الشيخ: لعلها: للمُرجئة، يعني: يُخالفهم في هذا؛ لأنه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، يضرُّ مع الإيمان الذنبُ، يُوجب الوعيد، ويُوجب الخطر، وينقص الإيمان، ويُضعف الإيمان.
الطالب: أراد مخالفة المرجئة.
الشيخ: ...............
وَشُبْهَتُهُمْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَوَّلِينَ، فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ عبدالله شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا هُوَ وَطَائِفَةٌ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93]، فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ اتَّفَقَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا، وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلُوا، وَقَالَ عُمَرُ لِقُدَامَةَ: أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوِ اتَّقَيْتَ وَآمَنْتَ وَعَمِلْتَ الصَّالِحَاتِ لَمْ تَشْرَبِ الْخَمْرَ.
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَنْ طَعِمَ الشَّيْءَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ يُحَرَّمْ فِيهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ يُذمّون على أَنَّهُمْ أخطأوا وَأَيِسُوا مِنَ التَّوْبَةِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ يَقُولُ لَهُ: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:1- 3]، ما أدري أيّ ذنبَيك أَعْظَمُ: اسْتِحْلَالُكَ الْمُحَرَّمَ أَوَّلًا، أَمْ يَأْسُكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثَانِيًا؟
وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحابةُ هو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
الشيخ: والمعنى: أنَّ المستحلَّ للحرام يكفر بذلك، أما مَن فعلها غير مُستحلٍّ فيُقام عليه الحدُّ، مَن شرب الخمر غير مُستحلٍّ أُقيم عليه حدُّها، وهكذا السرقة والقذف وأشباه ذلك، ومَن فعلها مُستحلًّا ارتدَّ وقُتل قتل المرتدين، فقُدامة وأصحابه ظنُّوا أنهم اتَّقوا وآمنوا، كما ظنَّ المرجئةُ أنهم لا يضرُّهم ذنبٌ، فأجمع الصحابةُ على أنَّ هذا خطأ، بل يضرُّهم الذنب، تضرُّهم المعاصي، وتُضعف إيمانهم، وأنَّ الإيمان يمنع من ذلك، فإنَّ العبد إذا آمن واتَّقى منعه إيمانه من المعاصي.
والآية ليست فيما ذهبوا إليه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، هي في الذين أصابوا هذا قبل التَّحريم، فهم لا يضرُّهم ذلك؛ لأنهم كانوا من المتَّقين، وفعلوا ذلك على أنه مباح، أما مَن فعله بعد التَّحريم فإنَّ هذا لا يكون مباحًا، ولا يكون من المتقين، بل من ناقصي الإيمان، ومن ضعيفي التَّقوى، إذ لو قوي إيمانه واستقام على دينه لامتنع؛ ولهذا حكم الصحابةُ رضوان الله عليهم بهذا الأمر، حكموا عليهم بأنهم إن رجعوا عن استحلالها جُلدوا حدَّ الخمر، وإن أصرُّوا على استحلالها قُتلوا قتل المرتدين، ثم أُصيبوا بعد ذلك باستعظام الأمر، وعرفوا أنهم في أمرٍ عظيمٍ، فصاروا خائفين من عدم قبول توبتهم، فلهذا كتب عمرُ إلى قُدامة وقال: ما أدري أيّ ذنبيك أعظم: استحلالك المحرَّم أولًا، أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟!
فالواجب عدم غشيان المحرَّم، والوقوف عند حدود الله، ثم إذا وقع في المحرَّم أن لا ييأس، بل يُبادر إلى التوبة، ويضرع إلى الله في قبولها، ولا ييأس: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
...............
س: وعبارة: "ثم إنَّ أولئك الذين فعلوا ذلك يُذمّون على أنهم أخطأوا وأيسوا من التَّوبة، فكتب عمرُ إلى قُدامة" مستقيمة تدل على المعنى؟
ج: ذُمُّوا لما يئسوا، المعنى واضح.
الطالب: عندي: "ندموا"؟
الشيخ: يُذمّون على فعلهم المعصية أولًا، ويُذمّون أيضًا على يأسهم.
............
س: قُدامة هل هو تابعي؟
ج: الظاهر أنه من الصَّحابة.
قَوْلُهُ: (وَنَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَشْهَدُ لهم بالجنَّة، ونستغفر لمُسيئهم، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ).
وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَقِدَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]. وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57- 61].
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ الطحاوي رحمه الله هو قول أهل السنة والجماعة، فيرجون للمُحسنين، ولا يشهدون لهم بالجنة، ولكنَّهم يرجون لهم الخير، ويعتقدون فيهم الخير، ولا يأمنون عليهم، بل يخافون عليهم من شرِّ اللسان وشرِّ الجوارح وشرِّ المعاصي، وهم يشهدون لهم بالخير، ويرجون لهم الخير، ولكن لا يشهدون لهم بالجنَّة، ويخافون عليهم من مغبَّة الذنوب.
وأما العُصاة فهم أيضًا لا يشهدون لهم بالنار، ولكنَّهم يخافون عليهم من النار؛ لسُوء أعمالهم، ولا يُخلدونهم، بل يخافون عليهم من سُوء الأعمال، هكذا أهل الحقّ؛ يرجون للمُحسن، ويخافون على المسيء، لا يأمنون على المؤمن، ولا يقنطون المسيء، ولا يشهدون لأحدٍ بجنةٍ ولا نارٍ إلا لمن شهد له الله أو رسوله، لكن يشهدون بأنَّ المؤمن في الجنَّة على الإطلاق، وأنَّ الكفار في النار على الإطلاق، مَن مات على الإيمان فهو من أهل الجنة، ومَن مات على الكفر والنِّفاق فهو من أهل النار في الجملة، أما فلان ابن فلان فهذا هو محل التَّوقف، فمَن كان ظاهره الخير يُرجا له الخير، ولكن لا يأمنون عليه، قد يضلّ، قد ينتكس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهم لا يشهدون له بالجنة قطعًا، بل يرجون له الجنة، وكذلك العاصي يخافون عليه النار، ولا يُقنطونه، ولا يشهدون له بالنار، فقد يتوب ويهديه الله ويرجع، ولو كان كافرًا، لكن مَن مات على الكفر فله النار، ومَن مات على الإيمان فله الجنة، من حيث الإجمال.
