.
فلما اشتد الأمر وعظم البلاء بالنبي ﷺ وأصحابه بمكة المكرمة وتم أمر المشركين وأجمعوا رأيهم على قتله عليه الصلاة والسلام أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام بعدما أظهر الدعوة في مكة، وهدى الله به من هدى، وهم جم غفير وخلق كثير من أعيان أهل مكة ومن غيرهم، وعلى رأسهم الصديق الأكبر أبو بكر ، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله التيمي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبدالله بن مسعود الهذلي، وبلال بن رباح الحبشي، وجماعة آخرون من رجال ونساء هداهم الله جل وعلا بمكة المشرفة، ودخلوا في هذا الدين العظيم، ومنهم من بقي مع النبي في مكة حتى هاجر، ومنهم من هاجر إلى الحبشة وأمن على دينه هناك.
وكانت هجرته عليه الصلاة والسلام بعدما فرض الله عليه الصلوات الخمس بمكة، ثم بعد فرضها عليه هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام واستقر بها عشر سنين، ولم يزل على الدعوة إلى الله جل وعلا وإنذار الناس غضب الله وعقابه ودعوتهم إلى الحق والهدى، هكذا يفعل ليلا ونهارا في إقامته في المدينة، وفي غزواته عليه الصلاة والسلام، وفي عمرته لما اعتمر عمرة القضاء، وفي سائر أحواله يدعو إلى الله جل وعلا ويرشد إليه .
ولم يزل الوحي ينزل عليه -وهو في المدينة- والشرائع تنزل عليه، فأكمل الله به الدين، وأتم عليه وعلى أمته النعمة، وكان فرض الزكاة والصيام والحج وسائر الشرائع كلها بالمدينة، أما الزكاة فكان لفرضها أصل بمكة، فإن الله جل وعلا فرض أصلها في مكة كما قال جل وعلا في سورة الأنعام: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وقال جل وعلا في سورة المؤمنون: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4] ففسرت الزكاة هنا بالزكاة المالية.
والمقصود أن الله جل وعلا فرض أصل الزكاة بمكة ثم فرض نصابها وبين مصارفها بالمدينة، وهكذا الصيام فرض في المدينة، والحج والأذان والإقامة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد كل هذا كان في المدينة، وأما الدعوة باللسان إلى الخير فكان في مكة، ولكن الجهاد على ذلك بالسيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إنما كان بالمدينة بعدما أصاب المسلمين حصن حصين -وهو المدينة.
وبعدما صارت المدينة قرارًا لهم ومركزًا لدينهم ودنياهم، بعد ذلك شرع الله الجهاد وكمل الشرائع بالمدينة .
ولم يزل دين الله يظهر ويقوى، والناس يدخلون في دين الله من سائر القبائل يقصدون المدينة مهاجرين راغبين في هذا الدين العظيم حتى وقعت وقعة بدر بين النبي ﷺ وأهل مكة، فأعز الله بها دينه وأظهر فيها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فارتفع رأس الإسلام وارتفع المسلمون ارتفاعًا كثيرًا عظيمًا، ودخل كثير من الناس في هذا الدين، ودخل بعض من أهل المدينة نفاقا وخوفا على أنفسهم لما رأوا من ظهور الدين، لما رأوا من ظهور الدين ونصر أهله.
ثم وقعت وقعة أحد فحصل فيها ما حصل على المسلمين من الهزيمة التي محصهم الله فيها وكفر بها سيئاتهم، وجعلها عظة وذكرى، وجعلها ابتلاء وامتحانا، وبين الله بها لعباده أن الرسول بشر، وأن أولياء الله والمؤمنون بشر لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرا ولا يملكون نفعا إلا بإذن الله ، حتى يعرف الناس أن العبادة حق الله وحده وأن الأنبياء لا يستحقون أن يعبدوا مع الله، ولكنهم مطاعون ويتبعون فيما جاءوا به عليهم الصلاة والسلام.
