بَابُ مَنْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ غَيْرِ مُزَرَّرٍ تَبْدُو مِنْهُ عَوْرَتُهُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرِهِ
531- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ؟ قَالَ: فَزُرَّهُ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إلَّا شَوْكَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
532- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
533- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَبَايَعْنَاهُ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ. قَالَ: فَبَايَعْتُهُ، فَأَدْخَلْتُ يَدِي مِنْ قَمِيصِهِ فَمَسِسْتُ الْخَاتَمَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَاهُ فِي شِتَاءٍ وَلَا حَرٍّ إلَّا مُطْلِقَيْ أَزْرَارِهِمَا، لَا يُزَرِّرَانِ أَبَدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
وهذا محمولٌ على أن القميص لم يكن وحده.
الشيخ: هذا الباب وهذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بالعناية بحفظ العورة في الصلاة، وأنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في حفظها حتى لا تنكشف وهو يُصلي، حتى ولو لنفسه، ولهذا أمر سلمة بن الأكوع بالإزرار لئلا تنكشف عورته، ولو بشوكةٍ، يعني: المقصود زر القميص، إذا كان ليس عليه سراويل ولا إزار يستر عورته؛ لأنَّ القميص إذا كان يلبس ثوبًا جيبه واسع قد يرى عورته عند ركوعه وعند خفضه رأسه.
وهكذا في جميع الأحوال يحتاط، وتكون عنده عناية بالعورة: إما بالسراويل، أو بالإزار، أو بقميص مزرور الجيب، أو صغير الجيب؛ حتى لا تبدو عورته.
أما حديث الأمر بالاحتزام فهو حديثٌ لا يُعرف ولا يُدرى من أين وجده المؤلفُ، والأمر بالاحتزام عند الصلاة قد ذكر الشوكاني أنه لم يجده، وراجعنا "سنن أبي داود" فلم نجده أيضًا، يحتاج إلى ..، ما أدري من أين أخذه المؤلف، ولعله قلَّد فيه أحدًا من الناس، نقله من بعض الكتب، فلا نعلم له أصلًا الأمر بالاحتزام عند الصلاة، فينبغي أن ..
الطالب: المُحشِّي يقول: وقد وجدتُه في "السنن الكبرى" للبيهقي.
الشيخ: أيش قال؟
الطالب: قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِاللهِ الْحَافِظُ: أنبأ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ: ثنا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ: ثنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أنبأ شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ مُعَاوِيَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ. رواه عبدالله بن المبارك ...... قال ..
الشيخ: وهذا سنده ضعيف؛ لأنَّ المولى مبهم، فالأول لم يُعرف له أصل، والثاني هذا ضعيف الإسناد لأجل إبهام المولى، قال في اللفظ الآخر: "حُدِّثْتُ"، وهذا أيضًا فيه إبهام، فالمقصود أنَّ ما بينه ضعيف، أو غير موجود في المحل الذي عزا إليه المؤلف.
الطالب: قال المُحشي: .....، وهذا للموصول فقط.
الشيخ: غير صحيح، ولا يُعرف في الأحاديث الصحيحة الأمر بالاحتزام، ولم يكن من عادة النبي أن يحتزم في الصلاة عليه الصلاة والسلام، وهكذا حديث معاوية بن قرة، عن أبيه المزني في إطلاق النبي ﷺ زره، هذا يدل على أنه لا مانع من إطلاق الأزرار عند الحاجة: كالحرِّ ونحو ذلك، أو ضيق الجيب .. لا بأس بهذا، ولا يدل على أنَّ هذا من عادته ﷺ لعدم الدليل، فما ورد عنه ﷺ أنه كان من عادته دائمًا إطلاق الزر، بل أمر ﷺ بالزر عند الحاجة إليه، فالزر يُستعمل عند الحاجة، ويُطلق عند الحاجة، إذا احتاج إليه زرَّه، وإذا ما احتاج إليه لحرٍّ أو ضيقٍ أطلقه.
س: ما يكون من باب العادة؟
ج: هذا بحثٌ آخر، إذا كان في قوم لا يتَّخذون أزرارًا ..... أمره سهل.
س: الاحتزام ما يُعتبر مُشابهةً لأهل الذِّمة؟
ج: لا، هذا في الزّنار، في اتِّخاذ الزّنار.
س: ..............؟
ج: ظن أنَّ هذا من السنة.
بَابُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبَيْنِ وَجَوَازِهَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ
534- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَن الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟! رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إزَارٍ وَقَبَا، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَا، فِي تُبَّانٍ وَقَبَا، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ. قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ.
535- وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
536- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
الشيخ: وهذه الأحاديث مثلما تقدم تدل على أن المصلي يتَّخذ زينةً في الصلاة، ويتَّخذ أحسنَ ما يستطيع في الصلاة؛ لقوله جلَّ وعلا: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فيأخذ ما يستر عورته، وما يجمله، لكن لا يلزمه ثوبان، حسب طاقته، ولهذا قال ﷺ: أولكلكم ثوبان؟! يعني حسب الطاقة، فلا مانع أن يُصلي في ثوبٍ واحدٍ، لكن يشدَّ عليه ثوبه ويتوشَّح به كما تقدم: إن كان واسعًا فليلتحف به، وإن كان ضيِّقًا فليتَّزر به، إذا كان واسعًا التحفَ به على عاتقيه، أو جعل طرفيه على عاتقيه حتى يكون متوشِّحًا به، هذا هو السنة، وهذا هو المشروع، فإن عجز عن ذلك جعله إزارًا فقط، كما تقدم البحث في هذا، تقدم حديث أبي هريرة: لا يُصلِّ أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
فينبغي -إما وجوبًا وإما تأكُّدًا- ألا يُخرج عاتقيه أو أحدهما عن شيءٍ مع القدرة، والخلاف كما تقدم: الجمهور يرونه مُستحبًّا فقط، وظاهر النهي التحريم، فيجب أن يجعل على عاتقيه شيء إن استطاع، أو أحدهما جمعًا بين النصوص، فما ورد من الثوب الواحد فهو محمول على التوشح به، وجعل طرفيه على عاتقيه، كما في الرواية الأخرى الصريحة: إن كان الثوبُ واسعًا فالتحف به، وخالف بين طرفيه، فإن عجز ولم يتيسر ذلك صلَّى في مئزرٍ فقط.
ولهذا المعنى فهم عمر المقصود فقال: إذا وسَّع الله فأوسعوا، صلَّى رجلٌ في قميص وإزار، في رداء وإزار ..، إلى آخر ما ذكر رحمه الله، يعني: مهما أمكن أن يجمع عليه ثوبين فهو أجمل وأستر: قميص وإزار، قميص وسراويل، إزار ورداء، قميص وتبان، التبان: السراويل القصيرة، إلى غير ذلك مما يفعله المؤمن؛ ليكون ذلك أجمل وأستر إذا يسَّر الله ذلك، هذا هو السنة؛ أن يتحرى ما هو أجمل، وما أهو أكمل في الستر عند التيسر، وإذا ضاقت الأمور صلَّى في إزارٍ واحدٍ وخالف بين طرفيه على عاتقيه إذا تيسر ذلك، فإن لم يتيسر صلَّى بمئزرٍ فقط أو بسراويل فقط: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
القبا: بفتح القاف، ولعله مثلث.
القاموس موجود؟
الطالب: نعم.
الشيخ: انظر: قبا.
س: ...........؟
ج: ..... رغم أنه يأثم بهذا؛ لأن الأصل في النَّهي التحريم .....: لا يصل أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، يقول لجابر .....، فالواجب أن يتقيد بها المؤمن، وما ورد في الثوب الواحد محمول على العجز.
س: لكن ما يُعيد؟
ج: إذا عاد هو الذي ينبغي إذا قصر.
س: ..... الفانلة العلاقية هذه .....؟
ج: إذا كانت تستر المنكبين، أو أحد المنكبين، أما الخيط ما أظن أنه يكفي، ما أعتقد أنه يكفي؛ لأنه ليس بساترٍ.
س: يُستحب أن يُعيد إذا صلَّى وعاتقاه مكشوفان مع القُدرة؟
ج: إذا قلنا بالوجوب وجب أن يُعيد إذا تعمَّد، أما إذا كان جاهلًا قد يُعفى عنه، لكن إذا قلنا بالوجوب -كما هو مذهب أحمد وجماعة- وجوب ستر العاتقين أو أحدهما لحديث أبي هريرة.
س: ما يأثم ولا .....؟
ج: يأثم ..... إذا قلنا بالوجوب، وهو الأظهر، وهو الأحوط؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، هذا هو الأصل؛ ولأن الناس عند سماع الاستحباب وعند اعتقاد الاستحباب يغلب عليهم التَّساهل، وهذه أوامر ونواهٍ ما ينبغي فيها التَّساهل.
س: الكتف ليس من العورة ..... عورته مستورة، والكتف ليس منها؟
ج: لكن الرسول ﷺ أمر بسترها عند القُدرة قال: فإن كان واسعًا فالتحف به، وخالف بين طرفيه، و لا يُصلِّ أحدُكم بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء –أو: عاتقيه كما في "الصحيحين"، فينبغي الجمع بين هذا وهذا.
س: مَن قال: يأثم ولا يُعيد؛ لأنها ليست عورةً؟
ج: الأقرب والله أعلم أنه إذا تعمَّد وتساهل أنه يُعيد، أما إن كان عن جهلٍ وخرج الوقت فالأمر أوسع.
س: .............؟
ج: الاستحباب.
مداخلة: يقول: قبأ الطعام فجمع أكله، ومن الشراب امتلأ، والقبأة والقباءة: حشيشة ترعى.
الشيخ: والذي بعدها؟
الطالب: والذي بعدها: قَبْأ.
الشيخ: لا، أول مادة.
الطالب: أول مادة: قَبْأَ.
الشيخ: لا، ما هو "قَبْأ"، "قَبَا" باب الباء والواو والياء، في آخر الكتاب.
بَابُ كَرَاهِيَةِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
537- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ –يَعْنِي: مِنْهُ شَيْءٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: "نَهَى عَنْ لبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى، لا يُخَالِفُ بِطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ".
538- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَن اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَلِلْبُخَارِيِّ: "نَهَى عَنْ لبْسَتَيْنِ".
وَاللِّبْسَتَانِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَالصَّمَّاءُ: أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذا الباب في اشتمال الصماء والاحتباء، بينت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ النَّهي عن اشتمال الصماء وعن الاحتباء في ثوبٍ واحدٍ ليس على فرجه منه شيء.
واشتمال الصماء فُسِّر كما في الحديث؛ وهو أن يجعل إزاره على أحد عاتقيه ويُسدله على بدنه، فهذا تبدو منه العورة، ولا يستر العورة إلا بعد عنايةٍ وضمٍّ واجتهادٍ، فلهذا نهي عن ذلك؛ لأنه وسيلة إلى ظهور العورة.
وفُسِّرت الصَّماء بظاهر الصماء، وأنها اللبسة التي هي الصماء، ليس فيها منفذ كما قال أهلُ اللغة، يعني: يشتمل عليه الثوب، ويُديره على بدنه كله، ولا يجعل ليديه منفذًا، فربما تحرَّك لإخراج يده أو لحكِّ بدنه أو كذا فتظهر عورته، فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يشتمل الإنسانُ لبسةً ساترةً مضبوطةً، كأن يضبط إزاره على بدنه، ويجعل طرفيه على عاتقيه؛ فتكون لبسةً مضبوطةً ساترةً، ليس فيها خطر انكشاف العورة.
وهكذا الاحتباء: يحتبي ثوبًا واحدًا، والاحتباء: كونه ينصب فخذيه وساقيه وهو جالس على مقعدته، أو مستوفز، ويُدير الثوب على ساقيه ومقعدته وأسفل ظهره، وما يلي السماء مكشوف من جهة فرجه، مكشوف، هذا منكر؛ لما فيه من ظهور العورة، أما إذا كان عليه شيء: بأن احتبى بالرداء وعليه الإزار مستور العورة، أو عليه سراويل مستور العورة؛ فلا يضرّه الاحتباء حينئذٍ، وكانت العربُ تفعل ذلك، ويقوم مقام الاستناد، يُدير ثوبه على ساقيه وهما منصوبتان، وعلى أسفل ظهره، ويجلس هكذا كأنه مستند، تُعينه على الجلسة هذه الجلسة، وربما اكتفى بيديه هكذا، ضمهما هكذا، هذا الاحتباء، فتقوم اليدان هكذا مقام الثوب الذي أداره ليستعين به على ثبات الجلسة واستقرارها وعدم التَّعب فيها، وكلا الجلستين منهي عنها؛ لما فيها من تعرض ظهور العورة، أو انكشاف العورة.
والواجب على المؤمن في جلساته أن يكون مُهتمًّا بعورته، معتنيًا بها، ساترًا لها، ومحافظًا عليها، وكان النبي يأمر بحفظ العورات عليه الصلاة والسلام، فينبغي للمؤمن أن يلاحظ ذلك كما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام.
وعند تفسيرها بالصماء -وهو التَّلفف بالثوب- يكون هذا مكروهًا أو مُحَرَّمًا على ظاهر النَّهي؛ لأنه وسيلة إلى ظهور العورة، أما إذا كان على تفسير الفقهاء وعلى ظاهر الحديث كونه يجعله على أحد عاتقيه، ويُسبل الإزار هكذا، فهذا مُحرَّم؛ لأنه بكل حالٍ تظهر العورة حتى يضبطه على حقويه ويكون إزارًا مضبوطًا، أو يكون تحته ثوب آخر: كإزار أو سراويل.
س: مَن رأى عورته وقت الصلاة هل تبطل صلاته؟
ج: لا، ما تبطل، لكن ينبغي له أن يعتني بها، يعتني بزر الثوب، أو تصغير الجيب، أو لفّ شيء عليه حتى لا يرى عورته، أو تكون عليه سراويل أو إزار تحت الثوب، يعني ما يُسمَّى: مكشوف العورة.
س: ....... تفسير أهل اللغة؟
ج: أهل اللغة مثلما تقدم أن يجمع الثوب عليه، فلا يكون ليديه منفذ، ما هو معناه أنه يستر وجهه، لا، ما هو بلازم وجهه، المقصود كونه يجمع الثوب عليه .....، وربما أخرج يده أو يديه فانتشر الثوبُ وظهرت العورة ..... أو الإزار.
س: والوجه بادي؟
ج: والوجه بادي نعم.
س: لفّ اليدين على الساق ..... احتباء؟
ج: هو الاحتباء، يُسمَّى: احتباء.
س: ............؟
ج: لا، الحديث فيه ضعيف، لكن تركه أولى، وإلا فقد فعله جماعةٌ من الصحابة ، والحديث الذي في النهاية فيه ضعف، لكن من باب الاحتياط لو تركه يكون أحسن.
س: لكن عند أمان ستر العورة إذا ضمن ستر عورته بأي صفةٍ من الصِّفات؟
ج: لا بأس، لا حرج، إذا ضمنت العورة لا حرج، المقصود من هذا كله أنه وسيلة إلى انكشاف العورة.
بَابُ النَّهْيِ عَن السَّدْلِ وَالتَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ
539- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَن السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ منه النَّهْيُ عَن السَّدْلِ، وَلِابْنِ مَاجَهْ منه النَّهْيُ عَنْ تَغْطِيَةِ الْفَمِ.
الشيخ: هذه الأحاديث فيه ضعف من جميع طرقها، وقد ساق الشارح الشوكاني بعض طرقها، وبالعناية بها كلها لا تسلم من خلل وضعف، ولكن مجموعها يستأنس به في النهي عن السدل، وإلا فمجموعها ضعيف، واختلفوا في السدل، وهذا مما يدل على ضعف الحديث؛ لأنه لو كان السدل معروفًا لبيَّنه النبيُّ ﷺ لهم، وأرشد إلى ما يجب فيه، فاختلاف الطرق في الرواية وضعفها هو دليل على أن السدل الذي جاء به الحديث ليس معروفًا عند أهل العلم، وليس معروفًا عند الصحابة، ولهذا اختلفوا فيه:
فقال قومٌ: كونه يضع ثوبه على بدنه ويُرخيه حتى يمسَّ الأرض، فيكون من باب الإسبال.
وقال آخرون: أنه يضع الثوبَ على كتفيه ويُرخيه على جانبيه، ولا يلفّ بعضه على بعضٍ بحيث لا ينضبط فيخشى من بدو العورة.
وقيل فيه غير ذلك، وقال بعضُهم: أن المراد بالسدل سدل الرأس.
وبكل حال فالأحاديث ضعيفة، ولا يفسر السدل المنهي عنه إلا بالشيء الذي يُخالف الشرع؛ بأن يكون طريقًا مخالفًا للشرع: إما سدلًا يُبدي العورة، أو يُخشى منه بدو العورة، أو يكون مُشابهًا لليهود، كما قال بعضهم في أنه عمل يُشابه اليهود، كما يُروى عن عليٍّ في ذلك، فإنه يفسر لو صحَّت الأخبار بأنه نوع من اللباس يحصل منه تكشف العورة، أو وسيلة إلى انكشاف العورة، كما قيل في اشتمال الصَّماء.
وقال بعضهم: إنه الإزار على ثوبه، ثم يُسدله عليه، فهذا يُفضي إلى ظهور العورة كما قيل في اشتمال الصماء.
والمشهور هو الأول، المشهور أنه يلبس الثوب ولكن يُرخيه على جانبيه، ولا يتحفَّظ عن ضبط العورة.
وقال بعضهم: أن يضع الرداء على صدره، ولا يضم طرفيه على صدره.
وبكل حال فالأحاديث ضعيفة، ولا ينكر من هذه الصِّفات إلا ما خالف الشرع.
الطالب: تغطية الفم؟
الشيخ: وكذلك يُكره تغطية الفم إلا من حاجةٍ، فالسنة أن يكون مكشوف الفم، غير متلثم في الصلاة، وإن كانت ضعيفةً، لكن يستأنس بها، ولهذا كره الفقهاء أن يُغطي فمه أخذًا بهذه الأحاديث، وإن كان فيها ضعف، لكن يشدّ بعضها بعضًا من جهة كراهة تغطية الفم، ولأنه يُستحب له أن يُباشر المصلى بوجهه كاملًا.
س: ...........؟
ج: هذا يُسمى: الإرسال، يُسمى: إرسال اليدين، والسنة ضمها هكذا، وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنها ترسل، ويُسميها بعض العامَّة: السدل، لكنه عند العلماء يُسمونها: الإرسال، إرسال اليدين، وإرسالها سدلها أيضًا، لكنه مكروه، والأفضل الضم هكذا.
س: عند التثاؤب في الصلاة؟
ج: يحط يده على فمه، ويكظم في الصلاة، وفي خارجها إذا تثاءب.
بَابُ الصَّلَاةِ فِي ثَوبِ الْحَرِيرِ والغصب
540- عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: مَن اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَل اللَّهُ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ: "صُمَّتَا إنْ لَمْ يَكُن النَّبِيُّ ﷺ سَمِعْتُهُ يَقُولُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وفيه دليل على أنَّ النقود تتعين في العقود.
541- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِأَحْمَدَ: مَنْ صَنَعَ أَمْرًا عَلَى غَيْرِ أَمْرِنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ.
542- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وهذا محمولٌ على أن لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاةٍ ولا غيرها، ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك أن أُكيدر دومة أهدى إلى النبيِّ ﷺ جبة سندسٍ أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فتعجَّب الناسُ منها، فقال: والذي نفس محمدٍ بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها رواه أحمد.
543- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: لَبِسَ النَّبِيُّ ﷺ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ له، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكْتَ مَا نَزَعْته يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ! فَمَا لِي؟ فَقَالَ: مَا أَعْطَيْتُكه لِتَلْبَسَهُ، إنَّمَا أَعْطَيْتُك تَبِيعُهُ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
فيه دليل على أن أمته عليه الصلاة والسلام أسوته في الأحكام.