س: المُعيَّن إذا مات على الكفر؟
ج: ومَن يعرف هذا؟ إذا عُرف مثل: أبو لهب عرفنا أنه مات على الكفر، عتبة بن ربيعة، أبو جهل، وأشباههم، إذا عُرف فهو من أهل النار.
س: الكفار الذين يموتون على دينهم؟
ج: إذا عُرف هذا فهو من أهل النار، قاعدة.
س: يعني: لا بدَّ أن يُعرف حقيقة حاله، مثل الكفار الذين يموتون؟
ج: ....... هو في النار، لا يُصلَّى عليه، ولا يُدعى له ويُستغفر له.
س: لكن يُشهد له بالنار؟
ج: المعيَّن لا، مَن مات على الكفر فهو في النار.
س: ولو كان مات بين الكفار؟
ج: ولو، الكفار في النار مطلقًا، أما بالعين فعند أهل السنة لا، إلا مَن قُطع أنه مات على الكفر مثل: أبي جهل وأشباهه.
س: يعبد الأوثان، وثني، أو من النصارى، مات بينهم؟
ج: ما ندري عند خروج روحه ماذا كان؟ قد يكون تاب قبل قبض روحه بينه وبين الله، ظاهره الكفر، وظاهره أنه من أهل النار.
س: مَن شهد له المسلمون أنه من أهل الخير ومن أهل الصلاح .....؟
ج: هذا قول بعض أهل السنة، ولكن الجمهور لا، بعض أهل العلم يرى هذا؛ إذا شهد له بالخير فهو في الجنة، وإذا شهد له بالشرِّ فهو في النار؛ لحديث، لكن على كل حالٍ هذا يُرجا له خير عظيم، مَن شهد له الأخيار بالخير فظاهره أنه من أهل الجنة، ومَن شهد له الأخيار بالشرِّ فظاهره أنه من أهل النار.
............
الشيخ: هذا هو الصواب، ماذا قال المحشي عليه؟
الطالب: قال: حديث حسن، وقد خرجته في "الأحاديث الصحيحة".
الشيخ: طبعة شاكر.
الطالب: موجودة.
الشيخ: أيش قال؟
الطالب: أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه في "الزهد"، ورجاله ثقات إلا أنَّ عبدالرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني راويه عن عائشة لم .......
الشيخ: هذا يُبين لنا أنَّ الرجاء له أسباب، أما زعم الرجاء مع تخلف الأسباب فهو غرور، خديعة من الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء، فالذي يرجو ويعمل؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، الراجي يعمل، والخائف يعمل، فرجاء وخوف بدون عمل دعوى كاذبة، بل هو غرور وخديعة للشيطان، ومن هذا قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71]، فجعل الرحمةَ مُعلقة بهذه الأعمال، فالرحمة: الرجاء والخوف، كل ذلك يقتضي عملًا، مثل ما في آية: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، فهذا يُوجب للمؤمن ألا يُخدع من النفس الأمَّارة بالسوء، أو من جُلساء السوء، أو من الشيطان؛ لأنَّ مجرد كونه مسلمًا، أو مجرد كونه مُوحِّدًا، أو مجرد أنه يقول: لا إله إلا الله، ممن لا يخاف عليه، أو لم يعرف الرجاء الحقيقي، وهو مفرط مضيع لأمر الله، راكب محارم الله؛ فهذا على خطرٍ عظيمٍ، فلينظر قد يكون رجاؤه باطلًا، وقد يكون رجاؤه ضعيفًا، وهكذا الخوف الحقيقي: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فالخوف الحقيقي يقتضي العمل؛ ولهذا وعد الله الخائفين بالجنَّة: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، فعلَّق بالخشية المغفرة والأجر في الجنة، فلو كانت الخشيةُ مجرد خشيةٍ، ما معها عمل؛ ما علَّق عليها المغفرة والأجر، فدلَّ ذلك على أنَّ الخشية لها ثمرة، والرجاء له ثمرة، فالراجي حقيقة يعمل، والخائف حقيقة يعمل، وما لا فلا.
الشيخ: الحكمة غير الشرع، الحكمة شيء، والشرع شيء، الحكمة: العلَّة، والشرع: ما شرعه الله، والقدر: ما قدَّره الله، والحكمة علة الشرع وعلة القدر، شرع الصلاة لكذا، فهو غير الحكمة، شرع الزكاة لكذا، قدَّر الشمس لكذا، خلقها لكذا، قدَّر الأمطار بكذا، قدَّر الرياح بكذا، قدَّر الأعمال السيئة بكذا، فالشرع شيء، والحكمة شيء، والشرع والقدر شيء ثانٍ.
الشيخ: ليس من أسفه السُّفهاء، بل يُعدُّ مجنونًا، يُعدُّ من المجانين، يُعدُّ ممن لا عقلَ له، عنده أرض يرجو منها كذا وكذا من أنواع الثِّمار، وهو لم يحرث، ولم يزرع، ولم يوصل الماء إليها، ما يفعله إلا مسلوب العقل.
