26 لم يكلف الله تعالى عباده إلَّا ما يطيقون، ولا يطيقون إلَّا ما كلفهم

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ. وَهُوَ تَفْسِيرُ "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وعكست إرادته الإرادات كلها، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]).

فَقَوْلُهُ: (لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ) قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152].

وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا، ثُمَّ تَرَدَّدَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ: هَلْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُرُودِهِ بِأَمْرِ أَبِي لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَأَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هذا بالمنع؛ فلا نُسلم بأنه مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيمَانِ كَانَتْ حَاصِلَةً، فَهُوَ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ، فَمَا كُلِّفَ إِلَّا مَا يُطِيقُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ.

وَلَا يَلْزَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ [البقرة:31] مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفِ طَلَبِ فِعْلٍ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ، بَلْ هُوَ خِطَابُ تَعْجِيزٍ.

وَكَذَا لَا يَلْزَمُ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ مَا لَا يُطَاقُ لَيْسَ تَكْلِيفًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَمِّلَهُ جَبَلًا لَا يُطِيقُهُ فَيَمُوتَ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ: لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ.

قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إليه. وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه.

وَلَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِحَمْلِ جَبَلٍ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ يُثَابُ، وَلَوِ امْتَنَعَ يُعَاقَبُ، كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُمْتَنَعِ عَادَةً، دُونَ الْمُمْتَنَعِ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وجُودُهُ، فَلَا يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهِ، بِخِلَافِ هَذَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ.

وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَوْنَهُمْ جَعَلُوا مَا يَتْرُكُهُ الْعَبْدُ لَا يُطَاقُ؛ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لَهُ، مُشْتَغِلًا بِضِدِّهِ -بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ فِعْلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لَا يُطِيقُهُ!

وَهُمُ الْتَزَمُوا هَذَا؛ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الطَّاقَةَ الَّتِي هِيَ الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ! فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُهُ!

وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِطَاعَةِ.

وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُقَارِنًا لِلْفِعْلِ، فَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُنَاكَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ.

وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ مَا سَمَّوْهُ: اسْتِطَاعَةً، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُقَارِنَ لَكَانَ جَمِيعُ الْخَلْقِ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ قَبْلَ السَّمْعِ! فَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِذَلِكَ مَعْنًى، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لِبُغْضِهِمُ الْحَقَّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ: إِمَّا حَسَدًا لِصَاحِبِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى -لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ.

وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ؛ لِمُخَالَفَةِ ما يراه لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمٌ.

وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَسَائِر الْأُمَمِ، فَمَنْ يُبْغِضُ غَيْرَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ، وَمَنْ يُحِبُّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ عُقُوبَتَهُ؛ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، لَا لِعَجْزِهِ عَنْ عُقُوبَتِهِ، فَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: لَأَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ. وَالْمُرَادُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا، فَلَوْ لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا يَهْوونَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71].

الشيخ: هذا البحث الذي ذكره المؤلفُ كله مما أنتجه الكلامُ المذمومُ والخوض الذي لا خيرَ فيه؛ ولهذا ذمَّ السلفُ الكلامَ وأهله، يعني: ذمُّوا الخوضَ في ذلك، فإنَّ كلام الله واضح، وهذه المسألة من أوضح الواضحات، وأبين البينات، فإنه سبحانه أخبر جلَّ وعلا عباده أنه لا يُكلِّفهم إلا وسعهم، ولا يُكلِّفهم إلا ما يُطيقون جلَّ وعلا؛ لكمال حكمته، وكمال عدله ، فليس في هذا شيء يُشكل أو يحتاج إلى هذا البحث الكثير، ولكن أهل الكلام وتشقيقهم الكلام، واعتراضهم على ما قدَّره الله ومضى في علمه، ونزاعهم في إثبات القدر، وغير ذلك من البحوث العظيمة؛ هو الذي يُسبب لهم التَّشويش، وإلا فالأمر واضح: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، يدعون ربَّهم جلَّ وعلا، وقد وعدهم سبحانه وأخبر أنه لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها.

فالمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا لكمال علمه وكمال حكمته وكمال غناه ليس له حاجة إلى أن يُكلِّف الناسَ ما لا يُطيقون وما لا يستطيعون، وإنما كلَّفهم من الشَّرائع ما في وسعهم؛ فالصلاة في وسعهم، والصيام في وسعهم، والحج في وسعهم مع الاستطاعة، وغير ذلك مما كلَّفهم الله به ، كله في الوسع، كذلك تكليفه العباد جميعًا أن يُوحِّدوا الله، وأن يُطيعوا رسله، وإن كان قد مضى في علمه وقدره مَن هو المسلم، ومَن هو الكافر، كل هذا مُوافق لما أخبر به سبحانه أنه لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، أما ما مضى في علمه وقدره فله فيه الحكمة البالغة .

فالعبد له اختيار، وله مشيئة، وله قُدَر متنوعة، فهو مستطيع لما أُمر به شرعًا، ولكمال حكمته وكمال قدرته وكمال غناه أمرهم بما فيه خيرهم، وبما فيه صلاحهم، ولم يُكلفهم ما يشقّ عليهم ولا يُطيقون، فكلها ميسرة بحمد الله، فشرع شرائع ميسرة، ليس فيها مشقة، بل هي الحنفية السَّمحة، وقد قال لمبعوثيه عليه الصلاة والسلام: يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا، وقال لمعاذٍ وأبي موسى: يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا، فالأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد هذا الكلام.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ ..) إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. أَيْ: وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الطَّاقَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ، لَا الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصحة والوسع والتَّمكن وسلامة الآلات، و(لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَقَدْ فَسَّرَهَا الشَّيْخُ بَعْدَهَا.

وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ إِشْكَالٌ: فَإِنَّ التَّكْلِيفَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِقْدَارِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ والنَّهي، وهو قَالَ: (لَا يُكَلِّفُهُمْ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ)، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُطِيقُونَ فَوْقَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَالتَّخْفِيفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فَلَوْ زَادَ فِيمَا كَلَّفَنَا بِهِ لَأَطَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا وَرَحِمَنَا، وَخَفَّفَ عَنَّا، وَلَمْ يَجْعَلْ علينا في الدِّين من حرجٍ.

ويُجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أنَّ المراد الطَّاقة التي من نحو التَّوفيق، لا من جهة التَّمكن وسلامة الآلات، لكن في الْعِبَارَةِ قَلَقٌ، فَتَأَمَّلْهُ.

الشيخ: والحاصل أنها لا حاجةَ إليها، وأنها غلط، لا وجهَ لها: (ولا يُطيقون إلا ما كلَّفهم) هذا تكلف لا وجهَ له، ومَن قال لهم هذا؟!