وأما العبادة فهي حق الله، هو الذي يدعى، وهو الذي يرجى، وهو الذي يتقرب إليه بأنواع القربات من صلاة وصوم وحج وذبح ونذر وغير ذلك، لا إله غيره ولا رب سواه جل وعلا، ولو كان محمد عليه الصلاة والسلام إلها يعبد لدفع عن نفسه ولم يصبه يوم أحد ما أصابه من الهزيمة والجراح، والقتل بسبعين من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهكذا لو كان الأولياء يدفعون عن أنفسهم الموت والجراح والضرر لدفع أولياء الله يوم أحد عن أنفسهم، ولما أصابهم شيء مما يكرهون، ولكنهم بشر يصيبهم ما يصيب الناس، ويمتحنهم الله في السراء والضراء حتى يظهر صبر الصابرين وشكر الشاكرين، وحتى يكونوا أسوة لغيرهم ممن بعدهم، وحتى يعرف الناس أن الله جل وعلا هو المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، وهو الذي بيده الضر والنفع والعطاء والمنع والنصر والتأييد .
وكان أسباب تلك الهزيمة أن بعض المسلمين أمروا أن يمسكوا موقفا لئلا تأتي الخيل من جهتم، فلما رأوا العزة للمسلمين في أول الأمر وانهزام الكافرين ظنوا أنها الفيصلة، وأنه ما بقي للكفار بقية فأخلوا بالموقف، فلما أخلوا بالموقف جاء الكفار ودخلوا على المسلمين والتحمت الحرب واشتد الأمر ونزلت الهزيمة بإذن الله جل وعلا ابتلاء وامتحانا، كما قال الله جل وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:165، 166] الآيات، فهو ابتلاهم يوم أحد بهذه المصيبة تمحيصًا وتكفيرًا للسيئات، وعظة وذكرى وابتلاء وامتحانا، وليعلم الناس حقيقة التوحيد، وأن العبادة حق الله وحده لا حق غيره، وأن العبد ليس له من العبادة شيء، ولو كان أفضل الناس وخير الناس كمحمد عليه الصلاة والسلام، فالعبادة حق الله، والطاعة لله ولرسوله، وأما العبادة فهي حق الله وحده، لا تكون لغيره أبدا.
ولم يزل عليه الصلاة والسلام في المدينة ينزل عليه الوحي من السماء ويؤمر بالشرائع حتى أكمل الله له الدين، وجرى ما جرى من صلح الحديبية بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين المشركين في السنة السادسة من الهجرة حتى تم الصلح بينه وبين المشركين على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام رغب في هذا الصلح ليأمن الناس حتى يسمعوا القرآن، وحتى يسمعوا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فيعرفوا الحق بدليله، ويدخلوا فيه على بصيرة.
وقد وقع ما أراد عليه الصلاة والسلام فصالح ذلك الصلح، وإن كان فيه بعض الغضاضة على المسلمين، ولكن لمصلحة عظمى وغاية كبرى، وهو دخول الناس في دين الله، وعلمهم بهذا الدين العظيم وسماعهم لكتاب الله العظيم، وسماعهم الرسول عليه الصلاة والسلام واجتماعهم بالمسلمين، فقد وقع ذلك، دخل الناس في دين الله أفواجا، وسمعوا القرآن وسمعوا السنة وحضروا مع المسلمين، ثم بعد ذلك نكث المشركون وغيروا ولم يستقيموا على العهد في السنة الثامنة من الهجرة، نقضوا العهد الذي بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام فغزاهم عليه الصلاة والسلام يوم الفتح في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، غزاهم النبي عليه الصلاة والسلام في عشرة آلاف مقاتل فدخل مكة عنوة وفتحها عنوة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وقتل نفرا يسيرا عليه الصلاة والسلام وعفا عن الباقين ﷺ.
ثم بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، وظهر دين الله، وانتصر وعز المسلمون، ثم تتابع الناس بعد ذلك من العرب، تتابعت القبائل من العرب في الدخول في الدين بعدما رأوه ظهر على قومه، وفتح الله عليه مكة، وأنزل الله في ذلك إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].
فلما نزلت هذه السورة العظيمة علم منها النبي عليه الصلاة والسلام أن أجله قد دنا، وأن الموت قد قرب، وأن المقصود قد حصل، فإن الله جل وعلا بعثه ليرفع هذا الدين وليوضحه للناس ويقيمه بين الناس وقد وقع ذلك بحمد الله، فأنزل الله هذا الدين العظيم ودخل الناس في دين الله أفواجا، وعرفوا التوحيد وعرفوا الشرك، ودخلت قبائل العرب في هذا الدين الكريم إلا اليسير منهم كبني حنيفة، فإنهم أقاموا في بلادهم على حالهم من الكفر بالله جل وعلا بسبب مسيلمة الكذاب الذي وقف بهم عند الهدى زاعما أن له الشركة مع محمد عليه الصلاة والسلام في الرسالة، وعند هذا وقف بهم عن الدخول في دين الله، ولكن خابوا بذلك وخسروا، فإن المسلمين غزوهم بعد ذلك، بعد موت النبي ﷺ غزاهم المسلمون وفتحوا بلادهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم هداهم الله بعد ذلك، هدى الله من بقي منهم ودخلوا في دين الله مع المسلمين بعد ذلك.