الشيخ: وهو مثلما قال الله جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فالأمة يتأسّون به في لباسه وأعماله عليه الصلاة والسلام، ولهذا دلَّت هذه الأحاديث على تحريم لبس الحرير وأنواعه: كالديباج، والاستبرق، وأنه كان مباحًا أولًا ثم نُسخ وحُرِّم على الرجال دون النساء، فهو من زينة النساء، أما الرجال فحرّم عليهم.
وفيه دلالة على أن الإنسان إذا أُهدي إليه شيء وهو لا يجوز له، ولكنه يجوز لغيره، فإنه لا بأس عليه أن ينتفع به، ولكن لا يلزم منه أن يستعمله فيما حرّم عليه: كاللباس من الحرير، ولكنه يبيعه أو يُعطيه نساءه، فهذا هو المقصود، ولهذا قال النبيُّ لعمر: لم أُعطكه لتلبسه، ولكن لتبيعه، فباعه وانتفع بثمنه، وفي روايةٍ أنه أهداه إلى أخٍ له مُشرك في مكة، فهذا كله يدل على أنه لا بأس أن يُهدي للإنسان ما لا يجوز له من اللباس ليُعطيه نساءه، أو ليستفيد منه.
وكذلك حديث ابن عمر: مَن اشترى ثوبًا فيه درهم حرام لم تُقبل له صلاة، هذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، ليس بصحيحٍ، فهو ضعيف جدًّا، والصواب أن الثوب الذي فيه شيء من حرام، وهكذا ثوب الغصب تصحّ الصلاة فيه، ولكن يُنهى عن ذلك، كما تصح الصلاة في الثوب الحرير وغيره، لكن يُنهى عن ذلك؛ لأن الصلاة إنما يُبطلها ما حرّم فيها، أما ثوب الحرير وثوب الحرام وثوب الغصب هو محرم دائمًا، في الصلاة وخارجها.
وهكذا الأرض المغصوبة على الصحيح، لو صلَّى فيها صحَّت؛ لأن النهي عنه لا لأجل الصلاة، بل لأجل استعمالها وإن كان في خارج الصلاة، والمسألة خلافية بين أهل العلم، ولكن هذا هو الصواب، إنما كان تحريم خارج الصلاة، ولا يختص بالصلاة: كالأرض وثوب الغصب، والثوب الذي في ثمنه حرام، أو الثوب الذي فيه صور، أو من حرير، فالصلاة صحيحة على الصحيح، لكنه يُنهى عن ذلك، ويأثم باستعماله، ولا يجوز له استعماله؛ لأنه منهي عنه، والله ولي التوفيق.
وأما ما يتعلق بمناديل سعد: فقد جاء في "الصحيحين" غير هذه الرواية: أنه أُهدي له جبة من سندس، فتعجب الناسُ منها، فقال عليه الصلاة والسلام: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذه .
س: .............؟
ج: ..... الذهبي، يعني فيه درهم.
س: إذا قال: دراهم، أو دنانير، أو كذا، أو دولارًا لا بد [أن] يُعين هذا؟
ج: ما هو بواضح، الاحتجاج ما هو بواضح، المقصود إذا اشترى شيئًا ..... إذا كان المكسب الذي اشترى به هذا اللباس حرامًا دخله التَّحريم، إذا كان مكسبه الذي اشترى منه ملابسه أو أوانيه أو ما أشبه ذلك.
س: ..... لو اشترى سلعةً مقابل ..... بدولار أو بريال أو بفضةٍ؟
ج: الصواب أنه ما يتعين، إذا أعطاه غيره من جنسه فلا بأس، أقول: الصواب أنه لا يتعين؛ لأنها متماثلة، لو مثلًا اشترى صبرةً من دراهم، ثم احتاج إليها وأعطاه سواه من جنسها، ما أعلم مانعًا من ذلك؛ لأنه إذا كان النوع واحدًا: صورة من الدراهم، مثل: كمية مضبوطة، ثم احتاج إليها، وأعطاها غيره، وأعطاه غيرها، المطلوب هو الدراهم، ليس المقصود عين هذه، اللهم إلا أن يكون تم بينهما على أنه يُعطيه عين هذه ولا يُغيرها، يعني: مقصود، فيه مقصود فيتعين، أما إذا كان على العادة المعروفة -وهو جنس العملة المعروفة- فهذا الظاهر أنه لا يتعين، ولو قال: بعني هذه الدراهم كذا وكذا.
س: جنس النقود، جنس الذهبية، يعني: لو أصدرها بالنقود ما يُعطي بدلها ذهبًا؟
ج: نعم؟
س: الدنانير اشتراها مثلًا بدراهم، ما يُعطيه بدلها دنانير؟
ج: إذا تراضوا ما في شيء، على حديث عمر لا بأس أن تأخذها بسعر يومها: ما لم تفترقا وبينكما شيء.
س: لو لبس خفًّا، أو لو لبس جوربًا من حرير، أو مغصوبًا، هل يستبيح به الرخصة؟
ج: لا، ما يجوز له أن .....، من شرطه أن يكون حلالًا مباحًا، فلا يلبس خفًّا محرمًا، ولا يستبيح به الرخصة.
س: حديث النَّهي عن السدل بعمومه ما يُخالف حديث النَّهي عن كفِّ الثوب؟
ج: لا، هذا شيء، هذا المقصود السدل الذي يحصل منه ظهور العورة، أو خطر ظهور العورة، أما لو جعل الرداء على الإزار ما يضرّ؛ كيف يجعل .....؛ لأنَّ العورة محفوظة.
كِتَابُ اللِّبَاسِ
بَابُ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
544- عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ.
545- وعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
546- وَعَنْ أَبِي مُوسَى : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
547- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَتْ إلَى النَّبِيِّ ﷺ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ، فَلَبَسْتُهَا، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا، وإنَّمَا بَعَثْتُ إلَيْكَ بِهَا لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
548- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النَّبِيِّ ﷺ بُرْدَ حرير سِيَرَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة تدل على تحريم الحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وأن مَن لبسه من الرجال في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وهذا وعيد شديد، قال الله لأهل الجنة: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23]، فوجب على المسلم أن يحذره، وألا يلبس الحرير في الدنيا، أما النساء فلا بأس، ولهذا أذن لهن النبي في لبس الحرير، وقال لعلي لما أعطاه حلةً من الحرير: إنما أعطيتُكها لتشقّها بين نسائك، وفي اللفظ الآخر: بين الفواطم، وكذلك لبست أم كلثوم الثوب الذي فيه الحرير.
المقصود أن الحرير حلٌّ للنساء، مُحرَّم على الرجال، وهكذا حديث أبي موسى: أُحلَّ الذهبُ والحريرُ في إناث أمتي، وحُرِّم على ذكورهم، فيجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وأن يلبس ما أباح الله له، ويدع ما حرم الله عليه، ويأتي ما أبيح من ذلك للرجال.
بَابٌ فِي أَنَّ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ كَلُبْسِهِ
549- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "نَهَانَا رسولُ الله ﷺ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
550- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَن الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ"، وَالْمَيَاثِرُ: قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ، كَالْقَطَائِفِ مِن الْأُرْجُوَانِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الجلوس على الحرير من جنس اللبس، وأنه نوع من اللبس، فلا يتّخذ للمجالس، ولا على السرر، ولا على الرحال للرجال، كما حرم الله عليهم لبسه حرم عليهم أيضًا الجلوس عليه، كما في حديث حذيفة، وحديث علي هنا، فلا يجوز لبسه، ولا الجلوس عليه.
وهكذا جاء في حديث البراء: "نهانا عن سبعٍ" منها المياثر، يشتهر بأنها من الحرير، ويشتهر بأنها من زي العجم، فلا تتّخذ لكونها من الحرير، والجلوس على الحرير كلبسه.
والمعنى الثاني تحريم ما يكون من زي الكفرة، والمؤمن لا يتشبَّه بالكفرة، لا في الملابس، ولا في المجالس والجلوس؛ لعموم حديث: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ولما جاء في الأدلة الكثيرة من النَّهي عن التَّشبه بأعداء الله؛ لأن التَّشبه بهم في الظاهر يجرّ إلى التَّشبه بهم في الباطن في العقائد والأخلاق.
س: الحرير الصناعي ما حكمه؟
ج: المقصود الحرير المعروف المستخرج من دودة القز، المعروف عند الناس، أما الملابس اللينة من الصناعات ومن الخارج عن الأرض فلا تدخل في ذلك، لكن المؤمن على كل حالٍ ينبغي له أن تكون ملابسه بعيدة عن ذلك، وفيها خشونة؛ لأنَّ هذه الملابس أليق بالنساء، وهو أليق به الملابس القوية، والتي فيها بعض الخشونة.
س: حتى لو أقلع عن ذلك وتاب من لبس الحرير أو الذهب لا يلبسه في الآخرة لو تاب عن ذلك الذَّنب؟
ج: إذا تاب من الشرك يدخل الجنة أو ما يدخل الجنة؟ إذا تاب من الشرك يدخل أو ما يدخل؟ الحرير ..... أو دون الشرك؟
الطالب: دون الشرك.
الشيخ: من باب أولى مَن تاب تاب الله عليه.
بَابُ إبَاحَةِ يَسِيرِ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ وَالرُّقْعَةِ
551- عَنْ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ وَضَمَّهُمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد: وَأَشَارَ بِكَفِّهِ.
552- وَعَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ عَلَيْهَا لَبِنَةُ شَبْرٍ مِنْ دِيبَاجٍ كَسْرَوَانِيٍّ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِهِ، فَقَالَتْ: "هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَانَ يَلْبَسُهَا، كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَلَمَّا قُبِضَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَبَضْتُهَا إلَيَّ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا للمرضى نستشفي بها" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الشَّبْرِ.
553- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ، وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
الشيخ: وهذا كالذي قبله يفيد أنه لا يحل لبس الحرير، لكن يُعفى عن اليسير: كموضع أصبعين وثلاث وأربع، مثل: الأزرار و..... في الجيب، والعلامة الطراز، وأشباه ذلك مما طلب الثوب خياطة كفّه بالحرير مما لا يكون ظاهرًا فيه، بخلاف ما ظهر فيه: كالقسي، والسيراء، فيمنع، كالخطوط من الحرير، أو القطع شبرًا من الحرير يمنع، أما إذا كان يسيرًا قدر أربع أصابع فأقلّ، سواء كان طرازًا، أو إزرارًا، أو كفًّا لأطراف الجبة، أو ما أشبه هذا يُعفى عنه.