ولكن دخل عليه من بعض أهل الكلام المذموم، فالله لو كلَّفهم ستّ صلوات لأطاقوا، ولو كلَّفهم صيام شهرين لأطاقوا، ولو كلَّفهم الحجَّ في العمر مرتين لأطاقوا، ولكنه يسَّر وسهل ، فالعبارة الأخيرة: (ولا يُطيقون إلا ما كلَّفهم) كما قال الشارحُ: لا وجهَ لها، ولا حاجةَ إليها، بل هي تكلُّف.

وَقَوْلُهُ: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ) يُرِيدُ بِقَضَائِهِ: الْقَضَاءَ الْكَوْنِيَّ، لَا الشَّرْعِيَّ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ كونيًّا وشرعيًّا، وكذلك الإرادة وَالْأَمْرُ وَالْإِذْنُ وَالْكِتَابُ وَالْحُكْمُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَلِمَاتُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

أَمَّا الْقَضَاءُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12].

وَالْقَضَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ).

وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16] فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا.

وَالْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ الآية [النحل:90]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

وَأَمَّا الْإِذْنُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].

وَالْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5].

وَأَمَّا الْكِتَابُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

وَالْكِتَابُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس [المائدة:45]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].

وَأَمَّا الْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ ابْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112].

وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10].

وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْكَوْنِيُّ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26]، وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95].

الشيخ: ومن هذا قوله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12].

وَالتَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة:3]، وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الآية [النساء:23].

وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْكَوْنِيَّةُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137]، وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ.

وَالْكَلِمَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124].

وَقَوْلُهُ: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا) الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ يَقْتَضِي قَوْلًا وَسَطًا بَيْنَ قَوْلَيِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَلَيْسَ مَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ ظُلْمًا وَقَبِيحًا يَكُونُ مِنْهُ ظُلْمًا وَقَبِيحًا، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ! فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ! وَقِيَاسٌ لَهُ عَلَيْهِمْ! هُوَ الرَّبُّ الْغَنِيُّ الْقَادِرُ، وَهُمُ الْعِبَادُ الْفُقَرَاءُ الْمَقْهُورُونَ.

وَلَيْسَ الظُّلْمُ عِبَارَةً عَنِ الْمُمْتَنَعِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ: إنَّه يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُمْكِنِ الْمَقْدُورِ ظُلْمٌ! بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مِنْهُ لَوْ فَعَلَهُ عَدْلٌ؛ إِذِ الظُّلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مِنْ غَيْرِهِ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ: يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا.

الشيخ: وهذا واضح جدًّا، فإنه سبحانه على كل شيءٍ قدير، وكل شيء بحقِّه ممكن، وهو مُنَزَّه عن الظلم، والقول بأنَّ كل ما كان ممكنًا فليس بظلمٍ. هذا من أقبح الغلط، ولكنه جلَّ وعلا مع قُدرته على أن يفعل ما يشاء يتنزه عن ظلم عباده، وأن يُعاقبهم بشيءٍ لا يستحقونه ؛ ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فهو قادر على أن يُعذب أنبياءه، وأن يُعذب رسله وأولياءه، ولكنه لا يفعل هذا ؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه، وهو مُنَزَّه عن ذلك.

فالظلم ليس عدم المقدرة على الممكنات، ولكنه وضع الشيء في غير موضعه، وضع الشيء في غير موضعه يُسمَّى: ظلمًا في لغة العرب، وهو مُنَزَّه عن ذلك، فالإنسان مثلًا يستطيع أن يُعذب ولده، ويُعذب زوجته، ويُعذب دابته، ويُسمَّى بهذا: ظالمًا؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه، فإذا ضرب زوجته بغير حقٍّ، أو ضرب ولده بغير حقٍّ، أو آذى دابَّته على غير وجه الشرع، وهكذا ما أشبه ذلك.

فالمقصود أنَّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والله جلَّ وعلا ليس بظلامٍ للعباد، وقد قال النبي ﷺ: اتَّقوا الظلمَ؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة.

فوضع الأشياء في غير مواضعها يُسمَّى: ظلمًا؛ ولهذا سمَّى الله الشِّرك: ظلمًا، بل هو أقبح الظلم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، محل العبادة لله وحده، فمَن وضعها للإنسان أو للأصنام أو للأشجار أو للأخيار أو للأولياء أو للأنبياء صار ظالمًا: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]؛ لأنهم وضعوا العبادات في غير محلِّها، والعبد قادر على أن يضرب ولده الصغير الذي دونه في القوة، وأن يضرب عبده، وأن يذبح عبده، فإذا فعل ذلك صار ظالمًا، وإن كان قادرًا؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه.

فربنا جلَّ وعلا قادر على كل شيءٍ، فهو القادر على أن يُعذب مَن شاء من عباده بغير جريمةٍ، ولكنه يتنزَّه عن هذا ويتقدس؛ لأنه الحكم العدل .

فَهَذَا دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَهَذَا يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، لَا مَا هُوَ ممتنع عليه.

الشيخ: وبهذا يتضح لذي البصيرة ما يترتب على الخوض والكلام المتلقَّى عن الفلاسفة وعن أرباب العقائد الفاسدة من الشرِّ العظيم، فإنَّ مَن تلقَّى علومه عن أولئك الضَّالين وقع في الأغلاط الكثيرة، ومَن تلقَّى علومه عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وعن سلف هذه الأمة وخيارها سلم من هذه البلايا والمحن، وحصل له العلمُ النافع، والبصيرة النافذة، والسلامة من تلك الأقوال الضَّارة الظالمة الخاطئة الفاسدة التي يكفي تصورها في فسادها.

وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112] قَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِأَنَّ الظُّلْمَ: أَنْ تُوضَعَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ الْمُمْتَنِعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَأْمَنُ مِمَّا يُمْكِنُ، فَلَمَّا آمَنَهُ من الظُّلم بقوله: فَلَا يَخَافُ عُلِمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ.

وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ إلى قوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:28- 29] لَمْ يَعْنِ بِهَا نَفْيَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكَنُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَفَى مَا هُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْزَوْا بِغَيْرِ أَعْمَالِهِمْ.

فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اللَّهُ مُنَزَّهًا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَصْلًا، وَلَا مُقَدَّسًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ لَا يُنَزَّهُ عَنْ فِعْلِهِ، بَلْ فِعْلُهُ حَسَنٌ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلْفِعْلِ السُّوءِ، بَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ!

وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ فِي مَوَاضِعَ، نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ فِيهَا عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِ السُّوءِ وَالْفِعْلِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ وَصْفِ السُّوءِ وَالْوَصْفِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فَإِنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عَبَثًا، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِعْلٌ.

وقوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] إنكار منه على مَنْ جَوَّزَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.

وَكَذَا قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ حَسِبَ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا، وَإِخْبَارٌ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَيِّئٌ قَبِيحٌ، وَهُوَ مِمَّا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النبي ﷺ: لو أنَّ الله عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ؛ وَلِهَذَا قَابَلُوهُ إِمَّا بِالتَّكْذِيبِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ!

وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ قَابَلُوهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَعَلِمُوا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَدَمَ قِيَامِ الْخَلْقِ بِحُقُوقِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ: إِمَّا عَجْزًا، وَإِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، وَإِمَّا تَقْصِيرًا فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الشُّكْرِ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

الشيخ: والمعنى أنه لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، يعني: لعذَّبهم بجرائم اقترفوها، ومعاصٍ فعلوها، ولكنَّه مضى في علمه وحكمته وقدره أنَّ رحمته أوسع لهم وخير لهم من أعمالهم، وأنَّ رحمته سبقت غضبه؛ ولهذا يعفو كثيرًا، ويصفح كثيرًا، ويمن بالتوبة على مَن تاب؛ فلهذا كانت رحمته أوسع: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].

فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَتَكُونَ قُوَّةُ الْحُبِّ والإنابة والتوكل والخشية والمراقبة وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ، وَمُتَعَلِّقَةً بِهِ، بحيث يكون القلبُ عاكفًا على محبَّته وتألهه، بَلْ عَلَى إِفْرَادِهِ بِذَلِكَ، وَاللِّسَانُ مَحْبُوسًا عَلَى ذِكْرِهِ، وَالْجَوَارِحُ وَقْفًا عَلَى طَاعَتِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَشِحُّ بِهِ، وَهِيَ فِي الشُّحِّ عَلَى مَرَاتِبَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْثَرُ الْمُطِيعِينَ تَشِحُّ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ أَتَى بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَأَيْنَ الَّذِي لَا تَقَعُ مِنْهُ إِرَادَةٌ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ وَمَا يُحبه منه؟ ومَن ذا الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خِلَافُ مَا خُلِقَ لَهُ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؟ فَلَوْ وضع سُبْحَانَهُ عَدْلَهُ عَلَى أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ.

وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ تَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتِرَافُهُ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مَحْضُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عَذَّبَ عَبْدَهُ عَلَى جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهَا، لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ -بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ- أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ تَابَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، فَلَا يَسَعُ الْخَلَائِقَ إِلَّا رَحْمَتُهُ وَعَفْوُهُ، وَلَا يَبْلُغُ عَمَلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَوْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ أَطْوَعُ النَّاسِ لِرَبِّهِ، وَأَفْضَلُهُمْ عَمَلًا، وَأَشَدُّهُمْ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ وَإِجْلَالًا: لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَسَأَلَهُ الصِّدِّيقُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الشيخ: هذا يُقال للصدّيق، يُعلَّم هذا الدعاء وهو أفضل الخلق وأعظمهم تصديقًا، وأكملهم إيمانًا بعد الرسل والأنبياء، يُقال له: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفور الرحيم، يُعلَّم هذا الدعاء العظيم ليعترف بأنه ظلم نفسه ظلمًا كثيرًا، وفي لفظٍ آخر: كبيرًا، فعُلم بذلك أنَّ العبد محل الذنوب، ومحل التقصير، إلا ما عفا الله عنه .

س: الحديث الأول: لو أنَّ الله عذَّب أهلَ السَّماوات ..؟

ج: لا بأس به، إسناده لا بأس به.

.............

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَال الصِّدِّيقِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَمَا الظَّنُّ بِسِوَاهُ؟ بَلْ إِنَّمَا صَارَ صِدِّيقًا بِتَوْفِيَتِهِ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ وَحَقَّهُ وَعَظَمَتَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةَ تَقْصِيرِهِ.

فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَسْتَغْنِي عَنْ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا! وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَحَقِّهِ غَايَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَهْمُكَ لِهَذَا فَانْزِلْ إِلَى وَطْأَةِ النِّعَمِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَوَازِنْ مِنْ شُكْرِهَا وَكُفْرِهَا، فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ.

قَوْلُهُ: (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ).

اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَمْوَاتَ يَنْتَفِعُونَ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ.

وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، عَلَى نِزَاعٍ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْحَجِّ: فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن: أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالْحَجُّ لِلْحَاجِّ. وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: ثَوَابُ الْحَجِّ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ إِلَى وُصُولِهَا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ عَدَمُ وُصُولِهَا.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى عَدَمِ وُصُولِ شَيْءٍ الْبَتَّةَ، لَا الدُّعَاءِ وَلَا غَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقوله: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، وَقَوْلِهِ: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286].

وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عِلْمٌ يُنتفع به من بَعْدِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِمَا كَانَ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ تَسَبَّبَ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ.

الشيخ: وهذا لا يقدح فيما قاله أهلُ العلم، فإنَّ الميت ينتفع بما تسبَّب فيه في حياته: من صدقات أجراها، أوقاف، ومن علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له، فإنَّ ولده من كسبه، وينتفع أيضًا بما وصل إليه من إخوانه المسلمين، فإنَّ الرسول ﷺ قال: انقطع عمله، ولم يقل: انقطع عنه من كلِّ الناس من أعمالٍ، إنما عمله هو: إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، مثل: المساجد التي عمرها، مثل: الأوقاف التي سبلها في وجوه الخير، أو أنهار أجراها، أو بيوت لأبناء السبيل -للفقراء ولطلبة العلم- سبلها، وما أشبه ذلك، هذه تبقى له ينتفع بها بعد وفاته.

كذلك العلوم التي حصل بها نفع: كتب ألَّفها، علوم علَّمها للناس بقيت في تلاميذه وأتباعه ينتفعون بها، وهكذا أولاده الصَّالحون إذا دعوا له ينتفع بدعائهم، وينتفع أيضًا بدعاء غيره من المسلمين، هذا من عمل غيره، مما أحسن به غيرُه إليه؛ ولهذا شرع الله لنا أن نقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، ندعو لهم بنصِّ القرآن، وجاءت السنةُ المتواترة والمستفيضة عن النبي ﷺ بالدُّعاء للمسلمين وللأموات بالصلاة على الجنازة، وهذا ينفع الميت بإجماع أهل السنة والجماعة.

وقد أجمع العلماءُ المعتد بهم على أنَّ الميت ينتفع بدعاء غيره، وصدقة غيره، وفي "الصحيحين": أن امرأةً أتت النبيَّ ﷺ فقالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت ولم تُوصِ. وفي اللفظ الآخر: إنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت ولم تُوصِ، أفلها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال النبيُّ ﷺ: نعم، لها الأجر.

وقد أجمع العلماءُ قاطبةً على أنَّ الصدقة تنفع الميت، صدقة غيره عنه، صدقة المسلمين عنه من أولاده وغيرهم، إن تصدَّقوا عنه نفعه ذلك، والولد يشمل الذكرَ والأنثى، مثلما في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، وينتفع بالنصِّ أيضًا بالصوم عنه، فإذا مات وعليه صيام صام عنه وليه، ينتفع بذلك، وإذا حجَّ عنه كذلك ينتفع بالحجِّ والعمرة بالنصِّ، واختلفوا فيما سوى ذلك: كالصلاة عنه، والصوم عنه تطوعًا، والقراءة عنه، يقرأ عنه ثم يهبه له، هل يلحقه ذلك؟

على خلافٍ، فالأكثرون على أنه يلحق، وأنه ينتفع بذلك، وقاسوه على الصَّدقات والدعاء والحج عنه، والصوم الواجب عنه، وقاسوا هذا على هذا، وكما ينتفع بصوم الفريضة وحج الفريضة أو قضاء الدَّين عنه والدعاء والصَّدقة؛ فإنه ينتفع أيضًا بالقراءة عنه، والصلاة عنه النَّافلة.