الشيخ: ولا يجوز حُسن الظن والرَّجاء مع التَّفريط، إذا ساء فعلُ العبد ساءت ظنونه، وإنما يقع حُسن الظن في العاقبة، وطيب الظن، وراحة النفس، وراحة الضمير عند حُسن العمل.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا:
أَحَدهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ.
الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ.
الثَّالِث: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ؛ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فَالْمُشْرِكُ لَا تُرْجَى لَهُ الْمَغْفِرَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُ الْمَغْفِرَةَ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ.
الشيخ: وهذه الآية الكريمة من الآيات المحكمات التي بيَّن الله سبحانه فيها حكم الشرك، وحكم ما دونه من المعاصي، بيانًا واضحًا شافيًا، فحكم على المشرك إذا مات على شركه أنه لا يغفر له، وعلَّق ما دون ذلك على المشيئة، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ يعني: إذا مات على هذا، بإجماع أهل العلم، ثم قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فهنا خصص وعلَّق؛ خصص الشرك بعدم المغفرة، وعلَّق ما دونه بالمشيئة.
وفي آية الزمر عمَّم وأطلق؛ فقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، هنا أطلق ولم يستثنِ شيئًا، ولم يُقيد، فدلَّ ذلك على أنه أراد بهذا التَّائبين، كما أجمع على هذا علماءُ التفسير؛ أنها في التَّائبين، فإنَّ الله يغفر ذنوبهم جميعًا: الشرك وما دونه، مَن تاب إلى الله من ذنبه تاب عليه مطلقًا، سواء كان شركًا أم دونه؛ ولهذا أطلق في الآية الكريمة -آية الزمر- وعمَّم بالمغفرة، وحذَّر من القنوط، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تاب تاب الله عليه من أي ذنبٍ، وإن لم تُقبل توبته في الدنيا حكمًا، فإنها مقبولة عند الله إذا كان صادقًا، فقد يُقتل السَّابُّ لدينه، والسَّابُّ الرسول ﷺ حكمًا، ولو قال: إنه تائب، كما هو قول جمع من أهل العلم، ولكنه في نفس الأمر إذا كان صادقًا فتوبته مقبولة؛ لأنَّ هذه النصوص دالَّة على أنَّ كل تائبٍ تُقبل توبته، ومن ذلك: قصة الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا بغير حقٍّ، ثم قتل راهبًا وتمم به المئة لما أفتاه أنه لا توبةَ له، ثم سأل بعضَ علماء وقته فأفتاه بأنَّ له توبة، وأمره أن يُهاجر إلى بلادٍ صالحةٍ، ويترك بلاده؛ لأنها بلاد سوءٍ، وهاجر ومات في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذاب، فبعث الله إليهم ملكًا يحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين البلدتين، فقِيس ما بينهما، فإذا هو أقرب إلى الأرض الصَّالحة بشبرٍ، فقبضته ملائكةُ الرحمة، فهو أقبل على الله بقلبه وقالبه تائبًا فقبل الله توبته.
والمقصود أنَّ التوبة الصَّادقة المشتملة على الشروط المطلوبة من النَّدم والإقلاع والعزم الصَّادق على عدم العود يمحو الله بها الخطايا من الشرك وما دونه، فلا ينبغي لعاقلٍ -بل لا يجوز له أبدًا- أن يقنط ما دام في قيد الحياة، فباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمسُ من مغربها، فليُبادر بالتوبة ولو عظمت الذنوب، فعفو الله أعظم، فمَن تاب تاب عليه، ومَن أقبل عليه أقبل عليه ، ومَن صدق في توبته وعمله نجح غاية النَّجاح، وإنما المصيبة العظيمة الإصرار على الذنوب والبقاء عليها، نسأل الله العافية.
الشيخ: هذا الثالث تحت المشيئة، والوسط كل يُعطى حقَّه إلا أن يسمح ويعفو، وقد يُعوض الله المظلوم عن حقِّه بثوابٍ عظيمٍ وخيرٍ كثيرٍ عن الظالم، إذا صدق الظالمُ في التوبة، إذا صدق واستقام أمره وبذل وسعه في إيصال الحقِّ إلى أهله، فإنَّ الله جلَّ وعلا يتحمل عنه ويُرضي خصمه، بسبب صدقه في التوبة، وحرصه على أداء الحقِّ.
وأما الدِّيوان الأول فهو في الهلكة، وهو الشرك الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فمَن مات عليه فقد يئس منه، وقد صار إلى النار مخلَّدًا فيها أبد الآباد، لا رجاءَ له، نسأل الله العافية: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، نسأل الله العافية.
فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بأنَّ الذنوب تحت المشيئة، فليحرص وليحذر من الإصرار، وليُبادر بالتوبة، ولو كانت دون الشرك، فكم من عاصٍ دخل النار، وكم من عاصٍ أصابه من شرِّها وبلائها ما أصابه بسبب عدم توبته، وقد تواطأت الأخبارُ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنَّ كثيرًا من العُصاة يدخلون النار ويحترقون فيها، نسأل الله العافية، وأنهم يخرجون قد امتُحشوا، قد احترقوا، فيقلون في روضٍ يقال له: نهر الحياة.
