24 من أهوال يوم القيامة

وَقَوْلُهُ: (وَالْعَرْض وَالْحِسَاب، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب).

قَالَ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ۝ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ۝ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ۝ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:15- 18] إِلَى آخرِ السُّورَةِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ۝ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۝ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ۝ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ۝ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ۝ وَيَصْلَى سَعِيرًا ۝ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ۝ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ۝ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا [الانشقاق:6- 15].

الشيخ: معنى: أَنْ لَنْ يَحُورَ من حار يحور: إذا رجع، ظنَّ أنه لا يرجع إلى الله، ولا يُبْعَث، ولا يُجازى؛ فلهذا اجترأ على الفساد والشرِّ، نسأل الله العافية.

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ۝ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:48- 49]، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] إِلَى آخرِ السُّورَةِ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:15- 17].

الشيخ: الروح هو الوحي، هذا أمر معلوم، الروح الذي يُلقى من عند الله إلى الرسل والأنبياء هو الوحي الذي به الحياة، وبه السعادة، وبه النور والبصيرة، هذا هو الذي تأتي به الرسل والأنبياء، وهو المذكور في قوله : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

فما جاءت به الرسل هو الروح الذي به الحياة، وبه البصيرة، وبه النور، مَن فاته هذا الروح فاتته الحياة، وفاته النور: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122]، هداه الله بهذا الروح، وجعل له بصيرةً بهذا الروح، فمَن فاته هذا الروح فهو ميت، وإن كان أقوى الناس جسمًا، وإن كان أكثرهم مالًا، فهو مع الأموات.

فمَن فاته هذا النّور فهو لا يزال في الظّلمات لم يخرج منها حتى يُدركه هذا النور، فالناس وإن كانوا في غايةٍ من النور الدّنيوي الحسي من كهرباء وغيرها، فهم في الظّلمات حتى يحصل لهم هذا النور بقلوبهم، نور الوحي، نور الهدى، فيعرفوا ما أوجب الله، وما حرَّم الله، وما أعدَّ الله لأوليائه، وما أعدَّ الله لأعدائه، وحتى يعرفوا ما يُرضي الله، وما يُقرب لديه، وحتى يعلموا ما يُسخط الله، وما يُباعد من رحمته، هذا هو النور، وهو ما جاءت به الرسل، وهو ما دلَّ عليه كتابُ الله –القرآن- في شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وما جاءت به السنة الصَّحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما استنبط من ذلك، هذا الذي به الحياة، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي "صَحِيحِه" عَنْ عَائِشَة: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَة إِلَّا هَلَكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7- 8]؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَة إِلَّا عُذِّبَ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَوْ نَاقَشَ فِي حِسَابِه لِعَبِيدِه لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَكِنَّه تَعَالَى يَعْفُو وَيَصْفَحُ.

وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَة بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ العبد محلُّ السَّيئات، ومحل الخطايا، ومحل الزلل، فلو نُوقِش عن زلَّاته وخطاياه وما اقترفه لهلك، ولكنه جلَّ وعلا يعفو عن أوليائه وأنبيائه وأهل طاعته، ولا يُناقشهم الحساب ، بل يتقبَّلهم برحمته، ويُجازيهم على أعمالهم الطيبة، ويعفو ويصفح .

الشيخ: علَّق عليه في الحاشية؟

الطالب: قال: صحيح ...........

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَة الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي: أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِي بِصَعْقَة يَوْمِ الطُّورِ؟، وَهَذَا صَعْقٌ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَة، إِذَا جَاءَ اللَّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِه، فَحِينَئِذٍ يَصْعَقُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَة الْعَرْشِ؟

قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ وَرَدَ هَكَذَا، وَمِنْهُ نَشَأَ الْإِشْكَالُ، وَلَكِنَّه دَخَلَ فِيهِ عَلَى الرَّاوِي حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، فَرَكَّبَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، فَجَاءَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ هَكَذَا:

أَحَدُهُمَا: إنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالثَّانِي: أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَدَخَلَ عَلَى الرَّاوِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْآخَرِ.

وَمِمَّنْ نَبَّه عَلَى هَذَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّي، وبعده الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ، وَشَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.

وَكَذَلِكَ اشْتَبَه عَلَى بَعْضِ الرُّوَاة فَقَالَ: فَلَا أَدْرِي: أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ ؟ وَالْمَحْفُوظُ الَّذِي تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَة هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الصَّعْقَ يَوْمَ الْقِيَامَة لِتَجَلِّي اللَّهِ لِعِبَادِه إِذَا جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ لَمْ يُصْعَقْ مَعَهُمْ، فَيَكُونُ قَدْ جُوزِي بِصَعْقَة يَوْمَ تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ فَجَعَلَه دَكًّا، فَجُعِلَتْ صَعْقَةَ هَذَا التَّجَلِّي عِوَضًا عَنْ صَعْقَة الْخَلَائِقِ لِتَجَلِّي رَبِّه يَوْمَ الْقِيَامَة. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ وَلَا تُهْمِلْه.

الشيخ: وهذا الذي نبَّه عليه هؤلاء الأخيار هو عين الصَّواب، وهو الحقيقة، فإنَّ الصَّعق يوم القيامة غير الصَّعق يوم الناس في المحشر، الناس يفزعون يوم القيامة عند نفخة البعث، نفخة البعث فيها الحياة والنُّشور، ونفخة الموت فيها صعق الموت، فهي نفختان وصعقتان: إحداهما: يموت فيها الناس إلا مَن استثنى الله، والنَّفخة الثانية يحيا فيها الناسُ وينشرون، هاتان عامّتان، أما هذه الصَّعقة الثالثة فهذه في القيامة، والناس موجودون في القيامة بارزون، وهذه هي المرادة بقوله: فأكون أول مَن يفيق، فإذا موسى باطش بقائمة العرش، فهذه والناس أحياء، أصابهم هذا الفزع، وهذا الغشي من تعظيم الله وإجلاله .

س: ما معنى: باطش؟

ج: آخذ، كما في الرواية الأخرى.

أما أن يُقال: إنَّ هناك ثلاث نفخات في الصور، ففيه نظر، المحفوظ نفختان، الذي دلَّ عليه القرآنُ نفختان في الصور، نفخة الموت، وهي نفخة طويلة، ونفخة ثانية: نفخة البعث والنُّشور، ويُروى في حديث الصور: ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الموت، ونفخة البعث والنُّشور، لكن حديث الصور ضعيف، وإنما المحفوظ: نفختان، كما دلَّت عليه الآيات القرآنية: في سورة النَّمل، وفي سورة الزمر، فهما نفختان.

س: الصعق متعدد؟

ج: صعق الموت، وصعق يوم القيامة والناس أحياء، الصعق الأول: موت، وصعق يوم القيامة فزع وغشي، ليس بموتٍ.

..............

الشيخ: أما الصَّعقة الأخيرة والناس موجودون يوم القيامة.

