11 من قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم)

قَوْلُهُ: (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ، وَلُزُوم التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).

يُشِيرُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ الْحَدِيثَ، أَدْخَلَ "كَافَ" التَّشْبِيهِ عَلَى "مَا" الْمَصْدَرِيَّةِ أَوِ الْمَوْصُولَةِ بِـ"تَرَوْنَ" الَّتِي تتأوَّل مَعَ صِلَتِهَا إِلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَةُ، فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي الرُّؤْيَةِ لَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ وَتَحْقِيقُهَا، وَدَفْعُ الِاحْتِمَالَاتِ عَنْهَا.

الشيخ: والمعنى أنها رؤية حقيقية، كما أنَّا نرى الشمس حقيقةً والقمر حقيقةً نرى ربنا حقيقةً، وليس المرئي كالمرئي، ليس الربُّ كالقمر والشمس، بل هو أجلُّ وأعظم من ذلك، لكن المقصود إثبات الحقيقة، وأننا كما نجزم برؤية الشمس والقمر ونُشاهد ذلك فنحن أيضًا يوم القيامة نرى ربنا حقيقةً ويقينًا كما نتيقن رؤية الشمس والقمر في عرصات القيامة وفي الجنة.

وَمَاذَا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذَا الْإِيضَاحِ؟! فَإِذَا سُلِّطَ التَّأْوِيلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النَّصِّ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِنَصٍّ مِنَ النُّصُوصِ؟! وَهَلْ يَحْتَمِلُ هَذَا النَّصُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ رَبَّكُمْ كَمَا تَعْلَمُونَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟! وَيَسْتَشْهِدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا اسْتُعْمِلَ فِيهِ "رَأَى" الَّتِي مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ!

وَلَا شَكَّ أَنَّ رَأَى تَارَةً تَكُونُ بَصَرِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ قَلْبِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ رُؤْيَا الْحُلْمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا يَخْلُو الْكَلَامُ مِنْ قَرِينَةٍ تُخَلِّصُ أَحَدَ مَعَانِيهِ مِنَ الْبَاقِي.

الشيخ: يعني المقصود هنا الرؤية البصرية، ليس المراد الرؤية العلمية، كما ترون القمر يعني: كما تُشاهدونه الرؤية البصرية.

وَإِلَّا لَوْ أَخْلَى الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ مِنَ الْقَرِينَةِ الْمُخَلِّصَةِ لِأَحَدِ الْمَعَانِي لَكَانَ مُجْمَلًا مُلْغَزًا، لَا مُبَيِّنًا مُوَضِّحًا، وَأَيُّ بَيَانٍ وَقَرِينَةٍ فَوْقَ قَوْلِهِ: تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ فَهَلْ مِثْلُ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ أَوْ بِرُؤْيَةِ الْقَلْبِ؟ وَهَلْ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَهُ؟

فَإِنْ قَالُوا: أَلْجَأَنَا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حُكْمُ الْعَقْلِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ إِمْكَانُهَا!

فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى مِنْكُمْ، خَالَفَكُمْ فِيهَا أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا، بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ مَوْجُودٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ لَحُكِمَ بِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ.

وَقَوْلُهُ: (لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ) أَيْ: تَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرَى عَلَى صِفَةِ كَذَا، فَيَتَوَهَّمُ تَشْبِيهًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا التَّوَهُّمِ - إِنْ أَثْبَتَ مَا تَوَهَّمَهُ مِنَ الْوَصْفِ - فَهُوَ مُشَبِّهٌ، وَإِنْ نَفَى الرُّؤْيَةَ مِنْ أَصْلِهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ فَهُوَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ، بَلِ الْوَاجِبُ دَفْعُ ذَلِكَ الْوَهْمِ وَحْدَهُ، وَلَا يَعُمُّ بِنَفْيِهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَيَنْفِيَهُمَا رَدًّا عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الْبَاطِلَ، بَلِ الْوَاجِبُ رَدُّ الْبَاطِلِ وَإِثْبَاتُ الْحَقِّ.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ بِهَذَا النَّفْيِ!

الشيخ: وهذا أمر واجب؛ توقي التَّشبيه والحذر من طاعة الهوى والشيطان ودُعاة الباطل، فالله جلَّ وعلا بيَّن صفاته وأوضحها ونفى المشابهة فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فلا بدَّ من الإيمان بهذا وهذا، ولا يُضرب كتاب الله بعضه ببعضٍ، ولا سنة الرسول بعضها ببعضٍ؛ ولهذا يقول - رحمه الله -: "ومَن لم يتوقَّ التَّشبيه زلَّ ولم يُصب التَّنزيه"، لا بدَّ من كون الإنسان يتوقَّى التأويل والتَّشبيه، ويحذر مشابهة أعداء الله والميل إليهم في تأويلهم وباطلهم.

فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ بِهَذَا النَّفْيِ! وَهَلْ يَكُونُ التَّنْزِيهُ بِنَفْيِ صِفَةِ الْكَمَالِ؟ فَإِنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِصِفَةِ كَمَالٍ، إِذِ الْمَعْدُومُ لَا يُرَى، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَنَفْيِ إِدْرَاكِ الرَّائِي لَهُ إِدْرَاكَ إِحَاطَةٍ، كَمَا فِي العلم، فَإِنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ بِهِ لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِهِ عِلْمًا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً، كَمَا لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا.

وَقَوْلُهُ: (أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ) أَيِ ادَّعَى أَنَّهُ فَهِمَ لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا وَمَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ مِنْ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ قَدْ صَارَ اصْطِلَاحُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَعْنَى التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَبِهَذَا تَسَلَّطَ الْمُحَرِّفُونَ عَلَى النُّصُوصِ وَقَالُوا: نَحْنُ نَتَأَوَّلُ مَا يُخَالِفُ قَوْلَنَا، فَسَمَّوُا التَّحْرِيفَ تَأْوِيلًا؛ تَزْيِينًا لَهُ وَزَخْرَفَةً لِيُقْبَلَ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ زَخْرَفُوا الْبَاطِلَ، قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، فَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُزَخْرَفٌ عُورِضَ بِهِ دَلِيلُ الْحَقِّ.

وَكَلَامُهُ هَنَا نَظِيرُ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا)، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ: تَرْكَ التَّأْوِيلِ، وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ)، وَمُرَادُهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ تَأْوِيلًا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ  - تَأَدَّبَ وَجَادَلَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وَلَيْسَ مُرَادُهُ تَرْكَ كُلِّ مَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا، وَلَا تَرْكَ شَيْءٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ لِبَعْضِ النَّاسِ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ تَرْكُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ الَّتِي يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَسَادِهَا، وَتَرْكُ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ.

فَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ: تَأْوِيلُ أَدِلَّةِ الرُّؤْيَةِ، وَأَدِلَّةِ الْعُلُوِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا!

ثُمَّ قَدْ صَارَ لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ؛ فَالتَّأْوِيلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ، فَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ: هُوَ عَيْنُ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.

الشيخ: يعني يعمل به، يتأوَّله: يعمل به، فتأويل الخبر: تصديقه، وتأويل الأوامر والنَّواهي: امتثالها؛ ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها لما نزل قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر]: كان إذا قام أو قعد يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأوَّل القرآن. يعني: يعمل به، وفي اللفظ الآخر: يُكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأوَّل القرآن.

وَقَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53].

وَمِنْهُ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، وَتَأْوِيلُ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، وَقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف:6]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، وَقَوْلِهِ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا إِلَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78- 82]، فَمَنْ يُنْكِرُ وُقُوعَ مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَالْعِلْمَ بِمَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْهُ؟

وَأَمَّا مَا كَانَ خَبَرًا: كَالْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَهَذَا قَدْ لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ؛ إِذْ كَانَتْ لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، تأويل الخبر: تصديقه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] تصديقها أنه فوق العرش استوى، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] تأويله بأنه يجيء يوم القيامة، سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61] تأويله بأنه يرى ويُبْصِر ويسمع أقوالَ عباده.

فتأويل الخبر تصديقه، وتأويل الأوامر امتثالها، وتأويل النَّواهي تركها.

فَإِنَّ الْمُخْبَرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُخْبَرَ بِهِ، أَوْ مَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ الَّتِي هِيَ تَأْوِيلُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ نَفْيُ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَ الْمُخَاطِبُ إِفْهَامَ الْمُخَاطَبِ إِيَّاهُ، فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَا أَنْزَلَ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ مَا عَنَى بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.

فَهَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ.

وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - كَابْنِ جَرِيرٍ وَنَحْوِهِ - يُرِيدُونَ بِهِ تَفْسِيرَ الْكَلَامِ وَبَيَانَ مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ خَالَفَ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ كَالتَّفْسِيرِ، يُحْمَدُ حَقُّهُ، وَيُرَدُّ بَاطِلُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] الْآيَةَ فِيهَا قِرَاءَتَانِ: قِرَاءَةُ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَقِرَاءَةُ مَنْ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ، وَيُرَادُ بِالْأُولَى: الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ، وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ: الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ.

وَلَا يُرِيدُ مَنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ لَازِمَ هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ كَلَامًا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ وَلَا الرَّسُولُ، وَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا سِوَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَقُولُهُ غَيْرُ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَجِبُ امْتِيَازُهُمْ عَنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ.