فجدير بالعاقل أن لا يغترَّ بعفو الله وتعليقه المغفرة بالمشيئة، فإنَّ الأمر عظيم، ومَن لك أن يغفر لك؟ مَن لك أنَّك من المغفور لهم؟ مَن لك أنك ممن يُعفى عنه؟ وأنت تعلم أنَّ هناك جمًّا غفيرًا يدخلون النار بذنوبهم، ويشفع فيهم الشُّفعاء فيخرجون في أوجهٍ محدودةٍ، حتى النبي محمدًا ﷺ يشفع في جمٍّ غفيرٍ، ويحدّ الله له حدًّا، يشفع أربع شفاعات، يحدُّ اللهُ له في كل شفاعةٍ حدًّا محدودًا يُخرجهم من النار، فمَن مات على التوحيد والإيمان لكنَّه دخلها بذنوبٍ ومعاصٍ مات عليها لم يتب، وهكذا شفاعة غيره، ثم يبقى بقيةٌ في النار من أهل التوحيد يُخرجهم الله من النار بعد ذلك برحمته .
فجديرٌ بالعاقل، جديرٌ بمَن يخاف الله أن يكون أبدًا على توبةٍ، وأن يحذر الإصرار أبدًا، وأن يكون دائمًا يُحاسب نفسه، ويتعاهد أعماله، ويُبادر بالتوبة، ويسأل الله الثبات على الخير والهدى، ولا يغترّ بعفو الله ومغفرته، ولا يغترّ بإمهاله، فربما أصرَّ على معصيته فجرَّته إلى معاصٍ أخرى، ثم جرَّته إلى سُوء الختام، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
علَّق عليه؟
الطالب: قال: ضعيف، ولم يروه الطبراني، بل أحمد, والحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وردَّه الذهبي بقوله: "قلت: صدقة ضعَّفوه، وابن بابنوس فيه جهالة" انتهى.
الشيخ: المعنى صحيح، الدَّواوين ثلاثة وإن ضعف الإسناد، ونقل المحشي عن الطبراني محل نظرٍ، كتب الطبراني كثيرة، والمعجم الكبير لم يُطبع منه إلا بعض.
الطالب: ابن بابنوس؟
الشيخ: ما أعرفه، يُراجع، ما سمى الصحابي؟
الطالب: ما في.
الشيخ: الأرناؤوط.
الطالب: عن عائشة أخرجه أحمد والحاكم في "المستدرك" من حديث عائشة، وصححه، ثم نقل كلام الذَّهبي.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ).
وَلَكِنْ ثَمَّ أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَوْفِ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالصَّغِيرَةِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَتَرْكِ الْخَوْفِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالْكَبَائِرِ. وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْفِعْلِ، وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ يُعْفَى لِصَاحِبِ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ مَا لَا يُعفى لغيره، فإنَّ فاعل السيئات يسقط عَنْهُ عُقُوبَةُ جَهَنَّمَ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ، عُرِفَتْ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:60]، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160].
وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ -وَهِيَ الْخَالِصَةُ- لَا يَخْتَصُّ بِهَا ذَنْبٌ دُونَ ذَنْبٍ، لَكِنْ هَلْ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، حَتَّى لَوْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَصَرَّ عَلَى آخَرَ لَا تُقْبَلُ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ.
الشيخ: والصواب مثلما قال المؤلفُ: أن التوبة تتبعَّض، وتصح من ذنبٍ دون ذنبٍ، فلو كان عنده ذنب السرقة، وذنب الزنا، وذنب الخمر، فتاب من أحدها توبةً صادقةً، بقي عليه الذنبُ الثاني والثالث، وهكذا؛ صحَّت توبته مما تاب منه بالنَّدم والإقلاع والعزم أن لا يعود، وبقيت عليه تبعة الذُّنوب الأُخرى.
س: .............؟
ج: يُسمَّى: ذنب، وأعظم الذنوب قال: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] للمُشرك وغيره.
وهذا الذي قاله المؤلفُ هو الصواب؛ أن الإسلام يجُبُّ ما قبله إذا أحسن في الإسلام، كما جاءت به الأحاديث الصَّحيحة، فإذا أحسن في الإسلام وتاب توبةً صادقةً من جميع الذنوب صار إسلامه خاتمًا لجميع الذنوب، أما لو تاب من الشرك، لكن بقي على شرب الخمر، فإنه يُؤخذ بالأول والآخر، كما جاء في الحديث الصحيح: حديث عمرو بن العاص وغيره، وحديث حكيم بن حزام قال: فإن لم يحسن إسلامه أُخِذَ بالأول والآخر.
س: صحيح الحديث؟
ج: عدة أحاديث صحيحة.
س: فإن لم يحسن إسلامه؟
ج: أُخذ بالأول والآخر.
س: سمَّى الزنا: كفرًا؟
ج: لا، قصده في حال كفره، فعله في حال كفره.
وَكَوْنُ التَّوْبَةِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَكُونُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ إِلَّا التَّوْبَة، قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَهَذَا لِمَنْ تَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَقْنَطُوا، وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ الآية [الزمر:54].
السَّبَبُ الثَّانِي: الِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ تَارَةً يُذْكَرُ وَحْدَهُ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ ذُكِرَ وَحْدَهُ دَخَلَ مَعَهُ التَّوْبَةُ، كَمَا إِذَا ذُكِرَتِ التَّوْبَةُ وَحْدَهَا شَمَلَتْ الِاسْتِغْفَارَ، فَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ.
الشيخ: في هذا شيء، التوبة: الندم على الماضي، والإقلاع منها، والعزم الصَّادق أن لا يعود فيه؛ خوفًا من شرِّ المعاصي مُستقبلًا، وشرّها وعاقبتها الوخيمة. والاستغفار: طلب المغفرة، وطلب محو السيئات؛ لئلا يُؤاخذ بها، فالتائب توبته تتعلق بقلبه، العزم الصادق أن لا يعود في الشرور الماضية، والاستغفار طلب المغفرة، فهو يتوب بقلبه وإقلاعه وندمه، ويتوب بلسانه بطلب المغفرة، فإذا قرنا فالتوبة: خضوع القلب وندمه وإقلاعه، مع صيانة الجوارح عمَّا حرَّم الله. هذا هو الإقلاع، فإذا كان معه الاستغفار فهو إقلاع بقلبه وجوارحه، وأطلق لسانه بطلب المغفرة والعفو عمَّا مضى من السيئات، وأن يستر الله عليه، ويقيه شرَّها، ويدخل في ضمن ذلك عزمه الصَّادق على أن لا يعود فيها في المستقبل.
