13 إن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه

وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] أي: استمتعتُم بنصيبكم كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أَيْ: كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوهُ، أَوْ كَالْفَوْجِ، أَوِ الصِّنْفِ، أَوِ الْجِيلِ الَّذِي خَاضُوا.

وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا فِي الْعَمَلِ، وَإِمَّا فِي الِاعْتِقَادِ، فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشُّبُهَاتِ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَآخِذَ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، قَالُوا: فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: فَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟.

الشيخ: ...........

وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أمَّه علانيةً كان من أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تفرَّقوا على اثنين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

الطالب: علَّق عليه قال: ضعيف بهذا السياق.

.............

الشيخ: هذا الحديث له طرق كثيرة في "المسند" والسنن، حديث عبدالله وغيره عدَّة أحاديث يشدّ بعضُها بعضًا، وإن كان الإفريقي يُطعن فيه لسوء الحفظ، وهو إمام كبير، قاضي إفريقيا؛ لأنَّ جماعةً من أهل العلم وثَّقوه وعظَّموا شأنه، وآخرون نقدوه في حفظه بعض الشيء.

والحديث له طرق جيدة؛ جاء عن عدّة من الصحابة، كلها تدل على صحة هذا الافتراق، وأنه واقع، وأنه لا عصمةَ ولا سلامةَ إلا بالثبات على ما كان عليه النبيُّ وأصحابه، وبقية الطرق كلها هلاك ومُفضية إلى النار، إلا مَن سلك مسلك النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: وهذا فيه شكٌّ، ولكن المحفوظ: اليهود إحدى وسبعون، والنَّصارى ثنتان وسبعون، وهذه الأمة ثلاث وسبعون.

الطالب: قال: صحيح، وهو مُخرج في "الصحيحة".

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله ﷺ: إنَّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ- كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ.

وَأَكْبَرُ الْمَسَائِلِ التي وقع فيها الخلافُ بين الأئمَّة مَسْأَلَةُ الْقَدَرِ، وَقَدِ اتَّسَعَ الْكَلَامُ فِيهَا غَايَةَ الِاتِّسَاعِ.

الشيخ: وهذا الافتراق الذي وقع في الأمة ابتلاء وامتحان، ولو شاء ربك لم يقع، ولكنه سبحانه ابتلى هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، فصار طالبُ الحقِّ يحتاج إلى عنايةٍ، وإلى صبرٍ، وإلى تفتيشٍ عن الحقِّ بأدلته؛ حتى يسلم من هذه الطرق المعوجة المنحرفة، وبهذا يعلم طالبُ العلم أنَّ المقام عظيم، وأن الواجب عليه كبير حتى يحتاط لنفسه، وحتى يأخذ بالأدلة الكافية في جميع شؤون الدين، وأن لا يرضى بالهوينة أو بالتقليد الأعمى أو بالكسل والضعف، بل يُشمر ويعتني بالأدلة الشرعية، ويُعنى بالقرآن العظيم الذي هو أصل العصمة، وهو أصل كل خيرٍ، وهو الهادي إلى سبل الرَّشاد، فعليه العناية العظيمة بالقرآن تدبُّرًا وتعقُّلًا وحفظًا، وتكرارًا للتلاوة، وتدبرًا للمعاني، ومُراجعةً لكلام أهل التفسير؛ حتى يطمئنَّ إلى كل شيءٍ.

وهكذا السنة، والعناية بها حفظ ما تيسر منها، والإكثار من القراءة والمراجعة، قد يُراجع الإنسانُ الحديثَ مرات بعد مرات، ثم يضيع عليه، كما قد يعتني بالقراءة والحفظ، ثم تضيع عليه بعض الآيات وبعض الكلمات، فلا يملَّ أبدًا، لا يملّ من الدراسة والعناية والمراجعة والتِّلاوة، ومراجعة الأحاديث وهكذا.

هكذا مُراجعة كلام أهل العلم المعروفين بالاستقامة والسنة، والرد على أهل البدع؛ حتى يزداد علمه، وحتى يطمئن قلبه، وحتى يكون على بينةٍ في ردِّه على الخصوم.

الطالب: "كأنما تفقأ في وجهه حبُّ الرمان" هذه رجعت إلى "المسند" ووجدتُها كما ذكرها؛ قال: خرج رسولُ الله ﷺ والناس يتكلَّمون في القدر، قال: وكأنما تفقأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب. في "مسند عبدالله بن عمرو" ....... أيضًا ذكره البخاري، والإمام أحمد:

ذكره البخاري في باب قول النبي ﷺ: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم: حدَّثنا أحمد بن يونس: حدَّثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا تقوم الساعةُ حتى تأخذ أمَّتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، فقيل: يا رسول الله، أفارس والروم؟ قال: فمَن الناس إلا أولئك؟. البخاري في "الاعتصام".

وفي "مسند أبي هريرة" في "مسند الإمام أحمد": لا تقوم الساعةُ حتى يأخذ أمَّتي ما أخذ الأمم والقرون.

الشيخ: ..........