الطالب: علَّق الشيخ ناصر على المسألة بالنسبة للحديث الأول: "أن الناس يصعقون يوم القيامة": صحيح؛ أخرجه البخاري في كتاب "الخصومات" من حديث وهيب: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا، في قصة ضرب الصَّحابي لليهودي، بلفظ: لا تخيروا بين الأنبياء؛ فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول مَن تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري: أكان فيمَن صعق أم حُوسِب بصعقته الأولى؟، وأخرجه مسلم من طريق سفيان، عن عمرو بن يحيى، به، لكنه لم يسق لفظه بتمامه، وقد ساقه أحمد من هذا الطريق بلفظ: وأنا أول مَن تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأفيق فأجد موسى .. الحديث.

ويشهد لهذه الرِّواية حديث أبي هريرة عند مسلمٍ بلفظ: لا تُفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق مَن في السَّماوات، ومَن في الأرض، إلا مَن شاء الله، قال: ثم يُنفخ فيه أخرى، فأكون أول مَن بُعث -أو في أول مَن بُعِثَ- فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش، فلا أري: أحُوسب بصعقته يوم الطور أو بُعث قبلي؟.

ومن هذين الحديثين يتبين أنَّ هذه الصَّعقة الثانية إنما هي صعقة البعث المذكورة في الآية، وليست صعقة تقع لفصل القضاء كما ذكر الشارحُ تبعًا للإمام ابن القيم، وعلى ذلك فلا إشكالَ في الحديث والله أعلم.

س: .............؟

ج: عند مجيء الرب يوم القيامة لفصل القضاء.

.............

الشيخ: الصواب ما قاله ابنُ القيم وابن كثير والمزي وغيرهم، وأنَّ الجمع بين الحديث والآيات دخل حديثٌ في حديثٍ.

..............

الشيخ: في أولها: يفزع الناس، كل واحد .....، وهي نفخة ليست بقويةٍ، ثم لا تزال تقوى حتى يموت الناس.

.............

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ ابْن أَبِي الدُّنْيَا: عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَة ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَعَرْضَتَانِ جِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَعَرْضَة تَطَايُرِ الصُّحُفِ، فَمَنْ أُوتِي كِتَابَه بِيَمِينِه، وَحُوسِبَ حَسِابًا يَسِيرًا؛ دَخَلَ الْجَنَّة، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَه بِشِمَالِه دَخَلَ النَّارَ.

الطالب: علَّق عليه، قال: ضعيف؛ لأنَّ الحسن البصري يُدلس، وقد عنعنه، وهذه علّة، وإن ثبت سماعه من أبي هريرة وأبي موسى، فإنَّ ثبوت مُطلق السماع لا يُغني في رواية المدلس حتى يُصرح بالتَّحديث، كما هو مقرر في المصطلح، إلا إذا ثبتت رواية الكتاب التي فيها التَّصريح بسماع الحسن من أبي موسى.

الشيخ: هو صرَّح بالسماع، أيش قال عندك؟

الطالب: يقول: أخرجه الترمذي في "صفة الجنة ونعيمها" باب "ما جاء في العرض"، وابن ماجه في "الزهد" .....، وأحمد، وقال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أنَّ الحسن لم يسمع من أبي موسى.

الشيخ: هذه رواية أحمد صريحة.

الطالب: تعليق لأحمد شاكر، قال: وهم الشارحُ رحمه الله في نسبة هذا الحديث للترمذي، من حديث أبي موسى؛ فإن الترمذي رواه بنحو معناه من طريق الحسن البصري، عن أبي هريرة. وأشار إلى حديث أبي موسى فقال: ولا يصح هذا الحديث من قبل أنَّ الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وقد رواه بعضُهم عن عليِّ بن عليٍّ، وهو الرفاعي، عن الحسن، عن أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وأما حديث أبي موسى فقد رواه الإمامُ أحمد في "المسند" -طبعة الحلبي- عن وكيع، عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي موسى.

وكذلك رواه ابن ماجه من طريق وكيع بنحوه.

بل إنَّ رواية الترمذي إياه من حديث أبي هريرة هي من رواية وكيع، عن علي بن عليٍّ أيضًا.

فالإسنادان ثابتان إذن عن وكيعٍ، والحديث عندنا صحيح من الوجهين؛ فإنَّ سماع الحسن من أبي هريرة صحيح ثابت، كما بيَّنْتُ ذلك مُفَصَّلًا في شرح الحديث (7138) من "المسند".

وقد أعلَّ البوصيري في "زوائد ابن ماجه" حديث أبي موسى أيضًا بأنَّ الحسن لم يسمع من أبي موسى، وفي ذلك خلاف، ولكنه عاصره يقينًا، فإنَّ الحسن وُلد سنة 21، وأبو موسى مات سنة 52 على القول الراجح.

وأما هذه الرواية التي ذكرها الشارحُ، وفيها قول الحسن: "سمعتُ أبا موسى الأشعري" فإنَّ إسنادها ليس بين يدي، ولعلها رواية ابن أبي الدنيا، فلو كان إسنادها صحيحًا كصحة إسنادي أحمد وابن ماجه؛ لكانت قاطعةً في سماع الحسن من أبي موسى. انتهى.

الشيخ: يحتاج إلى جمع روايات الحديث.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا:

وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي مُنَشَّرَةً فِيهَا السَّرَائِرُ وَالْأَخْبَارُ تُطَّلَعُ
فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالْأَنْبَاءُ وَاقِعَة عَمَّا قَلِيلٍ، وَلَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَمِ الْجَحِيمِ فَلَا تُبْقِي وَلَا تَدَعُ
تَهْوِي بِسَاكِنِهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا
طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يُرْحَمْ تَضَرُّعُهُمْ فِيهَا، وَلَا رقَّة تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
لِيَنْفَعِ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَه قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا

وَقَوْلُهُ: (وَالصِّرَاطُ) أَيْ: وَنُؤْمِنُ بِالصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ، إِذَا انْتَهَى النَّاسُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مَكَانَ الْمَوْقِفِ إِلَى الظُّلْمَة الَّتِي دُونَ الصِّرَاطِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ الله ﷺ سُئِلَ: أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ: هُمْ فِي الظُّلْمَة دُونَ الْجِسْرِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَفْتَرِقُ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَتَخَلَّفُونَ عَنْهُمْ، وَيَسْبِقُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُحَالُ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِه عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَة"، إِلَى أَنْ قَالَ: "فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ على قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ"، قَالَ: "فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَه مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَه فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ آخر مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يُضِيءُ مَرَّةً، وَيُطْفَأُ مَرَّةً، إِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ، وَإِذَا طُفِئَ قَامَ".

قَالَ: "فَيَمُرُّ وَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، وَالصِّرَاطُ كَحَدِّ السَّيْفِ، دَحْضٌ، مَزَلَّةٌ، فَيُقَالُ لَهُم: امْضُوا عَلَى قَدْرِ نُورِكُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم مَن يمرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، يَرْمُلُ رَمَلًا، فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي نُورُهُ عَلَى إبهام قدمه، تخرّ يدٌ، وتعلق يدٌ، وتخرّ رِجْلٌ، وتعلق رِجْلٌ، وتُصيب جوانبه النار، فَيَخْلُصُونَ، فَإِذَا خَلَصُوا قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْكِ بَعْدَ أَنْ أَرَانَاكِ، لَقَدْ أَعْطَانَا اللهُ ما لم يُعْطِ أحدًا" الْحَدِيثَ.