وَنَظِيرُ هَذَا: الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ، إِذَا ذُكِرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ شَمِلَ الْآخَرَ، وَإِذَا ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى؛ قال تعالى: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِن الِاسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمَّا أُفْرِدَ شَمِلَ الْمُقِلَّ وَالْمُعْدِمَ، وَلَمَّا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الآية [التوبة:60] كَانَ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الْمُقِلَّ، وَالْآخَرِ الْمُعْدِمَ، عَلَى خلافٍ فيه.
وَكَذَلِكَ: الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى، وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ أَعَمُّ، فَإِذَا ذُكِرَ الْكُفْرُ شَمِلَ النِّفَاقَ، وَإِنْ ذُكِرَا مَعًا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى.
وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، عَلَى مَا يَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْحَسَنَاتُ: فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالسَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا، فالويل لمَن غلبت آحادُه عشراته. وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وَقَالَ ﷺ: وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا.
الشيخ: ومن هذا الباب قوله جلَّ وعلا: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، فبين أنَّ التوبة من أسباب المغفرة، ثم الإيمان والعمل الصالح بعد ذلك، فالعمل الصالح له آثار صالحة في تكفير السيئات وحطّ الخطايا، فينبغي للمؤمن مع التوبة الصَّادقة والنَّدم أن يستكثر من الحسنات أيضًا ومن الأعمال الصَّالحات، فإنه يجمع أسبابًا إلى أسبابٍ، ولعلَّ الله ينفعه بذلك.
الطالب: علَّق على حديث: وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ.
الشيخ: أيش قال؟
الطالب: قال: حديث حسن، وهو مخرج في "الروض النَّضير".
الشيخ: نعم، من حديث معاذ: اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ.
س: إذا صارت الآيةُ واضحةً يحتاج إلى تخريج السنة؟
ج: الآيات غير، والأحاديث غير، الأحاديث تخريجها يعني: عزوها إلى مَن خرَّجها، ولو معناها واضح، ما كل شيءٍ معناه واضح يكون صحيحًا، قد يكون معناه واضحًا وهو من أوضع الموضوعات، من أكذب الكذب.
س: الآية معناها واضح؟
ج: الآيات وحدها أصل، والحديث أصل ثانٍ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ: قَالَ ﷺ: مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا غَمٍّ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ، حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكُهَا إِلَّا كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ.
وَفِي "الْمُسْنَدِ": أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ يُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ.
الشيخ: وهذا من رحمة الله وإحسانه، فإنَّ المصائب يغفر الله بها الخطايا، ويُكفر بها السيئات، وهذا من فضله وإحسانه، والمصائب أنواع؛ كل ما يتأذَّى به الإنسانُ، حتى الشوكة من المصائب، ما يُصيب الإنسان من الهمِّ والغمِّ والأذى والحزن والغمِّ والأمراض والتَّعب وغير ذلك مما يُؤذيه يُكفِّر اللهُ به خطاياه، حتى الشوكة يُشاكها يُكفِّر بها من خطاياه.
ولما نزلت هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ عظم الأمر على أبي بكرٍ ، وقال: يا رسول الله، أيُّنا لم يعمل سُوءًا؟! فبيَّن له النبيُّ ﷺ أنَّ الجزاء ليس معناه النار، فقد يكون الجزاء بغير ذلك، قال: ألستَ تنصب؟ تتعب ألست تحزن؟ ألستَ تُصيبك اللَّأواء الشدة فذلك مما تُجزون به في الدنيا فالإنسان يُجزى في الدنيا بما يُزيل عنه آثار العمل السَّيئ من المصائب، وقد يُجزى في الدنيا بما يُخفف عنه، وتبقى آثار المعصية يوم القيامة إذا ما كان هناك توبة ولا حسنات.
الحاصل أنَّ أسباب محو السيئات كثيرة، تزيد على عشرة أسباب كما ذكر المؤلفُ، وكما ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وغيرهم، وأعظمها وأهمّها: التوبة إلى الله ، هي أجمعها، التوبة الصَّادقة النَّصوح سبب واحد لجميع الذنوب والسيئات، والأمر مجمع عليه، ليس فيه خلاف بين أهل العلم أنَّ التوبة يمحو الله بها جميع السَّيئات، ويحطّ بها الخطايا، ثم ما جاء من الأسباب بعد ذلك: من الاستغفار الصَّادق، والدَّعوات الصَّادقة، والأعمال الصَّالحة، والمصائب المؤذية، إلى غير ذلك.
الطالب: علَّق على هذا الحديث.
الشيخ: نعم.
الطالب: قال: ضعيف الإسناد، صحيح المعنى، قال أحمد شاكر في تعليقه هنا: حديث أبي بكرٍ هذا في "المسند" بشرحنا. ولكن أوله هناك أنَّ أبا بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فكل سُوء عملناه جُزينا به! ليس فيه قوله هنا: "نزلت قاصمة الظهر ..", وهو حديث ضعيف، إسناده منقطع. وكان الأجدر بالشارح أن يذكر حديث أبي هريرة في "المسند": أنه لما نزلت هذه الآية شقَّت على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقال لهم: قاربوا وسدِّدوا، فكل ما يُصاب به المسلم كفَّارة، حتى النَّكبة ينكبها، وهو حديث صحيح، رواه مسلم في "صحيحه"، وزاد في آخره: والشوكة يُشاكها، ولو رجع الشارحُ رحمه الله إلى تفسير شيخه ابن كثيرٍ في هذه الآية لوجد حديثَ أبي هريرة وأحاديث أُخر في معناه، بعضها أصح إسنادًا من حديث أبي بكرٍ.
