الشيخ: كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فتوحيد العبادة هو الذي أُرسلت به الرسل، وأُنزلت به الكتب: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:1- 2].
الشيخ: وهذا هو الحق؛ أن التوحيد الذي هو للخاصَّة الذين هداهم الله هو توحيد العبادة، أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات فهذا توحيد المشركين، وأما جعلهم توحيد العامَّة توحيد الإلهية، وتوحيد الخاصَّة توحيد المشاهدة لله - جلَّ وعلا - ..... والقدم، وتوحيد خاصَّة الخاصة الإيمان بالربوبية ومشاهدة العالم، وأنه ليس هناك أحد إلا الله، فهذا أفضى بهم الآن إلى وحدة الوجود، أعوذ بالله، هذا كلام الملاحدة من الصوفية، نسأل الله العافية.
بل التوحيد هو هذا مثلما قسَّمه أهلُ السنة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة هو الإيمان بأنَّ الله هو المستحق للعبادة، وهو الإله الحق، وأن العبادة يجب صرفها له، وتوحيد الربوبية هو الإقرار بأنَّ الله الخلَّاق الرزاق هو المدبر، هذا أقرَّ به المشركون، وتوحيد الأسماء والصفات هو الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأنها حقّ، وأن الله مُنَزَّه عن مُشابهة الخلق، وله الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا.
الشيخ: وهذا الذي جاهد عليه الرسلُ هو توحيد العبادة، وأمروا الناس بأن يُخلصوا لله العبادة، أما كونه ربهم وخالقهم فهذا أقرَّ به أبو جهل وأشباهه، يعرفون أنَّ الله خالقهم ورازقهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، ولكن التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب أن لا يُعبد إلا الله وحده، المذكور في قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وأفضل الناس في التوحيد وأكملهم الرسل، ثم أولو العزم الخمسة وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، هؤلاء هم أولو العزم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ [الشورى:13]، وأكملهم في ذلك: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ثم بقية المؤمنين بعد الرسل، خواصّ المؤمنين.
وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ قَوْمَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَصِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فَلَا أَكْمَلَ مِنْ تَوْحِيدِ مَنْ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ.
وَكَانَ ﷺ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَقُولُوا: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ التَّوْحِيدُ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ: مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِطْرَةُ الْإِسْلَامِ هِيَ مَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالِاسْتِسْلَام لَهُ عُبُودِيَّةً وَذُلًّا وَانْقِيادًا وَإِنَابَةً.
فَهَذَا هو تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، الَّذِي مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130- 131].
وَكُلُّ مَنْ لَهُ حِسٌّ سَلِيمٌ وَعَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ لا يَحْتَاجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَوْضَاعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ وَاصْطِلَاحِهِمْ وَطُرُقِهِم الْبَتَّةَ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ بِسَبَبِهَا فِي شُكُوكٍ وَشُبَهٍ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا الْحَيْرَةُ وَالضَّلَالُ وَالرِّيبَةُ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا سَلِمَ قَلْبُ صَاحِبِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ مِنَ التَّوْحِيدِ - الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ وَخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ - يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي يُشَمِّرُ إِلَيْهِ غَالِبُ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ دَرْبٌ خَطِرٌ يُفْضِي إِلَى الِاتِّحَادِ.
انْظُرْ إِلَى مَا أَنْشَدَه شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ يَقُولُ:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ | إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ |
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ | عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ |
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ | وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ |
وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُرِدْ بِهِ الِاتِّحَادَ، لَكِنْ ذَكَرَ لَفْظًا مُجْمَلًا مُحْتَمَلًا جَذَبَهُ بِهِ الِاتِّحَادِيُّ إِلَيْهِ، وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ إِنَّهُ مَعَهُ، وَلَوْ سَلَكَ الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي لَا إِجْمَالَ فِيهَا كَانَ أَحَقَّ، مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَامَ حَوْلَهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبًا مِنَّا لَنَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ، فَإِنَّ عَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، فَأَيْنَ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: هَذَا تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟
هَذِهِ النُّقُولُ وَالْعُقُولُ حَاضِرَةٌ، فَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّسُولِ، وَهَذَا كَلَامُ خَيْرِ الْقُرُونِ بَعْدَ الرَّسُولِ، وَسَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، هَلْ جَاءَ ذِكْرُ الْفَنَاءِ فِيهَا؟
الشيخ: وهذا توحيد الخاصَّة، هو توحيد العبادة، هو توحيد المؤمنين، توحيد الرسل، والإيمان بأنَّ الله هو المستحق للعبادة، لا شريكَ له - جلَّ وعلا -، ولا كُفْء له، ولا ندَّ له، هذا هو توحيد الخاصَّة؛ توحيد الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، هو التوحيد الذي شرعه الله لعباده وأمرهم به وألزمهم به، وهو الذي قال فيه جابر: "أهلَّ بالتوحيد" يعني: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وهو التوحيد الذي بيَّنه سبحانه في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، هو تنزيهه عن وجود معبودٍ معه سواه: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما، ليس هناك معبود بحقٍّ سواه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فمَن دعا نبيًّا أو ملكًا أو رجلًا صالحًا أو شمسًا أو قمرًا أو غير ذلك فقد ألحد في دين الله وأتى بالشرك الأكبر، وصار من أبعد الناس عن الله، وإنما التوحيد والإيمان أن تخصَّ الله بالعبادة، مع طاعة الأوامر وترك النَّواهي.