الشيخ: علَّق عليه عندك؟

الطالب: نعم: صحيح، وأخرجه الحاكم، وأظنّ أنَّ البيهقيَّ من طريقه رواه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشَّيخين. ووافقه الذَّهبي.

قلت: وفيه يزيد بن عبدالرحمن، أبو خالد الدَّالاني، ولم يُخرج له الشيخان شيئًا، ثم هو وإن كان صدوقًا فقد كان يُخطئ كثيرًا، وكان يُدلس كما في "التقريب"، وقد صرَّح في هذا الأثر بالتَّحديث، فأمنا بذلك تدليسه، فإنما يُخشى منه الخطأ فيه، لكنه قد تُوبع كما يأتي، فأمنا بذلك خطأه أيضًا، وقد أخرجه الحاكم أيضًا بتمامه مُطولًا، وكذلك الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق أبي خالدٍ هذا عن ابن مسعودٍ مرفوعًا، وقد تابعه زيد ابن أبي أنيسة مرفوعًا أيضًا بتمامه عند الطبراني، وزيد ثقة، فصحَّ بذلك الحديث، والحمد لله.

الشيخ: ولا شكَّ أنَّ هذا يُوجب للمؤمن الحذر، والعناية، وسؤال الله الثبات؛ فإنَّ الجسر يُقال: جَسر وجِسر، الجيم تُفتح وتُكسر، هو الصِّراط، هو صراط خطير يمر عليه الناس، ولا ينجو منه إلا أهلُ الجنة، لا ينجو منه ويجوزه إلا أهلُ الجنة، مَن جازه نجا، ومَن لم يُجزه هلك: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71- 72]، فيجوزه أهلُ التَّقوى، ويسقط منه غيرهم، أما الكفَّار فيُساقون إلى النار سوقًا، ولا يجوزون هذا الصراط، ولا يمرون عليه، بل يُساقون إلى النار، نعوذ بالله، ويُدفعون إليها قصدًا؛ لكونهم أهلها، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.

الطالب: في تعليقٍ على الحديث قال: كذا في الرواية الموقوفة عند الحاكم، وفي المرفوعة عنده: "دون"، وعند الطبراني: "أصغر"، ولعلَّ هذه الرواية أولى؛ لأنَّ السياق يدل عليها.

الشيخ: هذا على أيش؟

الطالب: عند قوله: "ومنهم مَن يُعطى نوره".

الشيخ: "أصغر" و"دون ذلك" المعنى واحد.

الطالب: وكذلك قال في الموقوفة وفي المرفوعة عند الحاكم والطبراني: "فيمرون"، وكذا في "المستدرك" و"المعجم"، أما الرواية التي علَّقها هنا الشيخُ أحمد شاكر رحمه الله بلفظ: "ثم كشدّ الرجال، ثم كمشيهم"، فهي رواية أخرى للحاكم من طريق غير الدَّالاني، وهذا الطريق لم يقع بصرُ الشيخ عليها، مع أنها في الصَّفحة التي تلي صفحة الرِّواية الأخرى! والموفق الله تبارك وتعالى.

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] مَا هُوَ؟ وَالْأَظْهَرُ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72].

وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِيهِ قَالَ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا؟.

أَشَارَ ﷺ إِلَى أَنَّ وُرُودَ النَّارِ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهَا، وَأَنَّ النَّجَاةَ من الشرِّ لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انْعِقَادَ سَبَبِهِ، فَمَنْ طَلَبَهُ عَدُوُّهُ لِيُهْلِكُوهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ يُقَالُ: نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا [هود:58]، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا [هود:66]، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا [هود:94]، وَلَمْ يَكُنِ الْعَذَابُ أَصَابَهُمْ، وَلَكِنْ أَصَابَ غَيْرَهُمْ، وَلَوْلَا مَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ لَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ.

وَكَذَلِكَ حَالُ الْوَارِدِ فِي النَّارِ، يَمُرُّونَ فَوْقَهَا عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَذرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا، فَقَدْ بَيَّنَ ﷺ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الْوُرُودُ عَلَى الصِّرَاطِ.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ ﷺ: عَلِّمِ النَّاسَ سُنَّتِي وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدَخُلَ الْجَنَّةَ؛ فَلَا تُحْدِثَنَّ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ أَوْرَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم: موضوع، وهو قطعة من حديثٍ رواه أبو نعيم والخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكره ابنُ الجوزي في "الموضوعات"، وتكلمتُ عليه في "الأحاديث الضعيفة".

الشيخ: شعيب علَّق؟

الطالب: علَّق على أبي نصر الوائلي، قال: هو الحارث عبيدالله بن سعيد بن الحارث الوائلي، مكي، أبو نصر السجزي، المتوفى بمكة سنة 444. ترجمه الذَّهبي في "تذكرة الحفاظ" فقال: هو صاحب "الإبانة الكبرى" في مسألة القرآن، وهو كتاب قوي في معناه، دالٌّ على إمامة الرجل وظفره بالرجال والطرق، يقول في الحديث: وأخرجه الخطيبُ البغدادي في "تاريخ بغداد" من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: يا أبا هريرة، علم الناس القرآن، وفي سنده أبو همام القرشي، واسمه محمد بن مجيب، قال يحيى: كذاب. وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريقٍ آخر، وفيه محمد بن عبدالرحيم بن .....، وهو مجهول، فالحديث لا يصح، وذكره ابنُ الجوزي في "الموضوعات".

وَرَوَى أبو بكر ابن أحمد بن سليمان النَّجار.

الشيخ: المعروف أبو بكر أحمد بن سليمان النَّجاد، بالدال، مشهور، هذا حنبلي مشهور.

وَرَوَى أبو بكر أحمد بن سليمان النّجاد، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي.

الطالب: علَّق عليه وقال: ضعيف؛ رواه الطبراني وابن عدي وأبو نعيم وغيرهم بسندٍ فيه ضعف وانقطاعٌ.

يقول: أخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث محمد بن جعفر، قال: حدَّثنا بَشِيرُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ. وبشير بن طلحة ضعيف، وخالد بن دريك لم يسمع من يعلى بن منبه، فهو منقطع، وأورده الهيثمي في "المجمع" وقال: رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف. وقد تحرَّف فيه اسم: يعلى بن منية، إلى: يعلى بن منبه.

وَقَوْلُهُ: (وَالْمِيزَانُ) أَيْ: وَنُؤْمِنُ بِالْمِيزَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102- 103].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا انْقَضَى الْحِسَابُ كَانَ بَعْدَهُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ لِلْجَزَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِتَقْرِيرِ الْأَعْمَالِ، وَالْوَزْنَ لِإِظْهَارِ مَقَادِيرِهَا؛ لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بحسبها.

قال: وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَوَازِينُ مُتَعَدِّدَةٌ تُوزَنُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَوْزُونَاتِ، فَجَمَعَ بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: أَنَّ مِيزَانَ الْأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَانِ حِسِّيَّتَانِ مُشَاهَدَتَانِ؛ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ الله سيخلص رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ. فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ بسم الله الرحمن الرحيم.

وهكذا رواه التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ.

الشيخ: أيش قال المحشِّي؟

الطالب: قال: صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الترمذي، وفي روايتهما: فلا يثقل مع اسم الله شيء، وأما رواية الكتاب فهي رواية لأحمد، وهي شاذة، وقد تكلمت على إسناد الحديث في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" حديث كذا.