قلت: وهو في "مسند أبي بكر الصديق" للحافظ أبي بكر المروزي، طبع المكتب الإسلامي، تحقيق الأستاذ شعيب الأرناؤوط، من طريقين ضعيفين عن الصديق . انتهى.
الشيخ: الأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا فيما يتعلق بالأمراض والمصائب، كثيرة جدًّا.
فَالْمَصَائِبُ نَفْسُهَا مُكَفِّرَةٌ، وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا يُثَابُ الْعَبْدُ، وبالتَّسخط يأثم، والصبر والسخط أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُصِيبَةِ، فَالْمُصِيبَةُ مِنْ فِعْلِ الله، لا من فعل العبد، وَهِيَ جَزَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذَنْبِهِ، وَيُكَفِّرُ ذَنْبَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا يُثَابُ الْمَرْءُ وَيَأْثَمُ عَلَى فِعْلِهِ، وَالصَّبْرُ وَالسُّخْطُ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كان الأجرُ قَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ هدية من الغير، أو فضل مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، قَالَ تَعَالَى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فَنَفْسُ الْمَرَضِ جَزَاءٌ وَكَفَّارَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَكَثِيرًا مَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَجْرِ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَدْلُولَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ لَازِمِهِ.
الشيخ: الصبر والرضا عملان صالحان، فبصبر العبد على المصيبة ورضاه يحلّ له ما وعده الله من التَّكفير، يحصل له أجر عظيم من الدَّرجات الرفيعة والثواب الجزيل على صبره واحتسابه ورضاه، وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على أنه أيضًا قد يُؤجر على مسألة المصائب مع الكفَّارات أو العفو منه .
وقد تكون المصيبة أيضًا من أسباب رفع درجاته زيادةً على تكفير السَّيئات، ما أصاب العبدَ من مرضٍ أو نصبٍ أو جوعٍ وما أشبه ذلك هي أسباب، أسبابها فعل العبد، والمقدِّر هو الله .
س: إذا أُصيب بمصيبةٍ ولم يصبر فهل يُؤجر؟
ج: إذا جزع لا، متوعد: ومَن سخط فله السخط، لكن لا يمنع ذلك من كونها قد تُكفر السيئات مع جزعه، ولا يحصل له الأجر الذي يُعطيه الله للصَّابرين، وأما في نفسها فهي مُكفِّرة.
السَّبَبُ الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ السَّادِسُ: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
السَّبَبُ السَّابِعُ: مَا يُهْدَى إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ ثَوَابِ صَدَقَةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ حَجٍّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّبَبُ الثَّامِنُ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَدَائِدُهُ.
السَّبَبُ التَّاسِعُ: مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا عَبَرُوا الصِّرَاطَ وُقِفُوا على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فيقتص لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
الشيخ: يعني: المقاصة بين المؤمنين.
الطالب: علَّق عليه، قال: هذا هو طرف من حديثٍ أخرجه البخاري في "المظالم" و"الرقاق"، وأحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا، ولم أره في "صحيح مسلم"، ولا عزاه السيوطي إليه.
الشيخ: ما أذكره إلا في البخاري.
س: قبل الصراط هذا أو بعده؟
ج: بعد الصراط، بعدما يجوزون الصراط إلى الجنة، هذا بالمؤمنين خاصٌّ، قنطرة لأهل الإيمان خاصة بعد الجواز على الصِّراط.
س: التَّهذيب والتَّنقية المذكورة هنا خاصَّة؟
ج: يُزال بها ما بقي من أذى.
س: الله يُرضي خصومَهم؟
ج: على ظاهرها، كلٌّ يقتص من أخيه، يتسامحوا فيما بينهم، وهذا لك على هذا كذا، يقتص لبعضهم من بعضٍ، هذا يتسامح، وهذا يتسامح، أو يُرضيهم الله بأشياء تدعو للتَّسامح، فالمقصود هو المقاصة بينهم على ما بينهم من أشياء في النُّفوس لم تزل قبل ذلك.
السَّبَبُ الْعَاشِرُ: شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ وَأَقْسَامِهَا.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الرَّاحمين مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَشَأ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ لِعِظَمِ جُرْمِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ إِلَى الْكِيرِ؛ لِيَخْلُصَ طِيبُ إِيمَانِهِ مِنْ خَبَثِ مَعَاصِيهِ، فَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ مَنْ في قلبه أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، بَلْ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .
الشيخ: يعني مَن لم يحصل على شيءٍ من هذه الأسباب يطهر به ويزول به خبث السّيئات، ما بقي في حقِّه حينئذٍ إلا أن يُدخل النار؛ حتى يطهر ويمحص من بقية سيئاته، ثم بعد ذلك يخرج إلى الجنة، كما جاءت به الأحاديث، وتواترت به السنة عن النبي ﷺ: أن أناسًا يدخلون النارَ بمعاصيهم، ثم يخرجون منها بعد ذلك، بعدما يحترقون، فيُلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، ولا يبقى في النار إلا أهلها، وهم الكفار، يُخلَّدون فيها أبد الآباد، نعوذ بالله، أما مَن كان في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمانٍ فهذا وما أشبهه لا يُخلد، بل بعدما يطهر ويمحص ويزول خبثه يخرج من النار، نسأل الله السلامة، وهذا في حقِّ الذين لم يتوبوا، ماتوا على المعاصي ولم يتوبوا، وقد تزول آثار ذنوبهم بغير التوبة: من الدعاء والاستغفار، والمصائب، والأعمال الصَّالحات، وشفاعة الشُّفعاء، ودعاء المؤمنين، والصَّدقات، إلى غير هذا.
