الشيخ: وهذا قد تواترت به الأخبار، تواترت تواترًا أنَّ أهل الجنة يرون ربهم في القيامة، ويرونه في الجنة كما يشاء سبحانه وتعالى، بإجماع أهل السنة والجماعة، يرونه في الجنة إذا أشرف عليهم سبحانه، ويرونه في الجنة، بخلاف غيرهم من الكفرة، إنما يراه المؤمنون خاصةً، أما البقية فهم محجوبون: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وقال بعضُ أهل العلم: يراه المنافقون. وقال بعضهم: يراه الجميع. ولكنَّهما قولان باطلان، والصواب أنه لا يراه إلا المؤمنون.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب:44].
وَاخْتُلِفَ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
الثَّانِي: يَرَاهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنِ الْكُفَّارِ وَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: يَرَاهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنَافِقُونَ دُونَ بَقِيَّةِ الْكُفَّارِ.
الشيخ: والصواب القول الأول، وأنه لا يراه إلا المؤمنون، أما الكافرون فهم عنه محجوبون، والمنافقون من أكفر الناس، أشد كفرًا من الكفار المصرحين، فهم من باب أولى بالحجب عن رؤية الله؛ لأنهم في الدَّرك الأسفل في النار، فهم أشد الناس كفرًا؛ ولهذا أخبر الله عنهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، فهم من باب أولى أن يُحجبوا: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
س:.............؟
ج: لا، هذا من كيسه، محجوبون، ما يرونه أصلًا.
ينبغي أن يُعلم أن الرؤية هي أعلى نعيم أهل الجنة، فكيف يراه الكفَّار والنظر إلى وجهه هو أعلى نعيم أهل الجنة؟! المقصود أنَّ الكفار والمنافقين محجوبون عن الله - جلَّ وعلا -، لا يرونه يوم القيامة.
الشيخ: هذا محل اتفاقٍ؛ أنه لا يراه أحدٌ في الدنيا بعينيه، حكى ذلك عثمانُ بن سعيد الدارمي الإمام المشهور، حكى اتفاق أهل العلم على ذلك، وقال بعضُهم: رآه النبيُّ ﷺ محمد خاصةً. والصواب أنه لم يره؛ لأنه لما سُئل ﷺ قال: رأيتُ نورًا، نور أنَّى أراه؟، وقال عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه -كما رواه مسلم في الصحيح: واعلموا أنه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت.
فالرؤية في الدنيا: لا يراه أحدٌ في الدنيا؛ لأن الرؤية نعيم، والدنيا ليست دار نعيم، دار الفتنة، دار الاختبار والامتحان، وإنما يُرى في الآخرة؛ يراه المؤمنون في القيامة كما يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يُضامون في رؤيته، ثم يرونه في الجنة كما يشاء سبحانه وتعالى.
س: رؤية المنام؟
ج: هذا قاله جماعةٌ من أهل العلم؛ يرى نورًا، يعني: يرى نوره في المنام.
وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا ﷺ خَاصَّةً: مِنْهُمْ مَنْ نَفَى رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ ﷺ.
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ "الشِّفَا" اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ ﷺ، وَإِنْكَارَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَكُونَ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ حِينَ سَأَلَهَا: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: "لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ"، ثُمَّ قَالَتْ: "مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ".
ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ، وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ: أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا وَفَوَائِدَ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا ﷺ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ وَلَا نَصٌّ، وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَةِ النَّجْمِ، وَالتَّنَازُعُ فِيهَا مَأْثُورٌ، وَالِاحْتِمَالُ لَهَا مُمْكِنٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا مُمْكِنَةٌ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُمْكِنَةً لَمَا سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِأَنَّهُ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، بَلْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟، وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ نُورًا.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.
