وَأَمَّا أَبَدِيَّةُ النَّارِ وَدَوَامُهَا: فَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدَ الْآبَادِ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ طَبِيعَتُهُمْ وَتَبْقَى طَبِيعَةً نَارِيَّةً؛ يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِمُوَافَقَتِهَا لِطَبْعِهِمْ! وَهَذَا قَوْلُ إِمَامِ الاتِّحادية ابن عربي الطائي!
الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا إِلَى وَقْتٍ مَحْدُودٍ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَيَخْلُفُهُمْ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَأَكْذَبَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80- 81].
الرَّابِعُ: يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَتَبْقَى عَلَى حَالِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا تَفْنَى بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ! وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِ وَشِيعَتِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
السَّادِسُ: تَفْنَى حَرَكَاتُ أَهْلِهَا وَيَصِيرُونَ جَمَادًا، لَا يُحِسُّونَ بألمٍ. وهذا قول أبي الهُذيل العلَّاف، كَمَا تَقَدَّمَ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ يَشَاءُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ يُبْقِيهَا شَيْئًا، ثُمَّ يُفْنِيهَا، فَإِنَّهُ جَعَلَ لَهَا أَمَدًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ شَاءَ، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، وَيَبْقَى فِيهَا الْكُفَّارُ بَقَاءً لَا انْقِضَاءَ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَهَذَانِ القولان لأهل السنة، يُنظر في أدلتهما.
الشيخ: وهذا القول الأخير -الثامن- هو قول أهل السنة والجماعة: أنَّ النار تبقى أبد الآباد، وأن أهلها مُخلَّدون فيها، لا تنقضي ولا تزول، كما أنَّ الجنة أهلها مخلَّدون أبد الآباد، هكذا أهل النار مُخلَّدون فيها أبد الآباد، لا ينتهي عذابهم، ولا تبطل حركاتهم، بل في عذابٍ واستمرارٍ، نسأل الله العافية، كما قال تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [النبأ:30- 31]، وقال تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وقال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، فعذاب النار مستمر ومستقر، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، هذا هو الذي عليه أهلُ الحق، وقامت عليه الأدلةُ من الكتاب والسنة.
إلا أنه يخرج منها عُصاة الموحدين عند أهل السنة والجماعة، عُصاة الموحدين لا يُخلَّدون، خلافًا للخوارج والمعتزلة؛ فإنَّ الخوارج والمعتزلة قالوا: مَن دخلها لا يخرج منها، بل عذابهم مستمر فيها أبد الآباد، حتى العُصاة من الموحدين. وهذا قول باطل، قول الخوارج والمعتزلة قول باطل، بل الذي عليه أهلُ السنة والجماعة وتواترت به الأدلةُ أن العُصاة من الموحدين لا يُخلَّدون، بل يُعذَّبون إذا دخلوها إلى ما شاء الله، على قدر أعمالهم الخبيثة، ثم يخرجون منها بعد التَّطهير والتَّمحيص؛ لأنَّ الجنة دار الطيبين، ولا يدخلها إلا الطَّيبون، والعُصاة فيهم خبث، فإن عفا الله عنهم فضلًا منه أو بأسباب شفاعة الشُّفعاء قبل دخول النار دخلوا الجنةَ، وصار عفو الله عنهم مُطهِّرًا لهم، فإن دخلوها بأعمالهم الخبيثة: كالزاني، والسارق، والعاق للوالدين، وقاطع الرحم، وصاحب الربا، وغيرهم من العُصاة الذين ماتوا غير تائبين، فهؤلاء مُتوعدون بالنار، والله علَّق مغفرتهم على مشيئته ، قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فجعل أهلَ الشرك غير مغفورٍ لهم، وقطع بذلك ولم يُعلق، أما مَن كان على ما دون الشرك من المعاصي، فعلَّق المغفرةَ على مشيئته فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وما دون ذلك يشمل سائر المعاصي ما عدا الشرك، فدلَّ ذلك على أنَّ العُصاة لهم حدٌّ، ولهم نهاية، ثم يخرجون منها، كما جاءت به النصوص المتواترة عن رسول الله ﷺ: أن العُصاة يخرجون من النار، ولا يبقى في النار إلا الكفَّار، فيُخلَّدون فيها أبد الآباد.
أما القول السابع، فهو قول بعض أهل السنة: أنَّ العُصاة يبقون في النار أحقابًا كثيرةً، ثم تفنى ويفنون.
وهذا قول ضعيف ومرجوح، وإن كان قال به بعضُ السلف، لكنه قول مرجوح وضعيف، بل باطل، وليس بصحيحٍ، والصحيح الذي عليه جمهورُ أهل السنة -وهو كالإجماع منهم- أنَّ النار تبقى أبد الآباد، لا تفنى، ويبقون فيها أحقابًا بعد أحقابٍ لا تنتهي: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] يعني: لا تنتهي، إلا أنَّ العُصاة لا يبقون فيها، بل لهم أمد، ولهم خلود فيها خاصٌّ: كالقاتل، والزاني، لهم خلود خاصٌّ: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69]، قاتل النفس مُخلَّد فيها، لكنه خلود خاصّ، ليس بمؤبدٍ، فإنَّ الخلود خلودان عند العرب: خلود له نهاية، وهذا هو الخلود الذي وعد به بعض العُصاة: كالقاتل نفسه، والقاتل لغيره عمدًا، والزاني، هؤلاء جاء فيهم خلود خاصّ له حدّ وله أمد ينتهي إليه.
أما خلود الكفرة فهو خلود ليس له أمد، بل هو خلود مُستمر، نعوذ بالله من ذلك، فهذه مسألة عظيمة ينبغي أن نحفظها جيدًا، ونعقلها جيدًا، كما بيَّن أهلُ السنة، وكما ذكر الشارحُ هنا.
وقد ذكر ابنُ القيم رحمه الله وشيخُ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليهما ذكرا وجوهًا كثيرةً لمن قال بفناء النار من السلف، وبسطا القول في ذلك، وذكر الحُجج الأخرى، وبيَّن ابنُ القيم رحمه الله في "الوابل الصيب" أنَّ الصواب هو ما عليه عامَّةُ أهل السنة، وهو أنَّ النار تبقى أبدًا ولا تنقطع ولا تزول، بل تبقى أبد الآباد بعد خروج الموحدين العُصاة، قال: هؤلاء هم الذين تفنى نارهم، نار الموحدين تفنى وتذهب بخروجهم منها، أما نار الكفَّار وما أعدَّ الله لهم فهي تبقى أبد الآباد، نسأل الله العافية.
س: النار ناران أو نار واحدة؟
ج: أنواع من النار متفاوتة؛ بعضها أشد من بعضٍ، وهي دركات بعضها تحت بعضٍ، والطبقة الأسفل هي الأشد حرًّا، وأشد بلاءً، وأسفلها الدَّرك الأسفل لأهل النفاق: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].