وكذلك جلود النّمور تقدم الكلام فيها، وأنه لا يجوز اتِّخاذها؛ لأنَّ الله حرَّم علينا السباع واتّخاذ جلودها وسيلة إلى ذبحها ونحرها، وربما أفضى إلى أكلها، فلا يجوز اتخاذ جلودها لا للبس ولا للجلوس عليها: كالأسد والنمر ونحو ذلك.
وأما قوله: "نهى عن لبس الذهب إلا مقطَّعًا" فهذا في صحة الحديث نظر عند أهل العلم، ولكن لو صحَّ فهو محمولٌ على ما لا يُخالف الأحاديث الصحيحة؛ لأنَّ الله أباح الذهب للنساء، وحرَّمه على الرجال، فقوله "إلا مقطعًا" هذا فيه إجمال.
وقد صحَّت الأحاديث عن رسول الله في حلِّ الذهب للنساء: في حديث أبي موسى، وفي حديث علي رضي الله عنهما، وفي أحاديث كثيرة تدل على حلِّه للنساء مطلقًا، سواء كان مُحلَّقًا أو غير مُحَلَّقٍ.
وما ذكره أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني في "آداب الزفاف" من تحريم المحلَّق فقول ضعيف لا وجهَ له، غلط، وفَّقنا الله وإياه، والنصوص دالة على حلِّ الذهب مُحلَّقًا أو غير محلَّقٍ للنساء، وقد حكى غيرُ واحدٍ إجماعَ أهل العلم على ذلك: كالبيهقي، والنووي، والكيا الهراسي، وجمع آخرون حكوا إجماع أهل العلم على حلِّه للنساء مطلقًا، مُحَلَّقًا: كالأساور والخواتم، وغير مُحلَّق.
وحديث معاوية هذا ليس فيه صراحة في تحريم الذهب، وإنما فيه "إلا مُقَطَّعًا"، مفهومه أنَّ غير المقطع لا يحلّ، والمفهوم لا يُعارض الأحاديث، لو صحَّ لا يُعارض الأحاديث الصحيحة .....، وقد صحَّ حله للنساء من طريق أبي موسى، ومن طريق علي رضي الله عنهما، ومن طريق عبدالله بن عمرو بن العاص، ومن طريق عائشة، ومن طريق أم سلمة، ومن طرق أخرى كلها صحيحة دالة على حله للنساء مطلقًا.
ومن ذلك حديث عائشة: أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى أمامة بنت أبي العاص -بنت بنته زينب- خاتمًا من ذهبٍ وقال: تحلِّي به.
ومن ذلك حديث عبدالله بن عمرو في قصة صاحبة المسكتين، وإنما أمرها بالزكاة، فلم يُنكر عليها اللبس، وحديث أم سلمة كانت تلبس أوضاحًا من ذهبٍ.
فالمقصود أن الذهب حِلٌّ للنساء، مُحرَّم على الرجال، وما جاء في منع النساء منه فهي أحاديث مطعون فيها، وما صحَّ منها فهو منسوخ أو شاذٌّ مخالف للأحاديث الصَّحيحة لا يُلتفت إليه، يُخالف الأحاديث الصحيحة والإجماع.
والقاعدة أنَّ ما خالف الأحاديث الصحيحة يُقال له: شاذ إن لم يكن ..... فهو شاذ، فالقاعدة المتبعة في النصوص المختلفة: يجمع بينها إن تيسر الجمع، فإن لم يتيسر الجمع فالنسخ، فإن لم يُعلم التاريخ فالترجيح، ويحكم على ما خالف الأحاديث الصحيحة بالشُّذوذ إن لم يثبت النسخ، هذا هو المعتمد في هذه المسألة، والله أعلم.
س: جلود السباع ما يُؤثر فيها الدبغ؟
ج: لا، مطلقًا، منهي عنها.
س: ..... من حيث أنها وجود الشعر عليها، فهل هؤلاء الناس تصحّ صلاتهم مع أنه .....؟
ج: يُنهى عن ذلك، يُعلَّمون ويُنصحون؛ لأنه في خلاف بين العلماء، لكن يُنصحون، هذا الصواب، الصواب تحريم ذلك، والصلاة صحيحة.
س: ما الدليل على تحريم جلود السباع والنُّمور؟
ج: الأحاديث الواردة في ذلك في النَّهي عن ركوبها وعن افتراشها.
س: يعني العلَّة من تحريم الجلود هو الخشية أن يُؤكل لحمها؟
ج: الله أعلم، علينا أن نتبع، ويكفي علينا أن نتبع الرسول ﷺ، قد يكون ذلك أنه وسيلة إلى التَّساهل بأكلها، وقد يكون هناك شيء آخر.
س: الأكل بالأصابع كل بحسبه أو ..........؟
ج: هو الأظهر والله أعلم ..... الاختلاف متقارب.
س: حديث معاوية ثابت؟
ج: فيه نظر، يحتاج إلى تأمُّلٍ.
س: أزياء المسلمين كثيرة ..... الكفار، فمتى يكون الإنسان مُتشبِّهًا بالكفار؟ ومتى يكون ....؟
ج: زيّهم الخاص الذي ما هو من المسلمين، زيهم الخاص الذي ما يفعله المسلمون، فما اشترك فيه المسلمون وهم ما يصير تشبّه، إنما هذا في الزي الخاص بهم، مثل: أعيادهم وأشباهه.
بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ للمرضى
554- عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَخَّصَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إلَّا أَنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَيا إلَى النَّبِيِّ ﷺ الْقَمْلَ فِي غَزوةٍ لَهُمَا، فرخَّص لهما في قميص الحرير، قال: ورأيتُه عليهما.
بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَزِّ وَمَا نُسِجَ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ
555- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: "رَأَيْتُ رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبُخَارِيُّ فِي "تَارِيخِهِ"، وَقَدْ صَحَّ لُبْسُهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِن الصَّحَابَةِ .
556- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَن الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: "أَمَّا السَّدَى وَالْعَلَمُ فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.
557- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ، إمَّا سَدَاهَا، وَإِمَّا لَحْمَتُهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَصْنَعُ بِهَا؟ أَلْبَسُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن اجْعَلْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
558- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَلَا النِّمَار رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
559- وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ غنْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ –أَوْ: أَبُو مَالِكٍ- الْأَشْجَعِيُّ : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ والخمر والمعازف وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ: يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَقَالَ فِيهِ: يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ على محمدٍ وآله.
الحديث الأول فيه الدلالة على جواز لبس الحرير للعلاج والدواء، كما أجازه النبيُّ ﷺ للزبير وعبدالرحمن بن عوف، وهما من سادات المهاجرين، ومن أعيان العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان أسباب ذلك القمل كما في الرواية الأخرى عند البخاري وغيره: أنهما أصابهما قملٌ، وتأذَّيا به كثيرًا، حتى حصل بسببه حكَّة في جلودهما، وكأن ذلك من أسباب عدم الرفاهية، وشغلهم بالجهاد ، وقلة ما يُعين على الرفاه.
فالحاصل أنهما أصابتهما حكَّة من أسباب القمل، فرخَّص لهما النبيُّ ﷺ شيئًا في لبس الحرير، وقد تنازع الناسُ في ذلك: هل هذا خاصّ بهما أو عام؟ والصواب أنه ليس خاصًّا بهما، هذه القاعدة، القاعدة عند أهل العلم: أنَّ ما أرخص فيه النبيُّ ﷺ لواحدٍ أو لاثنين أو أكثر رخصة للأمَّة، وهكذا ما نهى عنه واحدًا أو اثنان أو أكثر فهو للأمة، إلا إذا قال: "لك وحدك خاصَّة"، مثلما قال لبردة بن نيار في الضَّحية.
فالصواب أنه ليس خاصًّا بهما، وأنه إذا عرف أنَّ الحرير دواء لشيءٍ من مثل هذا فلا بأس؛ لأنه محرم لعارض مباح للنساء، وهو محرم لعارضٍ، فإذا كان المحرم أصلًا يُباح للضَّرورة كالميتة، فمن باب أولى أن يكون المحرم لعارضٍ -وهو عارض عدم مناسبته للرجال، وأنه مناسبٌ للنساء- من باب أولى أن يحلّ للحاجة للدواء، ولهذا أذن لهما في لبس الحرير لعلاج ما أصابهما من الحكَّة، وكأنه لخاصية في الحرير تمنع أذى الحكَّة.
وفي الأحاديث الأخيرة الكثيرة ما يتعلق بالخزِّ وجلود النِّمار ولبس الحرير إذا كان بارزًا أو سدى: في حديث عبدالله بن سعد، عن أبيه: أنه رأى ببخارى رجلًا عليه خزّ، ذكر أنه كساه النبيُّ ﷺ. الحديث ضعيف عند أهل العلم؛ لأنَّ عبدالله بن سعد هذا وأباه غير معروفين، لكن تقدم قبل قليل لبس عمران بن حصين الخزّ، وهو محمول كما رُوي عن جماعةٍ من الصحابة، قال أبو دواد أنه مرويٌّ عن عشرين من الصحابة، حكاه غيره كذلك عن جماعةٍ من الصحابة، فالمراد به الخزّ الذي ليس هو الحرير المعروف، خزّ من نوعٍ آخر لين يُسمَّى: خزًّا، وليس من الحرير.
وما قاله ابنُ عباس في السدى والعلم إذا كان سدى حرير، واللحمة ليست حريرًا، هذا محل نظرٍ، أما العلم فلا بأس إذا كان أربعة أصابع فأقلّ، وهكذا الأزرار والطراز وأشباه ذلك، والكفّ كفّ القميص، أو كم القميص، إذا كانت لا تزيد على أربعة أصابع فأقلّ فلا بأس بهذا بنصِّ حديث عمر وأرضاه في "الصحيحين".