وقال آخرون -كمالكٍ والشافعي وجماعة- هذه أمور توقيفية، العبادات توقيفية، لا بدَّ فيها من نصٍّ، فلا يلحقه صوم التَّطوع، ولا صلاة التطوع عنه، ولا صلاة الفريضة إذا مات وعليه شيء إلا بنصٍّ، ولا يوجد نصٌّ في هذا، وهكذا القراءة: كأن يقرأ عنه، أو يسوي له أذكارًا أو طوافًا أو قراءات.

وهذا القول أقرب وأرجح؛ لأنَّ العبادات توقيفية، وليس بالقياس والرأي، فما قاله مالك والشافعي وبعض السلف أقرب إلى قواعد الشريعة من جهة التَّوقيف، بل قال النبيُّ ﷺ: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ، فلا يُصلَّى عن الميت، ولا يُصام عنه التطوع؛ لعدم الدليل، ولا يُقرأ له قرآن كما يفعله كثيرٌ من الناس، فالأولى والأحوط ترك ذلك لعدم الدليل.

والحنفية وأحمد رحمه الله والجمهور على أنَّ هذا يلحق، كما تلحقه الصَّدقة، ويلحقه الدعاء، ويلحقه الصوم الواجب، والحج، ولكن الأقرب والأظهر والأرجح الأول؛ لأنه من باب التَّوقيف.

س: التَّابعون ما ثبت أنَّهم قرأوا القرآنَ على أمواتهم؟

ج: القراءة على الأموات ليس لها أصل يُعتمد، فلا ينبغي اعتماد ذلك، والأمور توقيفية، هذا هو الأصل، ليس بالآراء والاستحسانات، فالاستحسان والآراء يجرّ شرًّا كثيرًا.

س: حينما يقول: "رأي الجمهور" هل يقصد مَن بعد التَّابعين، أو يقصد من ضمنهم الصَّحابة والتَّابعين؟

ج: قد يقع هذا، وقد يقع هذا .......

س: زيادة: أو علم ينتفع به من بعده؟

ج: ما أتذكر هذا ........

س: الولد الصالح يشمل الذكر والأنثى؟

ج: نعم، يشمل الذكر والأنثى، مثلما في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].

س: الخلاف في النَّافلة؟

ج: كالصلاة والصوم، صوم النافلة، والصلاة مطلقًا، والقراءة والأذكار، هذا الذي فيه خلاف، أما الصَّدقة والدعاء فلا خلافَ فيهما، بل بالإجماع، وكذلك الأوقاف التي يُنتفع بها، هذا بالإجماع، وصوم الفريضة لمن مات وعليه صيام محل خلافٍ، لكن الراجح أنه يقع؛ لقول النبي ﷺ: مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه، إذا كان صوم فريضةٍ وفرَّط فيه يُصام عنه، أو كان حجًّا.

وَاسْتَدَلَّ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ -كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ- بِأَنَّ النَّوْعَ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ بِحَالٍ -كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ- يَخْتَصُّ ثَوَابُهُ بِفَاعِلِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْحَيَاةِ لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْ فَاعِلِهِ غَيْرُهُ؛ بما رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ.

الشيخ: هذا ضعيف، وليس بثابتٍ عن النبي ﷺ، وإنما يُروى عن ابن عباسٍ وعن عائشة الإطعام ..... يُصام عنه الفريضة كما في الحديث الصحيح، رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ: مَن مات وعليه صوم صام عنه وليُّه، هذه قاعدة قد دلَّ عليها الحديثُ، وسأله جماعة؛ كل واحدٍ يسأله عن شيء: هذا يقول: مات أبي، وهذا يقول: ماتت أمي وعليها صوم كذا، فيقول النبيُّ ﷺ: صم عن أبيك، صم عن أمك، صم عن أختك، ......، والأحاديث صريحة في قضاء الدَّين عنه، سواء كان دينًا للخلق أو دينًا لله: كالزكاة والصوم.

الطالب: علَّق عليه، قال: لا أعرف له أصلًا مرفوعًا؛ لا عند النَّسائي، ولا عند غيره، وإنما رواه النَّسائي في "الكبرى"، والطحاوي في "مشكل الآثار" عن ابن عباسٍ موقوفًا عليه، وسنده صحيح.

الشيخ: هذا هو المعروف، أيش قال عنه شعيب؟

الطالب: نفس الكلام، لكن زاد: راجع "الروح" لابن القيم.

الشيخ: وشاكر؟

الطالب: يقول: هكذا ذكره الشارحُ منسوبًا للنَّسائي من حديث ابن عباسٍ مرفوعًا، ورفعه وهم يقينًا: إمَّا من الشارح، وإما من الناسخ. وليس هو في "سنن النسائي" التي في أيدينا، ولكنه في "السنن الكبرى" موقوف على ابن عباسٍ، نقله الحافظ الزَّيلعي في "نصب الراية"، وكذلك جاء عن ابن عمر ونحوه موقوفًا، ذكره مالك في "الموطأ": أنه بلغه عن ابن عمر. ولم يذكر أحد من شارحيه مَن رواه موصولًا، ولكن الحافظ الزيلعي نقله من "مصنف عبد الرزاق" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عمر، وصرَّح الزيلعي بما يُفيد أنه لم يعرفه مرفوعًا قط.

الشيخ: ويُروى هذا عن عائشة أيضًا، ويُروى عن ابن عمر وابن عباس في إخراج الكفَّارة طعامًا، وإذا لم يتيسر الصوم فُدي عنه عن كل يوم مسكين، إذا لم يتيسر مَن يصوم عنه من أهل بيته يُطعم عن كل يوم مسكين، والأفضل نصف صاع.

س: هل يأثم وليه لو ما صام؟

ج: لا، يُستحب له، يُسن له؛ لأنَّ الله يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

س: في صوم النذر وفي الفريضة كلاهما؟

ج: نعم، إذا تيسر الصوم وإلا يُطعم عنه، وآثار ابن عمر وابن عباس وعائشة يُعمل بها عند تعذر الصيام.

وَالدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَا تَسَبَّبَ فِيهِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ:

أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ الْأَحْيَاءِ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ مُسْتَفِيضَةٌ، وَكَذَا الدُّعَاءُ لَهُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَفِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ.