س: ..............؟
ج: جاء في الحديث الصحيح أنَّ الكفَّار يعظمون فيها.
س: ابن القيم في "حادي الأرواح" يميل إلى فنائها؟
ج: هو ذكر الحجَّتين، ولا أعلم أنه صرَّح بفناء النار، ولا شيخ الإسلام، إنما ذكرا الحجج سردًا، هذه وهذه، وهو مقامه مقام التَّوقف، إلا في "الوابل" صرَّح بأنَّ نار الموحدين هي التي تفنى، وأما النار التي أعدَّها للكفَّار فهي تبقى أبد الآباد.
س: بالنسبة لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] يدخل فيها تارك الأوامر كالصَّلاة؟
ج: يدخل فيها تارك الأوامر، وفاعل النَّواهي، ما عدا الصلاة، فإنَّ الحقَّ أن تاركها كافر كفرًا أكبر، هذا هو الصواب فيه، أما الزكاة والصوم والحج فالجمهور على أنَّ تاركها من غير جحدٍ؛ لم يجحد وجوبها، ولكن تركها من غير جحدٍ، فهذا لا يكفر، ولكن يكون له حكم العُصاة -أهل الكبائر- وأما تارك الصلاة فاختلف العلماء فيه اختلافًا كبيرًا، ولكن الراجح والأصح أن تاركها كافر كفرًا أكبر؛ لقول النبي ﷺ: بين الرجل وبين الكفر والشِّرك ترك الصلاة خرَّجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابرٍ ؛ ولقول النبي ﷺ أيضًا: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر خرَّجه الإمامُ أحمد وأهل السنن بإسنادٍ صحيحٍ عن بُريدة ؛ ولحديث: رأس الإسلام وعموده الصلاة؛ ولأحاديث أخرى: كحديث أنَّ النبي ﷺ بايع أصحابَه أن لا يُنازعوا الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، وفي اللَّفظ الآخر قال: ما أقاموا فيكم الصلاة، فدلَّ ذلك على أنَّ الذي لا يُقيم الصلاة قد أتى كفرًا بواحًا، نسأل الله العافية.
.............
س: بعض العلماء يحتجُّون بحديث معاذٍ، فيقولون أن تارك الصلاة كافر كفرًا دون كفرٍ؟
ج: حديث معاذ وغيره كله بابه واحد؛ لأنَّ تارك الصلاة كافر، حديث معاذ: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا، ومَن ترك الصلاة فقد كفر، فقد أشرك.
الطالب: شعيب الأرناؤوط علَّق على كلام الشارح، يقول: هذا خطأ. على قوله: "هذان القولان لأهل السنة، يُنظر في أدلتهما": هذا خطأ تابع فيه المؤلفُ ابنَ القيم وشيخه، فليس لأهل السنة في هذه المسألة إلا قول واحد؛ وهو أنَّ الجنة والنار لا تفنيان، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وتلقوه خلفًا عن سلفٍ عن نبيهم ﷺ، وهو مركوز في فطرة المسلمين، معلوم من الدِّين بالضَّرورة، وللإمام الحافظ علي بن عبد الكافي السبكي رسالة في هذا الموضوع أسماها "الاعتبار ببقاء الجنة والنار"، وهي نفيسة في بابها، فلتُراجع لزامًا.
الشيخ: كلامه ليس بجيدٍ، كلامه ليس بخطأ، كلام شعيب هو الخطأ، هذا الكلام معروف عن السلف، ما هو خطأ، ما هو بكلام الشارح، ولا كلام ابن القيم وابن تيمية، بل عن السلف الصالح المتقدمين من الصحابة والتابعين.
س: كلام ابن القيم في أنَّ نار العُصاة تفنى، قسَّم النارَ إلى نارين؟
ج: محل نظرٍ، لكن المقصود .....، لكن محل نظرٍ، قد تُضاف إلى نارٍ أخرى، قد تزول مثلما قال، وقد تُضاف إلى نارٍ أخرى، نسأل الله العافية.
س: ..... قاعدة في الرد على مَن قال بفناء الجنة أو النار، كذلك شيخ الإسلام أبطل مَن قال بهذا في نفس "الفتاوى"؟
ج: ..... وكلامه في هذا معروف في "الفتاوى" وغير "الفتاوى".
فَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَ هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ مَا أَتَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، وقوله تعالى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23].
وَهَذَا الْقَوْلُ –أَعْنِي: الْقَوْلَ بِفَنَاءِ النَّارِ دُونَ الْجَنَّةِ- مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَشْهُورِ بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ، لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقْتٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ".
الطالب: علَّق عليه، قال: ضعيف؛ لأنه من روايته عن الحسن، قال: قال عمر، والحسن لم يُدرك عمر ، وقال ابنُ القيم في "حادي الأرواح" عقبه: والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلامٍ خطابي لا غناءَ فيه، راجع "المستدرك"، وقد رُوي نحوه عن عبدالله بن عمرو موقوفًا بسندٍ ضعيفٍ، وعن أبي أمامة مرفوعًا بسندٍ فيه تالف، وقد تكلمتُ عليه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة".
الشيخ: شعيب؟
الطالب: يقول: هو من حديث سليمان بن حرب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب. ومن حديث حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنَّ عمر بن الخطاب. وهذا سند رجاله ثقات، لكنه منقطع، فالحسن لم يسمع من عمر، والواسطة مجهولة، وقد رُوي نحوه عن عبدالله بن عمرو موقوفًا بسندٍ ضعيفٍ، وعن أبي أمامة بسندٍ فيه تالف، ومثل هذا المطلب لا يثبت بمثل هذه الأخبار الضَّعيفة.
ذُكِرَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا.
قَالُوا: وَالنَّارُ مُوجَبُ غَضَبِهِ، وَالْجَنَّةُ مُوجَبُ رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ ﷺ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. وَفِي رِوَايَةٍ: تَغْلِبُ غَضَبِي. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
قَالُوا: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الْعَذَابِ أَنَّهُ: عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]، وأَلِيمٍ [هود:26]، وعَقِيمٍ [الحج:55]، وَلَمْ يُخْبِرْ وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَنِ النَّعِيمِ أَنَّهُ نَعِيمُ يَوْمٍ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7]، فَلَا بُدَّ أَنْ تَسَعَ رَحْمَتُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، فَلَوْ بَقُوا فِي الْعَذَابِ لَا إِلَى غَايَةٍ لَمْ تَسَعْهُمْ رَحْمَتُهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَقْدِيرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَالْمُعَذَّبُونَ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْعَذَابِ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ، وَلَيْسَ فِي حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا يُعَذِّبُهُمْ أَبَدَ الْآبَادِ عَذَابًا سَرْمَدًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقًا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ نَعِيمًا سَرْمَدًا، فَمِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَالْإِحْسَانُ مُرَادٌ لِذَاتِهِ، وَالِانْتِقَامُ مُرَادٌ بِالْعَرَضِ.