أما السدى فيحرم، ولهذا في حديث عليٍّ الثالث النَّهي عن السدى، ولما كساه الحلَّة قال: إنما كسوتُك إياها لتشققها بين الفواطم، والسند فيه بعض المقال، لكن في "الصحيحين" أن النبي ﷺ كساه حلَّة سيراء فلبسها، فرأى الغضبَ في وجهه، فقال له النبيُّ ﷺ: إنما كسوتُكها لتكسوها نساءك.
فالمقصود أن بعث النبي ﷺ الشيء الذي لا يجوز للرجال إلى رجلٍ ليس معناه أنه يُبيحه له، وإنما نهي ينتفع به، كما بعث جبةً من الحرير لعمر، فأشكلت على عمر، فقال له عليه الصلاة والسلام: إنما بعثتُها لك لتنتفع بها، فهكذا عليّ بعثها إليه ليكسوها النساء.
وهكذا حديث النِّمار والخزّ، المراد بالخزّ الذي نهي عنه الحرير، والنِّمار يعني: جلودها، لا تلبس، ولا تركب؛ لأنها تكسب الخيلاء، ولأنها من لباس العجم، ومن فرشهم.
وذكر بعضُ أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن افتراشها وأكل لحومها قد يجرّ إلى التَّخلق بأخلاق السباع، فمن رحمة الله أن حرَّم لحوم السباع، وحرَّم الجلوس على جلودها، ولا سيما النمور، فإن النفوس تشتاق إليها؛ لأنَّ فيها نقطًا فيها جمال، والنمر حيوان مفترس خبيث، قالوا: إنه أشد جرأة من الأسد بوثبته وعدوانه، وإن كان أصغر من الأسد، والأسد يغلبه، لكنه جريء على الناس، خبيث، فالمقصود أنه حيوان خبيث، لكن جلده جيد، جلده جميل يُتّخذ منه المياثر، يتّخذ منه أشياء أخرى، فنهى النبيُّ ﷺ عن جلود السباع، ومن جملتها النُّمور، لا تُركب، ولا يُجلس عليها، ولا تُفترش؛ لأنَّ الله حرَّم لحمها، وحرم جلودها لحكمٍ وأسرارٍ عظيمةٍ، منها والله أعلم أنها من جنس ملابس الكفرة، ولأنها تُكسب صاحبها خُلق هذا الحيوان الخبيث، ولأسبابٍ أخرى الله يعلمها جلَّ وعلا.
كذلك حديث عبدالرحمن بن غنم، عن أبي عامر، وعن أبي مالك الأشعري، جاء هذا الحديث عن أبي مالك، وعن أبي عامر بالشكِّ، وجاء عنهما بغير شكٍّ عن أبي عامر وأبي مالك، وجاء عن أبي مالك بالإفراد الثابتة، وهو كله ثابت، كله ثابت عن أبي عامر وأبي مالك بغير شكٍّ، وجاء بالشك أيضًا، وجاء بإفراد أبي مالك، كله ثابت عن النبي ﷺ، ورواه البخاري في "الصحيح" على صيغة التعلق، وقال هشام بن عمار، وهو من شيوخ المؤلف البخاري رحمه الله، ولعله علَّقه لأسبابٍ أخرى، فبعضهم يراه موصولًا، وبعضهم يراه مُعلَّقًا مقطوعًا به، وهو الصحيح والمعتمد، وهو الحُجَّة عند أهل العلم ما جزم به البخاري رحمه الله: ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلون الخزَّ والحرير والخمر والمعازف، هكذا رواه كما ذكره المؤلف، ورواه البخاري بلفظ: "الحرَ" والجماعة، الحر يعني: الفرج الحرام، الزنا يعني، والخمر معروف، وهو المسكر، والحرير كذلك معروف، والمعازف الملاهي والغناء، يبيتون تحت علمٍ فيُبَيِّتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة نسأل الله العافية، هذا وعيد شديد يدل على أنه مَن استحلَّ هذه الأمور فهو على خطرٍ عظيمٍ من العقوبة العاجلة.
وفي روايةٍ: يُسمونها بغير اسمها، يستحلون الخمرَ ويُسمّونها بغير اسمها، يُسمونها شراب كذا، أو شراب كذا، والاعتبار بالمعاني لا بالأسباب، فالمحرم محرم وإن سُمِّي ما سُمِّي، ولهذا لما قالوا للرسول ﷺ: "اجعل لنا ذات أنواط"، لما قال بعضُ الصحابة: "اجعل لنا ذات أنواط" جعلها النبيُّ ﷺ مثل: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا [الأعراف:138] في المعنى، فالاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ، فالزنا زنا وإن سُمِّي بغير اسمه، والخمر خمر وإن سُمِّيت بغير اسمها، والحرير حرير وإن سُمِّي بغير اسمه، والمعازف مُحرَّمة وإن سُمِّيت بغير اسمها.
والمقصود من هذا ذكر الحرير، وفي الرواية الأخرى: "الخزّ"، وأنه محرَّم إذا كان من الحرير، هذا المقصود من ذكر الحديث هنا.
وفيه من الفوائد: التحذير من المعازف، وأنه يأتي في آخر الزمان قومٌ يستحلونها، وقد وقع هذا، قد وقع هذا منذ أزمان طويلة يستحلون هذه المعازف، ورأوها لا بأس بها، ولعبوا بها في كل مكان، وصارت من أسباب قسوة قلوبهم ومرضها وانحرافها عن الهدى، ولهذا قال ابنُ مسعودٍ : "إن الغناء يُنبت النفاقَ في القلب كما يُنبت الماء البقل" يعني: الزرع، والعزف هو الغناء على آلات الملاهي، وقد يُسمى: عزفًا وإن كان بغير آلةٍ، لكن إذا كان بالآلة صار أشدّ في صدِّ القلوب عن ذكر الله، وأشد في اللهو، وأشد في الإثم.
قال ابنُ الصلاح: إذا اجتمع الغناءُ مع آلة اللهو حرم إجماعًا، وقد تنازع بعضُ السلف في تحريم الغناء بغير آلة لهوٍ إذا كان قليلًا: كأبيات قليلة، والصواب عند الجمهور أنه محرم وإن كان قليلًا، فكيف إذا كان يعلن على رؤوس الأشهاد ويكثر ويكون معه العزف بآلات الملاهي من الموسيقى والعود والكمان والرباب، وقد يكون أشد تحريمًا وإثمًا، ويكون محرَّمًا بالإجماع، نسأل الله السلامة والعافية.
وفَّق الله الجميع.
س: السدى؟
ج: السدى: ما يكون تحت اللّحمة -بالضم والفتح- واللحمة: ما كان ظاهرًا يجلس عليه ويلبس، والسدى: البطانة الداخلية التي ..... من داخل.
س: الخزّ المراد به ما ليس .....؟
ج: لا، هنا المراد به الحرير محرم، الخز والنمور يعني الحرير.
س: المساحة بالأصابع؟
ج: من الطرف، من أسفلها إلى أعلاها مع عرضها .....؛ لأنه قال: موضع أربع.
س: قول ابن مسعود: "إن الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ أو الزرعَ"؟
ج: جاء هذا وهذا، البقل هو الزرع.
س: ما هو مرفوعًا؟
ج: لا، من كلامه المعروف، والمحفوظ موقوف عليه.
س: هل يجوز لبس الحرير في الحرب؟
ج: لا، للحكَّة فقط، لا، ما هو في الحرب فقط.
س: .............؟
ج: الصواب أنه محرم؛ لأنَّ الرسول لم يستثنِ إلا أربع أصابع.
س: لو كانت ممتدة الأصابع؟
ج: طولها وعرضها يعني تقريبًا، يعني الأصابع تختلف أيضًا.
س: ...............؟
ج: إذا جمع يكون أربع أصابع أو ما يُقاربها.
س: قول الصَّحابي ما يكون حُجَّةً ودليلًا على التَّحريم؟
ج: العمدة على غيره، لكن هذا مُؤيد، كلام الصحابي مؤيد.
س: مَن جعل هذا الحديث من علامات الساعة الصُّغرى ..؟
ج: لا مُشاحة، يكون في آخر الزمان فقط، نعم.
س: هذا من علامات ..؟
ج: رسول الله عليه الصلاة والسلام يُخبر عن أشياء تكون هكذا مثل فلق الصبح، تأتي مثل فلق الصبح، اللهم صلِّ عليه وسلِّم.
بَابُ نَهْيِ الرِّجَالِ عَن الْمُعَصْفَرِ وَمَا جَاءَ فِي الْأَحْمَرِ
560- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.
561- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ ثَنِيَّةٍ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ وَعَلَيَّ رَيْطَةٌ مُضَرَّجَةٌ بِالْعُصْفُرِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّورَهُمْ فَقَذَفْتُهَا فِيهِ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، مَا فَعَلَت الرَّيْطَةُ؟ فَأَخْبَرْتُه، فَقَالَ: أَلَا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِك؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِلنِّسَاءِ.
562- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَن التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ، وَعَن الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَابْنَ مَاجَهْ.
563- وَعَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرْبُوعًا، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
564- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ" رواه أبو داود، والترمذي، وَقَالَ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ، قَالَ: وَرَأَوا أَنَّ مَا صُبِغَ بِالْحُمْرَةِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا.
الشيخ: ......
أما بعد: فهذه الأحاديث فيها النَّهي عن أشياء: منها لبس المعصفر، وقد علَّله النبيُّ ﷺ في بعض الروايات بأنه من لباس الكفار، وفي أخرى بأنه من لباس النساء، فدلَّ ذلك على أنه نهي عنه للرجل، وأنه يكون من لباس النساء، ويحمل رواية من لباس الكفَّار أنه كان في زيٍّ خاصٍّ ذاك الوقت يُشابه الكفَّار، فنُهي عنه، فإذا لم يكن في زيّ الكفار فإنه يكون من لباس النِّساء.
وهكذا كل ما كان من لباس النساء ومن زيّ الكفار فليس للمسلم أن يلبسه إن كان من زي النساء -مختصّ بالنساء- وليس له أن يلبسه وإن كان من زي الكفار، حرم على الجميع، يعني: تحريم التَّشبه، ويكون ذكر هذا بالمعصفر تنبيهٌ على غيره من الملابس الأخرى.