الشيخ: شعيب عندكم؟

الطالب: قال: وقد أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، وسنده صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وروايته: ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم شاذة، وهي لأحمد، والرواية الصحيحة: ولا يثقل مع اسم الله شيء، وهي رواية الترمذي والحاكم، والسِّجل: الكتاب الكبير.

الشيخ: يكفي، المقصود أنَّ هذا الرجل أتى بهذه الشَّهادة عن إخلاصٍ وصدقٍ، وختم بها عمله، فرجحت بجميع سيئاته، فالمؤمن إذا أتى بتوبةٍ صادقةٍ وعملٍ صالحٍ خُتم له بها رجحت بجميع سيئاته، فإن الأعمال بالخواتيم، فإذا تاب توبةً صادقةً، أو أتى بالشَّهادتين على طريقةٍ مستقيمةٍ، وعارف بمعناها، معتقد لمعناها، مستقيم على معناها من توحيد الله، والإخلاص له، والإيمان بالرسول ﷺ إيمانًا صادقًا؛ فإنَّ هذه الشَّهادة تتضمن توبةً من جميع السَّيئات، وإنكاره لها، وعدم إصراره عليها، فتكون راجحةً بجميع سيئاته، فمَن خُتم له بالخاتمة الحسنة غُفرت سيئته، ورجح ميزانه.

وظاهر قوله سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أنَّ هناك موازين كثيرة تُوزن بها أعمال العباد، وهي موازين جمع: ميزان، وهي ميزان عدل، القسط: العدل: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا لا قليلًا ولا كثيرًا: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40].

فجدير بالمؤمن أن لا يحقر شيئًا من الحسنات، ولا شيئًا من السيئات، بل يحذر السَّيئات كلها، ويُسارع ويُبادر إلى الحسنات كلها، ولا يحتقر شيئًا، فإنَّ مثاقيل الذَّر من الخير تنفعه، ومثاقيل الشرِّ تضره، فالعاقل يكون أبدًا حريصًا على الحسنات مطلقًا، وحذرًا من السيئات مطلقًا؛ ولهذا في الحديث الآخر يقول النبي ﷺ: إياكم ومحقرات الذُّنوب؛ فإنَّ لها من الله طالبًا، وفي اللفظ الآخر: إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنها تجتمع على العبد حتى تُهلكه، ثم ضرب لهذا مثلًا بالقوم ينزلون مكانًا في السفر، ليس عندهم شيء يطبخون به، فيأتي هذا بالعود، وهذا بالبعرة؛ حتى أجَّجوا نارًا، وأنضجوا طبيخهم، وهكذا المتساهل؛ يعمل هذه السيئة، ثم السيئة، ثم السيئة، ويحتقرها، حتى تجتمع عليه وتُهلكه.

فالواجب على ذي العقل السليم أن يحذر السيئات كلها، ويبتعد عنها غاية الابتعاد أينما كان، وأن يكون حريصًا على جمع الحسنات وفعل الحسنات والخيرات مهما كان، ولا يحتقر شيئًا: ردّ السلام، بذل السلام، بذل المعروف، الذكر، الاستغفار، وسائر أنواع الحسنات مع الله ومع العباد.

س: ظاهر الحديث أنَّه ما قال في آخر حياته؟

ج: هو ظاهره الإطلاق، لكن المراد أنه قاله على وجهٍ خُتم له به، فالمعروف من الأدلة الأخرى أنه لا ينفعه العمل إذا كان مُصرًّا على السيئات، لا يكون تائبًا حتى يكون ليس معه إصرار، فالأحاديث المطلقة والآيات المطلقة تُقيد بالآيات المقيدة والأحاديث المقيدة، وهذا شأن النصوص؛ يُحمل مطلقها وعامّها على مقيدها وخاصّها حتى تجتمع النصوص على الحقِّ الذي جاءت به الرسلُ، وطُلب من العباد، ويدلك على هذا أنَّ المنافقين يقولون: لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله، وهم في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله، لماذا؟ لأنهم قالوهما على غير بصيرةٍ، وعلى غير صدقٍ، وعلى غير هدى، وإنما قالوهما مجاملةً وطلبًا للعاجلة.

س: استدل بالحديث على أنَّ الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله، مخلصًا؛ فهو ناجٍ، حتى ولو لم يُصلِّ؟

ج: هذا غلط، فإنه قال: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، لا بدَّ من عدم الإصرار، فالذي قال: لا إله إلا الله، وأتى بالشَّهادتين أو بأركان الإسلام ثم سبَّ الدِّين، أو سبَّ الله، أو سبَّ رسوله، أو جحد ما أوجب الله، أو جحد ما حرَّم الله؛ بطلت تلك الأعمال، صار مثل مَن نقض الطهارة بناقضٍ من النَّواقض، بإجماع أهل العلم؛ ولهذا ذكروا في باب حكم المرتد النَّواقض الكثيرة التي مَن أتى بواحدٍ منها انتقض إسلامه، وصار في حكم المرتدين، نسأل الله العافية.

ولكن من عادة ضُعفاء البصيرة، أو مَن كان قصده غير سليمٍ، من عادة التَّشبث بالمشتبهات والمطلقات والعامَّات، وليس هذا من شأن أهل الإيمان، أهل الإيمان وصفهم الله بأنهم يُؤمنون بالمتشابه ويردّونه إلى المحكم، وأما أهل الزيغ فيتَّبعون ما تشابه منه.

وَفِي سِيَاقٍ آخَرَ: تُوضَعُ الموازينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ الْحَدِيثَ.

الطالب: قال في التَّعليق: هو الحديث المتقدم، وهذا لفظ آخر، ولا يصح من قبل سنده؛ لأنَّ فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، لا يُحتج بما تفرد به، أخرجه أحمد.

وَفِي هَذَا السِّيَاقِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ: أَنَّ الْعَامِلَ يُوزَنُ مَعَ عَمَلِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، قال: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105].

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَجْنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَأُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ.

الطالب: قال: حسن، رواه أحمد في "المسند" بسندٍ حسنٍ.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: أخرجه أحمد، وسنده حسن، وأورده الهيثمي في "المجمع"، ونسبه للبزار والطبراني.

وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ أَيْضًا بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ أَنْفُسِهَا، كَمَا فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ.

الشيخ: الطُّهُور والوُضُوء: الفعل، هذا هو الأفصح في كلام أهل العلم، وأما بالفتح فهو الماء المعدّ للطَّهارة.

وفي الصحيح -وَهُوَ خَاتِمَةُ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ- قَوْلُهُ ﷺ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، وَيُوَكَّلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا. وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فُلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا.

الطالب: علَّق عليه، قال: موضوع، ورواه أبو نعيم أيضًا في "الحلية" وقال: تفرد به داود بن المحبر. قلت: وهو متروك متَّهم بالوضع.

الشيخ: نعم.

فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مُلْحِدٍ مُعَانِدٍ يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزنَ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ الْوَزْنَ الْأَجْسَامُ! فَإِنَّ اللَّهَ يَقْلِبُ الْأَعْرَاضَ أَجْسَامًا.