الشيخ: وهذا سنة بعد الدفن؛ أن يُوقف عليه بعد الدَّفن ويُدعا له بالمغفرة والثَّبات، أما التَّلقين الذي يفعله بعضُ الناس في بعض البلدان، كالمشهور عن أهل الشام، يقف عليه بعد موته ويقول: يا فلان، اذكر ما خرجتَ به من الدنيا؛ أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبد الله ورسوله، وأنك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالقرآن إمامًا. فهذا ليس له أصل، جاءت فيه أخبار موضوعة، وإنما هو مشهور عن بعض أهل الشام من التابعين وأتباعهم، لا يُعول عليه، والصواب أنه غير مشروعٍ، بل بدعة، وإنما المشروع أنه يقوم عليه بعد الدَّفن ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبِّتْه بالقول الثابت، كما فعله النبيُّ ﷺ.

س: والأذان يا شيخ؟

ج: والأذان والإقامة بدعة، فما يفعله بعضُ الناس من الأذان في قبره أو الإقامة كله بدعة، لا أصلَ له، أو القراءة في القبر، مثل: أن يقرأ فيه القرآن، أو بعض السور، لا أصلَ له.

س: ورد في حديثٍ عن أبي أُمامة؟

ج: ليس بصحيحٍ، ذكره صاحب "البلوغ" وغيره، وهو موضوع.

س: هل يرفع يديه عند الدُّعاء؟

ج: ما ورد الرفع.

س: تحديد الاستغفار بعددٍ معينٍ؟

ج: ما في حدّ.

س: المولود الصغير ..........؟

ج: يُستحب أن يُؤذن في أذنه اليمنى، ويُقام في اليسرى، ويُسمَّى في اليوم السابع، وإن تُرك فلا بأس، ورد عن النبي ﷺ ما يدل على تركه، جاء هذا وهذا، مَن فعله فقد أحسن، ومَن تركه فلا بأس.

س: بعد الأسبوع؟

ج: في اليوم السابع هذا الأفضل، وإن سمَّاه في اليوم الأول فلا بأس، سمَّى النبي بعض أولاده في اليوم الأول، وبعض أولاد الصحابة.

س: لو دعا أحدُهم بعد الدَّفن والبقية يُؤمنون، جائز؟

ج: ما أعلم فيه شيئًا، المؤمن داعٍ. أيش قال عليه؟

الطالب: قال: صحيح، وهو مخرَّج في "أحكام الجنائز".

الشيخ: أيش قال شُعيب؟

الطالب: نفس الكلام: أخرجه أبو داود في "الجنائز" باب "الاستغفار عند القبر للميت".

وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ، كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُهُم إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ.

الشيخ: وهذه السنة عند زيارة القبور، يزورها المسلمون للذّكرى والعبرة، لا يزورونها ليدعوا الميت ويسألونه حاجاتهم، هذا شرك بالله، بعض الناس في كثيرٍ من البلدان بسبب الجهل العظيم وقلَّة العلماء يزورون القبور ليعبدوهم من دون الله، وليسألوهم الحاجات وتفريج الكروب: يا سيدي فلان، المدد، المدد، أنا عبدك، أنا في حسبك، أنا في جوارك، قد جئتُ مُستغيثًا، جئتُ مُستجيرًا! هذا شرك أكبر، نعوذ بالله، ولكن تُزار للدعاء لهم هم، فهم محتاجون للدُّعاء، نفس المقبورين إذا كانوا مسلمين محتاجون أن يُدعا لهم؛ ولهذا علَّم النبيُّ ﷺ أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقولوا: السلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، وفي لفظٍ آخر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.

وفي الحديث الثالث: أنه كان يقول عندما يقف على أهل البقيع: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون مُؤجَّلون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.

وفي الحديث الآخر -حديث ابن عباسٍ: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر، هذه هي الزيارة الشَّرعية.

أما الذي يأتي يتمسَّح بالقبور ويُقبلها، ويتمسح بترابها، ويتمرغ عليها، أو يدعوها ويستغيث بها، أو ينذر لها، أو يذبح لها، أو الذي يقرأ عندها، أو يُصلي عندها، فهذا من البدع والخُرافات الباطلة، فيجب الحذر، ونفس دعائهم وطلب المدد منهم والاستجارة والغوث هذا عمل الجاهلية الأولى، وهو الشرك الأكبر، نسأل الله العافية.

والصلاة عندها، والقراءة عندها، واتِّخاذها محلًّا للتَّعبد؛ هذا من البدع المحدثة، ولو كان يقصد الله فهو بدعة، فإذا قصدهم بهذا صار شركًا أكبر، نسأل الله العافية.

س: كذلك قراءة الفاتحة بعد الدُّعاء؟

ج: ما لها أصل، لا، يُصلي على النبي في خاتمة الدعاء ويحمد الله.

.............

س: قراءة الفاتحة عند عقد النِّكاح؟

ج: ما أعرف لها أصلًا، إذا حمد الله وصلَّى على النبي كفى.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ: كَيْفَ تَقُولُ إِذَا اسْتَغْفَرَتْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ منا ومنكم والمُستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون.

الطالب: قال: قطعة من حديثٍ طويلٍ أخرجه مسلم والنَّسائي وأحمد.

الشيخ: ...........

س: قوله ﷺ: وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون معناه؟

ج: من باب التَّبرك.

س: إذا استدلَّ القائلون بجواز زيارة النِّساء للقبور بهذه الرِّواية؟

ج: هذا الحديث منسوخ، الرسول ﷺ لعن زائرات القبور، كان هذا أولًا، ثم أذن للجميع، ثم نُسخت الزيارة للنساء، وبقيت زيارة الرجال، كان النبيُّ ﷺ أولًا نهى الجميع عن الزيارة، ثم رخَّص للجميع، ثم خصَّ النساء بالمنع: كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، هذا النسخ العام، ثم جاء حديث: "لعن رسولُ الله ﷺ زائرات القبور"، فعُلم استثناؤهن، وأنهن غير داخلات في الرُّخصة، أو دخلن ثم مُنعن.

س: هل عُلم التَّاريخ عفا الله عنك؟

ج: ما هو بمعروفٍ، لكن لما لعن زائرات القبور بيَّن أهلُ العلم أنَّ الخاصَّ يقضي على العام مطلقًا.

س: عائشة رضي الله عنها زارت أخاها؟

ج: قالت: "لو شهدتك ما زرتك"، فهذا من اجتهادها، ولا يُعرف عن النساء أنهن كن يزرن القبور في عهد النبي ﷺ، بل منعهن من الزيارة، قالت أم عطية: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز".

س: احتجوا بهذه: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز"، ما قالت: نُهينا عن الزِّيارة؟

ج: إذا كان اتِّباع الجنائز مع عظم شأنه فكيف بالزيارة؟ من باب أولى، فتشييع الجنازة لما فيه من العون لأهل الميت، والجبر لمصيبتهم، ومشاركتهم في المصيبة، ومع ذلك تُمنع، فكيف بالزيارة التي ليس لها مبرر، ثم صريح اللَّعن يكفي.