الشيخ: كل هذا من باب الأمور المشتبهة والأمور العامَّة، ولكن الأدلة الخاصَّة والأدلة القطعية تُبين هذا الشيء، وأنه لا يعول عليه؛ لأنَّ كلَّ ما اشتبه من النصوص يُردّ إلى المحكم، والمحكم يدل على استمرار عذابهم، نعوذ بالله.
س: ...........؟
ج: الله أعلم.
قَالُوا: وَمَا وَرَدَ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا وَالتَّأْبِيدِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَأَنَّ عَذَابَهَا مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ غَرَامٌ؛ كُلُّهُ حَقٌّ مُسَلَّمٌ، لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْخُلُودَ فِي دَارِ الْعَذَابِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا يُخْرَجُ مِنْهَا فِي حَالِ بَقَائِهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى حَالِهِ، وَبَيْنَ مَنْ يَبْطُلُ حَبْسُهُ بِخَرَابِ الْحَبْسِ وَانْتِقَاضِهِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَائِهَا وعدم فنائها: قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75].
س: .............؟
ج: عُصاة الموحدين يخرجون منها، الكلام في بقائها بعد خروج العُصاة، تستمر أبد الآباد أم لها نهاية بعد خروج العُصاة؟ أما العُصاة فلا خلافَ في خروجهم.
الشيخ: هذه الآية في أهل الجنة، أما أهل النار: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].
...............
وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار [الْبَقَرَة:167]، وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] أي: مُقيمًا لازمًا.
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الْمُسْتَفِيضَةُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّار مَن قال: "لا إله إلا الله"، وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ صَرِيحَةٌ فِي خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْهَا لَكَانُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَصَّ الْخُرُوجُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ لِذَاتِهِمَا، بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا.
الشيخ: وهذا هو القول الحقّ.
وَقَوْلُهُ: (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا) قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الآية [الأعراف:179].
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لم يعمل سوءًا ولم يُدركه. فقال: أو غير ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2- 3].
الشيخ: المقصود من هذا بيان أنَّ الله جلَّ وعلا خلق الجنةَ، وخلق لها أهلًا يعملون بعمل أهل الجنة، وخلق النار، وخلق لها أهلًا، وأرسل الرسلَ، وأنزل الكتب لبيان الحقِّ الذي به دخول الجنة والنَّجاة من النار، وبيان الأعمال والأقوال التي مَن فعلها صار إلى النار، ومَن فعلها صار إلى الجنَّة، حتى تقوم الحُجَّة، وتنقطع المعذرة، ويسير الناس على صراطٍ مستقيمٍ، فلما قالت عائشةُ لهذا الطِّفل: "عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا ولم يُدركه"، بيَّن لها النبيُّ ﷺ أنَّ أهل الجنة معروفون، وأن أهل النار معروفون، وأنَّ الطفل وغير الطفل معروف مصيره؛ ولهذا لما سُئل عن أولاد المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، فكل ينتهي إلى ما قُدِّر له، ويعمل بما سُطِرَ عليه.
وقد أجمع أهلُ السنة والجماعة على أنَّ أولاد المسلمين تبع أهليهم من الجنَّة، وأنهم لهم حكم إيمان أهلهم، كما قال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، فأولاد المسلمين تبع أهليهم في الإيمان، ومُلحقون بهم، والكفار أولادهم تبعهم في أحكام الدنيا، وفي أحكام الآخرة الله أعلم بما كانوا عاملين، يُمتحنون يوم القيامة، ثم يصيرون إلى ما ينتهون إليه من طاعةٍ أو معصيةٍ، كما يُمتحن أهل الفترات الذين ما أدركوا الرسلَ لأسبابٍ أخرى: من هرمٍ أو جنونٍ أو غير ذلك، فيُمتحنون، فمَن أطاع دخل الجنة، ومَن عصى دخل النار.
فليس المقصود في الحديث أنَّ أولاد المسلمين ليسوا تبعًا لأهاليهم، بل مقصود الحديث بيان أنَّ أهل الجنة معلومون، ولا يُنافي ما أجمع عليه أهلُ السنة من كون أولاد المسلمين تبعًا لأهليهم في الجنة، وأنَّ أولاد الكفار تبع لأهليهم في أحكام الدنيا، يُسْبَون معهم، ويكون لهم حكمهم، وفي الآخرة إذا ماتوا قبل البلوغ يكون حكمُهم حكم أهل الفترات، كما قال النبيُّ ﷺ: الله أعلم بما كانوا عاملين، فيُمتحنون يوم القيامة، فمَن أطاع صار إلى الجنة، ومَن عصى صار إلى النار.
وَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ، وَأَعَمُّ مِنْهَا الْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
فَالْمَوْجُودَاتُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مُسَخَّرٌ بِطَبْعِهِ، وَالثَّانِي مُتَحَرِّكٌ بِإِرَادَتِهِ، فَهَدَى الْأَوَّلَ لِمَا سَخَّرَهُ لَهُ طَبِيعَةً، وَهَدَى الثَّانِي هِدَايَةً إِرَادِيَّةً تَابِعَةً لِشُعُورِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ.
ثُمَّ قَسَّمَ هَذَا النَّوْعَ إلى ثلاثة أنواع:
- نَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كَالْمَلَائِكَةِ.
- وَنَوْعٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّرَّ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ سِوَاهُ، كالشيطان.
- وَنَوْعٌ يَتَأَتَّى مِنْهُ إِرَادَةُ الْقِسْمَيْنِ، كَالْإِنْسَانِ. ثُمَّ جعله ثلاثة أصنافٍ:
- صنف يَغْلِبُ إِيمَانُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَعَقْلُهُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ، فَيَلْتَحِقُ بالملائكة.
- وصنف عكسه، فيلتحق بالشياطين.
- وصنف تَغْلِبُ شَهْوَتُهُ الْبَهِيمِيَّةُ عَقْلَهُ، فَيَلْتَحِقُ بِالْبَهَائِمِ.
الشيخ: يعني في ذلك الشيء العاصي، فقد تغلبه شهوته فيلتحق بالبهائم، وقد يغلبها فيلتحق بالملائكة في السلامة والعافية، فهو بين بين، فالناس أقسام ثلاثة بالنسبة إلى الشرع:
- منهم مَن استقام إيمانه فالتحق بالملائكة في عدم المعصية، ومتى وقعت منه بادر بالتوبة منها.
- وقسم غلبت عليه الشِّقوة فالتحق بالشياطين بشرِّه وفساده.
