27 الله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ).

قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ دَعَاهُ لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا.

وَإِجَابَةُ اللَّهِ لِدُعَاءِ الْعَبْدِ -مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا- وَإِعْطَاؤُهُ سُؤْلَهُ؛ مِنْ جِنْسِ رِزْقِهِ لَهُمْ، وَنَصْرِهِ لَهُمْ، وَهُوَ مِمَّا تُوجِبُهُ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي حَقِّهِ وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ كُفْرُهُ وَفُسُوقُهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَفِي "سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ.

الشيخ: أيش قال عليه؟

الطالب: صحيح، وهو مخرج في "المشكاة". رواه ابن ماجه، ورواه أيضًا الإمام أحمد في "المسند"، وكذلك رواه الترمذي. وكذلك رواه البزار، كما ذكر ابن كثير في "التفسير". واللفظ الذي هنا هو لفظ الترمذي والبزار.

الشيخ: وشعيب؟

الطالب: يقول: أخرجه ابن ماجه في أول الدعاء بلفظ: مَن لم يدعو الله يغضب عليه، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ: مَن لم يسأل الله غضب عليه، وأخرجه أحمد بلفظ: مَن لا يسأله غضب عليه، وهو في "المستدرك" بلفظ: مَن لا يدعو الله غضب عليه. كلها من رواية أبي صالح الخوزي، عن أبي هريرة، وأبو صالح الخوزي ضعَّفه ابن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وباقي رجاله ثقات، ومع ذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقد ظنَّ الحافظُ ابن كثير أنَّ أبا صالح هذا هو السمان؛ فجزم بأنَّ أحمد تفرد بتخريجه، قال الحافظ في "الفتح": وليس كما قال، قد جزم شيخه المزي في "الأطراف" بأنه الخوزي، ووقع في رواية الحاكم والبزار عن أبي صالح الخوزي: سمعتُ أبا هريرة. وفي الباب ما يُؤيده عند الترمذي من حديث ابن مسعودٍ رفعه: سلوا الله من فضله؛ فإنه يُحب أن يُسأل، وله من حديث ابن عمر رفعه: إنَّ الدُّعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء، وفي سنده لين، وأخرج الطبراني في "الدعاء" بسندٍ رجاله ثقات -إلا أنَّ فيه عنعنة بقية- عن عائشة مرفوعًا: إنَّ الله يُحب المحسنين في الدُّعاء.

الشيخ: وشواهد هذا الحديث كثيرة: حديث عن النعمان بن بشير في السنن الأربعة بإسنادٍ جيدٍ: الدعاء هو العبادة، وفي لفظٍ آخر: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.

والدعاء أجمع عليه المكلَّفون من المسلمين، ومن غير المسلمين؛ ولهذا أجمع أهلُ السنة والجماعة على أنَّ الدعاء من أفضل العبادات، ومن أفضل الأسباب وأعمها وأجمعها، والدعاء بإجماع أهل العلم ينفع الحيَّ والميت، وهو سلاح المؤمن، وقد أخذ الشاعرُ من حديث: مَن لا يسأل الله يغضب عليه فقال:

الله يغضب إن تركتَ سؤاله وبُنَيّ آدم حين يُسأل يغضب

فالمقصود أنه جلَّ وعلا لكرم جوده وسعة عطائه وعظيم إحسانه يُحب أن يُسأل، ويُحب أن يُدعا، ويُحب الإلحاح في الدعاء جلَّ وعلا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: دعوتُ دعوتُ فلم أره يُستجاب لي، فحينئذٍ يستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.

فينبغي للمؤمن أن يُكثر من الدعاء دائمًا، ولا سيما في المهمات، مثل: سؤال الله الجنة، والتَّعوذ به من النار، وسؤال الله العفو، وسؤال الله صلاح قلبه وصلاح عمله، وسؤال الله حسن الختام، فالدعاء له شأن عظيم؛ ولهذا يقول سبحانه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

ولا ريب أنَّ المعاصي من أعظم أسباب منع الإجابة: كالربا وغير هذا من المحرَّمات وسائر المعاصي، كلها من أسباب حرمان الإجابة، فليحذر العبد تعاطي أسباب الحرمان، ويجتهد في الاستقامة على أمر الله، والبُعد عن معاصيه، وليلحّ في الدعاء، وليتحرَّ أوقات الإجابة: في آخر الليل، والسجود، وآخر الصلاة، وبين الأذان والإقامة، ويوم الجمعة، فهذه أوقات لها شأنها، فينبغي له أن يدعو الله بصدقٍ وإخلاصٍ وإقبالٍ عليه جلَّ وعلا، وإذا كان عن طهارةٍ واستقبال القبلة كان ذلك أكثر إجابةً، وأقرب إلى الإجابة.

س: الدّعاء هو العبادة أليس في البخاري؟

ج: لا، في السنن.

س: قوله: إجابة الدّعاء قد يكون ضررًا عليه؟

ج: قد يسأل الله شيئًا يضرّه؛ قد يسأل الله المالَ الكثير، أو يسأل الله الزوجة الفلانية، وقد يسأل الله بعض الأولاد؛ فيُضرُّ بهذا، لما سبق في علم الله من هؤلاء، ولكن يتحرى الخير، ويسأل ربَّه أن يكون ما أعطاه خيرًا له، لا يتساهل، كم من زوجةٍ أهلكت صاحبَها، كم من ولدٍ أهلك صاحبه، كم من مالٍ هلك به صاحبه، نسأل الله السَّلامة.

وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ:

الرَّبُّ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدُّعَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا: الْوُجُودُ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُدْعَا.

الشيخ: يعني: كونه يُدعا دليل على وجوده وسماعه وغناه، فلولا أنه يسمع، وأنه موجود، وأنه غني، وأنه قادر، لما شرع الدعاء، فإن الفقير كيف يُعطي؟ ومَن لا يسمع كيف يُعطي؟ ومَن ليس بموجودٍ كيف يُعطي؟ وكيف يُسأل؟ ومَن ليس غنيًّا كذلك، ومَن ليس عليمًا بأحوال عباده كذلك، فهذا يُفيد العلم والحياة والوجود والغنى والرحمة والإحسان .

الثَّانِي: الْغِنَى، فَإِنَّ الْفَقِيرَ لَا يُدْعَا.

الثالث: السمع، فإنَّ الأصمَّ لا يُدْعا.

الرَّابِعُ: الْكَرَمُ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ لَا يُدْعَا.

الْخَامِسُ: الرَّحْمَةُ، فَإِنَّ الْقَاسِيَ لَا يُدْعَا.

السَّادِسُ: الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ الْعَاجِزَ لَا يُدْعَا.

الشيخ: كذلك العلم، مَن لا يعرف أحوال عباده كيف يُدعا؟ مَن لا يعرف أحوالهم حتى يعرف صدقهم في دعائهم فإنه لا يُدعا، فلولا أنه يعرف أحوالهم لما شرع الدّعاء، فإنه يعلم الدَّاعي هل هو صادق أو كاذب؟

الطالب: أبو صالح الخوزي لين الحديث، من الثالثة، البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي، وابن ماجه.

وَمَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ لَا يُقَالُ لَهَا: كُفِّي! وَلَا النَّجْمُ يُقَالُ لَهُ: أَصْلِح مِزَاجِي! لِأَنَّ هَذِهِ عِنْدَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ طَبْعًا لَا اخْتِيَارًا، فَشَرَعَ الدُّعَاءَ وَصَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ لِيُبَيِّنَ كَذِبَ أَهْلِ الطَّبَائِعِ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيةِ الْمُتَصَوِّفَةِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ! قَالُوا: لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِنِ اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ! وَقَدْ يَخُصُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ خَوَاصَّ الْعَارِفِينَ! وَيَجْعَلُ الدُّعَاءَ عِلَّةً فِي مَقَامِ الْخَوَاصِّ! وَهَذَا مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ.

الشيخ: وهذا من أقبح الجهل.

فَكَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الدُّعاء أمر أُنشئت عَلَيْهِ تَجَارِبُ الْأُمَمِ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ تَقُولُ: ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ بِفُنُونِ اللُّغَاتِ تُحلل مَا عَقَدَتْهُ الْأَفْلَاكُ الْمُؤَثِّرَاتُ! هَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.

وَجَوَابُ الشُّبْهَةِ بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: فَإِنَّ قَوْلَهُمْ عَنِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَهُ أَوْ لَا. فثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنْ تَقْتَضِيَهُ بِشَرْطٍ لَا تَقْتَضِيهِ مَعَ عَدَمِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ مِنْ شَرْطِهِ، كَمَا تُوجِبُ الثَّوَابَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَكَمَا تُوجِبُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِمَا.

الشيخ: المسببات كلها بابها واحد، المسببات مربوطة بأسبابها، وهذا لازم القدرية، ولازم الآخرين ممن ليس عندهم بصيرة، فإنه قدَّر الأشياء سبحانه، وقدَّر أسبابها ومُسبباتها، فالشِّبع له أسباب، والجوع له أسباب، والغنى له أسباب، والفقر له أسباب، والمرض له أسباب، والصحة لها أسباب، والجنة لها أسباب، والنار لها أسباب، فمعنى هذا تعطل كل شيءٍ.

وَحُصُولَ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ، وَالزَّرْعَ بِالْبَذْرِ. فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ: لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْبَذْرِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ.

فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْو الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاض عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. وَمَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ يَتَأَلَّفُ مِنْ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

الشيخ: الله أعلم، هو موجب التوحيد، وموجب العقل، وموجب الشرع، الشرع يُوجب الأسباب، والعقل يقتضي الأسباب، والتوحيد كذلك، فالتوكل هو اعتماد على الله وثقة به، مع تعاطي الأسباب، هذا موجب التوحيد، هو توحيد الله، والاعتماد عليه، والثقة بالأسباب التي شرعها: من طاعة الأوامر، وترك النَّواهي، فالعقل يقتضي ذلك، عقل العاقل المتبصر يعقل أنَّ الله جلَّ وعلا هو ربه وموجده، وأنه شرع له أسبابًا لا بدَّ من تعاطيها لأكله وشربه ونكاحه وأولاده وغير ذلك، والشرع يُوجب هذا أيضًا، أوجب تعاطي الأسباب، والبُعد عن ضدِّها، فأوجب النكاح، وأوجب الكسب، وأوجب طاعة الأوامر، وترك النَّواهي.

وَمَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ يَتَأَلَّفُ مِنْ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

الشيخ: لعله نقلها من كلام ابن القيم أو غيره، فعباراته وشرحه في الغالب نقول من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير.

س: أليس المراد أنَّ التوحيد يتكون من هذه، مجموع هذه الأشياء؟

ج: ....... وجوب التوحيد، مُؤولة، بمعنى: أنه يُوجبه التوحيد، ويُوجبه العقل، ويُوجبه الشرع، فيُوجبه التوحيد والعقل والشرع، فيتكون التَّوكل من هذه الأمور: من إخلاص العبادة لله وحده، والاعتماد عليه، والثقة به، مع الأخذ بالأسباب، والتَّعاطي للأسباب، فالالتفات للأسباب والاعتماد عليها هذا نوعٌ من الشرك، فكونه يعتمد على الأسباب في بيعه وشرائه وزراعته، وينسى الله نوعٌ من الشرك، ونوع من الغفلة، ونوع من المعصية، وكونه يمحو أن تكون أسبابًا ويقول: ليست لي أسباب. هذا نقص في العقل، فالناس يعرفون أنها أسباب، ويعقلون أنَّ الأكل سبب للشّبع، ويعقلون أنَّ البذر والسَّقي سبب للنبات، ويعقلون أن النكاح والجماع سبب للحمل، هذا شيء معقول، فمَن محا هذا فهو فاقد العقل.

الأمر الثالث: الإعراض عن الأسباب، وعدم الالتفات إلى الأسباب، فهو يجهر أنها أسباب، لكن يُعرض عنها، ولا يُبالي بها، فهذا قدح في الشرع؛ لأنَّ الشرع أمر بالأسباب، إذا قال: لست ببائعٍ، ولا مُشترٍ، وسأجلس في المسجد أنتظر الرزق. فهذا أولًا نقص في العقل بلا شكٍّ كما تقدم، ثانيًا: معارض للشرع، فإنَّ الشرع أمره أن يأخذ بالأسباب، ويتعاطى الأسباب الدِّينية والدنيوية جميعًا، فمَن أعرض عنها فقد خالف الشرع، ومَن قال: إنها ليست بأسباب، فقد خالف الشرع والعقل جميعًا، ومَن اعتمد عليها كذلك خالف الشرع، فإنَّ الاعتماد ليس عليها، بل على الله، يتوكل على الله ويأخذ بالأسباب، فالله إن شاء نفع بها، وإن شاء أبطلها .

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يُسَخَّرْ.

س: قوله: مُسبِّب الأسباب؟

ج: نعم، هو الذي بحكمته وقُدرته جعلها أسبابًا، وهو مُسببها ومُوجدها.

وَقَوْلُهُمْ: إِنِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الْمَطْلُوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ!

قُلْنَا: بَلْ قَدْ تَكُونُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ.

الشيخ: والتَّعبد بالسبب وتعاطيه كما أمر الله، واعتقاد أنَّ الله شرعه وأمر به هذا أيضًا فائدة.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ!

قُلْنَا: بَلْ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ: مِنْ جَلْبِ مَنَافِعَ، وَدَفْعِ مَضَارَّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، بَلْ مَا يُعَجِّلُ لِلْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ رَحِيمٌ، وَإِقْرَارِهِ بِفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَلِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ.

الشيخ: ولهذا جاء في الحديث الصحيح: ما من عبدٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثم ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تُدخر له في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من الشرِّ مثل ذلك، قيل: يا رسول الله، إذًا نُكثر، قال: الله أكثر.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ مُعَلَّلًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ، كَمَا يُعْقَلُ من إعطاء المسؤول للسَّائل، كان السَّائل قد أثَّر في المسؤول حَتَّى أَعْطَاهُ؟!

قُلْنَا: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْعَبْدَ إِلَى دُعَائِهِ، فَهَذَا الْخَيْرُ مِنْهُ، وَتَمَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ : "إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ".

وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْذِفُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَرَكَةَ الدُّعَاءِ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِلْخَيْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ، كَمَا فِي الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ، فَمَا أَثَّرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلْ هُوَ جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ.

قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَوَجَدْتُ مَبْدَأَهُ مِنَ اللَّهِ، وَتَمَامَهُ عَلَى اللَّهِ، وَوَجَدْتُ مِلَاكَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ.

وَهُنَا سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن قد يسأل الله فلا يُعطى، أَوْ يُعْطَى غَيْرَ مَا سَأَلَ؟!

وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ، فِيهَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ مُحَقَّقَةٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ عَطِيَّةَ السُّؤَالِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَتْ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَالدَّاعِي أَعَمُّ مِنَ السَّائِلِ، وَإِجَابَةُ الدَّاعِي أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السَّائِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟.

فَفَرْقٌ بَيْنَ الدَّاعِي وَالسَّائِلِ، وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْطَاءِ، وَهُوَ فَرْقٌ بين الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، كَمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُسْتَغْفِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ السَّائِلِ، فَذَكَرَ الْعَامَّ ثُمَّ الْخَاصَّ ثُمَّ الْأَخَصَّ.

وَإِذَا عَلِمَ الْعِبَادُ أَنَّهُ قَرِيبٌ، مجيب دعوة الدَّاعي؛ علموا قُربه منهم، وتمكنهم من سؤاله، وعلموا عِلْمَهُ وَرَحْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ، فَدَعَوْهُ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ فِي حَالٍ، وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ فِي حَالٍ، وَجَمَعُوا بَيْنَهُمَا فِي حَالٍ، إِذِ الدُّعَاءُ اسْمٌ يَجْمَعُ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ، وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] بِالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ الْعِبَادَةُ، وَالدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ الطَّلب. وقوله بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَابَةَ دعاء السؤال أعمّ من إعطاء عين السؤال، كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ": أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ بِهَا إِحْدَى ثلاث خصالٍ: إما أن يُعجل له دَعْوَتَهُ، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ.

الشيخ: ............

الطالب: قال: صحيح، ولكنه ليس في "صحيح مسلم"، وإنما أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيدٍ الخدري، وصححه الحاكم والذهبي، وهو كما قال.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: لقد وهم المصنفُ رحمه الله في عزوه الحديث إلى "صحيح مسلم"؛ فإنه ليس فيه، وهو في "المسند" من حديث أبي سعيدٍ الخدري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وأورده الهيثمي في "المجمع" ونسبه لأحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني في "الأوسط"، وقال: ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير علي بن علي الرفاعي، وهو ثقة. وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند الترمذي، وعن جابر عنده أيضًا، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعو بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ فلم أره يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدُّعاء.

الشيخ: .............

الطالب: ............

الشيخ: مثلما قالوا، أصله ليس في "صحيح مسلم"، ..........، وليس في "صحيح مسلم"، ولكن فيه أيضًا ........ عندكم: مثلها؟ .........

الطالب: نعم، قوله: أَوْ يُدَّخَر لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلُهَا، أَوْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلُهَا.

الشيخ: .......... أو يدَّخرها له في الآخرة، الدَّعوة، .........: ما من عبدٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تُدَّخر له في الآخرة، قال: وإمَّا أن يُصرف عنه من الشرِّ مثل ذلك، فالمثلية في الأخير، ..... في الأوسط: تُدَّخر له في الآخرة، تُراجع روايته.

الطالب: إن شاء الله تُراجع.

الشيخ: والحديث صحيح، وفيه دلالة على أنَّ الاستجابة لا يلزم منها أن تكون على طبق ما أراد الدَّاعي وسأل الداعي، لكن الدَّاعي على خيرٍ عظيمٍ، إذا دعا ربَّه وسأل ربَّه فهو على خيرٍ، في عبادةٍ، وفي أجرٍ إذا أخلصه لله، وعلى عبادةٍ، لكن قد تُعجل له دعوته التي طلب: كالولد والزوجة وصلاح الذرية وأشباه ذلك، وقد تُدخر له الدَّعوة في الآخرة، قد يطلب شيئًا في الدنيا فيُدخر له عوضًا له في الآخرة، لا يُعطاه، ولا يُعجل له في الدنيا؛ لأنَّه الحكيم ، هو أعلم بمصالح عباده، وهو أحكم فيما يأتي ويذر جلَّ وعلا، وقد يصرف عنه من الشرِّ مثل ذلك، بدلًا من إعطائه رغبته، فهو قد يطلب الغنى، ويُصرف عنه شر ٌّكثيرٌ، وقد يطلب الأولادَ، فلا يكون في حكمة الله أن يُعطى تلك الأولاد، ويُصرف عنه من الشرِّ مثل ذلك، أو ما هو أرجح من إعطائه الأولاد، وقد يطلب زوجةً -امرأةً مُعينةً- فرُزق ما هو خير منها وأفضل منها، أو يُدَّخر له ثواب ذلك، ويُعوَّض عن ذلك في الآخرة؛ لأنَّ الحكمة اقتضت أن لا يُزوج بهذه الزوجة المطلوبة، وأن يبقى مع زوجته الحالية، أو لا يُزوج بالكلية، فلله الحكمة في هذا كله .

فالحاصل أنَّ الداعي على خيرٍ عظيمٍ، إذا دعا الله بدعوةٍ صادقةٍ خالصةٍ سليمةٍ ليس فيها عدوان، وليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، فهو على خيرٍ، ومأجورٍ، ومُثابٍ، وله في الآخرة ما يُعوضه الله عمَّا طلب إذا لم يُعط طلبته، فينبغي للمؤمن أن لا يملَّ الدُّعاء.

ثم قد تُؤجل الدَّعوة ولا تُعجل؛ لأنَّ في تعجيلها مضرَّة عليه، وفي تأخيرها خيرٌ له، فقد يلحّ في الدعاء، ويجتهد في الدّعاء، وتمضي عليه أوقات وهو ملحّ، فيكون هذا الدعاء سببًا لصلاح قلبه، وصلاح أعماله، وسببًا لمعرفته بالله، وأُنسه به، وسبب افتقاره إليه، وسببًا لصلاح أحواله.

فالله يُملي له في الدّعاء، ولا يُعجل له المطلوب؛ لحكمةٍ بالغةٍ فيها صلاحه، وفيها هدايته، وفيها صلاح قلبه، وفيها صرف سوءٍ كثيرٍ عنه، فلا ينبغي له أن يعجز، ولا ينبغي له أن يستحسر، ولا ينبغي أن يُسيئ الظنَّ بالله، بل لله الحكمة العظيمة في تعجيل الإجابة وفي تأخيرها، وفي تنويع الإجابة، وفي إعطائه ما هو خيرٌ له مما طلب، وفي تأخيرها له في الآخرة، إلى غير ذلك؛ ولهذا قال سبحانه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وهو الصَّادق بوعده سبحانه، لكن أنت أيّها السائل قد تكون عندك أشياء تمنع الإجابة، فالإجابة لها شروط، فإذا كنتَ تتعاطى المعاصي والسيئات وأكل الحرام، فهذا من أسباب منع الإجابة، ففتش عن نفسك، وانظر من أين أُتيتَ؟ هل أُتيتَ من عقوق والديك؟ هل أُتيتَ بقطيعتك الرحم؟ هل أُتيتَ بشرب المسكرات؟ هل أُتيتَ بأكل الربا؟ هل أُتيتَ بالغيبة والنَّميمة؟ هل أُتيتَ بالغشِّ في المعاملات؟ من أين أُتيتَ؟ وهذه الإجابة لماذا تأخَّرت؟ لا بدَّ أنَّ لها أسبابًا، فقد تكون منك، وقد تكون من جهة الله جلَّ وعلا؛ لأنه سبحانه اقتضت حكمته أن تكون هذه الإجابة متأخرةً، أو تكون في شيء آخر، لكن فتش نفسك أنت أولًا، فقد تكون الإجابةُ بأسبابٍ، وقد يكون منعها بأسباب أعمالك، وهو الأغلب.