وفي بعض الروايات أنه قال: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما، فهذا يدل على أنه شدَّد في ذلك عليه الصلاة والسلام من باب إنكار المنكر، ثم ترك ذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن عبدالله بن عمرو فعل ذلك من قبل نفسه حين سجرها بالتنور الريطة المعصفرة، ولكن قوله ﷺ: فإنه لا بأس به للنساء ...... بهذا، كل هذا يدل على أنه لا بأس به في لبس النساء المعصفر.
وأما الأحمر الذي بغير العصفر، بل بأنواع أخرى، فظاهر حديث البراء وما جاء في معناه أنه لا بأس به، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يوم حجَّة الوداع [يلبس] حلة حمراء، صلَّى بالناس فيها في حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، كما أخبر أبو بكرة، وكما ذكر البراء هنا في حديث: "ما رأيتُ من ذي لمةٍ في حلَّةٍ حمراء أحسن من رسول الله ﷺ".
وكان الغالب على الحلل التي تأتي من اليمن أنها مُخططة، وهي من برود اليمن، وفيها خطوط مخالطة للحمرة، إما سواد، وإما بياض، هذا هو الغالب على البرود، كما قال الحافظ، وكما قال ابن القيم رحمه الله، فإذا كانت مُخطَّطةً فلا كراهة فيها، وإذا كانت مُصمتةً فقد كرهها بعضُ أهل العلم؛ أخذًا ببعض الروايات التي فيها النَّهي عن ...... بالحمرة.
وذكر الحافظُ رحمه الله في المسألة سبعة أقوال: منهم مَن خصَّه بالمعصفر، ومنهم مَن خصَّه بما يكون خارج البيت، أما ما كان في البيت بين أهله فلا بأس، ومنهم مَن قال ذلك فيما كان مُصمتًا، أما ما كان مُخططًا فلا بأس.
والأقرب والله أعلم -وهو الظاهر من الأحاديث- أنَّ ما كان مُعصفرًا فهو مكروه مطلقًا، ولا ينبغي إلا للنساء مطلقًا ما كان مصبوغًا بصبغ العصفر، أما ما كان بغير ذلك فلا حرج فيه، ولكن إذا كان مُصمتًا بالكلية وليس فيه خلط فهو أحمر فتركه أولى وأفضل، أما المخطط فلا بأس كما فعله النبيُّ ﷺ في برود اليمن وحُلَى اليمن.
وأما حديث ابن عمر أنه ﷺ مرَّ عليه رجلٌ عليه ثوبان أحمران، فلم يردَّ عليه السلام، في سنده ضعف عند أهل العلم؛ لأن فيه أبا يحيى القتابي، وقد ضعَّفه جماعةٌ، وعلى تقدير صحَّته فهو محمولٌ على المفدم، أو على ما صُبع بالعصفر؛ جمعًا بين الروايات الأخرى.
وفيه من الفوائد: إنكار المنكر على مَن أظهره، وأن مَن أظهر المنكر يستحق ألا يردَّ عليه، مَن تظاهر بشرب الخمر أو بغيرها من المعاصي استحقَّ ألا يرد عليه؛ لإنكار المنكر، ليكون أزجر له.
وقد يجوز الرد عليه وبداءته بالسلام إذا كانت فيه مصلحة عامَّة للمسلمين، أو في هدايته وإنكار المنكر عليه، وقد هجر النبيُّ ﷺ قومًا ولم يهجر آخرين مُراعاةً للمصلحة العامَّة، فمَن كان هجره ينفعه هجر، ومَن كان هجره يضرُّه ويُسبب ويزيد الفساد نُصِح وتُوبع عليه النُّصح لعله ينزجر، ثم بعد ذلك إن انزجر وإلا تُرك وهُجر، مثل: ردّ السلام عليه، ومثل: عدم دعوته إلى وليمةٍ، وعدم إجابة دعوته، ونحو ذلك مما يُسمَّى: هجرًا؛ لعله ينزجر، لعله يعود إلى رُشده، إلا إذا كان قد تترتب على هجره مفسدة تضرُّ بالمسلمين: كهجر الأمراء والرؤساء، ففي هجرهم مضرّة على المسلمين، وفي الاتِّصال بهم مصالح المسلمين، فإنهم لا يُهجَرون، وقد هجر النبيُّ ﷺ كعبَ بن مالك وصاحبيه، ولم يهجر عبدالله بن أبي ومَن اتُّهم بالنفاق من أجل مُراعاة المصلحة العامَّة للمسلمين.
س: ...........؟
ج: ردًّا يعني كاملًا .....
س: مُصمت يعني؟
ج: مُصمت نعم.
س: حالق اللحية مثل المعصية هل يردّ عليه السلام؟
ج: هذا منكر ظاهر يستحقّ الهجر، لكن بعد أن يُنصح ويُعلم أنَّ هذا ما يجوز، وأنه منكر، حتى إن بعض الناس يراها لا بأس بهذا؛ لأنهم رأوا الناس قد كثر فيهم هذا الشيء، فقد يشتبه على بعض الناس، لكن يُعلَّم ويُوجَّه ويُبين له الحقّ؛ لأنَّ وقوع الناس في ذلك بكثرةٍ قد يُسبب التباس الأمر على الناس، نسأل الله ......
س: الهجر على إطلاقه لكل أحدٍ؟
ج: إذا كان فيه مصلحة، أما إذا كانت المصلحة تقتضي عدم هجره لمصلحة المسلمين، ما هو لأجل أن يأكل معه ويشرب معه، لا، بل لمصلحة المسلمين فلا بأس، لا يهجره، بل يُنكره ويُداوم في النَّصيحة.
س: إذا كان الهجرُ لا يردعه؟
ج: ولو ما يردعه ما فيه خير أن يُجالس ويُؤاكل، أما إذا كان عدم الهجر فيه مصلحة للمسلمين، مصلحة دينية.
يقول ابنُ عبدالقوي رحمه الله:
وهجران من أبدى المعاصي سنة | وقد قيل إن يردعه أوجب وأوكد |
وقيل على الإطلاق ما دام مُعلنا | ولاقه بوجه مكفهر مربد |
فالمسألة فيها أقوال ثلاثة: الهجر سنة مطلقًا، وقيل: واجبًا مطلقًا، وقيل بالتفصيل: إن ردع وجب، وإن لم يردع لم يجب.
س: هذه بلوى عمَّت، فلو هُجر كلُّ رجلٍ حلق لحيته أو عصى يُهجر أغلب الناس؟
ج: على كل حالٍ الواجب [على] الإنسان [أن] يعتني بما هو أصلح، يُجاهد نفسه ويعمل ما هو أصلح، لا لهواه، ولكن للمصلحة الشرعية، وإلا البلاء لا شكَّ أنه عظيم.
س: من مصالح المسلمين هدايته؟
ج: يعني: ما هو لأجل محبته، أو لأجل قرابته، أو لأجل كذا، بل للمصالح الإسلامية، مُراعاة للمصالح الإسلامية.
س: يعني قصد هدايته وتحبيبه؟
ج: نعم، أو دفع منكرًا منه، أو دفع أذى عن المسلمين، أو نحوها.
س: لبس الفضَّة؟
ج: لا حرج في ذلك، لا بأس للرجال والنساء جميعًا.
س: ..... أبي بكر في الرؤيا أن يُؤخذ منه إلى أقصى ..... على مثل الآخر أن يتناول معه الغذاء مثلًا، وهذا الرجل هل على المجلس كفَّارة أم ما عليه؟
ج: عليه كفَّارة نعم.
س: .............؟
ج: عليه كفَّارة، عليه كفَّارة يعني؛ لأنَّ هذه قاعدة معروفة.
بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَخْضَرِ وَالْمُزَعْفَرِ وَالْمُلَوَّنَاتِ
565- عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ؛ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
566- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ أَحَبّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَة" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.
567- وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ رسول الله ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ" رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.
568- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: "خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
569- وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأُتِيَ بِي إلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إلَيَّ، وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، يا أم خالدٍ، هَذَا سَنَا، وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْحَسَنُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشيخ: في رواية: "السنه"، يعني: حسن، سنه: حسن، وعندكم بالنون الممدودة فقط؟
الطالب: نعم.
الشيخ: انظر "القاموس"، وسنا يكون قريبًا، يعني المعنى .....، وإلا مقتضى هذا الرفع؛ لأنَّ هذا مبتدأ، وحسن خبر، فإذا جعلناه مقصورًا: سنا، والمقصور ضمة مقدرة على الألف: سنا، وإذًا أصلها بالهاء: سنه، فهو ظاهر، سنه يعني: حسن أيضًا، وفي بعض الروايات حسن "سنه" بالهاء، أما "سنا" وهو من باب المقصور الألف لينة، يكون خبرها مبتدأ بضمَّةٍ مقدرةٍ.
الشيخ: اللهم صلِّ على محمدٍ.
هذه الأحاديث تدل على التوسعة في الملابس، وأنه ﷺ ربما لبس الأبيض، وربما لبس الحبرة -وهي من برود اليمن المخططة- وربما لبس الأسود كما في حديث عائشة: "مرط مرحّل من شعر أسود"، المرحل يعني فيه صور الرحل، وهو ما يجعلها مطيةً ويُركب عليه ..... يُسميه الناس .....
وفيه أيضًا لبس الأخضر كما في حديث ابن رمثة: "بردان أخضران"، وحديث يعلى بن أمية: "طاف النبيُّ ببردٍ أخضر عليه الصلاة والسلام"، كل هذا يدل على التوسعة في الملابس، وأن الأمر فيها واسع، إلا ما حرَّمه الله من لبس الحرير، أو التَّشبه بالنساء، أو التَّشبه بالكفار، وإلا فالأمر واسع: أسود، أو أخضر، أو أبيض، لكن أفضلها البياض، كما في حديث سمرة، وكما في حديث ابن عباس أيضًا: البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، فالبياض أفضلها، ويجوز غيره من سائر الملابس، من سائر الألوان، ما لم يكن ذلك فيه تشبّه بالكفار، أو تشبّه بالنساء، أو فيه حرير مما حرَّم الله، أو فيه ذهب، أو ما أشبه ذلك مما استُثني في حقِّ الرجال.