- وقسم تارةً وتارةً؛ تارةً يقوى إيمانه فيلتحق بالقسم الأول، وتارةً يضعف إيمانه فيلتحق بالقسم الثاني في بعض الشيء، فيكون له شائبتان، وهم العُصاة وأهل الكبائر، فهم على ما خُتم لهم به، فإن خُتم لهم بالتوبة التحقوا بالقسم الأول، وإن لم يُختم لهم بالتوبة صاروا على خطرٍ، وهم أصحاب الشَّائبتين، وصاروا تحت مشيئة الله ، فإذا غلبت عليه شهوةُ الزنا التحق بالبهائم في شهوة السِّفاد، وإذا غلبت عليه شهوةُ الجبروت والظلم والعدوان التحق بقسم البهائم، كالسباع الضَّارية التي ليس لها همٌّ إلا العدوان والضَّرر وهكذا.
فالناس في هذا الباب لهم صفات متعددة، وطبائع مختلفة على حسب ما وفَّقهم الله له من العلم والعمل، وعلى حسب ما حُرموا من ذلك.
والذين طُبعوا على الشرِّ، وصاروا إلى الشرِّ وعصوا الرسل، وخالفوهم فإلى النار، والصنف الثالث الذي يُبتلى بالمعاصي، ويُوفَّق للطاعات، فهو بين بين، بين هذه وهذه، كأغلب الناس الذين استجابوا للرسل، ولكن لم يُحقِّقوا اتِّباع الرسل، بل تارةً وتارةً، فهؤلاء إذا ماتوا على توبةٍ صادقةٍ التحقوا بالقسم الأول، وهم أهل الجنة والسَّعادة، وإن ماتوا على معاصيهم صاروا على خطرٍ من دخول النار، وهم تحت مشيئة الله، فقد يُعفى عنهم فيلتحقون بالقسم الأول، وقد لا يُعفى عنهم فيلتحقون بالقسم الثاني في دخول النار دخولًا مؤقتًا.
س: ما جعل شبهه بالملائكة من جهة؟
ج: في قصور .......
س: هل الملائكة مُكلَّفون؟
ج: هم مُكلَّفون بلا شكٍّ، مكلَّفون تكليفًا الله أعلم بصفته، تكليف بأن لا يعصوا الله، وتكليف بأن لا يعبدوا مع الله غيره، لكن تكاليفهم: بماذا أُمِرُوا؟ وبماذا نُهوا؟ هذا إلى الله، ما بيَّن اللهُ صفته، لكنَّهم مكلَّفون بطاعات خاصَّة وأمور خاصَّة ومنهيُّون، قال تعالى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29]، وقال: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26- 27].
س: مَن قال: إنَّ النبي بُعث إليهم؟
ج: ما نعرف لهذا أصلًا، قال الله: لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وهم الجن والإنس، هذا المراد هنا، وكذلك قوله جلَّ وعلا: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهم لا يدخلون في هذا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28].
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَى الْوُجُودَيْنِ: الْعَيْنِيَّ وَالْعِلْمِيَّ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا بِإِيجَادِهِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا بِتَعْلِيمِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَثُبُوتِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَحْقِيقِ رُبُوبِيَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ: (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ ..) إِلَخْ.
مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْنَعُ الثَّوَابَ إِلَّا إِذَا مَنَعَ سَبَبَهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112]، وَكَذَلِكَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِ الْعِقَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، لَكِنْ إِذَا مَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَلَا يَمْنَعُهُ مُوجِب ذَلِكَ أَصْلًا، بَلْ يُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْقُرْبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَحَيْثُ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَلِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِكْمَةٌ منه وَعَدْلٌ، فَمَنْعُهُ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَأَمَّا الْمُسَبِّبَاتُ بَعْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا فَلَا يَمْنَعُهَا بِحَالٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا غَيْرَ صَالِحَةٍ: إِمَّا لِفَسَادٍ فِي الْعَمَلِ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ يُعَارِضُ مُوجِبَهُ وَمُقْتَضَاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي، أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ.
وَإِذَا كَانَ مَنْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ مِنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وهو لم يُعطَ ذلك ابتلاءً وابتداءً إلا حِكْمَةً مِنْهُ وَعَدْلًا، فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، كُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ عُقُوبَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي تَصْلُحُ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، ونحو ذلك. وسيأتي لهذا زيادة بيان إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ، مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يجوز أن يُوصَف الْمَخْلُوقُ بِهِ؛ تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمْكِينِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ؛ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
الشيخ: وهذه الاستطاعة المرادة عند الإطلاق في القرآن التي يتمكن معها من الفعل: الطاقة والوسع والقدرة من جهة الصحة ومن جهة العلم، إلى غير ذلك، أما توفيق الله لعبده، وكونه يُوفَّق، وكونه يُهدى أو لا يُهدى، هذا إلى الله ، هو أعلم بأحوال عباده؛ يهدي مَن يشاء، ويُضل مَن يشاء.
الِاسْتِطَاعَةُ وَالطَّاقَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْوُسْعُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَتَنْقَسِمُ الِاسْتِطَاعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْوَسَطُ.
وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ.
وَقَابَلَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَقَالُوا: لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ.
وَالَّذِي قَالَهُ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَهُ، لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ، وَالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ بِقُدْرَةٍ مَعْدُومَةٍ.
س: القُدرة لا تكون إلا مع الفعل، يعني: أنكروا القُدرة التي هي توفر الأسباب والآلات، هل هذا قول لبعض أهل السنة أو طائفة لأهل السنة؟
ج: ما أعرف لهذا أصلًا، المعروف عند أهل السنة أنَّ القُدرة قبل الفعل، وبها يُخاطب الناس ويُكلَّفون، فالعقل قُدرة قبل الفعل، فإذا لم يكن عنده عقل أو ما له قُدرة ما يكون مخاطبًا، فلا يُخاطب بالزكاة إلا مَن كان عنده مال، ولا يُخاطب بالزكاة والصَّدقة وغيرهما إلا مَن كان عنده العقل، وهكذا، ولا يُخاطب بالحجِّ إلا مَن كان عنده استطاعة قد وُجدت، وإلا فهو غير مخاطبٍ بالأمر، قال تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، أما القُدرة مع الفعل فليست هي القُدرة التي هي توفيق الله للعبد وهدايته، هذه مع الفعل، إذا أرادها الله قارنت الفعل واهتدى، أما هذا القول فما أعرف له وجهًا.
س: أليس هذا قول الجبرية، يقولون: لا تكون الاستطاعة إلا مع التَّوفيق؟
ج: هذا هو مُقتضى مذهبهم الباطل؛ لأنَّهم ما عندهم للعبد فعل ولا اختيار، والبحث فيه بعض الغموض، فليُراجع في الأصول الأخرى، خصوصًا هذا القول الشَّاذ لبعض أهل السنة، وأظنُّه وهمًا من الشَّارح.