الشيخ: وهذا كما تقدم، وهو أنه لم يره عليه الصلاة والسلام كما هو الحقّ، وقد حكاه إجماعًا عثمان بن سعيد - رحمه الله - الدارمي، وحديث أبي ذرٍّ صريح في ذلك: رأيتُ نورًا، وفي اللفظ الآخر: «نور أنَّى أراه؟»، وقوله ﷺ: حجابه النور كل هذا واضح في أنه ﷺ لم يره في الدنيا، ولما طلبها موسى لم يُعطاها، بل خرَّ صعقًا.
فَيَكُونُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ: رَأَيْتُ نُورًا أَنَّهُ رَأَى الْحِجَابَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ النُّورُ الَّذِي هُوَ الْحِجَابُ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَأَنَّى أَرَاهُ؟ أَيْ: فَكَيْفَ أَرَاهُ وَالنُّورُ حِجَابٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَمْنَعُنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ؟ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.
الشيخ: يعني: حكى إجماعَهم على عدم رؤيته ﷺ لربِّه.
س: حجابه النور أم حجابه النَّار؟
ج: المعنى واحد؛ النار هي النور، نار يعني: فيها النور، نعم.
وَنَحن إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِجِبْرِيلَ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ الرَّبِّ تَعَالَى أَعْظَمَ وَأَعْلَى، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ.
وَقَوْلُهُ: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) هَذَا لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَبَهَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الشيخ: يعني أنه يُرى بغير إحاطةٍ ولا كيفيةٍ؛ لأنه أجلّ وأعظم من أن تُحيط به أبصارُ خلقه؛ ولهذا قال سبحانه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103] لا تُدركه يعني: لا تُحيط به، فهو أجلّ وأعظم، وإن رأوا وجهه الكريم، لكن لا يُحيطون به رؤيةً، كما أنهم لا يُحيطون به علمًا، فهو معلوم، وقد آمنوا به، ولكن لا يُحيطون به علمًا، فهكذا لا يُحيطون به رؤيةً، وإنما يُريهم وجهه الكريم سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال - جلَّ وعلا -: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: لا تُحيط به الأبصار، فالإدراك شيء، والرؤية شيء، قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فالتَّرائي غير الإدراك، فالإدراك أخصّ.
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ، كَمَا يُعْلَمُ، وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، قَالَ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
وَقَوْلُهُ: (وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ وَعَلِمَهُ) إِلَى أَنْ قَالَ: (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا) أَيْ: كَمَا فَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْفَاسِدُ الْمُخَالِفُ لَهُ، فَكُلُّ تَأْوِيلٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَلَا مَعَهُ قَرِينَةٌ تَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُبَيِّنُ الْهَادِي بِكَلَامِهِ، إِذْ لَوْ قَصَدَهُ لَحَفَّ بِالْكَلَامِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِظَاهِرِهِ، حَتَّى لَا يُوقِعَ السَّامِعَ فِي اللَّبْسِ وَالْخَطَأ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ بَيَانًا وَهُدًى، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يَحُفَّ بِهِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ؛ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا وَلَا هُدًى، فَالتَّأْوِيلُ إِخْبَارٌ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ لَا إِنْشَاءٌ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَيُعْرَفُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: أَنْ يُصَرِّحَ بِإِرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ الَّذِي لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِالْوَضْعِ، وَلَا يُبَيِّنُ بِقَرِينَةٍ تَصْحَبُ الْكَلَامَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَيْفَ إِذَا حُفَّ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَقِيقَتَهُ وَمَا وُضِعَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ فَهَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ السَّامِعُ لَهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ مُرَادِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُؤَكِّدَةِ كَانَ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ، وَأَمَّا إِذَا تَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِالرَّأْيِ، وَتَوَهُّمٌ بِالْهَوَى.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَحْمِلُهُ عَلَى كَذَا، أَوْ: نَتَأَوَّلُهُ بِكَذَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ، فَإِنَّ مُنَازِعَهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ وُرُودِهِ دَفَعَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ لِلْحَمْلِ مَعْنًى آخَر لَمْ تَذْكُرُوهُ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ، اسْتَدْلَلْنَا بِوُرُودِهِ وَعَدَمِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مَجَازَهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ دَلَالَةً لَا ابْتِدَاءً.
قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ وَإِمَّا كَذِبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، بَلْ يَقْرُنُ بِكَلَامِهِ مَا يُؤَكِّدُ إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ التَّعْمِيَةَ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُنْكَرَ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ وَإِفْهَامَ مُرَادِهِ! كَيْفَ وَالْمُتَكَلِّمُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي الْمَجَازَ، وَيُكَرِّرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ؟
الشيخ: ولا شكَّ أنه سبحانه إنما أنزل كلامه لبيان الحقِّ وإيضاح الحقِّ، فكلامه مثلما قال - جلَّ وعلا -: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو فيما أنزل من القرآن بين الحقَّ، لا من جهة الرؤية، ولا من جهة غيرها، فالواجب الأخذ بما دلَّ عليه القرآن والسنة، وترك التأويل الذي يُخالف ذلك، فهذه طريقة أهل السنة والجماعة: الأخذ بالنصوص، والعمل بما دلَّت عليه، والحذر من التأويل الذي هو التَّكلف، بخلاف أهل البدع من المعتزلة والجهمية وغيرهم.
وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ).
أَيْ: سَلَّمَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهَا بِالشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِضِدِّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ، وَالْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ، فَإِذَا عَارَضَهُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ!
وَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ، لَكِنْ إِذَا جَاءَ مَا يُوهِمُ مِثْلَ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَذَلِكَ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِنَّمَا هُوَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ لَظَهَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلَا يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَارَضَ عَقْلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ أَبَدًا، وَيُعَارَضُ كَلَامُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ بِنَظِيرِهِ، فَيُقَالُ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَدْلُولَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَرَفْعهُمَا رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ، وَتَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَوُجُوبِ قَبُولِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، فَلَوْ أَبْطَلْنَا النَّقْلَ لَكُنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ، وَلَوْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلنَّقْلِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُوجِبًا عَدَمَ تَقْدِيمِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ.
وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِدْقِ السَّمْعِ وَصِحَّتِهِ، وَأَنَّ خَبَرَهُ مُطَابِقٌ لِمُخْبِرِهِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ بَاطِلَةً لِبُطْلَانِ النَّقْلِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا صَحِيحًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَّبَعَ بِحَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ، فَصَارَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ قَدْحًا فِي الْعَقْلِ.
الشيخ: وهذا الذي بُلي به أهل الكلام؛ لما حكَّموا عقولهم وقعوا في الباطل، والله أعطى العقول لمعرفة الحق، فنحن عرفنا الحق بهذا العقل الذي أعطانا الله بالأدلة الشرعية التي علمناها، فإذا قدمنا العقل على النص أبطلنا هذا العقل الذي عرفنا به النص، فصار هذا فسادًا كبيرًا ونكسةً على الإنسان، فالله - جلَّ وعلا - أعطى العباد العقول ليعرفوا الحقَّ بها بأدلتها، فإذا تركوا الأدلة وأبطلوا الأدلة وحكموا العقول صارت الأدلة لا قيمةَ لها حينئذٍ، فصار ما ذهبوا إليه إبطالًا للعقل نفسه الذي عُرفت به الأدلة الشرعية.
فالواجب أن يحكم الدليل الذي عُرف بالعقل صحته، وبالأدلة الشرعية التي تقرر في الشرع أنها أدلة؛ حتى لا نبطل العقول التي فهمنا بها هذه الأدلة، فقد علمنا بالدليل والنص والعقول التي أعطانا الله إياها أن القرآن حق، وأن محمدًا حق، وأن الآخرة حق، فإذا عملنا بخلاف ذلك وكذبنا النصوص التي جاءت بالرؤية أو بغيرها من الصفات أو في أمر الآخرة رجعنا إلى العقل بالإبطال، أبطلنا العقل نفسه الذي عرفنا به الأدلة، وهذا هو الذي سلكه أعداء الله في أعمالهم من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم، فأبطلوا النصوص وحكَّموا العقول فهلكوا.