والمقصود أن الله جل وعلا أظهر دينه وأعلى كلمته وأعز نبيه وجنده، فهذا من رحمته جل وعلا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على هداية الناس، لطيفًا في دعوته، رحيمًا رقيقا عليه الصلاة والسلام لينًا، لم يكن فظًّا غليظًا بل كان يرفق بالناس، ويلطف بهم، ويعطف عليهم، ويعطيهم المال الكثير، كل ذلك من باب التأليف لعلهم يدخلون في الإسلام برغبة واقتناع ومحبة لهذا الدين العظيم، فإنه دين الفطرة، هذا الدين العظيم هو دين الفطرة، وهو دين العقل، وهو دين العدالة، فلذلك ما فكر فيه عاقل إلا وأحبه ودخل فيه.
ولما هاجر المسلمون إلى الحبشة وقرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي سورة مريم وعرف ما فيها في قصة عيسى آمن بذلك وصدق بذلك، ودخل في دين الله رحمة الله عليه، لأنه رجل عاقل عرف بعقله وفطرته أن هذا الدين العظيم هو دين الله، وأنه موافق لما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام فآمن به واتبعه، وهكذا كل عاقل له أدنى تمييز وأدنى بصيرة إذا نظر في هذا الدين وفي أصوله وأهدافه قبله ودخل فيه، ولكن كثيرا من الناس يقف بهم الرؤساء والكبار عن الدخول فيه، وبعض الناس يقف به الهوى والطمع كاليهود وأشباههم والحسد، فإنه وقف بهم الهوى والطمع والحسد عن الدخول في دين الله جل وعلا، إلا نفرا يسيرا جدا من اليهود دخلوا في دين الله .
فلما فتح الله على نبيه مكة عليه الصلاة والسلام تتابع الناس في الدخول في هذا الدين العظيم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله جل وعلا ويرشد إلى الله من بقي من الناس، وقد كتب إلى الملوك في سائر الدنيا، كتب إليهم يدعوهم إلى الله جل وعلا، كتب إلى كسرى ملك الفرس، وإلى قيصر ملك الروم، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى غيرهم كتب إليهم يدعوهم إلى الله جل وعلا ويرشدهم إليه ، ويخبرهم أنه رسول الله حقًّا إلى جميع الناس، فمنهم من قارب، ومنهم من دخل في الإسلام كالنجاشي، ومنهم من مزق الكتاب ككسرى فمزق الله ملكه شذر مذر، وتملكه المسلمون بحمد الله بعد ذلك، وصارت بلاد كسرى في يد المسلمين، وأمواله بيد المسلمين، وذريته ونساؤه في يد المسلمين فضلا من الله وإحسانا.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم حريصا على هداية الناس صابرا محتسبا في دعوته عليه الصلاة والسلام، يرفق بالناس ويعمل بقوله جل وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وهو الذي قال الله فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وقال فيه جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] عليه الصلاة والسلام، فكان رحمة مهداة، رحمة من الله لعباده هداهم به من الضلالة، وأنقذهم به من العماية، وبصرهم به بعد الجهل والشرك حتى صاروا بعد ذلك مؤمنين موحدين، عرفوا الله وعرفوا دينه، ودخلوا في ذلك على بصيرة وعلم.
ومن هنا يعرف كل عاقل أن العرب إنما انتصروا وإنما كانوا أمة واحدة مستقيمة لها كيانها ولها هيبتها ولها قوميتها إنما كانوا كذلك بهذا الدين العظيم الذي هداهم الله به بعد ضلالة، وجمعهم به بعد الفرقة والاختلاف، وأغناهم به بعد العيلة والفقر، ورفع ذكرهم به بعدما كانوا لا يذكرون بين الأمم لضعفهم وفقرهم واختلافهم وتفرقهم في بلادهم، فأعزهم الله بهذا الدين العظيم، وجمعهم عليه، وصاروا رؤوس الناس، وسادات الناس بعد ذلك.