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ: فَقَدْ تَتَقَدَّمُ الْأَفْعَالَ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فَأَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا مَنْ حَجَّ لَمْ يَكُنِ الْحَجُّ قَدْ وَجَبَ إِلَّا عَلَى مَنْ حَجَّ، وَلَمْ يُعَاقِبْ أحدًا عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فَأَوْجَبَ التَّقْوَى بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَوْ كَانَ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّقْوَى لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْجَبَ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى مَنِ اتَّقَى، وَلَمْ يُعَاقِبْ مَنْ لَمْ يَتَّقِ! وَهَذَا معلوم الفساد.
وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ.
وَكَذَا مَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ [التوبة:42]، وَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَوْ كَانُوا أَرَادُوا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الْفِعْلِ مَا كَانُوا بِنَفْيِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَاذِبِينَ، وَحَيْثُ كَذَّبَهُمْ دَلَّ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَرَضَ أَوْ فَقْدَ الْمَالِ، عَلَى مَا بَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ [التوبة:91- 93].
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:25]، وَالْمُرَادُ: اسْتِطَاعَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَإِنَّمَا نَفَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ مَعَهَا.
وَأَمَّا ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ: فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]، وَالْمُرَادُ نَفْيُ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، لَا نَفْيُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَا قَوْلُ صَاحِبِ مُوسَى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75]، وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةُ قُدْرَةِ الصَّبْرِ، لَا أَسْبَابُ الصَّبْرِ وَآلَاتُهُ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَلَا يُلَامُ مَنْ عَدِمَ آلَاتِ الْفِعْلِ وَأَسْبَابه عَلَى عدم الفعل، وإنما يُلام مَن امتنع من الفعل لتضييع قُدْرَة الْفِعْلِ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ، أو لعدم شغله إياها بفعل مَا أُمِرَ بِهِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حِينَ الْفِعْلِ. يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الْمُقَارِنَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ، لَا تُوجَدُ بِدُونِهِ.
وَمَا قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ، وَهُوَ إِقْدَارُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ سَوَاءٌ، فَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَصَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ بِإِعَانَةٍ حَصَّلَ بِهَا الْإِيمَانَ، بَلْ هَذَا بِنَفْسِهِ رَجَّحَ الطَّاعة، وهذا بنفسه رجَّح المعصية! كالوالد الَّذِي أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ سَيْفًا، فَهَذَا جَاهَدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَطَعَ بِهِ الطَّرِيقَ.
الشيخ: وهذا قول القدرية النُّفاة الذين ينفون القدر، والمعتزلة أيضًا، وهم المراد عند الإطلاق، إذا أُطلق القدرية فهم المراد: النُّفاة، أما القدرية المجبرة فهم في الغالب يُسمون: المجبرة والجبرية، وهم الذين يقولون: ليس للعبد فعل ولا اختيار، إنما هو كالريشة في مهب الريح، فليس له قدرة. وهذا من أفسد الأقوال، نسأل الله العافية.
الشيخ: وأيضًا خصَّهم بهذا: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:8].
فَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا التَّحْبِيبَ وَالتَّزْيِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْخَلْقِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَإِظْهَارِ دَلَائِلِ الْحَقِّ.
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بالمؤمن؛ ولهذا قال: أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا رَاشِدِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَدَى هَذَا وَأَضَلَّ هَذَا؛ قَالَ تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ: "يُرَجَّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ" إِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ: "يُرَجَّحُ" مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْفِعْلِ، فَذَاكَ هُوَ السَّبَبُ الْمُرَجِّحُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى زَائِدٌ كَانَ حَالُ الْفَاعِلِ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ كَحَالِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ، ثُمَّ الْفِعْلُ حَصَلَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى بِلَا مُرَجِّحٍ! وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ، فَلَمَّا كَانَ أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ: إِنَّ فَاعِلَ الطَّاعَاتِ وَتَارِكَهَا كِلَاهُمَا فِي الْإِعَانَةِ وَالْإِقْدَارِ سَوَاءٌ. امْتَنَعَ على أصلهم أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ قُدْرَةٌ تَخُصُّهُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تَخُصُّ الْفِعْلَ لَا تَكُونُ لِلتَّارِكِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْفَاعِلِ، وَلَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْقُدْرَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ قَالُوا: لَا تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَحَالَ وُجُودِ الْفِعْلِ يَمْتَنِعُ التَّرْكُ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ! وَهَذَا بَاطِلٌ مطلقًا، فَإِنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ مَعَ عَدَمِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الْوُجُودِيَّةِ مُمْتَنِعٌ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْفِعْلِ، فَنَقِيضُ قَوْلِهِمْ حَقٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قُدْرَةٌ.
لَكِنْ صَارَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ هُنَا حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ قَالُوا: لَا تَكُونُ الْقُدْرَةُ إِلَّا مَعَهُ. ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَظَنًّا مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ، فَلَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا قَبْلَ الْفِعْلِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ:
نَوْعٌ مُصَحِّحٌ لِلْفِعْلِ، يُمْكِنُ مَعَهُ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهَذِهِ تَحْصُلُ لِلْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَتَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ تَبْقَى إِلَى حِينِ الْفِعْلِ: إِمَّا بِنَفْسِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ، وَإِمَّا بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَهَذِهِ قَدْ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَأَمْرُ اللَّهِ مَشْرُوطٌ بِهَذِهِ الطَّاقَةِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَذِهِ الطَّاقَةُ، وَضِدُّ هَذِهِ الْعَجْزُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَيْضًا فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ بالشَّرْعِ أَخَصُّ مِن الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ تَكُونُ مَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْجَزْ عَنْهُ، فَالشَّارِعُ يُيَسِّرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وَالْمَرِيضُ قَدْ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ مَعَ زِيَادَةِ الْمَرَضِ وَتَأَخُّرِ بُرْئِهِ، فَهَذَا فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ؛ لِأَجْلِ حُصُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى مُسْتَطِيعًا.
فَالشَّارِعُ لَا يَنْظُرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مُجَرَّدِ إِمْكَانِ الْفِعْلِ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى لَوَازِمِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا مَعَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ اسْتِطَاعَةً شَرْعِيَّةً، كَالَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَعَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يُصَلِّي قَائِمًا مَعَ زِيَادَةِ مَرَضِهِ، أَوْ يَصُومُ الشَّهْرَيْنِ مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك.