س: تكرر: "أدنى، أدنى" ثلاث مرات؟
ج: جاء في بعض الرِّوايات، نعم.
وجاء في الأحاديث الصَّحيحة أنه إذا شفع الشُّفعاء يقول الله جلَّ وعلا: شفع النَّبيون، شفع المؤمنون، شفعت الملائكةُ، ولم يبقَ إلا رحمة أرحم الرَّاحمين، فيُخرج الله من النار أقوامًا لم يفعلوا خيرًا قط إلا أنهم ماتوا على التوحيد، إلا أنهم ماتوا وهم يقولون: لا إله إلا الله، قد وحَّدوا الله وأخلصوا له، ولكن ابتُلوا بسيئات ومعاصٍ أضعفت هذا الإخلاص وهذا التوحيد؛ حتى استحقُّوا بها دخول النار، نسأل الله العافية.
س: وبالنسبة للتَّخليد في حقِّ قاتل المُؤمن؟
ج: الخلود خلودان في حقِّ القاتل وغير القاتل، فالخلود خلودان: خلود دائم، هذا للكفار. وخلود مُؤقت، هذا المقصود في حقِّ القاتل والزاني: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69]، الزاني والقاتل، وقصة الذي قتل نفسه كذلك، ذُكر فيه الخلود، فهو خلود مُؤقت له نهاية، بخلاف خلود الكفَّار فلا نهايةَ له، والعرب تعرف هذا، تُطلق الخلود على الشيء الطويل، أقاموا فأخلدوا، يعني: أطالوا الإقامة.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لِأَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأُمَّةِ، غَيْرَ مَنْ شَهِدَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ بِالْجَنَّةِ، وَلَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ).
س: عندنا يا شيخ: (والأمن واليأس سبيلان عن ملة إبراهيم) عندهم: (والإياس ينقلان)؟
الشيخ: قوله: (ينقلان عن ملَّة الإسلام) محل نظرٍ.
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا رَاجِيًا، فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمَحْمُودَ الصَّادِقَ: مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ.
وَالرَّجَاءُ الْمَحْمُودُ: رَجَاءُ رَجُلٍ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِثَوَابِهِ، أَوْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ مِنْهُ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ رَاجٍ لِمَغْفِرَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218].
أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَمَادِيًا فِي التَّفْرِيطِ وَالْخَطَايَا، يَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ بِلَا عَمَلٍ، فَهَذَا هُوَ الْغُرُورُ وَالتَّمَنِّي وَالرَّجَاءُ الْكَاذِبُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ، إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ، وَإِذَا نَقَصَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ، وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ.
وَقَدْ مدح اللهُ أهلَ الخوف والرَّجاء بقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ الآية [الزمر:9]، وقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا الْآيَةَ [السجدة:16]، فَالرَّجَاءُ يَسْتَلْزِمُ الْخَوْفَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَمْنًا، وَالْخَوْفُ يَسْتَلْزِمُ الرَّجَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ قُنُوطًا وَيَأْسًا. وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ، إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّكَ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ إِلَيْهِ، فَالْخَائِفُ هَارِبٌ مِنْ رَبِّهِ إِلَى رَبِّهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "مَنَازِل السَّائِرِينَ" رَحِمَهُ اللَّهُ: "الرَّجَاءُ أَضْعَفُ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ"، وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، بَلِ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَشْرَفِ مَنَازِلِ الْمُرِيدِ.
الشيخ: المريد يعني: مريد الله والدار الآخرة، ومَن أراد الله والدار الآخرة فلا بدَّ أن يكون له رجاء محمود، وخوف محمود، رجاء يحمله على المسارعة إلى الطاعات، وأداء الفرائض، وخوف يحمله على ابتعاده عن المحارم، وحذره منها، فهو سائر إلى الله بين الرجاء والخوف، وبين حبِّه سبحانه وحُسن الظن به، ورجاء مغفرته والفوز بكرامته، وبين خوف يتضمن تعظيمه والإيمان بعظم حقِّه، ويتضمن أيضًا الابتعاد عن محارمه ومساخطه، هكذا يكون الخوف والرجاء؛ ولهذا قال بعضُ السلف: إنه ينبغي أن يكون للسائر إلى الله كالجناحين للطائر. وجاء في بعض الأحاديث: أن النبي ﷺ دخل على مريضٍ، قال: ما حالك؟ قال: أخاف ذنبي، وأرجو رحمةَ ربي، فقال: ما اجتمعا في قلب مؤمنٍ في مثل هذه الحالة إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه مما يخاف.
فالمقصود أنَّ الخوف والرجاء لا بدَّ أن يتوافرا، فلا يغلب هذا ولا هذا، فالقانطون واليائسون غلبوا جانب الخوف، والآمنون من مكر الله غلبوا جانب الرجاء، فخسروا، والواجب أن تسير إلى الله على الطريقة التي سار عليها الأخيارُ من الأنبياء والصَّالحين وأتباعهم بين الخوف والرجاء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، هذه حال الأنبياء والصَّالحين، بين الرغبة والخوف، وهكذا قوله جلَّ وعلا: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، قال جماعة من السلف -كابن عباسٍ وجماعة: إنها نزلت في العزير والمسيح وأمه، وفي كل صالحٍ يُعبد من دون الله. قال ابن مسعودٍ: نزلت في أناسٍ من الإنس يعبدون أناسًا من الجنِّ، فأسلم الجنُّ، وتمسَّك الإنسُ بعبادتهم.