فاحرص على الدّعاء، واجتهد في الدّعاء، فلعلَّ الموانع تزول، ولعلَّ الله يتوب عليك، ولعلَّ الدَّعوة تُصادف ساعة إجابةٍ فتُجاب، ولو أنَّك على ظلمك وعلى تقصيرك، كما أنَّ الكفار قد يُجابون، فالكفار وهم أظلم الناس قد تُجاب دعوتهم، وقد يسألون حاجاتهم في الدنيا من الرزق وغير ذلك فيُجابون وهم كفار، فربك حكيم عليم ، لكن أنت أيها المؤمن جديرٌ بأن تُحاسِب نفسك: لماذا منعت هذه الإجابة؟ لماذا تأخّرت هذه الإجابة؟ هل هذا منك أو من أسبابٍ أخرى اقتضتها حكمةُ الله جلَّ وعلا؟ والذي عليك أن تُحاسب نفسك، أنت من جهة ما يتعلق بك.

س: ما الفرق بين السَّائل والدَّاعي؟

ج: السائل أخص، فإنه يسأل شيئًا خاصًّا، فالغالب أنَّ السائل يسأل شيئًا خاصًّا يُعجل له في الدنيا: هل من سائلٍ فيُعطى سؤله، فالسائل أخص من الدَّاعي، الدَّاعي قد يكون عابدًا، وقد يكون سائلًا، يقول الله تعالى: ادْعُونِي فُسِّرت بـ"اعبدوني"، وفُسِّرت بـ"اسألوني"، فكل سائلٍ عابد، وليس كل عابدٍ سائلًا، فالمصلي عابد وداعٍ بفعله، والمتصدق داعٍ، والمجاهد داعٍ بعمله، والذي يقول: "ربّ اغفر لي وارحمني" داعٍ، لكنه أخصّ بالسؤال، فالذي يقول: "أعطني كذا، وارزقني ولدًا صالحًا" أخص بالسؤال، وإن كان عابدًا بالسؤال، لكنه أخصّ بالسؤال، فما كان بلفظ السؤال: اغفر لي، ارحمني، وأعطني زوجةً صالحةً، أغنني عن فلانٍ، أغنني بفضلك، هذا أخص بالسؤال، والصلاة والصوم أخصّ بالعبادة، وكلاهما يُطلق عليه دعاء، يقال: دعا بمعنى: عبد، ودعا بمعنى: سأل، والسؤال أخصّ.

س: .............؟

ج: هذا أثر قدسي، ما هو بصحيحٍ عن النبي ﷺ، يقول الله : وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرتُه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصّحة، ولو أسقمتُه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السّقم، ولو أصححتُه لأفسده ذلك، يُروى عن الله ، وهذا واقع في الناس.

فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْعُدْوَانِ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ مُعَجَّلًا، أَوْ مِثْلِهِ مِنَ الْخَيْرِ مُؤَجَّلًا، أَوْ يُصْرَف عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلُهُ.

الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالسَّبَبُ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، فَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ غَيْرُهُ.

وَهَكَذَا سَائِرُ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا جَلْبُ مَنَافِعَ أَوْ دَفْعُ مَضَارَّ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي يَدِ الْفَاعِلِ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قُوَّتِهِ وَمَا يُعِينُهَا، وَقَدْ يُعَارِضُهَا مَانِعٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَنُصُوصُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَدْعِيَةً دَعَا بِهَا قَوْمٌ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، وَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالدُّعَاءِ ضَرُورَةُ صَاحِبِهِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ حَسَنَةٌ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، جَعَلَ الله سبحانه إجابةَ دعوته شُكر الحسنة، أَوْ صَادَفَ وَقْتَ إِجَابَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ الدُّعَاءِ، فَيَأْخُذُهُ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي قَارَنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي.

وَهَذَا كَمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلٌ دَوَاءً نَافِعًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي، فانتفع به، فَظَنَّ آخَرُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الدَّوَاءِ بِمُجَرَّدِهِ كافٍ في حصول المطلوب، وكان غَالِطًا.

وَكَذَا قَدْ يَدْعُو بِاضْطِرَارٍ عِنْدَ قَبْرٍ فَيُجَابُ، فَيَظُنُّ أَنَّ السِّرَّ لِلْقَبْرِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ السِّرَّ لِلِاضْطِرَارِ وَصِدْقِ اللُّجْءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

فَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَات وَالرُّقَى بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا، وَالسَّاعِدُ سَاعِدًا قَوِيًّا، وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْمَانِعُ مَفْقُودًا؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ.

فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ؛ لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ.

الشيخ: وهذا كله يجمعه قول النبي ﷺ، فهذا كلام طويل، وكلام النبي ﷺ مختصر: ما من عبدٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثم ولا قطيعة رحمٍ إلَّا أُعطي بها إحدى ثلاث، قالوا: إذًا نُكثر، قال: الله أكثر.

فإذا سأل سائلٌ قال: إني دعوتُ ولا أُراه يُستجاب لي! فيُقال: لها أسباب: إما أن يكون دعاؤك فيه إثم، أو فيه قطيعة رحم، أو عندك موانع من المعاصي -كالربا ونحو ذلك- فإذا سلمت من هذا كله وصار دعاؤك في محلِّه، وصرت سليمًا ليس عندك موانع، ودعاؤك سليم ليس فيه شيء، فقد تُعجل لك دعوتك، وقد تُدخر لك، وقد يُصرف عنك من الشرِّ مثل ذلك، فليس من اللازم أن يحصل المطلوب، فهذا مما يُبين أنَّ الأمر واضح، وليس معنى: أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] أنه يُعطيهم مطالبهم، فلو طلبوا وقال أحدهم: "اللهم أعطني جبلًا من ذهبٍ"، وقال الآخر: "اللهم متِّعني ألف عام، أو ألفي عام"، فإنه ليس بمعقولٍ أنَّ كلَّ ما طلبه الناس يُعطون، فربنا حكيم عليم جلَّ وعلا، يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم ما يصلح عباده وما يُفسدهم، ويعلم أحوالهم وأعمالهم، فكلٌّ يُعطى ما يُناسبه على حكمة الله جلَّ وعلا، فهذا يعتدي في الدعاء فلا يُجاب، وهذا يعتدي في الأعمال فلا يُجاب، وهذا يعتدي على زيدٍ أو على عمرو فلا يُجاب، وهذا يضمّن سؤاله كلمات غير صالحةٍ أو شركية أو غير ذلك فلا يجاب، وهذا تقتضي حكمةُ الله أن تُؤخر دعوته ولا تُعجل، وهذا تقتضي حكمةُ الله أن تُدخر له في الآخرة، وهذا تقتضي حكمةُ الله أن يُعطى خيرًا منها وأفضل منها، وهذا تقتضي حكمةُ الله أن يُصرف عنه شرٌّ آخر بدلًا من أن يُعطى طلبته .. إلى غير هذا.