وفيه أيضًا: الصبغ كما في حديث ابن عمر، في حديث أم خالد أنه أعطاها الخميصة، كأنَّه كان فيها حرير، ولهذا دعاها وأعطاها، وكانت صغيرةً، وكانت مولودةً في الحبشة، وهي أم خالد بن سعيد بن العاص، ولهذا قال لها: هذا سنا، هذا سنا أو: هذا سنه يعني: هذا حسن، من باب مُداعبة الصَّغيرة، وقال لها: أبلي وأخلقي، يعني: عيشي طويلًا، معناه دعاء لها بطول الحياة، تلبس وتخلق، تلبس الجديد وتخلق، وتلبس غيره، فهو من ملاطفة الصغار، وهذا يدل على حُسن خلقه ﷺ وتواضعه عليه الصلاة والسلام.
وأما صبغ ابن عمر بالصُّفرة: فهذا قد جاء في حديث ....... لما سأله كما في الصحيح أنه قال له: "رأيتُك تفعل شيئًا ما أرى أصحابك يفعلونه؟" وذكر منها الصبغ -أنه يصبغ بالصُّفرة- قال: "رأيتُ النبيَّ ﷺ يصبغ بالصُّفرة"، فهذا الذي فعله ابنُ عمر محلّ نظرٍ، محلّ فيه أنَّ الرسول ﷺ نهى عن التَّزعفر للرجال ........ يتزعفر، وأنه يصبغ بالصفرة، فهذا يحتاج إلى جمع ما ورد في هذا والعناية به؛ لأنه مقام مهم.
وفي بعض الروايات أنه كان يصبغ ثيابه أيضًا ابن عمر، ويحكي هذا عن النبي ﷺ، فالمقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ بما ذكره ابن عمر: هل كان هذا قبل النَّهي عن التَّزعفر كما فعله النبيُّ ﷺ سابقًا ثم ترك، وظنَّ ابنُ عمر أنه باقٍ، وخفي على ابن عمر نسخه أم كان هذا بشيءٍ غير الزعفران، ووهم ابن عمر وقال: "الزعفران"؟ فهو محل نظرٍ، يحتاج إلى عنايةٍ.
وإلى يومي هذا لم أجد شيئًا يشفي في هذا المقام فيما رواه ابنُ عمر، ولعلَّ الشيخ عبدالعزيز أو أحد الإخوان يعتني بهذا، فيجمع ما ورد في ذلك، فإنه مهمٌّ، فرواية ابن عمر هذه فيها إشكال من جهة التَّزعفر، ومن جهة صبغ الثياب بالصفرة أو بالزعفران، فهذا يحتاج إلى جمع ما ورد في ذلك، فإنه كان المحفوظ عن النبي ﷺ أنه لم يصبغ، كانت لحيته سوداء، ثم في آخر زمانه صبغ بالحناء والكتم فقط، هذا المعروف، وجاء في بعض الروايات أنه رأى رجلًا صبغ لحيته بالصُّفرة، فقال: "ما أحسن هذا!" لكن لا يلزم من هذا أن يكون الزعفران، قد تكون الصُّفرة غير الزعفران مما يصبغ به، فيحتاج إلى مزيد عنايةٍ، لعلك يا شيخ عبدالعزيز تقوم باللازم يعني، والشيخ عبدالله ..... المقصود إذا قيل لواحدٍ من جمع في ..... جزاه الله خيرًا ..
ابن ربيع تلتزم أم لا؟
الطالب: ما أستطيع، صعب.
الشيخ: أجل، الشيخ عبدالعزيز صاحبها.
الطالب: كان يعني مُباحًا في الأول، كان مُرَخَّصًا في الزعفران؟
الشيخ: أقول: محتمل، لعله كان أولًا ثم نهى النبيُّ عنه عليه الصلاة والسلام، محل نظرٍ، أقول: لعل ابن عمر حفظه سابقًا، ثم ظنَّ أنه استمر، لكن يبعد أن يخفى على ابن عمر هذا.
مُداخلة: "القاموس" يقول في أول المادة: النسا: ضوء البرق، هو نبت مصفر للصفراء والسوداء والبلغم، وضرب من الحرير.
الشيخ: ضرب من الحرير؟
الطالب: نعم.
الشيخ: سنا على التَّخفيف؟
الطالب: نعم، وقال في أصل المادة: وأسناه: رفعه، وسناه تسنية: سهله وفتحه، وساناه: راضاه وداره وأحسن مُعاشرته.
الشيخ: ...... بالتَّشديد، يُراجع "النهاية"، يحتمل أنها سنا بالتخفيف، ومقصور أيضًا، مثل: الفتى، سنى يُخفف ويكون مثل: الفتى مقصورًا: فتى، عصا، كلها مقصورة، وتكون ربما مُقدرة: هذا سنى بالتخفيف، تراجع "النهاية".
بَابُ حُكْمِ مَا فِيهِ صُورَةٌ مِن الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالسُّتُورِ وَالنَّهْيِ عَن التَّصْوِيرِ
571- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَتْرُك فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلَّا نَقَضَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: "لَمْ يَكُنْ يَدَعُ فِي بَيْتِهِ ثَوْبًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إلَّا نَقَضَهُ".
572- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَنَزَعَهُ، قَالَتْ: "فَقَطَعْتُه وِسَادَتَيْنِ، فَكَانَ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: "فَقَطَعْتُهُ مِرْفَقَتَيْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ".
573- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ أَتَيْتُك اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِمْثَالُ رَجُلٍ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي بَابِ الْبَيْتِ يُقْطَعْ، يُصَيَّرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَأْمُرْ بِالسِّتْرِ يُقْطَعْ، يُجْعَل وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَأْمُرْ بِالْكَلْبِ يُخْرَجْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَإِذَا الْكَلْبُ جَرْوٌ كَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ تَحْتَ نَضِيدٍ لَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
574- وَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ.
575- وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا تُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَل الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث تتعلق بالصور والتَّصوير والتَّصليب، وما يجوز في ذلك وما يمنع، وقد دلَّت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في لعن المصورين، وأن المصورين يُعذَّبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتُم، وأنهم يُكلَّفون أن ينفخوا فيها الروح، وليسوا بنافخين، فهذا يدل على تحريم جنس التصوير لما فيه روح من بني آدم ومن سائر الحيوانات، والعلة في ذلك والله أعلم ما بيَّنه الحديث: يُضاهئون بخلق الله ..... قال: الذين يُضاهئون بخلق الله، والعلة الأخرى وهي أنها وسيلة إلى الشرك والكفر بالله، واتِّخاذها أصنامًا تُعبد من دون الله، ووسيلة إلى الفتن ..... إن كانت من الصور النِّسائية وصور المردان ونحو ذلك فلها علل وغايات خبيثة، منها أنها نوع من التَّشبيه بخلق الله، والمضاهاة لخلق الله، كأنه يزعم أنه يريد أن يخلق كخلق الله، كما في الحديث: ومَن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرةً، وليخلقوا حبَّةً، وليخلقوا شعيرةً متفق عليه.
وفيه من الشرِّ ما فيه من تصوير المعظّمين والكُبراء والأعيان والحيوانات المعبودة من دون الله، فيقع الشرُّ كما وقع لقوم نوحٍ: لود وسواع.
ومنها أنه قد يقع في تصوير النساء والمردان صور عارية أو شبه عارية، فتقع الفتنة.
فالتصوير فيه علل كثيرة، وفيه غايات قبيحة، ومن رحمة الله ومن محاسن هذه الشريعة وكمالها أن حرَّم الله ذلك ونهى عنه.
أما التصليب: فهو إيجاد صورة الصليب، وكان ﷺ لا يرى شيئًا فيه تصليب إلا نقضه، وفي الروايات الأخرى: "إلا قضبه" يعني: قطعه، القضب: القطع؛ لإزالة آثار النصرانية في المكان؛ لأن التصليب من آثار النصارى، فهم يُعظِّمون الصليب، ويعتقدون وقوعه، وأن المسيح صُلِبَ، فلهذا من شعارهم الصليب، وقد كذبوا وافتروا، فلم يُصلب عيسى، بل رفعه الله إليه كما قال سبحانه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، فهو لم يُصلب ولم يُقتل، وإنما صُلب وقُتل مَن شُبِّه به، لكنَّهم لجهلهم وضلالهم ظنُّوا أن هذا هو الواقع، وصاروا يعبدون الصليب، ويُعظِّمون الصليب، والرسول ﷺ خالفهم في هذا، وكان إذا رأى شيئًا فيه تصليب أزاله، فدلَّ ذلك على أنَّ الواجب عدم إيجاد شعار الصليب، وعدم الرضا بوجوده؛ لأنه شعارهم الذي مقتهم الله عليه، ونهاهم عنه، ووقع لهم به الشرك والكفر بالله، والتكذيب بما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.
وأما وجود الصور: فإن كان في شيء يُعظَّم ويُرفع وجبت إزالته، كما يُوضع في الجدران وعلى الأبواب، ولهذا لما رأى النبيُّ ﷺ على بيت عائشة -على حجرةٍ لعائشة، مخدع لها- ثوبًا فيها صور هتكه وغضب وقال: إن أصحاب هذه الصور يُعذَّبون يوم القيامة ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتُم، وكأن عائشة فعلت هذا قبل أن تعلم النَّهي، وهكذا ما وجد في بيته ﷺ من التمثال كان هذا قبل النهي، قبل أن يعلم بمنع ذلك عليه الصلاة والسلام، فلهذا وجد في بيته لعدم العلم، ثم جاء الوحي بمنع ذلك فأُزيل.
ولهذا في حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ كان على موعدٍ مع جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فجاء جبرائيل ولم يدخل، فسأله النبيُّ عن ذلك عليه الصلاة والسلام، فقال: إن في البيت تمثالًا وسترًا فيه تصاوير وكلبًا، ثم قال جبرائيلُ للنبي عليه الصلاة والسلام: مُرْ برأس التمثال أن يُقطع حتى يكون كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر أن يُقطع ويجعل منه وسادتان تُوطآن مُنتبذتان، ومُرْ بالكلب أن يُخرج، ففعل النبيُّ ﷺ؛ فقطع رأس التمثال، وقطع الستر، وأمر بالكلب فأُخرج، فكان جروًا تحت نضدٍ للحسن والحسين في البيت، فأُخرج، فدخل جبرائيل عليه الصلاة والسلام.
الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وكذا أخرجه النسائي أيضًا بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فهذا يدل على أن التصاوير إذا كانت في شيءٍ يُمْتَهن، وهكذا حديث عائشة في الوسادتين أنه جُعل الستر وسادتين يرتفق بهما النبيُّ ﷺ، يدل على أنه إذا كانت الصورة في شيءٍ يُمْتَهَن -كالفراش والوسادة والكرسي الذي يُجلس عليه- فهذا لا حرج فيه، ولا يمنع من دخول الملائكة؛ لأنه ممتهَنٌ، وهكذا إذا قطع الرأس، ولو كان موجودًا ليس بمُمتهنٍ، إذا قطع الرأس صار كهيئة الشجرة لم يمنع من دخول الملائكة، ولم يكن به بأس، وإنما يمنع دخول الملائكة ويكون به البأس إذا كان على جدارٍ أو منصوبًا: كرأس منصوب، أو على باب، أو ما أشبه ذلك مما لا يُمْتَهن.
س: الصور التي في كتب المناهج؟
ج: هذا محل نظر، محل احتمال، والذي يظهر والأقرب والله أعلم أنه ينبغي مسح الرؤوس، فليس مما يُعظَّم، ولكنها فيها شيء من مُشابهة الشيء الذي يُعلَّق؛ لأنه يُشال ويحط ويرفع، فإذا تيسر طمس الرؤوس فهو أحوط، وقد يُشبه الوسادة من بعض الوجوه؛ لأنه قد يوضع على الأرض، وقد يوضع عليه شيء، وقد يكون فيه نوع من عدم الاعتزاز وعدم الاحترام، ولكن ما كان في الكتب والمجلات قد يُحترم، وقد يُوضع في محلٍّ رفيع، وقد يتداوله الناسُ، كونه يمسح -تُمسح الرؤوس- أولى كما في حديث عليٍّ: لا تدع صورةً إلا طمستها، كونه يمسح الرأس أو يقطع الرأس هذا أحوط في المجلات والتي فيها فائدة، أو الكتب التي فيها فائدة، أو يُوضع عليه شيء، يعني: ورقة تُلصق على الرأس.
س: وكونه مطبق ما يكفي؟
ج: فيه نظر؛ لأنَّ المطبق ما يستمر، يفتش ويرفع، فكونه يُجعل عليه شيء أحوط، فليس من الستر المعلَّق، وليس من جنس الستر المرسوم على الباب والجدار، فهو شيء يعني: مستور في الغالب، إلا إذا أُريدت الفائدة فُتح، أما ما يكون على الغلاف هذا تجب إزالته؛ لأنه مكشوف ما يجب، على الغلاف هذا يجب إزالته.
س: يشترط [في] الصورة [أن] تكون كاملةً أو جزءًا؟
ج: المهم الرأس، إذا وجد الرأس.
س: كثير من المواد الاستهلاكية عليها صور؟
ج: هذه أسهل، هذه العلب التي تُلقى هذه ممتهنة، هذه أمرها من جنس أمر البساط مُمتهن، الشيء الذي يُمتهن غير داخلٍ في هذا.
وفي حديث ابن عباس الدلالة على أنَّ ما لا روح له لا بأس بتصويره: كالجبل، والسيارة، والشجرة، وأشباه ذلك مثلما قال ابن عباس، أو هذا محل إجماع بين أهل العلم، وأنه لا حرج في ذلك والله أعلم.
س: قول ابن عباس: "فإن كنتَ لا بدَّ فاعلًا" ما يُشعر بأن تركه أولى حتى ولو كان شجرًا وما لا روح فيه؟
ج: قد يُقال هذا لأنه وسيلة إلى تعاطي ما فيه روح، لا شكَّ أن تركه أولى؛ لأنه قد تجرّه الأطماع، وقد يجرّه حبُّ البروز بأنه يعرف هذه الأشياء قد يجرّه إلى تصوير ذوات الأرواح كما هو الواقع؛ لأن الغالب ما يقتصرون على الجماد، فكونه يلتمس عملًا آخر وشيئًا آخر ينتفع به أولى وأبعد عن الخطر، ولكنه في الجملة جائز عند أهل العلم.
س: بالنسبة ...... تصوير المُجاهدين الأفغان، سواء في أشرطة الفيديو؟
ج: الأحاديث عامَّة، لا ينبغي التصوير، يمكن الخبر بدون تصوير، يُخبر عن الجهاد بدون تصويرٍ.
س: إذا صلَّى في ثوبٍ أو في شماغٍ يُعيد الصلاة؟
ج: الصحيح لا يُعيد، لكن يُغير اللباس فقط؛ لأنَّ هذا ما هو منهي عنه في الصلاة، منهي عنه على العموم، لا يلبسه مطلقًا، والشيء المنهي عنه عمومًا لا يُبطل الصلاة، إنما يُبطلها الذي يُنهى عنه فيها: كالكلام، والنَّجاسة، وأشباه ذلك، أما لو صلَّى في ثوبٍ مصورٍ، أو ثوب حريرٍ، أو ثوبٍ مغصوبٍ فالصحيح أنها تصحّ صلاته، فيه خلاف بين أهل العلم، لكن الصحيح أنها تصح الصلاة مع الإثم، مع كونه آثمًا.
س: ...... ويشتريها الإنسانُ ويقول: إنَّ هذه مُمتهنة؟
ج: يشتريها ويمتهنها ما في بأس، البساط .....
س: لكن الصور فيها؟
ج: ولو، الصور إذا كانت ممتهنةً ما فيها بأس، أقرَّها النبيُّ ﷺ واستعملها.
س: إذا كانت في ثياب الأطفال؟
ج: ولو، لا تُجعل في الثياب والملابس، لا، الملابس لا.
س: ما يخلو اليوم أن يلبس طفلٌ من صورةٍ؟
ج: لا، اتَّقِ الله يا أخي، ما يخلو .... إلا فيها صورة! الله يهدينا ويهديك، حطّها وسائد، حطّها وسادة.
س: إذا أُهديت ......؟
ج: حطّها وسادةً، ولو.
س: هل ما يُصور في الجوازات، وهذا يكون .....؟
ج: الذي للضَّرورة يُعفى عنه، الذي للضَّرورة وما هو باختيار الإنسان في حكم المكره، مثل: التابعية، ومثل: الجواز، ومثل: المتطرفين، ومثل: صورة المجرمين الذين يطلب إمساكهم وحفظهم....
س: المدارس؟
ج: المدارس لا ينبغي، لكن إذا كان ما هو بيده فهو مُضطر.
س: العرائس؟
ج: فيها خلاف بين أهل العلم: منهم مَن رآها جائزة؛ لأنه وُجد عند عائشة بنات لها، كما في الحديث الصحيح، وكان النبيُّ ﷺ يُسرّب إليها بناتها، وكانت عندها بعض الصور، وحكى القاضي عياض عن الجمهور أنه يُسمح بصور البنات الصغار لتعليم البنات -وهن العرائس- وقال آخرون أنها يعمّها المنع، والذي فعلته عائشة كان قبل المنع، وأن بعد المنع يمنع حتى العرائس، حتى صور الجواري الصغار البنات يتعلمّن عليها، وهذا أحوط إذا تيسر منع ذلك، وأن يُجعل لهن صور خاصَّة من جنس الذي يفعلها ..... سابقًا، صور ما هي مصورة، كأن يكون لهم كذا خياطات أو عظام يُجعل عليها لباس أو أعواد أو كذا لبنات لهم، غير مصورة تصوير قبيح شنيع، نسأل الله العافية، والأحوط ترك هذا، والخلاف فيه مشهور.
س: الأجسام المُجسدة دون الرأس؟
ج: إذا أبعد الرأس، ما هو فقط خط كما يفعل بعضُ الناس، خط لا يبعد بالمرة، يزال.
س: ما يكون من الرسم لذوات الأرواح؟
ج: إذا أُزيل الرأس بالكلية ولا وجد مثل ..... قطع رأسه، أزاله يعني حتى كانت كالشجرة.
س: وضع فاصل بين الرأس والجسم؟
ج: ما يكفي، لا، ما يكفي.
س: بالنسبة لتعليم الأولاد مثلًا في الطبِّ: فيه رسم الآدمي، أيش الحكم فيها إذا كان متعلقًا من أجل ..؟
ج: إذا دعت الضَّرورة إليه لا بأس إن شاء الله، إذا دعت الضَّرورة إليه: كمسألة المكره، يُقطع ويُصورون له رأسه، ويُصورون له بطنه، إذا دعت الضَّرورة للتَّعليم نرجو ألا يكون به بأس.
س: إذا كان مسلمًا؟
ج: لا، يكون كافرًا.
س: من الخارج يعني؟
ج: عندهم تعليم من الحكومة لا يقطع إلا الكافر غير المعصوم.
س: ............؟
س: إذا كانت السجادة التي يُصلَّى عليها فيها صورة؟
ج: لا يضرّ، لكن فقط يُخشى التَّشويش، مثل: النقوش، لو كان المصلَّى سادة أولى وأفضل حتى لا يشوش.
س: بالنسبة لصور المُجاهدين ..... ما تكون يعني سببًا لتأخير النَّصر؟
ج: ..... لكن تركها أولى، ينبغي ألا تُصور.
س: تصوير النساء في الجواز هذا فتح باب شرٍّ؛ تكشف المرأةُ وجهها للرجال؟
ج: ينبغي تركه، نسأل الله أن يُوفّق الدولة لتركه، وقد نُصحوا في هذا، ونسأل الله أن يُوفِّقهم، ...... يدّعي يُلبّس على الناس يقول: هذه بنته، هذه أخته، هم فعلوا التصوير لأجل منع التزوير، هذا مقصودهم.
س: ..... في الجمرك هذا نساء تُفتش، لكن لو مثلًا يخلو مثل هذا، تكشف عن وجهها والجواز؟
ج: الأصل هذا منعًا من التزوير، خوفًا من التزوير.