فالمقصود أنَّ الصَّالحين من صفاتهم الخوف والرجاء، فلا قنوطَ ويأسَ، ولا أمن من مكر الله ، وإخلال من البطالة والشَّهوات المحرَّمة، ولكن بين ذلك.
الشيخ: وهذا كله يتضمن الرَّجاء، حُسن الظنِّ بالله يتضمن الرَّجاء.
وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ فِي مَرَضِهِ أَرْجَحَ مِنْ خَوْفِهِ، بِخِلَافِ زَمَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ مِنْ رَجَائِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بالخوف وحده فهو حروري. ورُوي: وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ فِي قَوْلِهِ:
لَوْ قَدْ رَأَيْتَ الصَّغِيرَ مِنْ عَمِلَ الْـ | خَيْرِ ثَوَابًا عَجِبْتَ مِنْ كِبَرِهْ |
أَوْ قَدْ رَأَيْتَ الْحَقِيرَ مِنْ عَمِلَ الشَّـ | ـرِّ جَزَاءً أَشْفَقْتَ مِنْ حَذَرِهْ |
قَوْلُهُ: (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ).
يُشِيرُ الشَّيْخُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ. وفيه تقرير لما قال أولًا: (لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ)، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
الشيخ: الشارح ما نبَّه على هذا، فإن قوله: (والأمن والإياس ينقلان من ملَّة الإسلام) غلط، هما كبيرتان من كبائر الذنوب، ولا ينقلان، فإنَّ الخوارج غلب عليهم الخوف فكفَّروا بالذنوب، والمرجئة غلب عليهم الرجاء فأمنوا مكر الله، فالقنوط واليأس والأمن من مكر الله كلاهما من كبائر الذنوب، فلا ينقلان من ملَّة الإسلام، ولكن صاحبهما على شفا جرفٍ، على خطرٍ عظيمٍ من دخول النار؛ لضعف إيمانه بقنوطه، ولضعف إيمانه بأمنه، وسبيل الحقِّ بين الطريقين، سبيل الحقِّ بين الأمن والقنوط، هذا سبيل أهل الحقِّ، سبيل الرسل وأتباعهم، لا قنوطَ، ولا أمن، ولكن رجاء وخوف، رجاء ليس معه أمنٌ، وخوف ليس معه قنوط، فمَن قنط أو أمن فقد أتى كبيرةً من الكبائر، وأتى خطرًا عظيمًا، ولكنه لا يكفر بذلك وينتقل من الملَّة -ملة الإسلام- بل يكون ظالمًا لنفسه، قد أتى كبيرةً عظيمةً يجب أن يتوب إلى الله منها، فالرجاء الصَّادق يحمل على فعل الخير والمسارعة إليه، والخوف الصَّادق المحمود يحمل على الحذر من الشرِّ والبُعد منه، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، وقال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110]، فالرجاء يحمل على العمل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71]، فالرحمة لأهل العمل الصَّالح، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة:218]، فجعلهم راجين لما عملوا، فدلَّ ذلك على أنَّ الرجاء يدعو إلى العمل -الرجاء المحمود- لا إلى أمن مكر الله وارتكاب محارم الله، وهكذا الخوف المحمود يدعو إلى الجدِّ والنَّشاط في طاعة الله ورسوله، والحذر من محارم الله، لا إلى القنوط واليأس.
س: ..............؟
ج: من باب التَّحذير: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].
س: غُلاة المُرجئة؟
ج: المرجئة، وكذلك غُلاة الخوارج والمعتزلة، والمقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ، والمعروف من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهما كبيرتان، وأنَّ الضَّلال هنا والكفر هنا ليس هو الكفر الأكبر والضَّلال الأكبر، فليتأمل، والمؤلف أعرض عن هذا.
س: إذا وصل قنوطه إلى درجة أن قال: إنَّ الله لن يُدخله الجنة، وأنه سيُدخله النار، أو وصل الرجاء إلى درجةٍ أيقن معها أنه سيدخل الجنَّة، كل هذا لا يُخرجه عن الملَّة؟
ج: فيه نظر؛ لأنَّ الإنسان قد يكون مُوحِّدًا مسلمًا، ولكن اشتدَّ معه الخوف بسبب ما تعاطى من الزنا أو شرب الخمر، فحمله ذلك على أن قال أنه لا يدخل الجنة، وأنه من أهل النار، مثلما جرى لثابت بن قيس لما نزلت: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] لزم بيته، وقال: هو من أهل النار؛ إنه يرفع صوته على رسول الله ﷺ. فبعث إليه النبيُّ ﷺ وقال: إنه ليس من أهل النار، ولكنه من أهل الجنة.
قد يقع على الإنسان في نفسه يأسٌ شديدٌ بسبب أعماله السَّيئة، وقد يقع في نفسه أمنٌ بسبب ما هو عليه من التَّوحيد والإيمان، ولا يرى ما قد يقع منه، مثل: السيئات المؤثرة، فخروجه بهذا من الدَّائرة من ملَّة الإسلام هذا محل نظرٍ، يحتاج إلى مزيد عنايةٍ، وأظن أنَّ ابن القيم رحمه الله في "المدارج" بسط هذا؛ لأنَّ هذا من منازل السَّائرين، فليُراجع كلامه.
س: قول المُرجئة: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ؟
ج: أقوال باطلة على كل حالٍ، لكن هل ينقل من دائرة الإسلام أم لا؟ هذا محل البحث، وإلا فقولهم باطل.