فربك حكيم عليم ، فينبغي للمؤمن أن يُحسن ظنَّه بالله، وأن يلحَّ في الدعاء، ويجتهد في الدعاء، ويُحاسب نفسه، ويتفقد أحواله، ويتفقد سؤاله؛ حتى لا تكون هناك موانع من جهة نفسه.

قَوْلُهُ: (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَيْءٌ، وَلَا غِنَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ).

كَلَامٌ حَقٌّ ظَاهِرٌ، لَا خَفَاءَ فِيهِ. وَالْحَيْنُ -بِالْفَتْحِ: الْهَلَاكُ.

قَوْلُهُ: (وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى، لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى).

قَالَ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [التوبة:100]، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60]، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61]، ونظائر ذلك كثيرة.

وَمَذْهَبُ السَّلَفِ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْغَضَبِ، وَالرِّضَى، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْحُبِّ، وَالْبُغْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَنْعُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَصْرِفُهَا عَنْ حَقَائِقِهَا اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

الشيخ: وهذا هو الحق؛ أن تمرّ كما جاءت مع الإيمان بأنها حقّ، وأنها صفات لائقة بالله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فهو يغضب ويرضا ويسخط على مَن عصاه وخالف أمره، وهو يُحب ويبغض، ويُوالي ويُعادي، يُعادي أعداءه، ويُوالي أولياءه، هذا كله حقّ على الوجه اللائق بالله ، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فليس غضبه كغضبنا، ولا رضاه كرضانا، ولا حبّه كحبنا، إلى غير ذلك، كما أنَّ سمعه ليس كسمعنا، ولا بصره كبصرنا، ولا يده كأيدينا، ولا وجهه كوجوهنا، إلى غير ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فله الكمال المطلق من كل الوجوه ، لا نقصَ فيه.

............

س: ما الفرق بين الغضب والسّخط؟

ج: المعنى متقارب، غضب الله، وسخط عليه، لا أعلم بينهما فرقًا.

كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبوبية بترك التَّأْوِيلِ، وَلُزُوم التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ).

وَانْظُرْ إِلَى جَوَابِ إمام الدِّين الْإِمَامِ مَالِكٍ في صفة الاستواء كيف قال: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ"، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.

الشيخ: علَّق على ...... أم سلمة؟

الطالب: قال: قلتُ: لا يصح مرفوعًا.

وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: (مَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ). وَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ.

فَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى) نَفْيُ التَّشْبِيهِ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الرِّضَى إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ، وَالْغَضَبَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ. فَإِنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلصِّفَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاءُهُ، وَيَنْهَى عَمَّا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ شَاءَهُ وَأَرَادَهُ.

الشيخ: والمعنى أن الإرادة شيء، والغضب والرضا شيء آخر، فالإرادة شيء، والمحبة شيء، والغضب شيء، فمَن فسَّر الرضا بإرادة الثَّواب، والغضب بإرادة الانتقام؛ فقد أوَّل، فالإرادة شيء، والغضب والرضا شيء آخر، والمشيئة كذلك، فهو له الإرادة، وله المشيئة، وله الغضب، وله الرضا، كل هذا من صفاته ، كل هذا يليق بالله .

وقد تأوَّلت الأشاعرةُ وأشباههم ممن سار على نهجهم هذه الصِّفات بالإرادة، الغضب والسّخط بإرادة الانتقام، والرضا والمحبَّة بإرادة الثواب! وهذا غلط.

س: المقصود هنا بالإرادة الكونية؟

ج: الإرادة الكونية، والإرادة الشَّرعية معنى آخر؛ الإرادة الشرعية مع المحبَّة، والإرادة الكونية مع المشيئة.

فَقَدْ يُحِبُّ عِنْدَهُمْ وَيَرْضَى مَا لَا يُرِيدُهُ، وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيَغْضَبُ لِمَا أَرَادَهُ.

وَيُقَالُ لِمَنْ تَأَوَّلَ الْغَضَبَ وَالرِّضَا بِإِرَادَةِ الإحسان: لم تأوَّلتَ ذلك؟ فلا بدَّ أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّ الْغَضَبَ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، والرِّضا: الميل والشَّهوة، وذلك لا يليق بِاللَّهِ تَعَالَى!

فَيُقَالُ لَهُ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ فِي الْآدَمِيِّ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْ صِفَةِ الْغَضَبِ، لَا أَنَّهُ الْغَضَبُ.

وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ الإرادة والمشيئة فينا هي مَيْلُ الْحَيِّ إِلَى الشَّيْءِ، أَوْ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيُنَاسِبُهُ، فَإِنَّ الْحَيَّ مِنَّا لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَضَرَّةً، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُرِيدُهُ ومُفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينقص بِعَدَمِهِ. فَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَ إِلَيْهِ اللَّفْظَ كَالْمَعْنَى الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنْهُ سَوَاءٌ.

الشيخ: يعني: ما فررتَ منه وقعتَ فيما سلمته، كما تكون إرادة لا كإرادة المخلوقين، فقل: غضب الله لا كغضب المخلوقين، وانتهينا، ولا شيء في ذلك.

فَإِنْ جَازَ هَذَا جَازَ ذَاكَ، وَإِنِ امْتَنَعَ هَذَا امْتَنَعَ ذَاكَ.

فإن قالوا: الْإِرَادَةُ الَّتِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا مُخَالِفَةٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً؟

قِيلَ لَهُ: فَقُلْ: إِنَّ الْغَضَبَ والرِّضا الَّذِي يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ مُخَالِفٌ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةً، فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُهُ فِي الْإِرَادَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّأْوِيلُ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّكَ تَسْلَمُ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَتَسْلَمُ أَيْضًا مِنْ تَعْطِيلِ مَعْنَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِلَا مُوجِبٍ؛ فَإِنَّ صَرْفَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ حَرَامٌ، ولا يكون المُوجب للصرف ما دلَّ عَلَيْهِ عَقْلُهُ؛ إِذِ الْعُقُولُ مُخْتَلِفَةٌ، فَكُلٌّ يَقُولُ: إنَّ عقله دلَّ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ!

وَهَذَا الْكَلَامُ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِامْتِنَاعِ مُسَمَّى ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَا يَعْهَدُهُ حَتَّى فِي صِفَةِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَبْدِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَوُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ، فَوُجُودُهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ لَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَمَا سَمَّى بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ وَسَمَّى بِهِ مَخْلُوقَاتِهِ، مِثْل: الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ، أَوْ سَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِهِ: كَالْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَسَمَّى بِهِ بَعْضَ صِفَاتِ عِبَادِهِ -فَنَحْنُ نَعْقِلُ بِقُلُوبِنَا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ، وَنَعْقِلُ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، لَكِنَّ هذا المعنى لا يُوجد في الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا، إِذِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ لَا يُوجَدُ مُشْتَرَكًا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا مُعَيَّنًا مُخْتَصًّا، فَيَثْبُتُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِيقُ بِهِ.

