وسئل الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن عن كيفية حياة الرسول ﷺ في قبره؟ وهل هي كحياة الشهداء أم أعلى عند الله؟
فأجاب: الجواب وبالله التوفيق: قال الحافظ الحُجَّة شمسُ الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى -: لم يرد حديثٌ صحيحٌ أنه ﷺ حيٌّ في قبره، ولكن نقطع أنَّ الأنبياء لا سيما خاتمهم وأفضلهم محمد ﷺ أعلى مرتبةً من الشهداء. وقد قال سبحانه وبحمده عن الشهداء إنَّهم: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، ومع ذلك فالشهداء داخلون في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
فأثبت سبحانه للشُّهداء موتًا بدخولهم في العموم كالأنبياء، وهو الموت المُشاهد، ونفى عنهم موتًا؛ فالموت المُثبت غير الموت المنفي؛ فالموت المُثبت هو: فراق الروح الجسد، وهو مشاهد محسوس، والمنفي: زوال الحياة بالجملة من الروح والبدن.
وقال البيضاوي على قوله سبحانه: بَلْ أَحْيَاءٌ: فيه تنبيه على أنَّ حياتهم ليست بالجسد، ولا بجنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمرٌ لا يُدرك بالعقل، بل بالوحي. انتهى.
الشيخ: ولهذا قال تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فهم أحياء عند ربهم، ما هم في الدنيا، أجسامهم في الدنيا أجسام الموتى، ولأجسامهم نصيبها من النعيم، وهم مع ذلك عند ربهم يُرزقون، جاء في الحديث الصحيح أنَّ أرواحهم تسرح في الجنة حيث شاءت - أرواح الشهداء - ثم تأوي إلى قناديل مُعلَّقة تحت العرش، حتى يردَّها الله إلى أجسادها، وهكذا أرواح الأنبياء في النعيم، روح النبي ﷺ في أعلى عليين، وهكذا كل مؤمنٍ روحه في الجنة، كما جاء في الحديث الصحيح: أنَّ أرواح المؤمنين في الجنة، تسرح في الجنة حيث شاءت في صور طيرٍ، روح كل مؤمنٍ كطائرٍ يعلق في الجنة، يأكل من ثمارها.
أما أرواح الشهداء فهي مُستقلة في أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنة حيث شاءت، فعوَّضهم الله عن أجسادهم بالطيور الخضر تحملهم.
وأما أرواح المؤمنين فهي مُستقلة، روح مستقلة في صورة طائرٍ، جعلها الله طائرًا يسرح في الجنة حيث شاء، حتى يردَّها الله إلى أجسادها، كما ثبت في الحديث الذي رواه مالك وغيره بإسنادٍ صحيحٍ.
وقال ﷺ: ما من مسلمٍ يُسلم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام كما رواه أبو داود بإسنادٍ جيدٍ.
الشيخ: إذا كانت أرواح الشّهداء في أجواف طيرٍ خضرٍ فالأنبياء أفضل منهم، فروحه في أعلى عليين، وهكذا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت، وأرواح كل المؤمنين كذلك.
س: في الإسراء أعيدت أجساد الأنبياء؟
ج: قاموا، مثَّلهم الله بالسَّماوات بأجسادهم أحياء، ثمانية: آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وموسى وهارون وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، رآهم على صفتهم، سلَّموا عليه وكلَّمهم، ولا يمنع هذا موتهم، إلا عيسى فلم يمت، عيسى حتى الآن لم يمت، يموت في آخر الزمان، ينزل إلى الأرض ويحكم بشريعة محمدٍ ثم يموت عند خروج الدَّجال.
وليس ذلك خاصًّا به ﷺ؛ لحديثٍ تقدم عنه أنه ﷺ قال: ما من مسلمٍ يمرّ بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا، فيُسلم عليه، إلا ردَّ الله عليه روحه حتى يردَّ عليه السلام.
وفي "صحيح مسلم" عنه ﷺ: إنَّ أرواح الشُّهداء في حواصل طيرٍ خضرٍ تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش الحديث.
وقد أخبر الله سبحانه أنَّهم في البرزخ: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
الشيخ: ما قال في الدنيا، قال: عِنْدَ رَبِّهِمْ، ما قال: في قبورهم، قال: عند ربهم.
الشيخ: يعني النبيَّ ﷺ.
وقد قام الدليلُ القاطعُ أنه عند النَّفخة في الصور لا يبقى أحدٌ حيًّا، فلو كان الأمرُ كما يزعمون لكان الله قد يجمع عليه موتتين.
ولما قال ﷺ: أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة؛ فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا: كيف تُعرض عليك وقد أرمتَ – يعني: بليتَ - قال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولم يقل لهم: أنا حيٌّ في قبري كحياتي الآن، صلوات الله وسلامه عليه. انتهى كلامه - رحمه الله.
الشيخ: وهذا فيه ردٌّ على القبوريين عُبَّاد الأوثان؛ فإنهم يزعمون أنَّ الرسول في قبره حيٌّ، ويدعونه، ويستغيثون به، وينذرون له، هذا من جهلهم وضلالهم؛ لأنَّ الدعاء والاستغاثة والعبادة لله وحده.
