بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أيها المستمعون الكرام حديثي معكم اليوم في فضل خشية الله، يقول الله سبحانه في كتابه المبين: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] في هذه الآية العظيمة يبين سبحانه أن من خشيه فقد وعده سبحانه بالمغفرة والأجر الكبير، ومن الأجر دخول الجنة والنجاة من النار، وما ذاك إلا لأن خشية الله سبحانه يترتب عليها أداء فرائضه، وترك محارمه، والوقوف عند حدوده، لأن الخاشي لله يبتعد عن معاصيه ويسارع إلى مراضيه، وإلا فهو كاذب في دعواه، الخشية لله أو خشيته ضعيفة جدا.
أما الخشية الحقيقية فإنها تثمر أداء الفرائض، وترك المحارم، والمسارعة إلى الخير، والوقوف عند الحدود التي حدها سبحانه، ولهذا علق جل وعلا بالخشية المغفرة والجنة، فلولا أن الخشية لله تقتضي أداء الفرائض وترك المحارم لما علق بها حصول المغفرة من صاحبها، والأجر الكبير.
وبهذا يعلم أن خشية الله وخوفه سبحانه يترتب عليهما كل خير، كما يترتب عليهما البعد من محارم الله، ويترتب عليهما أيضا الوقوف عند حدود الله، لا يتجاوزها خوفا من الله، وخشية من عذابه سبحانه، ولهذا يقول جل وعلا في الآية الأخرى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فيبين سبحانه أن من خاف مقام الله فقد وعده الله بجنتين، وما ذاك إلا لما ذكرنا من أن خوف الله يقتضي أداء فرائضه، والحذر من محارمه، والوقوف عند حدوده.
ويقول جل وعلا في آية أخرى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41] فالخائف مقام الله ينهى نفسه عن هواها، ويعصيها في هواها المخالف لشرع الله، ويلزمها بطاعة الله، ويجاهدها في ذلك حتى تستقيم على الخير، وحتى تنقاد للطاعة التي أوجبها الله عليها، وحتى تبتعد عن معاصي الله .
والنفس على ما روضها الإنسان عليه، فإن جاهدها لله وحاسبها وأوقفها عند حدها استقامت وسارت على الطريق، وإن أهملها وتساهل معها جرته إلى المهالك لأنها مركب الشيطان، فهو يزين لها كل سوء، ويثبطها عن كل خير كما قال في الآية الأخرى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].
فعليك يا عبدالله أن تجاهد هذه النفس، وأن تعنى بها غاية، وأن تعودها طاعة الله ورسوله، وأن تعودها الحذر من محارم الله، وهي على ما عودت كما قال الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها | وإذا ترد إلى قليل تقنع |
فالنفس على ما عودت عليه، فإن عودت المعاصي والكسل والتهاون بأمر الله اعتادت ذلك وسارت عليه، وثقل عليها ما يرضي الله، وإن عودت السير في الخير والمسارعة إلى الطاعات والحذر من المعاصي اعتادت ذلك وسارت عليه، والتوفيق بيد الله جل وعلا، ولكن أنت مأمور بالأسباب، أنت يا عبدالله مأمور بالأسباب، وهكذا أنت يا أمة الله مأمورة بالأسباب، فعلى كل منّا أن يجاهد هذه النفس، وأن يحاسبها لله، وأن يسعى دائما لخلاصها من عذاب الله.
وسئل بعض السلف عن جهاده نفسه وعن تعبه إياها، فقال: راحتها أريد، بعض أسلافنا الصالحين كان كثير العبادة وكثير العمل من الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، فقال له بعض أصحابه: أتعبت نفسك، فقال مجيبا لهم: راحتها أريد، يعني راحتها أريد يوم القيامة، إنما أنا أتعبتها اليوم لقصد راحتها يوم القيامة من عذاب الله وغضبه.
فالمؤمن إذا جاهد نفسه اليوم فهو يجاهدها لراحتها، لتنجو من عذاب الله، لتفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة، في دار الكرامة، دار السرور، دار السعادة التي قال فيها جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:45-48] فهي دار النعيم، يقال لأهلها يوم القيامة: يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتأسوا أبدا فنعيمهم دائم، وشبابهم دائم، وصحتهم دائمة، وخيرهم دائم، ونعيمهم دائم.
أما هذه الدار فهي دار التغيرات، دار الأكدار، دار الأمراض والأحزان، ولو طالت الحياة، ولو متع الإنسان بكامل الصحة، فإن المصير الموت، لا بدّ من الموت كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].
فدار عاقبتها الموت والزوال لا قيمة لها إلا لمن عمل فيها بالصالحات، فهي دار عظيمة لمن تزود فيها من الخير، لمن جاهد نفسه لله فيها، لمن سار على الطاعات، لمن زرع فيها الخير، فهي مزرعة العباد، هذه الدار مزرعة العباد للآخرة، من زرع فيها ما يرضي الله ويقرب لديه، وحذر فيها محارم الله، حصد يوم القيامة كل سعادة وكل خير، وفاز بالنعيم المقيم وحمد العاقبة، ومن أعطى نفسه هواها، وتساهل في أمر الله، وتكاسل عن الصلوات، وبخل بالزكاة أو بعضها، وتهاون بالصيام، وأقدم على الفواحش والمنكرات ندم العاقبة يوم القيامة، وصار يتحسر كثيرا على ما أسرف فيه، إلا من رحم الله فمنّ عليه بالعفو، أو وفقه للتوبة النصوح.
فأنت يا أخي على خطر، واذكر قوله جل وعلا في حق من أعطى نفسه هواها: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39]، وقال : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:74-76]، وقال في حق الجميع الأبرار والمسلمين قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14].
يروى أن سليمان بن عبدالملك الأموي أمير المؤمنين قال لأبي حازم التابعي الجليل يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فكرهتم أن تخرجوا من العمار إلى الخراب، يعني لأنكم أعطيتم النفوس حظها في هذه الدار، وتساهلتم بأمر الآخرة، فلهذا تكرهون الموت، قال: ما منزلتي عند الله؟ قال: اعرض نفسك على القرآن، وعلى أي آية؟ قال: على قوله : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14] المعنى إن كنت من الأبرار المطيعين لله فأنت في النعيم، وإن كنت من الفجار العاصين لله فأنت في جحيم.
فعليك يا عبدالله، وعليك يا أمة الله العناية بهذا الأمر، علينا جميعا أن نعنى بهذا الأمر، علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نجاهدها لله ، فمن خاف الله صادقا، وخشي الله صادقا بادر إلى طاعته، وأدى فرائضه وترك محارمه، وإلا فهو كاذب في دعواه خشية الله، أو ناقص الخشية، ضعيف الخشية لله .
ومن أعظم الأسباب لخشية الله وتعظيم حرماته تدبر القرآن، والإكثار من تلاوته، والتفكير في المصير بعد الموت، ماذا يكون بعد الموت؟ والتفكير في القبر، هل يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار؟ ثم التفكير بعد ذلك، بعد البعث والنشور، هل أنت من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فالتفكير في هذا والعناية بهذا الأمر من أسباب خشية الله، ومن أسباب تعظيم الله، ومن أسباب المسارعة إلى مراضي الله، ومن أسباب الحذر من معاصي الله.
فنسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لخشيته سبحانه حق الخشية، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأن يمنّ علينا جميعا بالاستقامة على أمره، والحذر من معصيته، والتوبة إليه من سائر الذنوب، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.