س: ............؟
ج: تأويل باطل، لا يجوز التأويل، بل يجب رد النصوص المشكلة إلى المحكمة مثلما قال - جلَّ وعلا - في كتابه الكريم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، فالواجب على أهل الإسلام ردّ ما تشابه عليهم إلى المحكم، وألا تُفسر النصوص بغير ما يُخالف المحكم، وإلا رجع إلى إبطال العقول وإفساد الأدلة، والواجب على كل مؤمنٍ أن يدع التأويل، وأن يرد ما تشابه عليه إلى المحكم الواضح، فما تشابه عليه في سمعٍ أو بصرٍ أو في أمر الآخرة أو الجنة أو النار أو غير هذا ردَّه إلى المحكم الذي لا شبهةَ فيه.
س: ............؟
ج: التأويل الذي يُؤوله حتى يُوافق المحكم ........
الشيخ: مثلما تقول في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، ومثلما جاء في لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، تقول: هذه نصوص واضحة لا نُشبهها بأيدينا؛ لأنها وإن أطلقت الأيدي فقد قال - جلَّ وعلا -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فما اشتبه علينا يردّ إلى المحكم، وأن يد الله لا تُشبه أيدينا، وسمعه لا يُشبه أسماعنا، وبصره لا يُشبه أبصارنا، وهكذا، فالمحكم يُفسر بالمشتبه.
س: يقال أن يد الله هي القوة؟
ج: هذا تأويل باطل، قال: بَلْ يَدَاهُ، والقوة ما هي بثنتين، القوة عظيمة عامَّة، وهكذا لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، ما يقال: بقوتي، القوة واحدة، القوة عامَّة.
س: ............؟
ج: ما يجوز، يجب ردّ المشتبه عليه إلى المحكم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، والأصل الحقيقة.
فَالْوَاجِبُ كَمَالُ التَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُعَارِضَهُ بِخَيَالٍ بَاطِلٍ يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا، أَوْ نُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَزبَالَةَ أَذْهَانِهِمْ، فَيُوَحِّدَهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ، كَمَا وَحَّدَ الْمُرْسِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ.
فَهُمَا تَوْحِيدَانِ، لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ، وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، فَلَا يُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ.
الشيخ: كما أنه لا نجاةَ إلا بعبادة الله وحده، فلا نجاةَ إلا بمتابعة الرسول وتحكيمه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فلا إسلامَ ولا إيمانَ إلا بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ولا إسلامَ ولا إيمانَ إلا بتحكيم الشريعة وعدم الخروج عنها.
الشيخ: يعني: كأنَّك بين يدي الرسول، كأنه يُخاطبك، فكيف تعرضه على زيدٍ وعمرو؟! بل يجب أن تتلقَّاه بالقبول، وهكذا قول الله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، هكذا كما تتلقَّى أمر الله بالقبول، هكذا أمر الرسول ﷺ؛ لأنه المبلغ عن الله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى امْتِثَالِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَشْكَلُ قَوْلُهُ لِمُخَالَفَتِهِ رَأْيَ فُلَانٍ، بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ، وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ، بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ وَتُلْغَى لِنُصُوصِهِ، وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ: مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ، وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ قَوْلِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي، وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً، إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَمَارَوْا فِيهَا، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ وَيَقُولُ: مَهْلًا يَا قَوْمِ، بِهَذَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ.
الشيخ: وهذا هو الحق، والحديث هذا سنده صحيح، وهذا هو الحق الذي أوجبه الله على العباد؛ تلقي كتاب الله بالقبول، وسنة الرسول بالقبول: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]، لا ليُضرب بعضه ببعضٍ، ويردّ بعضُه ببعضٍ، وهكذا السنة أنت مأمور بقبولها إذا صحَّت، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ويقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].