س: نُهي عن إكثار الزِّيارة "الزَّورات"؟

ج: ليس بظاهرٍ، بل جاءت الرواية بهذا وهذا: "زائرات".

س: ما العلة من منعهنَّ؟

ج: لأنهن فتنة، مثلما قال النبيُّ ﷺ: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرجال من النساء.

س: "ولم يعزم علينا"؟

ج: هذا في اتِّباع الجنائز، وهذا على فهمها، وإلا فالنَّهي ثابت.

ما علَّق على حديث عائشة؟

الطالب: قال: صحيح، وهو مخرج في "أحكام الجنائز".

الشيخ: شعيب؟

الطالب: أخرجه مسلم والنَّسائي وأحمد.

..............

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النبيَّ ﷺ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تصدَّقتُ عنها؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطي الْمِخْرَافِ صَدَقَةٌ عَنْهَا.

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ.

الشيخ: وهذا محل إجماعٍ بين أهل العلم؛ بلوغ الصدقة للموتى، وانتفاع الموتى بالصدقة كالأحياء؛ أمر مُجمع عليه كالدُّعاء.

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الصَّوْمِ: فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الصَّحِيحِ.

وَلَكِنَّ أَبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بِالْإِطْعَامِ عَنِ الْمَيِّتِ دُونَ الصِّيَامِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.

الشيخ: اختلف العلماءُ: هل يُصام عنه كل شيءٍ أو يختص بالنذر؟

على أقوالٍ، والأشهر عند العلماء أنه يُصام عنه النذر فقط، والمعروف عند الحنابلة أيضًا.

والصواب أنه يُصام عنه كل شيء: النذر ورمضان والكفَّارات، لعموم الحديث؛ لأنَّ الرسول ﷺ قال: مَن مات وعليه صيام نكرة في سياق الشرط صام عنه وليُّه، ولم يُفصل، ما قال: صيام نذر. ولم يقل: لا تصوموا عنه إلا النذر. فأطلق، والعموم حُجَّة حتى يأتي المخصص.

وقد سُئل غير مرةٍ عمَّن عليه صيام، واحد يقول: أمي ماتت وعليها صيام شهر؟ وآخر يقول: إنَّ أمي ماتت وعليها صيام شهرين؟ وآخر يقول: إنَّ أختي ماتت وعليها كذا، أفنصوم عنها؟ قال: صوموا عنها، أرأيتَ لو كان على أمك دينٌ أكنتَ قاضيه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء.

ولم يقل: ما صومك؟ ما هو الصوم؟ أهو نذر أم كفَّارة؟ فلما لم يُفصل وأطلق الجواب؛ فدلَّ على أن الحكم عام.

وفي "مسند أحمد" بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم رمضان، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عن أمك، أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء، فصرَّحت في هذه الرواية بأنَّ أمها عليها صوم رمضان.

والمقصود أنَّ هذا هو الصواب، والله جلَّ وعلا قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وهذا الذي بيَّنه الرسولُ ﷺ.

وهذا كله إذا كان غير معذورٍ، أما المعذور فلا شيءَ عليه، فمَن مات في مرضه فلا شيءَ عليه؛ لأنه معذور.

س: ما ورد في بعض الألفاظ: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذرٍ؟

ج: بلى، ورد في بعض الألفاظ، ولكن لا يُخصص، هذه واقعة، والواقعة لا تُخصص.

س: احتجاج بعض العلماء بهذه اللَّفظة ..؟

ج: احتجاج فاسد؛ لأنَّ وقوع الحادثة لا تُخصص القضية، مثل لو قال: صوم رمضان، أو قال: صوم كفَّارة، لا يُخصص؛ لأنَّ الرسول ﷺ مُشَرِّع.

س: قضاء صوم التَّطوع؟

ج: ما له أصل، المراد صوم الواجب.

وَأَمَّا وُصُولُ ثَوَابِ الْحَجِّ: فَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ. وَنَظَائِرُهُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ.

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يُسْقِطُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْ غَيْرِ تَرِكَتِهِ؛ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، حَيْثُ ضَمِنَ الدِّينَارَيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا قَضَاهُمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ.

وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ حَقُّ الْعَامِلِ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ هبة ماله له فِي حَيَاتِهِ، وَإِبْرَائِهِ لَهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَقَدْ نَبَّهَ الشَّارِعُ بِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الصَّوْمَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِهِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَكَيْفَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ عَمَلٌ وَنِيَّةٌ؟!

وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] قَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ، أَصَحُّهَا جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَعْيِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ اكْتَسَبَ الْأَصْدِقَاءَ، وَأَوْلَدَ الْأَوْلَادَ، وَنَكَحَ الْأَزْوَاجَ، وَأَسْدَى الْخَيْرَ، وَتَوَدَّدَ إِلَى النَّاسِ؛ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَأَهْدَوْا لَهُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَثَرَ سَعْيِهِ، بَلْ دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وُصُولِ نَفْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَاحِبِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ.

يُوَضِّحُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِدُعَاءِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْيِهِمْ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي السَّبب الذي يُوصل إليه ذلك.

الثَّانِي -وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْفِ انْتِفَاعَ الرَّجُلِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَفَى مِلْكَهُ لِغَيْرِ سَعْيِهِ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ مَا لَا يَخْفَى؛ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا سَعْيَهُ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِسَاعِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبْذُلَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُبْقِيَهُ لِنَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۝ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:38- 39] آيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ مُقْتَضِيَتَانِ عَدْلَ الرَّبِّ تَعَالَى:

فَالْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مُلُوكُ الدُّنْيَا.

وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ إِلَّا بِعَمَلِهِ؛ لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ نَجَاتِهِ بِعَمَلِ آبَائِهِ وسلفه ومشايخه، كَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ: لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِمَا سَعَى.

وكذلك قوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134]، وقوله: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، عَلَى أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عُقُوبَةُ الْعَبْدِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ ﷺ: إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ فَاسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلِ: انْقَطَعَ انْتِفَاعُهُ، وَإِنَّمَا أخبر عن انقطاع عَمَلِهِ، وَأَمَّا عَمَلُ غَيْرِهِ فَهُوَ لِعَامِلِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِ الْعَامِلِ، لَا ثَوَابَ عَمَلِهِ هُوَ، وَهَذَا كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الإنسانُ عن غيره، فتبرأ ذمَّته، ولكن لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ.

...............

الطالب: تكلَّم عليه الأرناؤوط.

الشيخ: عندك؟

الطالب: نعم، يقول: الآن بردت عليه جلدته قطعة من حديثٍ أخرجه أحمد والطيالسي والبيهقي من حديث جابر بن عبدالله، قال: مات رجلٌ فغسلناه وكفناه وحنَّطناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث تُوضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله ﷺ بالصلاة عليه، فجاء معنا خُطًى، ثم قال: لعلَّ على صاحبكم دينًا؟ قالوا: نعم، ديناران. فتخلَّف، فقال له رجلٌ منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله، هما عليَّ. فجعل رسولُ الله ﷺ يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما بريءٌ، فقال: نعم، فصلَّى عليه، فجعل رسولُ الله ﷺ إذا لقي أبا قتادة يقول: ما فعل الديناران؟، حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتُهما يا رسول الله، قال: الآن حين بردت عليه جلده. وسنده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأورده الهيثمي في "المجمع" ونسبه لأحمد والبزار، وحسَّن إسناده.