هذا يبين لك أيها القارئ، وأيها المؤمن، وأيتها المؤمنة، يبين لكم ذلك أن هذا الدين العظيم هو الذي أعز الله به العرب، ورفع به شأن العرب، فكانوا أمة واحدة عظيمة مرغوبة الجانب، عزيزة الجانب مطاعة، بل كانوا رؤوس الناس، كانوا سادات الناس، ملكوا الدنيا ورفعوا عليها راية الإسلام، هكذا يعرف ذلك من قرأ التاريخ ورأى سيرة الصحابة وجهاد الصحابة بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام.
والرسول عليه الصلاة والسلام بعدما فتح الله عليه مكة استعد للقاء ربه جل وعلا، واجتهد في عبادة ربه وتسبيحه والتوبة إليه واستغفاره، ولم يزل على ذلك حتى لقي ربه جل وعلا، وقد غزا تبوك بعد ذلك بعد الفتح لقصد قتال الروم، ثم رجع ولم يلق كيدا، ثم مكث في المدينة عليه الصلاة والسلام ما شاء الله، ثم حج حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة عليه الصلاة والسلام، وعلم الناس شرائع الحج وبين لهم أحكام الحج، وقال: خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد ذلك عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد انتهاء حجة الوداع رجع إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وخطب الناس في الطريق، وذكرهم بالله وأوصاهم بكتاب الله والتمسك بالقرآن العظيم، وأوصاهم بآل بيته والإحسان إليهم.
فلما وصل المدينة مكث بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم مات في ربيع الأول عليه الصلاة والسلام، وانتقل إلى الرفيق الأعلى عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم بعدما أتم الله به النعمة، وأظهر به الإسلام، وأكمل به الدين، فعليه من ربه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، وقد نزل في هذا قوله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] أنزل الله هذه الآية يوم عرفة، والنبي واقف بعرفة عليه الصلاة والسلام.
فيا أيها المسلمون، يا أيها المستمعون، أيها المسلمون، أيها الناس، اعرفوا قدر هذا الدين العظيم، اعرفوا هذا الدين الذي منَّ الله عليكم به، أيها العرب اعرفوا هذا الدين العظيم الذي جمعكم الله به بعد الفرقة والاختلاف، وأغناكم به بعد العيلة والفقر، وهداكم به بعد الضلالة والعمى حتى صرتم رؤوس الناس، حتى كنتم أمة واحدة معروفة مرغوبة الجانب، معظمة عزيزة، حتى صرتم ملوك الناس، ملكتم الدنيا ورفعتم راية الإسلام في عهد الصديق وعهد عمر، كما رفعتم ذلك في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا قدر هذا الدين وعظموه، وعضوا عليه بالنواجذ، وتواصوا به رحمكم الله، تواصوا بهذا الدين العظيم، وادعوا الناس إليه، وعظموه واعملوا به حتى يعظمه الناس ويعملوا به، فأنتم حملته، وأنتم أهله الذي نزل بلسانكم، وجاء القرآن بلسانكم، والنبي منكم، ولغته لغتكم، فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله أيها العرب، واتقوا الله أيها المسلمون جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها، حافظوا على هذا الدين العظيم، لا تضيعوه، حافظوا عليه وراقبوا الله فيه، واتقوا الله أيها الرؤساء والزعماء، اتقوا الله في هذا الدين العظيم، راقبوا الله في هذا الدين العظيم، اعتصموا به، واستقيموا عليه، وادعوا الناس إليه، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لا عز لكم إلا به.
أما الدعوة إلى القوميات والاجتماع على القوميات فإن هذا لن يخلصكم مما أنتم فيه، ولن ينجيكم من عذاب الله يوم القيامة، فاتقوا الله، فلا قومية تنفعكم ولا تخلصكم من عذاب الله، ولا تجمعكم في الدنيا، وإنما القومية الحقيقية قومية الإسلام، والتسمك بالإسلام الذي رفعكم الله به، وأعزكم به، وجعلكم رؤوس الناس يعظمكم الله، واستقيموا عليه يعزكم الله، وادعوا الناس إليه حتى يلتفوا حولكم، وحتى يساعدوكم، وحتى تكونوا أنتم وهم أمة واحدة كما كان أوائلكم كذلك، فالمسلمون هم أهل الإسلام، وهم أهل القرآن، وهم خير الناس سواء كانوا عربا أو عجمًا كما قال الله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
فالله وصف الأمة التي هي خير الأمم بأنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله جل علا، ولم يقل عربا أو عجما، بل من قام بهذا الدين العظيم على هذا الوصف الذي بينه الله جل وعلا، من قام به واستقام عليه كما بين الله جل وعلا هو من خير الأمة، سواء كان عربيا أو عجميا، ذكرا أو أنثى، حضريا أو بدويا، فاتقوا الله عباد الله، فلا عزة إلا بهذا الدين القويم، ولا صلاح ولا نجاة ولا استقامة إلا بدين الله .