هَلْ جَاءَ ذِكْرُ الْفَنَاءِ فِيهَا وَهَذَا التَّقْسِيمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؟ وَإِنَّمَا حَصَلَ هَذَا مِنْ زِيَادَةِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، الْمُشْبِهِ لِغُلُوِّ الْخَوَارِجِ، بَلْ لِغُلُوِّ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ وَنَهَى عَنْهُ، فَقَالَ تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، وَقَالَ ﷺ: لَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ: رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
الشيخ: علَّق على الذي رواه أبو داود؟
الطالب: قال: في "الأدب" باب "في الحسد"، وأخرجه كذلك أبو يعلى من حديث سعيد بن عبدالرحمن ابن أبي العمياء: أن سهل ابن أبي أُمامة حدَّثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالكٍ بالمدينة، وذكر صفةَ صلاة عمر بن عبدالعزيز، فقال: إنَّ رسول الله ﷺ كان يقول: لا تُشددوا، وسنده قابل للتَّحسين، وذكره السيوطي في "الجامع الكبير" وزاد نسبته إلى الضياء، ورواه من حديث سهل بن حنيف البخاري في "تاريخه"، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، "مجمع البحرين"، وفي سنده عبدالله بن صالح - كاتب الليث - وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات.
الشيخ: عبدالله بن صالح لا بأس به، احتجَّ به البخاري، وروى عنه البخاري - رحمه الله -، والشواهد كثيرة أن الرسول ﷺ حذَّر من البدع والتَّشديد، فلا ينبغي لعاقلٍ أن يُشدد، بل ينبغي له أن يرضا بما رضي الله به.
ولما رأى النبيُّ ﷺ حبلًا بين السواري مُعلَّقًا قال: ما هذا؟ قالوا: فلانة كانت إذا تعبت تعلَّقت به للتهجد في الليل، قال: اقطعوه، اكلفوا من العمل ما تُطيقون، فإنَّ الله لا يملّ حتى تملوا.
ولما قال جماعةٌ من الصحابة قال أحدهم لما سألوا عن أمر النبي ﷺ كأنهم تقالُّوا عمل النبي، فقال أحدهم: أما أنا فأُصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أُفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فلما بلغ النبي ﷺ ذلك خطب الناس وقال: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟! لكني أُصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني، حذَّر من التَّشديد والمبالغات والبدع والتَّكلف.
قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ).
اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَكِنْ لَفْظ التَّشْبِيهِ قَدْ صَارَ فِي كَلَامِ النَّاسِ لَفْظًا مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَا نَفَاهُ الْقُرْآنُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ؛ مِنْ أَنَّ خَصَائِصَ الرَّبِّ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ.
الشيخ: وهذا صريح في قوله - جلَّ وعلا -: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله جلَّ وعلا: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة:22]، وهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شبيهَ له، له السمع الكامل، والبصر الكامل، والقوة الكاملة، والكلام الكامل، والرحمة الكاملة، والعزّ الكامل، إلى غير هذا، لا شبيهَ له، كل ما اتَّصف به كمال محض لا نقصَ فيه، فلهذا لا شيء مثله، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ الْمُشَبِّهَةِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رَدٌّ عَلَى النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ، فَمَنْ جَعَلَ صِفَاتِ الْخَالِقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ فَهُوَ الْمُشَبِّهُ الْمُبْطِلُ الْمَذْمُومُ، وَمَنْ جَعَلَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَالِقِ فَهُوَ نَظِيرُ النَّصَارَى فِي كُفْرِهِمْ.
وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَا يُقَالُ: لَهُ قُدْرَةٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا حَيَاةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ! وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ: حَيٌّ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَإِرَادَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
الشيخ: هذا قول الجهمية، معناه التعطيل، يعني: إذا كان لا يُقال له: رحيم، ولا سميع، ولا بصير، معناه التعطيل، معناه العدم، ولكن له الحياة، وله السمع، وله البصر، وله الكلام، وله الرضا، وله الغضب، لكن لا مثلَ له، ليس كمثله شيء، يغضب لا كغضبنا، ويرضا لا كرضانا، ويسمع لا كسمعنا، ويُبصر لا كبصرنا، فله السمع الكامل، يسمع دبيب النَّملة السوداء في الصخرة الصَّماء في الليلة الظَّلماء، له السمع الكامل، والبصر الكامل، لا يُشبهه شيء؛ لأنَّ له الكمال المطلق في جميع صفاته سبحانه وتعالى، أما المخلوق فصفاته ضعيفة: سمعه ضعيف، وبصره ضعيف، وحياته ضعيفة، أقل شيءٍ يُؤثر عليه، إذا أعطيته حاجةً من الحاجات: ثوب صفيق ...... كل شيء محدود، فعقله محدود، وبصره محدود، وكلامه محدود يسمعه مَن حوله، إلى غير ذلك.
وَهُمْ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، حَيٌّ. وَالْمَخْلُوقُ يُقَالُ لَهُ: مَوْجُودٌ، حَيٌّ، عَلِيمٌ، قَدِيرٌ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا تَشْبِيهٌ يَجِبُ نَفْيُهُ، وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ عَاقِلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءَ، وَسَمَّى بِبَعْضِهَا صِفَاتِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْمُسَمَّى كَالْمُسَمِّي، فَسَمَّى نَفْسَهُ: حَيًّا، عَلِيمًا، قَدِيرًا، رَؤُوفًا، رَحِيمًا، عَزِيزًا، حَكِيمًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مَلِكًا، مُؤْمِنًا، جَبَّارًا، مُتَكَبِّرًا. وَقَدْ سَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28]، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101]، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79]، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا [السجدة:18]، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُ الْحَيُّ الْحَيَّ، وَلَا الْعَلِيمُ الْعَلِيمَ، وَلَا الْعَزِيزُ الْعَزِيزَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255]، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15].
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ ليَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشيخ: وهذا حديث عظيم في الاستخارة، فيه إثبات الصِّفات العظيمة، والاستخارة هي الشيء الذي قد يشتبه على الإنسان عاقبته، أو كيف الوصول إليه، أما الشيء الواضح الذي ما فيه شبهة فهذا ما فيه استخارة؛ كيف يصلي، كيف يصوم، ما في استخارة، كيف يتغدَّى، كيف يتعشَّى، لكن الشيء الذي يُهمه ويقع عنده فيه اشتباه مثل: يريد أن يخطب بنت فلانٍ وعنده شكٌّ: هل هي مناسبة أو لا، يستخير الله: اللهم إن كنت تعلم أنَّ زواجي من فلانة خير لي في ديني ودنياي، فهذا طيب، يُسافر للمدينة، لمكة، لمصر، للشام وعنده شكٌّ في السفر؛ الطريق فيه خطر، فيقول: اللهم إني أستخيرك إن كان سفري .. إلى آخره، يريد أن يشتري بيتًا، أو يريد أن يشتري نخلًا وعنده شكّ: هل هو مناسب أو ما هو مناسب، يستخير الله: اللهم إن كنت تعلم أن شرائي لهذا البيت أو شراء هذا النخل خير لي في ديني ودنياي، يستخير، فهذا للشيء الذي فيه شبهة، وإلا ما يقول: اللهم إن كنت تعلم أن صلاة الظهر خير لي، أو صلاة العصر، لا، هذا ما فيه استخارة، أو: اللهم إن كنت تعلم أن حجِّي أو صومي شهر رمضان، لا، ما فيه استخارة، لكن لو كان في الطريق -طريق الحج: اللهم إن كنت تعلم أن سلوكي الطريق الفلاني خير لي، أو سلوكي الطريق الفلاني خير لي، أو حجي هذا العام خير لي؛ لأسباب حروب، أو لأسباب أشرار، فالاستخارة إذا همَّ أحدُكم بأمرٍ: يعني في أمرٍ له فيه شُبهة يستخير.
الشيخ: وهذا حديث جيد وصحيح، له معانٍ عظيمة، رواه النَّسائي، هذا عظيم، عن عمار بن ياسر: اللهم بعلمك الغيب، وقُدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، هذا الدعاء العظيم .. إلى آخره، دعاء عظيم اشتمل على ثلاثة عشر سؤال.