الشيخ: .............

الطالب: الشيخ قال: حسن؛ رواه الحاكم وغيره.

وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ: فقد شرع النبيُّ ﷺ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ أنَّ الصوم لا تُجزئ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

الشيخ: أيش قال عليه؟

الطالب: قال: صحيح من شواهده، انظر: "المجمع"، ومن شواهده الذي بعده.

طالب آخر: الأرناؤوط قال: أخرجه أحمد وأبو داود في "الأضاحي" باب "في الشاة يُضحَّى بها عن جماعةٍ"، والترمذي من طريق المطلب بن عبد الله عن جابر، ورجاله ثقات، إلا أنَّ المطلب مدلس، ولم يُصرح بالسماع من جابرٍ، لكن يشهد له الحديث الآتي وغيره. انظر: "مجمع الزوائد".

الشيخ: ..............

الطالب: ما تكلم.

وَحَدِيثُ الْكَبْشَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا، وَفِي الْآخَرِ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم، الحديث الأول قال: حسن، وهو في "المسند" صفحة كذا. أما الذي يليه: اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمدٍ فقال: ضعيف الإسناد؛ فيه أبو صالح الخوزي، قال في "التقريب": لين الحديث. وأما الحاكم فقال في هذا الحديث: صحيح الإسناد. وسكت عليه الذهبي، قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: أخرجه أحمد من حديث علي ابن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ضحَّى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلَّى وخطب الناس أُتِي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم إنَّ هذا عن أمتي جميعًا ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمدٍ وآل محمدٍ، فيُطعمهما جميعًا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، مكثنا سنين ليس رجلٌ من بني هاشم يُضحِّي؛ قد كفاه الله المؤنةَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعزم. وسنده حسن، وقد وهم الشيخُ ناصر الدين الألباني فجعل الحديثَ حديثين، فعزى الأول إلى "المسند"، وضعَّف الثاني مُتوهِّمًا أنَّ في سنده أبا صالح الخوزي، مع أنَّ الحديث الذي فيه أبو صالح الخوزي هو: مَن لا يدعو الله يغضب عليه المخرَّج في "المستدرك" لا علاقةَ له بما هنا أصلًا، وسيرد فيما بعد. انتهى.

الشيخ: .............

وَالْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِغَيْرِهِ.

الشيخ: محاولة الشَّارح يعني: حصول جميع القُرب كما قال الجمهور فيها نظر، فالجمهور يرون أنَّ جميع القرب تصل إلى الميت والحي وينتفع بها، وقاسوا ما لم يرد على ما ورد، قاسوا ما لم يرد: كالصلاة والقراءة على ما ورد.

وجواب مَن فرَّق أنَّ هذه أمور توقيفية وعبادات، فلا ينبغي أن يُقاس فيها ما لم يرد على ما ورد، بل يقتصر على الوارد، ولم يرد عن النبي ﷺ أنه شرع لنا أن نُصلي على الأموات، أو أن نصوم عنهم صوم التطوع، أو نقرأ عنهم، إنما ورد الصوم عمَّن عليه صيام، ووفاء النَّذر، وصوم رمضان إذا مات وقد فرَّط، والكفَّارات، والصَّدقة من ماله قد أجمع عليها المسلمون، فلا يُقاس هذا على هذا، فالأولى والأحوط أن يقتصر على الوارد من غير زيادةٍ.

ولما حدَّث ابن المبارك وقال له رجلٌ: إنَّ فلانًا روى عن النبي ﷺ أنه قال: "إنَّ من برِّ الرجل لوالديه أن يُصلي لهما مع صلاته، ويصوم لهما مع صومه"، قال: عمَّن؟ قال: عن فلانٍ، قال: ثقة، عمَّن؟ قال: عن فلانٍ، قال: ثقة، عمَّن؟ قال: عن النبي ﷺ، قال: بين فلانٍ وبين النبي ﷺ مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل.

فما كل مَن ادَّعى شيئًا يُسلم له، فالدَّعوى أوسع من الدَّليل.

فالأولى والأفضل والأحوط للمؤمن -وهو ظاهر الأدلة- هو الاقتصار على الوارد في قطع النزاع، فلا يُقاس على الوارد صوم التطوع، ولا يُقاس على الوارد الصلاة عن الميت، ولا قراءته عنه؛ لأنَّ هذا لم يرد، وواجب المؤمن الوقوف عمَّا لم يرد، وإن كان الجمهور يرى الجواز، فالأحوط هو الوقوف مع الأدلة فقط، وأنَّ مسألة وصول الثواب توقيفية، هذا هو الأحوط.

س: الإنابة في حجِّ التَّطوع؟

ج: لأنه جاء في الإطلاق، وما جاء فيه التفصيل حديث ابن عباس: حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شبرمة، فلم يستفصله.

س: الحي؟

ج: أما الحي لا، إلا إذا كان عاجزًا فيه خلاف، ولكن هذا هو الصواب.

...............

وَكَذَلِكَ عِبَادَةُ الْحَجِّ بَدَنِيَّةٌ، وَلَيْسَ الْمَالُ رُكْنًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَالِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَعْنِي: أَنَّ الْحَجَّ غَيْر مُرَكَّبٍ مِنْ مَالٍ وَبَدَنٍ، بَلْ بَدَنِيٌّ مَحْضٌ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَانْظُرْ إِلَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ: كَيْفَ قَامَ فِيهَا الْبَعْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؟ وَلِأَنَّ هَذَا إِهْدَاءُ ثَوَابٍ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَتَهُ لِمَنْ شَاءَ.

وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ قَوْمٍ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ وَيُهْدُونَهُ لِلْمَيِّتِ! فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَلَا رَخَّصَ فِيهِ.

وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَفْسِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَنَحْوِه مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تَصِلُ إِلَى الْغَيْرِ، وَالثَّوَابُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً خَالِصَةً، فَلَا يكون له من ثَوَابه مَا يُهْدَى إِلَى الْمَوْتَى؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يَكْتَرِي مَنْ يَصُومُ وَيُصَلِّي ويهدي ثواب ذلك إلى الْمَيِّتِ، لَكِنْ إِذَا أَعْطَى لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ وَيَتَعَلَّمُهُ مَعُونَةً لِأَهْلِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَنْهُ، فَيَجُوزُ.

وَفِي الِاخْتِيَارِ: لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى قَبْرِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُجْرَةِ. انْتَهَى.

الشيخ: ولأنها بدعة أيضًا؛ فالقراءة على القبر بدعة، فالوصية باطلة لأمرين: لأنَّ الاستئجار على التلاوة ممنوع، ولأن القراءة على القبور ممنوعة.