س: قوله: ولا يوجد في الخارج إلا مُعينًا؟

ج: ....... المشترك في الأذهان فقط: جنس الغضب، جنس الرضا، جنس المحبَّة، لكن غضب الله موجود في ذاته، ووصف له .......

بَلْ لَوْ قِيلَ: غَضَبُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ وَغَضَبُ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِكَيْفِيَّةِ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسُوا مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى تَغْلِيَ دِمَاءُ قُلُوبِهِمْ كَمَا يَغْلِي دَمُ قَلْبِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ غَضَبِهِ، فَغَضَبُ اللَّهِ أَوْلَى.

وَقَدْ نَفَى الْجَهْمُ وَمَنْ وَافَقَهُ كُلَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ: مِنْ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَأَسَفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ!

الشيخ: قبَّح الله جهمًا وأصحابه.

وَعَارَضَ هَؤُلَاءِ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ ابْنُ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَقَالُوا: لَا يُوصَفُ اللَّهُ بشيءٍ يتعلق بمشيئته وقُدرته أصلًا، بل جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ، قَدِيمَةٌ، أَزَلِيَّةٌ، فَلَا يَرْضَى فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا يَغْضَبُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النبيِّ ﷺ: إنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فيقولون: لبيك وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.

فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يُحِلُّ رِضْوَانَهُ ثُمَّ يَسْخَطُ، كَمَا يُحِلُّ السَّخَطَ ثُمَّ يَرْضَى، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحَلَّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانًا لَا يَتَعَقَّبُهُ سَخَطٌ.

وَهُمْ قَالُوا: لَا يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَضْحَكُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَغْضَبُ إِذَا شَاءَ، وَلَا يَرْضَى إِذَا شَاءَ.

الشيخ: ومعنى هذا الكلام الذي يقوله الجهمية وأشباههم هو أنَّ الصِّفات لازمة لذاته كلزوم الوجه واليد نحو ذلك، فهي صفات لازمة، لا تعلق لها بالاختيار ولا بالمشيئة ولا بالإرادة، وهذا من أبطل الباطل، نعوذ بالله، ومضاد للآيات والأحاديث الكثيرة، فإنَّ الله يفعل ما يشاء، ويخلق ويختار جلَّ وعلا، وله المشيئة النافذة، لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقب لحكمه ، وهذا من كماله؛ أن تكون له إرادة ومشيئة اختيارية، يفعل ما يشاء، ويختار ما يشاء، هذا من الكمال العظيم، وضدّ ذلك تشبيه له بالنَّاقصات.

فالحاصل أنَّ قولهم هذا الذي أرادوا به التَّنزيه هو في الحقيقة تنقص، وليس بتنزيهٍ، مع كونه مصادمًا للنصوص مصادمةً ظاهرةً ليس فيها مُواربة ولا شبهة؛ ولهذا كفَّرهم جمٌّ غفيرٌ من أهل السنة بسبب أنَّ هذا الكلام معناه إنكار النصوص وتكذيبها وإبطالها، وقد قال ابنُ القيم في هذا المعنى في "النُّونية":

ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـهم بل حكاه قبله الطبراني

ومقصوده في قوله: "خمسون في عشرٍ" أنهم خمسمئة، إلى غير هذا ممن جاء بعد ذلك.

فالمقصود أنَّ هؤلاء الجهمية ومَن قال بقولهم أتوا منكرًا من القول وشرًّا عظيمًا، لا وجهَ له، ولا مبرر له، ولكنَّهم انتكست قلوبهم وعقولهم حتى استحسنوا ما هو قبيح، واستقبحوا ما هو حسن، وهكذا يُقضى على مَن انحرف عن الكتاب والسنة وحكَّم عقله، يُقضى عليه حتى تنتكس عليه الأمور، وتنعكس عليه الأشياء، فيراها على خلاف ما هي عليه، كالمنافق الذي انتكس عقله، وصار قلبه كالكوز مُجخِّيًّا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، ولا يعرف الحقَّ، نسأل الله العافية.

فأهل السنة والجماعة هم أولى الناس بالحقِّ، وهم الذين وُفقوا للعمل بالكتاب والسنة، والإيمان بأنَّ الله جلَّ وعلا موصوف بصفات الكمال، مُنزَّه عن صفات النَّقص والعيب، وهو يرضا ويغضب، ويتكلم بما شاء، ويفعل ما يشاء، ويختار ما يشاء ، فالمؤمن مرضي عنه، وإذا ارتدَّ سخط الله عليه، والكافر مسخوط عليه، فإذا هداه الله وأسلم .

وهكذا هو يسخط على مَن خالف أمره، ويرضا على مَن أطاع أمره، فهو يسخط على أهل النار وأهل الكفر والنِّفاق، ويُحب أهلَ الإيمان، وأهل الاستقامة، وأهل الجنة؛ لكونهم أطاعوا أمره، ووافقوا شرعه، وابتعدوا عمَّا يُغضبه .

وهذا يعرفه صغارُ الطلبة الذين نشأوا في السنة، بل هو من أوضح الواضحات، ومن أبين البينات، ولولا أنه منقول لقال العاقل: إنَّ هذا لا وجودَ له، فلولا أنه منقول نقله الثِّقات والأثبات عن هؤلاء من كتبهم، لقال العاقل: كيف يكون هذا؟! وكيف يصدق هذا؟! وكيف يقع من عاقلٍ يفهم ما يقول؟! نسأل الله السَّلامة.

بَلْ إِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا الرِّضَا وَالْغَضَبَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ هُوَ الْإِرَادَةُ، أَوْ يَجْعَلُوهَا صِفَاتٍ أُخْرَى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذلك لَا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا بِقُدْرَتِهِ، إِذْ لَوْ تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ! فَنَفَى هَؤُلَاءِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةَ الذَّاتِيَّةَ بِهَذَا الْأَصْلِ، كَمَا نَفَى أُولَئِكَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِمْ: لَيْسَ مَحَلًّا لِلْأَعْرَاضِ.

وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَا تُسَمَّى حَوَادِثَ، كَمَا سُمِّيَتْ تِلْكَ صِفَاتٍ، وَلَمْ تُسَمَّ أَعْرَاضًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فِي الْمُخْتَصَرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْتَنِ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ.

وَأَحْسَنُ مَا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ كِتَابُ أُصُولِ الدِّينِ تَرْتِيبُ جَوَابِ النَّبِيِّ ﷺ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ الْحَدِيثَ. فَيَبْدَأُ بِالْكَلَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بِالْكَلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ، وَثُمَّ، إِلَى آخِرِهِ.

وَقَوْلُهُ: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ، وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ).

يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الرَّوافض والنَّواصب، وقد أثنى اللهُ تعالى عَلَى الصَّحَابَةِ هُوَ وَرَسُولُهُ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَوَعَدَهُمُ الْحُسْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].

وَقَالَ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَقَالَ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10].

وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8- 10].

وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَعَلَى الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ غِلًّا لَهُمْ، وَتَتَضَمَّنُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلْفَيْءِ.

فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي الْفَيْءِ نَصِيبًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقَالَ رسولُ الله ﷺ: لا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذُهُبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَهُ.

الشيخ: إذا كان هذا ممن تأخَّرت صحبته مع مَن تقدَّمت صحبتُه، فكيف إذا كان ممن ليس له نصيب من الصحبة ممن جاء بعد ذلك؟!