الشيخ: والمقصود أنَّ الاستطاعة في الشرع أوسع منها في الاستطاعة في نفس الأمر؛ فقد يكون الشيء ممكنًا ليس مُستطيعًا في الشرع؛ لما فيه من الضَّرر عليه، فالاستطاعة الشَّرعية أوسع: الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم قد يكون عند الاستطاعة استطاعة كاملة للفعل، ولكن ما فيه من الغيرة وما فيه من قوة كمال الدين قد يحملانه على عدم الصبر على ذاك الشيء، قد تكون قوته واستطاعته لا تتحمل الصبر على هذا الشيء، بل عنده من الاندفاع والغيرة وشدّة الحرص على تنفيذ أوامر الله ما يمنعه من الصبر والثبوت وعدم الفعل، كما جرى لموسى مع الخضر، وكما قد يجري لكثيرٍ من الناس في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، أو في الغيرة على بعض أهله، أو ما أشبه ذلك.
فالمقصود أنَّ الاستطاعة الشَّرعية أوسع وأخفّ وأيسر من الاستطاعة التي في نفس الأمر، وهي الاستطاعة الإمكانية، ولك أن تقول: الاستطاعة الحسية، الحسية أضيق.
فإن كَانَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ فِي الْمُكْنَةِ عَدَمَ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَكَيْفَ يُكَلِّفُ مَعَ الْعَجْزِ؟!
وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ بَقَائِهَا إِلَى حِينِ الْفِعْلِ لَا تَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتْ كَافِيَةً لَكَانَ التَّارِكُ كَالْفَاعِلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِحْدَاثِ إِعَانَةٍ أُخْرَى تُقَارِنُ، مِثْل: جَعْلِ الْفَاعِلِ مُرِيدًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ تَدْخُلُ فِيهَا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ، بِخِلَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِرَادَةُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ مَنْ لَا يُرِيدُهُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُ بِهِ مَنْ لَوْ أَرَادَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ. وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَالْإِنْسَانُ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ، لَكِنْ لَا يَأْمُرُهُ بِمَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْعَبْدُ.
وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالْقُوَّةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ -يَقُولُ: كُلُّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ قَدْ كُلِّفَ مَا لَا يُطِيقُ. وَمَا لَا يُطَاقُ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ: بِمَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ، فَهَذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ أَحَدًا. وَيُفَسَّرُ بِمَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّكْلِيفُ، كَمَا فِي أَمْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، فَلَا يَأْمُرُ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ! وَيَأْمُرُهُ إِذَا كَانَ قَاعِدًا أَنْ يَقُومَ، وَيُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِالضَّرُورَةِ.
س: وجب عليه صوم شهرين لكنَّه ينقطع عن معيشته؟
ج: حتى ..........
قَوْلُهُ: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ).
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ: فَزَعَمَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَرَئِيسُهُمُ الْجَهْمُ بن صفوان السَّمرقندي أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَفْعَالِ الْخَلْقِ كُلِّهَا لِلَّهِ تعالى، وَهِيَ كُلُّهَا اضْطِرَارِيَّةٌ: كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ، وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَإِضَافَتهَا إِلَى الْخَلْقِ مَجَازٌ! وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَى مَحَلِّهِ دُونَ مَا يُضَافُ إِلَى مُحَصِّلِهِ!
وَقَابَلَتْهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِخَلْقِهَا، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
س: قوله على كلمة: من جميع الحيوانات بخلقها؟
ج: ....... سواء كانت حيوانات مكلفة أو غير مكلفة: كالحيوانات الأخرى من الإبل والبقر والغنم.
وهذان طرفان ووسط مثلما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الواسطية"، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية، فالجبرية أجبروا وقالوا: ليس للعبد فعل، وإنما هو كالريشة في مهب الريح، وكأغصان الشجر، وما أشبه ذلك، والمعتزلة .......... قول أهل السنة والجماعة، وهو أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله، وهي من أفعالهم، منسوبة إليهم، لكنها بقدرٍ سابقٍ، وهي منسوبة إلى أهلها، فالعبد هو المصلي، وهو الصائم، وهو الزاني، وهو السارق، وهو الفاسق، أفعالهم تُنسب إليهم، ولهم اختيار فيها، ولهم مشيئة، ولكنَّها بعد مشيئة الله، وبعد قدره السابق، لا يقع في ملكه ما لا يريد ، كما قال : لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أثبت لهم الفعل، ثم قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28- 29]، وقال: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:55- 56]، وقال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال:67]، وقال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]، إلى غير هذا من الأدلة الدالة على أنَّ لهم أفعالًا، ولهم أعمالًا، وعلى أنَّ لهم اختيارًا، ولهم مشيئةً، لكنَّها لا تقع إلا بمشيئة الله ؛ لكمال ملكه، وكمال قُدرته، لا يقع في ملكه ما لا يُريد.
س: كثير من الناس ينطقها: المُعتزَلة؟
ج: لا، المعتزِلة؛ لأنهم اعتزلوا الحسنَ البصري، وكانوا يُجالسونه، لما أنكر عليهم هذا المسلك اعتزلوه، والمعنى أنهم اعتزلوا أهل السنة بهذا المعتقد الفاسد .......
س: اعتزلهم أهلُ السنة؟
ج: لا، هم الذين اعتزلوا أهلَ السنة.
س: ............؟
ج: حيوان ناطق.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمْ لَا؟
وَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِهَا صَارُوا مُطِيعِينَ وَعُصَاةً، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقُّ مُنْفَرِدٌ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا خَالِقَ لَهَا سِوَاهُ.
فَالْجَبْرِيَّةُ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ؛ فَنَفَوْا صنع العبد أصلًا، كما غلت الْمُشَبِّهَةُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَشَبَّهُوا.
وَالْقَدَرِيَّةُ -نُفَاةُ الْقَدَرِ- جَعَلُوا الْعِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا كَانُوا "مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ"، بَلْ أَرْدَأُ مِنَ الْمَجُوسِ؛ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَجُوسَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ، وَهُمْ أَثْبَتُوا خَالِقِينَ!
وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مستقيم.
فكل دليلٍ صحيحٍ يُقيمه الْجَبْرِيُّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا مُرِيدٍ، وَلَا مُخْتَارٍ، وَأَنَّ حَرَكَاتِهِ الِاخْتِيَارِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ.
وَكُلُّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ يُقِيمُهُ الْقَدَرِيُّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ، مُخْتَارٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَأَنَّ إِضَافَتَهُ وَنِسْبَتَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ حَقٍّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
فَإِذَا ضَمَمْتَ مَا مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحَقِّ إِلَى حَقِّ الْأُخْرَى؛ فَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُمْ يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا الْمَدْحَ وَالذَّمَّ.
الشيخ: وقد ألَّف في هذا المعنى الإمامُ البخاري رحمه الله كتابه المشهور "خلق أفعال العباد" بيَّن فيه هذا المعنى، وأنَّ الأدلة قائمةٌ على أنَّ الله خلق أفعالهم وشاء ما وقع, وأنهم فاعلون حقيقةً، تُنسب إليهم أفعالهم، فيُذمّون على خبيثها، ويُمدحون على طيبها، والله جلَّ وعلا خالقهم وخالق أفعالهم.
وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَعَارَضُ، وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ ذِكْرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّهَا تَتَكَافَأُ وَتَتَسَاقَطُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلِ كُلِّ فَرِيقٍ بُطْلَانُ قَوْلِ الْآخَرِينَ، وَلَكِنْ أَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ:
فَمِمَّا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، فَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ الرَّمْيَ، وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ.
قَالُوا: وَالْجَزَاءُ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﷺ: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ.
وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ.
الشيخ: يعني: النُّفاة، إذا قيل: القدرية، فهم النُّفاة، وإذا قيل: الجبرية، فهم القدرية المجبرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].
قالوا: والجزاء مُرتَّب على الأعمال ترتب الْعِوَضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِرَسُولِهِ ﷺ رَمْيًا بِقَوْلِهِ: إِذْ رَمَيْتَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُثْبَتَ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّمْيَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ: فَابْتِدَاؤُهُ الْحَذْفُ، وَانْتِهَاؤُهُ الْإِصَابَةُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى: رَمْيًا، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: وَمَا أَصَبْتَ إِذْ حَذَفْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَ. وَإِلَّا فَطَرْدُ قَوْلِهِمْ: وَمَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَلَّى! وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ! وَمَا زَنَيْتَ إِذْ زَنَيْتَ! وَمَا سَرَقْتَ إِذْ سَرَقْتَ! وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ.
الشيخ: ولازم قولهم باطل كبير وشرٌّ عظيم، فالله جلَّ وعلا هو الذي سدده في الرماية، ووفق المجاهدين حتى انهزم عدوهم، فالمجاهدون يوم بدر رموا وفعلوا ما يستطيعون من الكيد للعدو، والحرص على هزيمته بما استطاعوا من رميٍ، ومن ضربٍ بالسيف والرمح، ومن حملات متنوعة على العدو، ومن انتهاز فرصة غرّته، وغير هذا مما يُحاوله المجاهد مع خصمه، والتوفيق بيد الله، هو الذي يُوفق في الرماية ويُسدد حتى يُصيبوا، وحتى يُؤثروا في عدوهم، وحتى ينهزم عدوهم، وحتى يُلقى في قلوبهم الرعب، إلى غير ذلك، فالأفعال موجودة من المجاهدين، وأما كونها تنجح، وكون الرمي يُصيب، وكون العدو ينهزم، وكونه يقع في قلبه الرعب والذلّ؛ فهذا شيء بيد الله جلَّ وعلا، وهو الذي يُسدد الخُطى، ويُعين على ما يقع، .
وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ: فَقَدْ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَإِنَّ الْبَاءَ الَّتِي فِي النَّفْيِ غَيْرُ الْبَاءِ الَّتِي فِي الْإِثْبَاتِ، فَالْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ ﷺ: لا يدخل أحدُكم الجنَّةَ بِعَمَلِهِ بَاءُ الْعِوَضِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ كَالثَّمَنِ لِدُخُولِ الرَّجُلِ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا زَعَمَتِ المُعتزلةُ؛ أنَّ العامل يستحق دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى رَبِّهِ بِعَمَلِهِ! بَلْ ذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ.
وَالْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وَنَحْوُهَا بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ: بِسَبَبِ عَمَلِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَرَجَعَ الْكُلُّ إِلَى مَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.
الشيخ: والمعنى: أنَّ الله جلَّ وعلا جعل الأعمال أسبابًا، كما جعلها أسبابًا للنار، وأما كونه أدخلهم الجنةَ ومنَّ عليهم بالجنة فهذا فضله سبحانه ورحمته إياهم، ومن رحمته جعل أعمالهم سببًا لدخول الجنة وتقبَّلها منهم وعفا عن سيئاتهم، وهذا محض جوده ؛ ولهذا لما ذكر تحبيبه للإيمان وتكريهه للكفر قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7- 8].
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] فمعنى الآية: أحسن المُصورين المُقدرين. و"الخلق" يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّقْدِيرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] أَيِ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، فَدَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي عُمُومِ "كُلِّ".
وَمَا أَفْسَد قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ: "كُلِّ"، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا! وَأَخْرَجُوا أَفْعَالَهُمُ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُمُومِ "كُلِّ"! وَهَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ "كُلِّ" إِلَّا مَا هُوَ مخلوق؟! فذاته المُقدسة وصفاته غير دَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَدَخَلَ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُمُومِهَا.
الشيخ: ومعنى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يعني: الله بصفاته، وليس مجرد الذات، الله بصفاته خالق كل شيء، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]، فالله بصفاته هو الخالق، وما سواه هو المخلوق: من سماءٍ وأرضٍ، وجنٍّ وإنسٍ وملائكةٍ، وغير ذلك، هم المخلوقون: ذواتهم وأفعالهم.
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ يعني: المقدرين والمصورين للأشياء، يقال: خلق كذا، يعني: قدَّره وتأمّله وصوَّره في نفسه، أو في صفاته، أو في شيء ثانٍ.
ومن هذا قول الشَّاعر:
ولأنت تفري ما خلقت | وبعض القوم يخلق ثم لا يفري |
يعني: يُقدّر ولكن ما يحصل منه الإيجاد والفعل، لا يُوجد الأشياء ويشقّ الطريق ويعمل لعجزه وقلَّة بصيرته، والخلق ليس من أسمائهم: الموجِدُون والمحدِثون والمنشئون، لا، ليس هناك خالق غير الله وحده .
س: النَّجار يقولون مثلًا: خلق، هذا مشروع؟
ج: نعم، هذا المراد يعني: قدَّره وصوَّره في نفسه.
س: قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17]؟
ج: كذلك من هذا الباب.
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، ولا نقول: إنَّ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: خَلْقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ. إِذْ سِيَاقُ الْآيَةِ يَأْبَاهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ، لَا النَّحْتَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْحُوتَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا صَارَ مَنْحُوتًا إِلَّا بِفِعْلِهِمْ، فَيَكُونُ مَا هُوَ مِنْ آثَارِ فِعْلِهِمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّحْتُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْمَنْحُوتُ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلِ الْخَشَبُ أَوِ الْحَجَرُ لَا غَيْرَ.
وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ ضَرُورِيٌّ.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إِلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وجُودُهُ عِنْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ ضَرُورِيٌّ.
وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، ثُمَّ ادِّعَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنَ الضَّرُورَةِ -غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إِنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ، وَكَوْنِ هَذَا الْإِحْدَاثِ وَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7- 8]، فَقَوْلُهُ: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا إِثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَهَا، وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إِلَى نَفْسِهِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ.
وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9- 10] إِثْبَاتٌ أَيْضًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَهَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، بَلْ مَزَّقَتْهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الله يُعذِّب المُكلَّفين على ذنوبهم وَهُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ؟ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ خَالِقُهُ وَفَاعِلُهُ فِيهِمْ؟
وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مَطْرُوقًا فِي الْعَالَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي جَوَابِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَنْهُ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ: فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ، وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ. وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ، جَعَلَتِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ. وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ! وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتِ الْجَبْرَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ! وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ هذا التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى ذُنُوبٍ قَبْلَهَا، فَالذَّنْبُ يُكْسِبُ الذَّنْبَ، وَمِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا. فَالذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُورِثُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَالْكَلَامُ فِي الذَّنْبِ الْأَوَّلِ الْجَالِبِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الذُّنُوبِ؟
يُقَالُ: هُوَ عُقُوبَةٌ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، فلما لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ؛ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ صَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا قَابِلًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْخَيْرُ الَّذِي يَمْنَعُ ضِدَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّرُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وَقَالَ إِبْلِيسُ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82- 83]، وَقَالَ اللَّهُ : هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:41- 42].
والإخلاص: خلوص القلب من تأله مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَخَلَصَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.
وَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ فَارِغًا مِنْ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِحَسَبِ فَرَاغِهِ، فَيَكُونُ جَعْلُهُ مُذْنِبًا مُسِيئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَدَمِ هَذَا الْإِخْلَاصِ، وَهِيَ مَحْضُ الْعَدْلِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَذَلِكَ الْعَدَمُ مَنْ خَلَقَهُ فِيهِ؟
قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْعَدَمَ كَاسْمِهِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعَلُّقِ التَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ بِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُضَافَ إِلَى الْفَاعِلِ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ ﷺ فِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ.
وَكَذَا فِي حديث الشَّفاعة يوم القيامة، حين يقول اللهُ له: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ.
الطالب: علَّق عليه، قال: رواه البزار عن حُذيفة موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح، والطبراني في "الأوسط" عنه مرفوعًا، فيه ليث ابن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، كذا في "المجمع"، قلت: ومن طريق اللَّيث أخرجه الحاكم أيضًا، وقال: وقد استشهد بليث ابن أبي سليم.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100]، فَلَمَّا تَوَلَّوْهُ دُونَ اللَّهِ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَعَهُ عُوقِبُوا على ذلك بتسليط الله إياه عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَالْإِشْرَاكُ عُقُوبَةَ خُلُوِّ الْقَلْبِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، فَإِلْهَامُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ثَمَرَةُ هَذَا الْإِخْلَاصِ وَنَتِيجَتُهُ، وَإِلْهَامُ الْفُجُورِ عُقُوبَةٌ عَلَى خُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكُ أَمْرًا وُجُودِيًّا عَادَ السُّؤَالُ جَذَعًا، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟
قِيلَ: لَيْسَ هَنَا تَرْكٌ، هُوَ كَفُّ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ، فهذا قد يقال: إِنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَإِنَّمَا هُنَا عَدَمٌ وَخُلُوٌّ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَهَذَا الْعَدَمُ هُوَ مَحْضُ خُلُوِّهَا مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهَا، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ هِيَ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ، لَا بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنَالُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرُّسُلِ.
فَلِلَّهِ فِيهِ عُقُوبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: جَعْلُهُ مُذْنِبًا خَاطِئًا، وَهَذِهِ عُقُوبَةُ عَدَمِ إِخْلَاصِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ قَدْ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهَا وَمَضَرَّتِهَا؛ لِمُوَافَقَتِهَا شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْعُقُوبَاتُ الْمُؤْلِمَةُ بَعْدَ فِعْلِهِ لِلسَّيِّئَاتِ.
وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً [الأنعام:44]، فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَجْعَلَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ، مُنِيبِينَ لَهُ، مُحِبِّينَ لَهُ؟ أَمْ ذَلِكَ مَحْضُ جَعْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِلْقَائِهِ فِيهَا؟
قِيلَ: لَا، بَلْ هُوَ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَلَا يَتَّقِي مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا وَقَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يُخْلَقْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ، عَادَ السُّؤَالُ، وَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ظُلْمًا، وَلَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
قِيلَ: لَا يَكُونُ سُبْحَانَهُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ظَالِمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَانِعُ ظَالِمًا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ حَقًّا لِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافَهُ. وَأَمَّا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، فَمَنْعُ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَمَنْعُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ عَدْلٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَدْلُ فِي مَنْعِهِ، كَمَا هُوَ الْمُحْسِنُ الْمَنَّانُ بِعَطَائِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ وَالتَّوْفِيقُ إِحْسَانًا وَرَحْمَةً، فَهَلَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ وَالْغَلَبَةُ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ؟
قِيلَ: الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ، وَالْمَنْعَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْعُقُوبَةِ؛ لَيْسَ بِظُلْمٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ.
وَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ عَلَى الْفَضْلِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، وَهَلَّا سَوَّى بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْفَضْلِ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ حَاصِلُهُ: لِمَ يتفضل عَلَى هَذَا وَلَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَى الْآخَرِ؟ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، وَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29].
وَلَمَّا سَأَلَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَجْرَيْنِ وَإِعْطَائِهِمْ هُمْ أَجْرًا أَجْرًا، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.
وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ إِطْلَاعُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ عَلَى كَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، بَلْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ حتى أبصر طرفًا يَسِيرًا مِنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَتَخْصِيصِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَحَالِّ ذَلِكَ؛ اسْتَدَلَّ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ.
الشيخ: ولهذا قال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8]، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، هو أعلم بمحلِّ رضاه، ومحلِّ فضله، ومحلِّ عدله .
وَلَمَّا اسْتَشْكَلَ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا التَّخْصِيصَ قَالُوا: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]؟ قَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْجَوَابَ تَرَ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِغَرْسِ شَجَرَةِ النِّعْمَةِ فَتُثْمِرُ بِالشُّكْرِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَرْسِهَا، فَلَوْ غُرِسَتْ فِيهِ لَمْ تُثْمِرْ، فَكَانَ غَرْسُهَا هُنَاكَ ضَائِعًا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَكَمْتُمْ بِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَادِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِذًا لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا؟
قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَةً؛ قَالَ تَعَالَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا، فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ:
- نَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِعْلًا، كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ.
- وَنَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مُقَارِنًا لِإِيجَادِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَيُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِفَةً وَفِعْلًا وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ، كَالْحَرَكَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ.
وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ السَّلَفُ الْجَبْرَ، فَإِنَّ الْجَبْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَاجِزٍ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِكْرَاهِ، يُقَالُ: لِلْأَبِ وِلَايَةُ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الثَّيِّبِ الْبَالِغِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مُكْرَهَةً.
وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْإِجْبَارِ بِهَذَا الاعتبار؛ لأنه سبحانه خالق الإرادة وَالْمُرَادِ.