وَلَقَدْ صَدَقَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا لَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَدُعَاؤُهُ ﷺ لَا يُرَدُّ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.

وَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْ آيَةٍ: إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

الشيخ: والمعنى واضح لما تقدم تأويله الذي هو تفسيره، يعلمه الراسخون في العلم، أما تأويل وقوع ما أخبر به هذا لا يعلمه إلا الله، كما أخبر عن الجنة والنار والقيامة وأشباه ذلك، هذا لا يعلم تأويله إلا الله، يعني: متى يقع؟ متى ينتهي هذا العالم؟ مثلما قال - جلَّ وعلا -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] يعني: يوم يأتي يوم القيامة ويحصل البعثُ والنُّشور.

فالتأويل تأويلان: تأويل المعاني والتفسير، هذا يعلمه الراسخون في العلم. والتأويل الثاني: وجود الحقيقة وبروزها، هذا لا يعلمه إلا الله، بروز الحقيقة من الجنة والنار والحساب والجزاء، ومتى يكون؟ هذا يعلمه الله ، هو الذي يعلم متى تكون هذه الأمور.

وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْأُصُولِ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا وَهِيَ الْمُتَشَابِهُ، كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومَ الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَطْلُوبُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ.

وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ.

وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَتَنَازَعُ النَّاسُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالطَّلَبِيَّةِ، فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ مِنْهُ: الَّذِي يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَذُكِرَ فِي "التَّبْصِرَةِ" أَنَّ نُصَيْرَ بْنَ يَحْيَى الْبَلْخِيَّ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُؤَدِّي ظَاهِرُهُ إِلَى التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا، وَلَا نَقُولُ: كَيْفَ؟ وَكَيْفَ؟

الشيخ: وهذا هو الحق، كلها تمر على الوجه اللائق بالله، ولا يُقال: كيف؟ وكيف؟ لا في الاستواء، ولا في العلم، ولا في الرضا، ولا في الغضب، ولا في غير ذلك، مثلما قال مالكٌ - رحمه الله - وغيره: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن ذلك بدعة"، فما تشابه على المؤمن وما أشكل عليه يردّ علمه إلى الله - جلَّ وعلا، وما وضَّحه الله وبيَّنه رسوله وجب الأخذُ به، فالله بيَّن لنا أنه سبحانه فوق العرش، وأنه الحكيم، وأنه العليم، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، وأنه العزيز، فعلينا أن نُصدق بذلك ونؤمن بذلك، وأنه حقٌّ، ولا نُكيف صفات ربنا ونقول: إنها مثل كذا، ومثل كذا، أو كيفيتها كذا؛ لأنه يقول سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

س: ............؟

ج: الرؤيا على حسب ما يظهر للمُعبر، المرائي يختلف الناسُ فيها، يُعطي الله فيها مَن يشاء الحكمة.

س: .............؟

ج: على أشياء - الله يعفو عنا وعنه - في الإرجاء معروفة عنه رحمه الله مما انتُقد عليه فيه، يقال: إنه من مُرجئة الفقهاء.

وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الْكُفْرِيَّ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ النَّصِّ وَلَا مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ مَنْ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فَهُوَ لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَنَقْصِ عِلْمِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

وَقِيلَ:

عَلَيَّ نَحْتُ الْقَوَافِي مِنْ مَقَاطِعِهَا وَمَا عَلَيَّ لَهُمْ أَنْ تَفْهَمَ الْبَقَرُ

فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَوْلِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَصْدَقُ الْكَلَامِ وَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]؟! إِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هُوَ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ.

الشيخ: وهذا من جهلهم وضلالهم، فإنَّ الله - جلَّ وعلا - بيَّن صفاته، ونفى المماثلة والمشابهة، فلا إشكال، ولا شبهة، فهو الحق في كل ما أخبر به، وهو سبحانه أزال الشبهة التي قد يتوهمها سفهاء العقول في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فأزال ما قد يقع في النفوس من التَّشبيه والتَّمثيل.

إِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هُوَ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا يَصْلُحُ مِن الاعْتِقَادِ، وَلَا فِيهِ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ!

الشيخ: ولهذا لجئوا إلى التأويل وإبطال الصِّفات، فإنَّ حقيقة التأويل معناه: إنكار الصفات، وأنه لا حقيقةَ لها، ولا معنى لها، ومعنى ذلك: إنكار وجود الرب - جلَّ وعلا؛ ولهذا أفضى بهم إلى أن يقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايده، ولا، ولا، ولا، معناه العدم، نسأل الله العافية.

هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْمُتَأَوِّلِينَ.

وَالْحَقُّ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا كَانَ بَاطِلًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَالْمُنَازِعُونَ يَدَّعُونَ دَلَالَتَهُ عَلَى الْبَاطِلِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ!

فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْبَابُ الَّذِي فَتَحْتُمُوهُ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ حَقِيقَةً، فَقَدْ فَتَحْتُمْ عَلَيْكُمْ بَابًا لِأَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى سَدِّهِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَوَّغْتُمْ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ دَلَالَتِهِ الْمَفْهُومَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَمَا الضَّابِطُ فِيمَا يَسُوغُ تَأْوِيلُهُ وَمَا لَا يَسُوغُ؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ تَأَوَّلْنَاهُ، وَإِلَّا أَقْرَرْنَاهُ!

قِيلَ لَكُمْ: وَبِأَيِّ عَقْلٍ نَزِنُ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ؟ فَإِنَّ الْقرمطِيَّ الْبَاطِنِيَّ يَزْعُمُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ! وَيَزْعُمُ الْفَيْلَسُوفُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ! وَيَزْعُمُ الْمُعْتَزِلِيُّ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عِلْمٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ رَحْمَةٍ بِهِ تَعَالَى!

وَبَابُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَدَّعِي أَصْحَابُهَا وُجُوبَهَا بِالْمَعْقُولَاتِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مَحْذُورَانِ عَظِيمَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى نَبْحَثَ قَبْلَ ذَلِكَ بُحُوثًا طَوِيلَةً عَرِيضَةً فِي إِمْكَانِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ! وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَيَؤُولُ الْأَمْرُ إِلَى الْحَيْرَةِ.

الْمَحْذُورُ الثَّانِي: أَنَّ الْقُلُوبَ تَنحلّ عَنِ الْجَزْمِ بِشَيْءٍ تَعْتَقِدُهُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ؛ إِذْ لَا يُوثَقُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْمُرَادُ، وَالتَّأْوِيلَاتُ مُضْطَرِبَةٌ، فَيَلْزَمُ عَزْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا أَنْبَأَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ، وَخَاصَّةُ النَّبِيِّ هِيَ الْإِنْبَاءُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ؛ وَلِهَذَا نَجِدُ أَهْلَ التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلِاعْتِضَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ.

الشيخ: وهذا لازمهم، وهو عدم الثِّقة بالنصوص، وأن يبقى الناس في حيرةٍ، نسأل الله العافية.

وَلِهَذَا نَجِدُ أَهْلَ التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلِاعْتِضَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ، إِنْ وَافَقَتْ مَا ادَّعَوْا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَيْهِ قَبِلُوهُ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ أَوَّلُوهُ! وَهَذَا فَتْحُ بَابِ الزَّنْدَقَةِ والانحلال، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).

النَّفْيُ وَالتَّشْبِيهُ مَرَضَانِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ: مَرَضُ شُبْهَةٍ، وَمَرَضُ شَهْوَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ.

الشيخ: يُشير بهذا إلى أنه ليس كذا وليس كذا حتى وقعوا في الباطل والإلحاد، فتوقي النَّفي والتَّشبيه واجب، أما إذا أطلق لسانه بالنفي والتَّنزيه الذي يُفضي إلى التعطيل فهذا هو الإلحاد، وهذا دين الجهمية والمعتزلة وأشباههم ممن انحرف عن الحقِّ وحاد عن السبيل وعطَّل النصوص، نسأل الله العافية.

قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فَهَذَا مَرَضُ الشَّهْوَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125]، فَهَذَا مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَرْدَأُ مِنْ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، إِذْ مَرَضُ الشَّهْوَةِ يُرْجَى لَهُ الشِّفَاءُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَمَرَضُ الشُّبْهَةِ لَا شِفَاءَ لَهُ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.

وَالشُّبْهَةُ الَّتِي فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ نَفْيُهَا وَتَشْبِيهُهَا، وَشُبْهَةُ النَّفْيِ أَرْدَأُ مِنْ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ شُبْهَةَ النَّفْيِ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَشُبْهَةَ التَّشْبِيهِ غُلُوٌّ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

وَتَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كُفْرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَهَذَا أصل نَوْعَيِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ نَوْعَانِ: تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهَذَا الَّذِي يَتْعَبُ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ، وَأَهْلُهُ فِي النَّاسِ أَقَلُّ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ تَشْبِيهِ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ: كَعُبَّادِ الْمَسيح، وَعُزَيْرٍ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْأَصْنَامِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ، وَالْعِجْلِ، وَالْقُبُورِ، وَالْجِنِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ يَدْعُونَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.