فالأمر أعظم إذا كان هذا في مثل خالد وأشباهه ممن تأخَّر إسلامه مع مَن في مثل عبدالرحمن بن عوف وأشباهه ممن تقدم إسلامه؛ يكون لو أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه، فكيف بمن جاء بعدهم؟ فإنَّ الغضب يكون أعظم وأكبر.

وهذا كله ردٌّ على الرافضة الذين سبُّوا أصحاب النبي ﷺ، وصار في قلوبهم غلٌّ لهم، وأبغضوهم، وكفَّروهم، وفسَّقوهم إلا نفرًا يسيرًا قليلًا، هؤلاء من أضلِّ الناس، ومن أخبثهم اعتقادًا في أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

واعتذارهم بما جاء في نصوص الردة اعتذار فاسد؛ فإنَّ الردة في قومٍ آخرين، ليست في أصحاب النبي ﷺ، وإنما كانت في بعض الأعراب الذين لم يدخل الإيمانُ في قلوبهم، ولم يستضيئوا بنور الوحي، فلما مات النبيُّ ﷺ جرى لهم ما جرى من الشك والرَّيب والردة، فأولئك قوم معروفون، وليسوا هم أصحاب النبي ﷺ الذين سبقوا إلى الإيمان، وجاهدوا معه، وصبروا معه، كالخلفاء الراشدين وغيرهم، ولكن أولئك الضَّالين من الرافضة حملوا أحاديثَ الردة عليهم وسفَّهوهم وضلَّلوهم، ولم يستثنوا من ذلك إلا نفرًا يسيرًا: كعلي، والحسن، والحسين، وبلال، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، جماعة قليلة، أقل من العشرة.

انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِذِكْرِ سَبِّ خَالِدٍ لِعَبْدِالرحمن، دون البخاري.

فإنَّ النبي ﷺ يَقُولُ لِخَالِدٍ وَنَحْوِه: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، يَعْنِي: عَبْدَالرَّحْمَنِ وَأَمْثَالَهُ؛ لِأَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ وَنَحْوَهُ هُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا، وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَأَخَصُّ بِصُحْبَتِهِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَبَعْدَ مُصَالَحَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَهْلَ مَكَّةَ، وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ أَسْبَقُ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمْ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، وَسُمُّوا: الطُّلَقَاءَ، مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَابْنَاهُ: يَزِيدُ وَمُعَاوِيَةُ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نهى مَن له صُحبة أخرى أن يسبَّ مَن له صُحبة أولى؛ لِامْتِيَازِهِمْ عَنْهُمْ مِنَ الصُّحْبَةِ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْرَكُوهُمْ فِيهِ، حَتَّى لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِحَالٍ مَعَ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ؟

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُمُ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا، وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِئَةٍ.

وَقِيلَ: إِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِهِ فَضِيلَةً؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى التَّفْضِيلِ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، كَمَا دَلَّ عَلَى التَّفْضِيلِ بِالسَّبْقِ إِلَى الْإِنْفَاقِ وَالْجِهَادِ وَالْمُبَايَعَةِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.

وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قال البزار: هذا حديثٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: قال: بل هو حديث باطل، كما بيَّنتُه في الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، وابن حزم في "الأحكام" من طريق سلام بن سليم، قال: حدثنا الحارث بن حصين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعًا: أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم، وسلام بن سليم مجمع على ضعفه وكذبه، ابن خراش، وقال ابن حبان: روى أحاديث موضوعة. والحارث بن حصين مجهول.

وأخرج الخطيب في "الكفاية في علم الرواية" من طريق سليمان ابن أبي كريمة، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس مرفوعًا: مهما أوتيتُم من كتاب الله فالعمل لا عذرَ لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة ماضية فما قال أصحابي، إنَّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيّها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة، وسليمان ابن أبي كريمة ضعيف الحديث، وجُويبر -وهو ابن سعيدٍ الأزدي- متروك، والضَّحاك لم يلقَ ابن عباسٍ، ورُوي من حديث عمر وابنه، وكلاهما لا يصح. انتهى.

طالب آخر: ..............

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ نَاسًا يَتَنَاوَلُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ! فَقَالَتْ: "وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟! انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَمَلُ، فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْطَعَ عَنْهُمُ الْأَجْرَ".

الطالب: علَّق عليه، قال: هذا حديث غريب عندي، وعزوه لمسلم أغرب؛ فإني لم أقف عليه فيه بعد الاستعانة عليه بكل الوسائل الممكنة، ولم يتيسر لي المراجعة في مصادر أخرى من كتب الحديث، فإني على وشك السفر إلى المدينة المنورة إن شاء الله، ثم تيقنتُ عدم وجوده فيه بعد أن فرغتُ منذ بضع سنين من اختصار "صحيح مسلم"، وأنا الآن في صدد اختصار "صحيح البخاري" على منهجٍ علميٍّ دقيقٍ.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: لم أجده في مسلم بعد البحث الشديد، ولا في المصادر الأخرى التي بين يدي.

الشيخ: فقط؟

الطالب: نعم.

الشيخ: أحمد شاكر؟

الطالب: لم يُعلِّق.

وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً –يَعْنِي: مَعَ النَّبِيِّ ﷺ- خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً". وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: "خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ".

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَغَيْرِهِ: أنَّ رسول الله ﷺ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؟ الْحَدِيثَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ الْآيَاتِ [التوبة:117].

وَلَقَدْ صَدَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي وَصْفِهِمْ، حَيْثُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَقَدْ رَأَى أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا أَنْ يَسْتَخْلِفُوا أَبَا بَكْرٍ".

وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ .." إِلَخْ، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ).

فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ حِقْدٌ عَلَى خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ؟ بَلْ قَدْ فَضَلَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِخَصْلَةٍ، قِيلَ لِلْيَهُودِ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُوسَى. وَقِيلَ لِلنَّصَارَى: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ عِيسَى. وَقِيلَ لِلرَّافِضَةِ: مَنْ شَرُّ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ!! لَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ.

الشيخ: وهذا يدل على الخبث الكثير، نسأل الله العافية، فإنَّ اليهود والنَّصارى صاروا في هذا خيرًا من الرافضة، واليهود والنَّصارى هم مَن هم في الكفر بالله والضَّلال والكيد للإسلام، ومع هذا كان جوابهم خيرًا من جواب الرافضة، فاليهود لما سُئلوا: مَن خير أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. والنصارى لما سُئلوا: مَن خير أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى. أما هؤلاء الرافضة -وهم الإمامية الاثنا عشر ومَن سار مسارهم- لما سُئلوا عن شرِّ أهل ملَّتهم قالوا: أصحاب محمدٍ، نسأل الله العافية، فأساءوا الظنَّ بأصحاب محمدٍ ﷺ حتى زعموا أنهم ارتدُّوا على أدبارهم وعلى أعقابهم، وجعلوا منهم الصدّيق وعمر وعثمان، ولم يستثنوا إلا نفرًا قليلًا جدًّا: كالمقداد وعمَّار والحسن والحسين وعلي، هؤلاء الخمسة أو يزيدون سادسًا أو سابعًا، هذا من الضَّلال والبُعد عن الإسلام.

..............