وأنتم أيها الرؤساء، وأيها الزعماء، وأيها الملوك، مسؤولون عن هذا أعظم السؤال وأكبر سؤال، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير -الذي على الناس- راع ومسؤول عن رعيته
فأنتم أيها الزعماء، وأيها الملوك، وأيها الكبار والرؤساء أنتم مسؤولون أمام الله عن هذا الدين العظيم، هل دعوتم إليه؟ هل حكمتموه؟ هل استقمتم عليه في أخلاقكم وأعمالكم وبمن تحت أيديكم أم تساهلتم وضيعتم؟
فاتقوا الله عباد الله، ادعوا إلى الإسلام، عظموا الإسلام كما عظمه أوائلكم، استقيموا عليه حتى ترجع إليكم عزتكم، ويرجع إليكم مجدكم، حتى تكونوا أمة واحدة، وحتى تظهروا على من ناوأكم، يقول الله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول جل وعلا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أما القومية وما يتعلق بالقومية، فاعلموا أنها من دعاية الشيطان، وأن أصلها دسيسة من أعداء الله الكافرين من النصارى المستعمرين، دسوها عليكم يصدوكم بها عن دينكم، ويلهوكم بها عن دينكم، فإياكم والدعوة إليها، ادعوا إلى الله وحده، وادعوا إلى دين الله، وادعوا قومكم إلى دين الله، عظموا في قلوبهم دين الله، وادعوهم إلى الله حتى يستقيموا عليه، وحتى يتمسكوا به، وحتى يعظموه.
ومن كان بينكم من أهل الأديان الأخرى فإنه سوف يتبعونكم على هذا الدين القويم إذا ظهر لهم ما فيه من الخير والهدى، وأوضحتم لهم ذلك بأعمالكم وأقوالكم وتفسيركم، فإنه بحمد الله واضح، ولكنه يحتاج إلى عمل منكم وإلى جد منكم، ومن أبى من يهود أو نصارى بينكم، فالحمد لله قد شرع الله أخذ الجزية منهم، فإذا أخذت الجزية منهم أقروا وحموا ولم يؤذوا، بل تحمى دماؤهم، وتحمى أموالهم إذا بذلوا الجزية كما شرع الله جل وعلا، وقد عاش الأولون من اليهود والنصارى بين المسلمين وهم في صيانة وحماية، قد حماهم المسلمون وأحسنوا إليهم، وأخذوا منهم ما فرض الله عليهم من الجزية، ولم يظلموهم ولم يبخسوهم حقهم، فأنتم أيها الزعماء والرؤساء سيروا على ما سار عليه الأوائل من الأخيار من السلف الصالح من أئمة العدل، واستقيموا على دين الله.
وأوضحوا ذلك للناس، واصبروا على ذلك، وأنفقوا فيه الأموال، وحاربوا أعداء الله باللسان والأعمال وبالجهاد الحق إن شاء الله، حاربوا أعداء الله أولا بالدعوة وبيان الحق، ثم حاربوهم بالجهاد الصريح إذا امتنعوا من دين الله، ولم يرضخوا لحق الله جل وعلا.
والله أسأله أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يهدي زعماءنا وولاة أمرنا في سائر الأقطار الإسلامية لدينه القويم، وأن يعيذهم من شر أنفسهم والشيطان، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يهديهم ويهدي بهم، ونسأله أيضًا أن يوفق علماء المسلمين أينما كانوا حتى يوضحوا الحق، وحتى يشرحوه للناس، وحتى يدعوهم إليه من شتى الطرق التي يمكنهم الدعوة منها، من طريق الإذاعات والصحافة، ومن طريق الخطابة والمحافل والاجتماعات، ومن طريق النشرات، ومن كل طريق يمكن إيصال الحق منه، هذا هو الواجب على العلماء.
فنسأل الله أن يهدي الجميع لإقامة الحق، والعمل بالحق، والثبات على الحق، وأن يعيذنا جميعا من طاعة الهوى والشيطان، إنه على كل شيء قدير، وإلى اللقاء في درس آخر إن شاء الله، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه، والله أعلم.