الشيخ: والمعول على نفس الأعمال، ولكن الله جلَّ وعلا قد يزن نفسَ العامل، ونفس الصَّحيفة، ونفس العمل، وقد جاءت النصوصُ بهذا وهذا: وزن الأعمال نفسها، ووزن الصحف، ووزن العامل، وربك جلَّ وعلا هو الحكم العدل، والاعتبار بهذا كله بالعمل، لا بذات الإنسان، ولا بصحيفته، الاعتماد بهذا كله على العمل، فالرُّجحان والخفَّة للعمل نفسه، مهما كانت الحالةُ، مهما كان الوزنُ للعامل أو للصَّحيفة أو العمل، فالمعول على نفس العمل صلاحًا وفسادًا.

س: ألا يمكن أن نقول: تُوزن وزنًا يليق بها؟

ج: الله أخبر أنها تُوزن، أما كيفية الوزن فهذا إلى الله ، قد يُوزن الجسم، وتُوزن الصَّحيفة، وتُوزن الأعمال على الكيفية التي يعلمها الله سبحانه، لكنَّها في ميزانٍ يثقل ويخفّ.

س: يُوزن الرجلُ وصحيفته؟

ج: ظاهر النصوص أنَّ هذا يقع، لكن كونه عامًّا أو ليس بعامٍّ الله أعلم، قد يُوزن الرجلُ والمرأةُ، وقد يُوزن العملُ، وقد تُوزن الصَّحيفة، فالوزن لا بدَّ منه، وظاهر النصوص أنها تُوزن كلها، لكن المعول على العمل.

س: لكن الميزان حسي؟

ج: نعم، حسي، والأعمال حسية، والصحائف حسية، والإنسان حسي، فالأعراض هذه ربها يتصرف فيها كيف يشاء ، يُؤتى بالموت على صورة كبشٍ ثم يُذبح.

..............

كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: يُؤتى بالموت كبشًا أغرّ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَرَوْنَ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، فَيُذْبَحُ، وَيُقَالُ: خُلُودٌ لَا مَوْتَ.

الطالب: قال: صحيح؛ أخرجه في "المسند" بسندٍ صحيحٍ.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: أخرجه أحمد والدارمي، وسنده صحيح.

الشيخ: الحديث هذا الظاهر أنه موجود في "صحيح البخاري" أو في "الصحيحين" جميعًا.

الطالب: في تعليق غير التَّعليق الذي ذكره، يقول: الحديث رواه البخاري في "التفسير"، ورواه مسلم في "الجنة"، والترمذي في "التفسير"، والدارمي في "الرقاق".

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ.

الطالب: أخرجه البخاري في "تفسير سورة مريم"، ومسلم في "الجنة".

فَثَبَتَ وَزْنُ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِ وَصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمِيزَانَ لَهُ كِفَّتَانِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ.

فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، كَمَا أَخْبَرَنَا الصَّادِقُ ﷺ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

وَيَا خَيْبَةَ مَنْ يَنْفِي وَضْعَ الْمَوَازِينِ الْقِسْطِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ؛ لِخَفَاءِ الْحِكْمَةِ عَلَيْهِ، وَيَقْدَحُ فِي النُّصُوصِ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمِيزَانِ إِلَّا الْبَقَّالُ وَالْفَوَّالُ! وَمَا أَحْرَاهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُقِيمُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي وَزْنِ الْأَعْمَالِ إِلَّا ظُهُورُ عدله سبحانه لجميع عباده، فإنه لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَكَيْفَ وَوَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ؟

فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَوْضِ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الْمِيزَانِ، وَالصِّرَاطَ بَعْدَ الْمِيزَانِ. فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ": أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا عبروا الصِّراط وقفوا على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي "التَّذْكِرَةِ" هَذِهِ الْقَنْطَرَةَ صِرَاطًا ثَانِيًا لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَلَيْسَ يَسْقُطُ مِنْهُ أَحَدٌ فِي النَّارِ، والله تعالى أعلم.

قَوْلُهُ: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ).

أَمَّا قَوْلُهُ: (إِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ) فَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الْآنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: بَلْ يُنْشِئُهُمَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ! وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلُهُمُ الْفَاسِدُ الَّذِي وَضَعُوا بِهِ شَرِيعَةً لِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا!! وَقَاسُوهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَفْعَالِهِمْ، فَهُمْ مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ، وَدَخَلَ التَّجَهُّمُ فِيهِمْ، فَصَارُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَطِّلَةً! وَقَالُوا: خَلْقُ الْجَنَّةِ قَبْلَ الْجَزَاءِ عَبَثٌ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُعَطَّلَةً مُدَدًا مُتَطَاوِلَةً! فَرَدُّوا مِنَ النُّصُوصِ مَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَحَرَّفُوا النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَضَلَّلُوا وَبَدَّعُوا مَنْ خَالَفَ شَرِيعَتَهُمْ.

فَمِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ: قوله تعالى عن الجنَّة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21]. وعن النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ۝ لِلطَّاغِينَ مَآبًا [النبأ:21- 22]، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ۝ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ۝ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13- 15]، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَرَأَى عِنْدَهَا جَنَّةَ الْمَأْوَى، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي آخِرِهِ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جَبْرَائِيلُ، حَتَّى أَتَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا هِيَ جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ.

الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلفُ رحمه الله: (الجنة والنار مخلوقتان)، عند أهل السنة والجماعة موجودتان، خلقهما الله جلَّ وعلا لأهل طاعته وأهل معصيته، فالجنة للمتقين، والنار للكافرين، أعدَّ هذه، وأعدَّ هذه، ولا مانع من أن يُعدَّهما قبل وجود أهلهما، وليس هذا بمُستنكر، فإنَّهما لا تزالان موجودتين، ولا يزال البناء فيهما والتَّكميل والزِّيادة فيهما، فلا تزال الجنةُ يُزاد فيها من أنواع النَّعيم والقصور والخيرات، ولا تزال النارُ يُزاد فيها من أنواع العذاب والبلاء، ولكنَّهما مُعدَّتان مُهيَّأتان موجودتان لأهلهما، وليس في هذا ما يُخالف الحكمة.

وما قالوه: إنَّ وجودهما قبل وجود أهلهما عبث! قول باطل لا وجهَ له، فإنَّ الحُكماء من الخلق يعدون الأشياء التي يُريدونها إعدادًا كثيرًا قبل وجود أهلها، وقبل وجود سُكَّانها، وهم بنو آدم الذين حكمتهم ناقصة، وعلمهم ناقص، فقد يعدون الأشياء الكثيرة قبل وجود أهلها، حتى إذا وُجد أهلها أُدخلوا بها، حتى يُهيئوا أسبابَ أهلها بهذه القصور وهذه البساتين، أو ما أشبه ذلك.

والرب أعدَّها لعباده ليعلموا حقيقةَ ذلك، وليشتاقوا إلى ذلك، وليحفز هممهم إلى هذا الخير العظيم، وليعلموا أنه على كل شيءٍ قدير، إلى غير هذا من الحِكَم العظيمة.