وَفِيمَنْ سَبُّوهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّنِ اسْتَثْنَوْهُمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أَيْ: لَا نَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، كَمَا تَفْعَلُ الشِّيعَةُ.

الشيخ: يُقال: أفرط: غلا، وفرَّط: جفا، فالرباعي بالألف، والمثقل بالجفا، والإسلام بين هذا وهذا، بين الإفراط والتَّفريط، فلا إفراطَ وغلو كما فعلت الرافضةُ مع أهل البيت، ولا جفاء -وهو التَّفريط- كما فعلت الرافضةُ مع غير أهل البيت من غالب الصحابة، فأهل البدع بين الإفراط والتَّفريط، بين غلو في أشياء، وبين تفريطٍ في أشياء وجفاء.

فَنَكُونُ مِنَ الْمُعْتَدِينَ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171].

وَقَوْلُهُ: (وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كَمَا فَعَلَتِ الرَّافِضَةُ، فَعِنْدَهُمْ لَا وَلَاءَ إِلَّا بِبَرَاءٍ، أَيْ: لَا يَتَوَلَّى أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا!

الشيخ: والمشهور أنَّ الرافضة سمّوا بهذا لأنهم لما رفضوا زيدَ بن علي بن الحسين، وطلبوا منه أن يتبرأ من الصديق وعمر فأبى أن يتبرأ منهما، وترضَّى عنهما، فقالوا حينئذٍ: نُفارقك، فرفضوه، فسموا: رافضةً لأجل هذا؛ لأنهم تبرؤوا من الصديق وعمر، زعمًا منهم أنه لا تتم الموالاة لعليٍّ إلا بالبراءة من الصديق وعمر، وهذا من جهلهم وضلالهم وظلمهم وعدوانهم وقلّة بصيرتهم.

س: والزَّيدية منسوبون إلى زيدٍ هذا؟

ج: إلى زيد بن علي بن الحسين، وكان أصل مذهبهم تفضيل عليٍّ على الصدّيق وعمر فقط، وهم المعروفون الآن في اليمن، وفيهم طوائف رديئة يُقال لهم: الجارودية، أشبه بالرافضة، يزيدون فيلعنون ويسبُّون.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُوَالُونَهُمْ كُلَّهُمْ، وَيُنْزِلُونَهُمْ مَنَازِلَهُمُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، لَا بِالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبَغْيِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17]، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: الشَّهَادَةُ بِدْعَةٌ، وَالْبَرَاءَةُ بِدْعَةٌ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.

وَمَعْنَى الشَّهَادَةِ: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ أَنَّهُ كَافِرٌ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: (وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ) لِأَنَّهُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم: ضعيف، وقال الترمذي: ضعيف. وهو مخرج في "الأحاديث الضعيفة".

الشيخ: شعيب؟

الطالب: الترمذي باب "مَن سبَّ أصحاب النبي ﷺ"، وأحمد، وفي سنده عبدالرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف .....، وحسَّنه الترمذي، وصححه ابنُ حبان.

الشيخ: شاكر؟

الطالب: رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .....

وَتَسْمِيَةُ حُبِّ الصَّحَابَةِ إِيمَانًا مُشْكِلٌ عَلَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْحُبَّ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِهِ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَمَلَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَجَازًا.

الشيخ: والمقصود أنَّ المرجئة الحنفية وغيرهم رأوا أنَّ الإيمان هو التَّصديق بالقلب، والنُّطق باللسان، والكرامية قالوا: إنه النُّطق باللسان فقط. والجهمية قالوا: إنه المعرفة. ووفَّق اللهُ أهلَ السنة والجماعة فقالوا: إنه القول والعمل والتَّصديق جميعًا.

وقول الطحاوي والحنفية أنَّ العمل ليس من الإيمان غلط فاحش لا وجهَ له، والصواب قول أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يشمل هذا وهذا، يشمل القولَ والعملَ القلبي والعمل الجارحي والتَّصديق، هذا هو قول أهل الحق، والنصوص كلها من الكتاب والسنة دالة على هذا، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: الإيمان بضع وستون -أو قال: بضع وسبعون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، فجعل القول إيمانًا، وجعل الحياء -وهو عمل القلب- إيمانًا، وجعل إماطة الأذى عن الطريق -وهو من عمل الجوارح- إيمانًا، وهذا شيء لا يُحصى من الكتاب والسُّنة.

س: مذهب الأحناف التَّصديق المجرد عن أعمال القلوب، ما يتبعه شيء من أعمال القلوب؟

ج: .............

س: ما الفرق بين التَّصديق المجرد والمعرفة؟

ج: التَّصديق والمعرفة إقرار، وليس عملًا، إقرار واعتراف، فهو أشبه بالقول، بخلاف العمل: كالحب والخشية والخوف القلبي، فإنَّ هذا عمل، فهي عندهم أشياء زائدة، مأمور بها، مشروعة، لكنَّها لا تُسمَّى إيمانًا؛ ولهذا قال الشارح: إنَّ الخلاف لفظي.

..............

وَقَوْلُهُ: (وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا الْكُفْرُ نَظِيرُ الْكُفْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا فيه تفصيل، فإنكار صحبتهم وإنكار ما هم عليه من الدِّين كفر أكبر، وسبّ بعضهم أو بُغض بعضهم كفر أصغر ومعصية، كما تقول في الحكم بما أنزل الله أنه إيمان وهدى، والحكم بغير ما أنزل الله نوعٌ من أنواع الكفر، لكن إذا كان جحدًا لذلك وإنكارًا له فهو كفر أكبر، وإن كان لشهوةٍ وغرضٍ، وهو يعلم أنَّ الحكم حكم الله؛ صار كفرًا أصغر، وهكذا يقال في أشياء كثيرةٍ: الظلم ظلمان، والكفر كفران، والشرك شركان، والفسق فسقان. ذكر هذا ابنُ القيم رحمه الله في كتاب "الصلاة".

س: الرافضة ينقسمون إلى قسمين: قسم يُنكر ما هم عليه من الدِّين، وقسم يسبّ؟

ج: مَن أنكر صُحبتهم، وأنهم ليسوا مسلمين، وأنهم ارتدُّوا، فالظاهر كفرهم؛ لأنهم جعلوا أصحاب رسول الله ﷺ كافرين، وجعلوا حملةَ الإسلام وأركانه كافرين، ومعنى هذا إبطال الإسلام وإبطال الدِّين، فإذا كان حملةُ الإسلام كفارًا، وعلى رأسهم الصديق وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص وأشباههم، فماذا بقي للإسلام؟!

أما إذا سبّوا معاوية، وسبّوا عليًّا، فهذا فسق وظلم وكفر، لكن دون كفرٍ.

وإذا اعتقدوا عدم براءة عائشة، وأنها متهمة، صار كفرًا أكبر؛ لأنه تكذيبٌ لله.

س: إذا سبَّ الصديقَ وعمرَ؟

ج: هذا محل خلافٍ؛ فمالك وجماعة يُكفرونهم، والمشهور عند الجمهور التَّفسيق، وأنه كفرٌ دون كفرٍ، إلا إذا عمَّموا.

س: يُعمموا الصَّحابة؟

ج: ما أظن فيه خلاف، إذا عمَّموا فمعناه إنكار الدين كله؛ لأنهم حملةُ الإسلام، فماذا يبقى؟!