وَذَكَرَ الزَّاهِدِيُّ فِي "الْقُنْيَةِ" أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَالتَّعْيِينُ بَاطِلٌ.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِهْدَاؤُهَا لَهُ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، فَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ، كَمَا يَصِلُ ثَوَابُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي السَّلَفِ، وَلَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ؟!

فَالْجَوَابُ: إِنْ كَانَ مُورِدُ هَذَا السُّؤَالِ مُعْتَرِفًا بِوُصُولِ ثَوَابِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ، قِيلَ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ وَلَيْسَ كَوْنُ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلُوهُ حُجَّةً فِي عَدَمِ الْوُصُولِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ؟

فَإِنْ قِيلَ: فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ دُونَ الْقِرَاءَةِ؟

قِيلَ: هُوَ ﷺ لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَهُمْ، فَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصَّوْمِ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ -الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ وإمساكٍ- وبين وصول ثواب القراءة والذِّكر؟

فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْإِهْدَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟

قِيلَ: مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بِدْعَةً؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا مِنْ أُمَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ.

الشيخ: وهذا من نعم الله عليه، له مثل أجور أمته، كل عملٍ صالحٍ يفعله أفرادُ الأمة فله مثل أجورهم؛ لقوله ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، أما إهداء ثواب القراءة له فلم يرد، والصحابة أعلم الناس بهذا وأفهمهم وأكثرهم حبًّا للرسول ﷺ ولم يفعلوه، وهم الأسوة، فلا يُشرع.

.............

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَهُ، بِاعْتِبَارِ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّهِ.

فَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَا شَكَّ فِي سَمَاعِهِ، وَلَكِنَّ انْتِفَاعَهُ بِالسَّمَاعِ لَا يَصِحُّ.

الشيخ: هذا ليس بجيدٍ، فإنَّ الصواب أن الميت لا يسمع إلا ما جاء في النصِّ، الأصل أنه لا يسمع، قد انقطعت حواسه، وانتهى أمره، وانقطع عمله، هذا هو الأصل، قال تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، فالأصل أنه لا يسمع إلا ما أخبر الله به أنه يسمع: كسؤال منكر ونكير، وقرع نعالهم إذا ولوا بعد دفنه، وأما أنه يسمع سوى ذلك فيحتاج إلى دليلٍ، والأصل عدمه؛ ولهذا لا تُشرع القراءة عند القبر، ولو فُرض أنه يسمع، لكن الصواب أنه لا يسمع شيئًا من ذلك.

فالقراءة عند القبور وسيلة للشرك، ووسيلة للدعاء والاستغاثة وغير ذلك، فلا تُشرع؛ لأنَّ السلف لم يفعلوها؛ ولأنها وسيلة للشرك بها، والتَّعلق بها، والتَّبرك بها، والدعاء عندها، والصلاة عندها.

س: لأنَّ أصلها فيه خلاف؟

ج: الصواب أنه لا يسمع إلا ما جاء به النص فقط، فهذا توقيفي.

س: لكن قول الرسول لأصحابه: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم؟

ج: كل هذه موارد خاصَّة يُقتصر عليها: أهل القليب، وسماع قرع نعالهم، وسماع سؤال منكر ونكير، مواضع لا يُزاد عليها؛ لأنَّ الله قال: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى.

س: ما يُهدى للميت من الصَّدقات والدّعاء، القول بأنَّ هذا جائز، وليس بمشروعٍ، وليس مُستحبًّا، سند مَن قال بهذا؟

ج: الصوم عنه مشروع، والحج عنه مشروع، والدعاء له مشروع، والصَّدقة عنه مشروعة.

س: الأُضحية عن الميت والدّعاء؟

ج: مشروعة، من باب الصَّدقة، والدعاء كذلك، والذي ليس بمشروعٍ هو قراءة القرآن أو الصلاة، ما ورد فيها نصٌّ.

س: هو يُفرِّق بين الواجب والمُستحب وبين الجائز، يقول: هذا جائز؛ لأنَّ الرسول رخَّص فيه؟

ج: هذا من كيسه.

...............

الشيخ: هناك رسالة قرأناها لمحمد شفيع -مفتي باكستان- جمع فيها كلام العلماء، وبيَّن عدم السَّماع إلا ما جاء به النصُّ، وهذا هو الأصل، حتى ولو فرضنا أنهم يسمعون ما جاز لنا أن نفعل شيئًا لم يشرعه الله، حتى لو فرضنا أنهم يسمعون ما جاز لنا أن نجلس عند قبورهم للقراءة، أو نقرأ الأحاديث عند قبورهم؛ انقطعت أعمالهم بالموت.

فَإِنَّ ثَوَابَ الِاسْتِمَاعِ مَشْرُوطٌ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، بَلْ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَمْتَثِلْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الْخَيْرِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: هَلْ تُكْرَهُ، أَمْ لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ وَتُكْرَهُ بَعْدَهُ؟

فَمَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا -كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ- قَالُوا: لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْقِرَاءَةُ تُشْبِهُ الصَّلَاةَ، وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ.

وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا -كَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ- اسْتَدَلُّوا بِمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ وَقْتَ الدَّفْنِ بِفَوَاتِحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَوَاتِمِهَا. وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَمَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا وَقْتَ الدَّفْنِ فَقَطْ -وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- أَخَذَ بِمَا نُقِلَ عن ابن عُمَرَ وَبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ.

وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ -كَالَّذِينَ يَتَنَاوَبُونَ الْقَبْرَ لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ- فَهَذَا مَكْرُوهٌ، فَإِنَّهُ لم تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ مِثْل ذَلِكَ أَصْلًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَعَلَّهُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.

الشيخ: والمقصود أنه لو صحَّ عن ابن عمر فلا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّ ابن عمر له اجتهادات لا يُتابع عليها، فقول الصَّحابي إذا خالف ظاهرَ السنة وعمل الكبار فلا يُلتفت إليه، مثل: غسل عينيه، وتتبع آثار النبي ﷺ، ومثل هذا الذي يُروى عنه أنه أمر أن يُقرأ القرآن على قبره عند الدَّفن، إن صحَّ عنه فهذا شيء لا يُتابع عليه؛ لأنه ما فعله الخلفاء الرَّاشدون ولا كبار الصحابة غيره؛ ولأنه وسيلة إلى تناوب الناس عند القبور والقراءة عندها، ثم التَّعبد عندها، والصلاة عندها، هذا لو صحَّ.

س: جاء عن بعض الصَّحابة أنَّه قال: إذا دفنتُموني فاجلسوا عند قبري قدر نحر الجزور؟

ج: هذا عمرو بن العاص، رواه مسلم في الصحيح، وهذا ليس في القراءة، بل عدم العجلة في الانصراف، والدّعاء له.

س: قوله: حتى أستأنس بكم؟

ج: هذا زيادة ...........