وقد ثبت في النصوص أنَّ الرسول ﷺ قد دخل الجنةَ، ورأى ما فيها من النَّعيم، ومُثِّلت له الجنة والنار في صلاة الكسوف، وصحَّ عنه ﷺ أنه قال: إنَّ الميت إذا مات إذا كان من أهل الجنة فُتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من نعيمها وطيبها، ورأى مقعده من الجنة، والكافر بعكس ذلك؛ يرى مقعده من النار، ويأتيه من سمومها وعذابها.

فالمقصود أنَّ هذا أمرٌ مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة قاطبةً، والنصوص من القرآن والسنة شاهدة بذلك، طافحة بذلك، ثابتة بذلك، فقول مَن أنكر ذلك تكذيب لله ولرسوله، ويكون هذا كفرًا مُستقلًّا، تكذيب للنصوص، كفر مُستقلٌّ، غير ما عليه من الباطل الآخر.

.............

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ عبدالله بن عمر: أنَّ رسول الله ﷺ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَفِيهِ: يُنَادِي مُنَادٍ من السَّماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا.

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في حياة رسول الله ﷺ. فذكرت الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ بِهِ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي آخُذُ قطفًا من الجنَّة حين رأيتُموني تقدَّمتُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ النارَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رأيناك تكعكعتَ؟! فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ خَيْرًا قَطُّ!.

الشيخ: وهذا وصف أغلبي للنساء كما قال النبيُّ ﷺ، وهو واقع منهن إلى الآن، وإلى آخر الزمان، وصف لهن أغلبي، إذا تكدرت الأمورُ قالت هذا الكلام، والله المستعان.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قليلًا، ولبكيتُم كَثِيرًا، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.

وَفِي "الْمُوَطَّأِ" وَالسُّنَنِ من حديث كعب بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ تعلق فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهَا اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشيخ: وهذا الحديث رواه أحمد أيضًا في "المسند" عن الإمام الشافعي، عن مالك، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن النبي ﷺ قال: نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يبعثها الله، وهذا لعموم أرواح المؤمنين، أما أرواح الشُّهداء فلها حَمَلَة، تمتاز على أرواح الناس بأنَّ لها حَمَلَة، وأنها في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، مُعلَّقة تحت العشر، هذه في أرواح الشُّهداء خاصَّة، وأما أرواح المؤمنين عمومًا فهي نفسها تكون طيرًا أو صورة طيرٍ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دُخُولِ الرُّوحِ الْجَنَّةَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَالسُّنَنِ وَ"الْمُسْنَدِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الجنةَ والنارَ أرسل جبرائيل إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِالْجَنَّةِ فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ سَمِعَ بِهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إلَّا دخلها.

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ النفوس تغلب عليها الشَّهوات، وقل أن يسلم منها أحدٌ إلَّا مَن حفظ الله؛ ولهذا جاء الحديثُ: حُفَّت النارُ بالشَّهوات، وحُفَّت الجنة بالمكاره، فالجنة تحتاج إلى أعمالٍ صالحةٍ، وإلى صبرٍ على الحقٍّ، وثباتٍ عليه، وتركٍ لما حرَّم الله، وهذا ليس يستطيعه كل أحدٍ، ويصبر عليه كل أحدٍ، إلا الخواص، وإلا النَّدر من عباد الله، أما الشَّهوات فالميل إليها كثير: من الزنا، والسَّرقة، وأكل أموال الناس، واستباحة الحرام، والتَّكاسُل عن الواجبات، هذه تميل إليها النُّفوس، وليس كل واحدٍ عنده الصبر على أداء الواجبات، وليس عند كل أحدٍ الصبر على ترك المحرَّمات، ولا سيما بعض الشَّهوات المحرَّمة؛ ولهذا قال جبرائيل: خشيتُ أن لا ينجو منها أحد بسبب الشَّهوات التي حُفَّت بها، وبسبب المغريات التي صارت حجابًا عنها، مَن تركها سلم، ومَن تعاطها هلك.

الطالب: المصنف وهم بعزو الحديث إلى مسلمٍ، أقرأ التَّعليق؟

الشيخ: نعم.

الطالب: يقول: أخرجه أبو داود في "السنة"، باب "في خلق الجنة والنار"، والترمذي في "صفة الجنة" في باب "ما جاء: حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشَّهوات"، والنَّسائي في "الأيمان والنذور" باب "الحلف بعزة الله"، وأحمد، وسنده حسن، وقد وهم المصنفُ فعزاه إلى مسلم ولم يُخرجه. الأرناؤوط.

الشيخ: يُراجع.

...............

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا. فَالْقَوْلُ بِوُجُودِهَا الْآنَ ظَاهِرٌ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ.

وَأَمَّا شُبْهَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ، وَهِيَ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً الْآنَ لَوَجَبَ اضْطِرَارًا أَنْ تَفْنَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يَهْلَكَ كُلُّ مَنْ فِيهَا وَيَمُوتَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، و كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ" مِنْ حَدِيثِ ابن مسعودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

الطالب: قال: وهو مُخرَّج في "الصحيحة" رقم (105).

الشيخ: أيش عند شعيب؟ علَّق؟

الطالب: أخرجه الترمذي في "الدعوات" باب "غراس الجنة" من حديث عبدالرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعودٍ، وحسَّنه، مع أن عبدالرحمن بن إسحاق قد اتَّفقوا على ضعفه، وتحسين الشيخ ناصر له في "الأحاديث الصحيحة" فقط بشاهدين: من حديث أبي أيوب، وابن عمر .....؛ لأنَّهما على ضعفهما لا يصلحان أن يكونا شاهدًا له؛ لأنهما يختلفان من جهة المعنى عن حديث ابن مسعودٍ، ففيهما أنَّ غراس الجنَّة: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي حديث ابن مسعودٍ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. انظر: "المسند" (5/ 418) و"مجمع الزوائد".

الشيخ: المتبادر أنَّ متنَه غير ملائمٍ للأحاديث الصَّحيحة، وغير ملائم لجمعٍ من الآيات، لكن لو صحَّ واستقام إسناده فالمراد أنَّ بها قيعانًا ليست هي قيعانًا، وإنما فيها قيعان، وهي بقايا البناء، كما في الأحاديث الصحيحة: مَن بنى لله مسجدًا بنى اللهُ له بيتًا في الجنة، والأحاديث الأخرى التي فيها البناء والمنازل، هذا من سعتها وعظمتها ووجود ما يمكن فيها من البناء، لكن الإخبار بأنها قيعان هو محل الغرابة.

والقاسم بن عبدالرحمن فيه أيضًا كلام كثير، القاسم بن عبدالرحمن الواسطي ضعيف عند أهل العلم، فالحاصل أنَّ تحسينه أو تصحيحه محل نظرٍ.

س: ما هي القيعان؟

ج: الصَّحراء الخالية التي ليس فيها بناء ولا غراس.

وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: تكلَّم عليه؟

الطالب: قال: صحيح، وهو مُخرَّج في المصدر السَّابق.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: قال: أخرجه الترمذي في "الدعوات" باب "فضل: سبحان الله" ورجاله ثقات، إلا أنَّ فيه تدليس أبي الزبير، ومع ذلك فقد قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابرٍ.

الشيخ: من باب الفضائل، من باب التَّرغيب.

قَالُوا: فَلَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً مَفْرُوغًا مِنْهَا لَمْ تَكُنْ قِيعَانًا، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْغِرَاسِ مَعْنًى.