والنبي ﷺ لو كان حيًّا لم يجز أن يُستغاث به فيما لا يقدر عليه، إنما يُستغاث بالله، وإنما يُطلب منه ما يقدر عليه، وهكذا الأنبياء، وهكذا غيرهم، وأما بعد الموت فلا يُسألون شيئًا، ولا يُطلب منه شيء، بل لله وحده العبادة ، وقد بيَّن ﷺ أن أرواح الشُّهداء تسرح في الجنة حيث شاءت، وأن أرواح المؤمنين في الجنة، وأنها ترد عليه روحه إذا سُلِّم عليه، فدلَّ على أنها قد غادرت جسده.
س: حديث: ما من مسلمٍ يمرّ على قبر أخيه؟
ج: حديث فيه نظر، ذكره ابنُ عبد البر رحمه الله وقوَّى إسناده، ولكن ما وقفتُ على إسناده، نقلوه عن ابن عبد البر، ولكن ما وقفتُ عليه.
الشيخ: والملائكة ليسوا بأمواتٍ، أحياء، ولكنَّهم في طاعة ربهم وامتثال أوامره.
س: الأنبياء والصِّديقون والشهداء والأطفال لا يُفتنون في قبورهم؟
ج: الله أعلم، أما الأنبياء فالظاهر والله أعلم أنهم لا يُفتنون؛ لأنَّ الله قد صانهم وحماهم، وأما غيرهم فكلّ يُفتن إلا الأطفال، الأطفال ما كُلِّفوا، الأطفال ما عليهم فتنة؛ لأنهم ما كُلِّفوا، أما غيرهم فكلّ يُمتحن في قبره ما عدا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فمعلوم أنهم لهم العصمة.
س: الشهيد يُفتن في قبره؟
ج: يُنظر في الأحاديث الواردة في ذلك.
س: سماع الميت في قبره، يسمع؟
ج: الله أعلم، أما النبي ﷺ فقال: فإنها تُرد عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام، أما الأموات ففي الحديث هذا الذي رواه ابن عبد البر: ما من مسلمٍ يمر على قبرٍ كان يعرفه في الدنيا ويُسلم عليه إلا ردَّ الله عليه روحه، هذا إن صحَّ يكون خاصًّا، إن صحَّ، أما حديث أنه يسمع قرع نعالهم، هذه خاصة أول ما يُدفن، حين تُرد إليه روحه حتى يُجيب الملائكة، يسمع قرع نعال الذين ولَّوا مُدبرين عنه ممن شيَّعه، وليس هذا دالًّا على أنه دائمًا يسمع، هذه أمور غيبية لا يثبت منها شيء إلا بالدليل، أمور غيبية لا يجوز أن يثبت منها شيء إلا بالدليل الثابت، فالأصل أنهم لا يسمعون؛ قال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، وقال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، فالأصل أنهم لا يسمعون، إذا مات الميتُ انقطع عمله إلا ما دلَّ عليه الدليل.
وقال ابنُ القيم - رحمه الله - أيضًا: وأما السلام على القبور وخطابهم فلا يدل على أنَّ أرواحهم ليست في الجنة، وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى ﷺ، يُسلَّم عليه عند قبره، ويردّ سلام المُسلِّم عليه.
وقد وافق ابن عمر أن أرواح الشُّهداء في الجنة، ويُسلم عليهم عند قبورهم، كما يُسلم على غيرهم.
كما علمنا ﷺ أن نُسلم عليهم، وكما كان الصحابةُ يُسلمون على شُهداء أحد وقد ثبت أنَّ أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم.
ولا يضيق عطنك عن كون الأرواح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المُسلِّم عليها عند قبرها، وتدنو حتى تردَّ عليه السلام، وللروح شأن آخر غير شأن البدن.
الشيخ: ..... ربنا جلَّ وعلا يقول للشيء: كن، فيكون، فلا يُعجزه سبحانه أن يردَّ روحه إليه عند السلام ثم ترجع إلى حالها في الجنة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] سبحانه لا يُعجزه شيء، ولكن المعول على النصوص، ما ثبت في الدليل هذا هو محل النظر، وإلا فهو سبحانه على كل شيءٍ قدير - جلَّ وعلا.
س: ...........؟
ج: نعم خاصة.
س: حديث أبي سعيدٍ الخدري في "الصحيحين" أن النبي ﷺ قال: إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجالُ على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحةٍ قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها؟!
ج: هذا خاص في هذه الحالة، هذا بالنص لهذه الحالة، ما يلزم أنها في كل وقتٍ تسمع أو تقول، إنما يُوقف عند النصوص فقط، لا يُزاد على النصوص.
س: ابن عبد البر ذكر ........؟
ج: نقله عنه، ما أتذكر أين ذكره في "التمهيد" أو في غيره ذكروه عنه، لكن ما أذكر أين ذكره؟ هل في "التمهيد" أو في "جامع العلم وفضله" أو في غيرهما؟ له كتب رحمه الله، له "التمهيد" و"الاستذكار" و"جامع العلم وفضله"، وله كتب أخرى.
س: الصُّوفيون يستدلون بحديث ردِّ روح الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في السلام أنه يعني يقولون: إن ملايين البشر يُسلِّمون على الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعني لا بدَّ أن تكون روحُه في جسده باستمرار، وإلا كيف يرد السلام على هذه الملايين؟
الشيخ: ما هو على كل حالٍ، لفظ الحديث مُقدَّم على خُرافاتهم.