قَالُوا: وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ أَنَّهَا قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11].

فَالْجَوَابُ: إِنَّكُمْ إِنْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّهَا الْآنَ مَعْدُومَةٌ، بِمَنْزِلَةِ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ. فَهَذَا بَاطِلٌ، يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهَا لَمْ يَكْمُلْ خَلْقُ جَمِيعِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا، وَأَنَّهَا لَا يَزَالُ اللَّهُ يُحْدِثُ فِيهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِذَا دَخَلَهَا الْمُؤْمِنُونَ أَحْدَثَ اللَّهُ فِيهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ أُمُورًا أُخَرَ. فَهَذَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَأَدِلَّتُكُمْ هَذِهِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، الجنة بإجماع أهل السنة والجماعة موجودة، والنار موجودة، كلاهما موجودتان قبل خلق هذا العالم الذي هو الجن والإنس، أعدَّهما الله لهؤلاء ولهؤلاء، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يُزاد فيهما، بل يُزاد في عذاب النار، ويزاد في نعيم الجنة في هذه الحياة ويوم القيامة أيضًا.

س: الجنة التي أُهبط منها آدم؟

ج: هي الجنة المعروفة، هذا الصواب الذي عليه عامَّة أهل العلم، الجنة التي أعدَّها الله للمُتقين في السَّماء، وأما قول بعض الناس: إنها جنة في الأرض، ويُحكى عن قاضي المغرب البلوطي، فهذا ليس بشيءٍ، الذي عليه أهلُ العلم قاطبةً -وهو كالإجماع منهم- أنها عند الإطلاق جنة في السَّماء.

س: قول الشارح هنا: "وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا؛ فَالْقَوْلُ بِوُجُودِهَا الْآنَ ظَاهِرٌ"؟

ج: كلام مجمل، هي جنة المأوى، وهي جنة الخلد.

وَأَمَّا احْتِجَاجُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] فأثبتم سُوءَ فَهْمِكُمْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاحْتِجَاجُكُمْ بِهَا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ نَظِيرُ احْتِجَاجِ إخوانكم بها عَلَى فَنَائِهِمَا وَخَرَابِهِمَا وَمَوْتِ أَهْلِهِمَا! فَلَمْ تُوَفَّقُوا أَنْتُمْ وَلَا إِخْوَانُكُمْ لِفَهْمِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَإِنَّمَا وُفِّقَ لِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ.

فَمِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ: كُلُّ شَيْءٍ مِمَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفَنَاءَ وَالْهَلَاكَ هَالِكٌ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ خُلِقَتَا لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، وَكَذَلِكَ الْعَرْشُ، فَإِنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ: إِلَّا مُلْكَهُ.

وَقِيلَ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.

وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أنزل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَطَمِعُوا فِي الْبَقَاءِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَأَيْقَنَتِ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى بَقَاءِ النَّارِ أَيْضًا، عَلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ قَرِيبٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَقَالَ بِبَقَاءِ الجنَّة، وقال بفناء النَّارِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالْقَوْلَانِ مَذْكُورَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا.

وَقَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، إِمَامُ الْمُعَطِّلَةِ، وَلَيْسَ لَهُ سَلَفٌ قَطُّ، لَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَفَّرُوهُ بِهِ، وَصَاحُوا بِهِ وَبِأَتْبَاعِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ.

وَهَذَا قَالَهُ لِأَصْلِهِ الْفَاسِدِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ، وَهُوَ امْتِنَاعُ وُجُودِ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنَ الْحَوَادِثِ! وَهُوَ عُمْدَةُ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحُدُوثِ مَا لَمْ يَخْلُ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَتَهُمْ فِي حُدُوثِ العالم، فرأى الجهم أنَّ ما يمنع مِنْ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فِي الْمَاضِي، يَمْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ! فَدَوَامُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ عَلَى الرَّبِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمْتَنِعٌ، كَمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي!

وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَقْتَضِي فَنَاءَ الْحَرَكَاتِ، فَقَالَ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى يَصِيرُوا فِي سُكُونٍ دَائِمٍ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى حَرَكَةٍ!

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَوَامِ فَاعِلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ لَمْ يَزَلْ رَبًّا قَادِرًا فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ لِذَاتِهِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ فَيَصِيرُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ حَدٌّ مَحْدُودٌ حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَدِّ، وَيَكُونُ قَبْلَهُ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ، فَهَذَا الْقَوْلُ تَصَوُّرُهُ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِفَسَادِهِ.

الشيخ: وهذه الأشياء التي حدثت بسبب أهل العلم وخوضهم في الباطل وعدم رجوعهم إلى الكتاب والسنة، حصل بها شرٌّ كثيرٌ على المسلمين، وبلاء عظيم، فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى أقوالهم الفاسدة، فالجنَّة أعدَّها الله للمُتقين، وأجمع أهلُ السنة والجماعة على بقائها واستمرارها، وأنها لا تفنى أبد الآباد، بل أهلها في نعيمٍ دائمٍ، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ۝ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان:51- 56]، فذكر أنهم في مقامٍ أمينٍ، وأنهم آمنون، وأنهم لا يذوقون الموت، هذا كله يُبين لنا أنها آيات مُستمرة، وبقاء مستمر أبد الآباد.

أما النار: فقد ذهب بعضُ السلف إلى أنَّ لها نهايةً، وأنها تنتهي إلى ما يعلمه الله ، بعدما يمضي على أهلها أحقابًا لا يُحصي عددها إلا الله: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، فقالوا: هذه الأحقاب لها نهاية.

والصحيح الذي عليه جمهورُ أهل السنة والجماعة أنها كالجنة لا تفنى أبدًا، وأنَّ حياة أهلها وعذابهم فيها مستمر أبدًا، نسأل الله العافية، كما قال جلَّ وعلا: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، فعذابهم مُستمر فيها، نسأل الله العافية أبد الآباد.

وهذه الأصول التي وضعها أهلُ الكلام لأنفسهم -كالمعتزلة والجهمية وغيرهم- أصول فاسدة لا يُلتفت إليها، ولا يُعول عليها، والله جلَّ وعلا لم يزل فعَّالًا لما يريد: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] أولًا وآخرًا، فلم يزل فعَّالًا أولًا، ولم يزل فعَّالًا في المستقبل، لا يمتنع عنه شيء ، بل هو القادر على كل شيءٍ جلَّ وعلا، لم يزل خلَّاقًا، رزَّاقًا، حيًّا، قيُّومًا، مُدبرًا لعباده، فعَّالًا لما يريد، وهكذا في المستقبل لا يزال خلَّاقًا، رزَّاقًا، فعَّالًا لما يريد ، يُحدث لأهل الجنة وأهل النار ما يشاء : إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.

ومن المعلوم أنَّ التسلسل الأول أنكره الكثير، ولكن مَن نظر وتأمَّل عرف أنه لا يزال تسلسل الحوادث، لا في المستقبل، ولا في الماضي؛ لأنَّ عدم التَّسلسل يقتضي أنَّ ربنا جلَّ وعلا في وقتٍ ما ليس فعَّالًا، وليس له خلق ولا فعل، وهذا لازم باطل، وملزومه باطل، وكل حادثٍ مسبوقٍ بعدم، وليس للأولية حدٌّ محدودٌ حتى يتوقف عندها، فالله جلَّ وعلا هو الأول وليس قبله شيء، ولم يزل موجودًا سبحانه، فهكذا الحوادث لا تزال موجودةً شيئًا بعد شيءٍ، كل حادثٍ مسبوق بعدم، كل مخلوقٍ مسبوق بعدم، وهكذا كل فردٍ من أفراد الحوادث حدث بعد أن لم يكن، وصدق عليه أنه مخلوق مربوب حادث، وهكذا في المستقبل لا تزال الحوادثُ تقع، ولا تزال أفعالُ الله جلَّ وعلا جاريةً في عباده، لا نهايةَ لذلك.

فَأَمَّا أَبَدِيَّةُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَبِيدُ، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ.

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ:

فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِلَّا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي النَّارِ، وَهَذَا يَكُونُ لِمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا، لَا لِكُلِّهِمْ.

وَقِيلَ: إِلَّا مَدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ.

وَقِيلَ: إِلَّا مُدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي الْقُبُورِ وَالْمَوْقِفِ.

وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ الرَّبُّ وَلَا يَفْعَلُهُ، كَمَا تقول: والله لأضربنَّك إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، بَلْ تَجْزِمُ بِضَرْبِهِ.

وَقِيلَ: "إِلَّا" بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَهُوَ ضعيف.

وسيبويه يَجْعَلُ "إِلَّا" بِمَعْنَى "لَكِنْ"، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ، وَقَدْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، قَالُوا: وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ: أَسْكَنْتُكَ دَارِي حَوْلًا إِلَّا مَا شِئْتُ. أَيْ: سِوَى مَا شِئْتُ، أَوْ لَكِنْ مَا شِئْتُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ لِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ مع خلودهم في مشيئة الله؛ لأنَّهم لا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عَزِيمَتَهُ وَجَزْمَهُ لَهُمْ بِالْخُلُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [الإسراء:86]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وَقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس:16]، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، يُخْبِرُ عِبَادَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

وَقِيلَ: إِنَّ "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ"، أَيْ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهُ النَّارَ بِذُنُوبِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ.

وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَقَوْلُهُ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ مُحْكَمٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54].

الشيخ: هذا هو المعول عليه، يعني الكلمة وأشباهها من المتشابه الذي يُفسره المحكم، وأهل السنة والجماعة يرون أنَّ الواجب في المتشابه ردّه إلى المحكم، كما أرشدهم الله إلى هذا، وبيَّن أنَّ أهل الزيغ هم الذين يخرجون عن المحكم إلى المتشابه، أما أهل الإيمان، أهل التقوى، وأهل الهدى، فمردهم إلى المحكم، إذا أشكل شيء ردُّوه إلى المحكم: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ الله أعلم، هل أراد بذلك مقامهم في المحشر، مقامهم في القبور، إلى غير ذلك؟

لكن المقطوع به والمعلوم أنهم في جنَّاتهم مُقيمون، لا يظعنون، ولا يموتون أبد الآباد، وأما لفظة: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ فيحتمل معانٍ لا تُنافي ما أخبر به عن خلودهم ودوامهم وبقائهم.

الطالب: شعيب أشار إلى أنَّ هذا الكلام من كلام ابن القيم.

الشيخ: الغالب على كلامه رحمه الله من كلام ابن القيم.

وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35]، وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ خُلُودَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالتَّأْبِيدِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان:56]، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:108] تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَتَيْنِ اسْتِثْنَاءُ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا فِيهِ فِي الْجَنَّةِ مِن مُدَّةِ الْخُلُودِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْمَوْتَةِ الْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْتِ، فَهَذِهِ مَوْتَةٌ تَقَدَّمَتْ عَلَى حَيَاتِهِمُ الْأَبَدِيَّةِ، وَذَاكَ مُفَارَقَةٌ لِلْجَنَّةِ تَقَدَّمَتْ عَلَى خُلُودِهِمْ فِيهَا.

وَالْأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى أَبَدِيَّةِ الْجَنَّةِ وَدَوَامِهَا كَثِيرةٌ: كَقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمْ وَلَا يَبْأَسْ، وَيَخْلُد وَلَا يَمُوتُ، وَقَوْلِهِ: يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَأَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا.

وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَبْحِ الْمَوْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.

الشيخ: وهذا ثابت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: يُنادي منادٍ: يا أهل الجنة، إنَّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدًا، وهذا من نعم الله العظيمة، وفيه البشارة، مع أنهم قد علموا هذا في الجنة، قد علموا هذا في دار الدنيا قبل دخولهم الجنة، قد علموا أنَّ الجنة دار نعيم وخير دائم، كما قال في كتابه العظيم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:51- 55]، ذكر أنهم آمنون، وأنَّ مقامهم مقام أمين، ثم قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فدلَّ ذلك على أنَّ أهل الجنة آمنون، وهم في مقامٍ أمينٍ، لا يعتريهم موت ولا أسقام ولا أكدار ولا نصب ولا تعب، بل في نعيمٍ دائمٍ وخيرٍ دائمٍ وصحَّةٍ دائمةٍ وشبابٍ دائمٍ، لا حيضَ ولا نفاسَ ولا بصاقَ ولا مخاطَ، يأكلون ويشربون ويتنعمون ويتناكحون، لهم أنواع النَّعيم، ومع ذلك قد وقاهم الله كل مكروهٍ، فلا حيضَ هناك، ولا نفاس هناك، ولا بصاق، ولا مخاط، ولا أذى، ولا بول، ولا غائط، بل طعامهم وشرابهم جشاء وعرق رائحته المسك، هذه نعم الله العظيمة، وآياته الباهرة .

فحقيق بذي النَّفس الزكية، وذي الهمَّة العالية، حقيق به أن يُبادر وأن يُشمر لطلب هذه الدار، والعمل الذي شرع الله لتحصيلها: من أداء ما أوجب، وترك ما حرَّم الله، والاستقامة على الحقِّ، والحب في الله، والبُغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، والمسارعة إلى أنواع الخير، والبُعد عن أنواع الشرِّ، هذا هو السبيل والطريق إلى الفوز بالجنات، والسلامة من سائر العذاب، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

س: أعمارهم على ثلاثٍ وثلاثين؟

ج: جاء هذا في بعض الأحاديث، وفي ذلك بعض التَّأمل.

س: .............؟

ج: نعم، طولهم ستون ذراعًا في السماء، يُروى في العرض سبعة أذرع، لكن في سنده مقال.

وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَبْحِ الْمَوْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.

الشيخ: لأنه يُؤتى بالموت في صورة كبشٍ يوم القيامة، إذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، يُؤتى بالموت في صورة كبشٍ، ويُنادى هؤلاء وهؤلاء، فيُقال: تعرفون هذا؟ هذا الموت، ثم يُذبح، فيقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موتَ، ويا أهلَ النار، خلود فلا موتَ، فيزداد أهلُ الجنة نعيمًا وراحةً وسرورًا، ويزداد أهلُ النار عذابًا وثبورًا، نسأل الله العافية، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

س: نفس الموت يعني؟

ج: نعم، غير ملك الموت، الموت نفسه.