وَقَوْلُهُ: (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

اعْلَمْ أَنَّ مَبْنَى الْعُبُودِيَّةِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَعَدَمِ الْأَسْئِلَةِ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالشَّرَائِعِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْكِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ صَدَّقَتْ بِنَبِيِّهَا وَآمَنَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحِكْمَةِ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ وَنَهَاهَا عَنْهُ وَبَلَّغَهَا عَنْ رَبِّهَا، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مُؤْمِنَةً بِنَبِيِّهَا، بَلِ انْقَادَتْ وَسَلَّمَتْ وَأَذْعَنَتْ، وَمَا عَرَفَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ عَرَفَتْهُ، وَمَا خَفِيَ عَنْهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي انْقِيَادِهَا وَتَسْلِيمِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا جَعَلَتْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، وَكَانَ رَسُولُهَا أَعْظَمَ عِنْدَهَا مِنْ أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْإِنْجِيلِ: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا"؛ وَلِهَذَا كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ -الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَمَعَارِفَ وَعُلُومًا- لَا تَسْأَلُ نَبِيَّهَا: لِمَ أَمَرَ اللَّهُ بِكَذَا؟ وَلِمَ نَهَى عَنْ كَذَا؟ وَلِمَ قَدَّرَ كَذَا؟ وَلِمَ فَعَلَ كَذَا؟ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ، وَأَنَّ قَدَمَ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ التَّسْلِيمِ.

فَأَوَّلُ مَرَاتِبِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ: التَّصْدِيقُ بِهِ، ثُمَّ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى امتثاله، ثم المُسارعة إليه، والمُبادرة به، والحذر عن الْقَوَاطِع وَالْمَوَانِع، ثُمَّ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالنُّصْحِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ, فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ فَعَلَهُ وَإِلَّا عَطَّلَهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي الِانْقِيَادَ، وَيَقْدَحُ فِي الِامْتِثَالِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَاقِلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ.

وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ، فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النَّظر، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الاستمداد.

قال: فإن عرضت لك نازلةٌ أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ مِنْ مَظَانِّهَا، وَاللَّهُ يفتح وجهَ الصواب فيها. انتهى.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الواجب على الأمة التَّصديق والتَّسليم والانقياد، وعدم البحث عن العلل والحِكَم؛ لأنَّ الذي إنما يتَّبع ما ظهرت له حِكمته وعلَّته معناه: إنما اتَّبع رأيه وهواه، ما اتَّبع الأوامر، والمطلوب اتِّباع الأوامر والانقياد لها مطلقًا وإن لم تُعرف العلَّة والحكمة التي من أجلها جاء الأمر؛ لأنَّ إيمانك يُلزمك بهذا، فإنك مؤمن، فإنك عبدٌ مأمور، وعليك الامتثال، ومؤمن بأنَّ ربك حكيم عليم، ليس بسفيهٍ، ولا عابثٍ، ولا جاهلٍ، بل يأمر عن حكمةٍ، وينهى عن حكمةٍ، ويدعو إلى الخيرات، فهو سبحانه العالم بكلِّ ما يأمر به وينهى عنه، وهو الحكيم العليم، كما قال : إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، ولما ذكر الفرائضَ والمواريثَ قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، وهو سبحانه عليم بما يأمر به وينهى عنه، حكيم في ذلك، قال جلَّ وعلا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27].

فهو سبحانه ليس بعابثٍ، ولا يفعل شيئًا عبثًا، ولا باطلًا، ولا يأمر بشيءٍ عبثًا ولا باطلًا، فتعين حينئذٍ الإيمان بأنَّ جميع الأوامر والنَّواهي كلها عن حكمةٍ، وعن غايات محمودة، وعن مقاصد رفيعة، فلا يُوجه إليه السؤال، إنما السؤال عن الحكمة في أمر مَن يُخطئ ويُصيب، في أمر مَن قد يجهل ويعبث، أما الحكيم العليم الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يُعجزه شيء، وهو الحكيم في أقواله وأعماله، فلا وجه للسؤال، ولا حاجة للسؤال؛ ولهذا قال سبحانه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] يعني: لكمال حكمته، وكمال علمه لا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسألون لضعفهم وجهلهم وخطئهم.

لكن كما قال ابنُ عبد البر: مَن سأل من باب العلم والاستفادة عمَّا يظهر من الحِكَم، مع إيمانه بأنَّ ربَّه حكيم عليم، وأن الامتثال واجبٌ، لكن سأل من باب التَّبصر، ومن باب الفائدة، ومن باب تثبيت العلم؛ فهذا لا بأس به على وجه الاستفادة والعلم، لا على وجه الاعتراض أو التَّوقف عند عدم وضوح العلَّة، بل هو مستمر مُنفذ عازم على فعل ما أمر الله به ورسوله، مُصمم على ذلك، ولكن قد يسأل عن بعض الفوائد ليعلم بها الحكمة والأسرار التي تُعين ضعفاء العلم، وضعفاء البصيرة، تُعينهم على الامتثال، وعلى الإيمان بحكمة الله، وعلى حُسن الظنِّ بالله .

س: نقل هذا الكلام يدل على أنه مما صحَّ في التَّوراة؟

ج: ............

وَقَالَ ﷺ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَلَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَوَّلَ حُكْمَ الْكِتَابِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ، بُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ ليرجع إليه، فالله لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لِكَمَالِ حكمته ورحمته وعدله، لا بمجرد قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا يَقُولُ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ.

وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ).

الشيخ: يعني: إلا إذا استحلَّ الذنبَ، مَن زنى لا يُكفَّر إلا إذا استحلَّ الزنا، ومَن سرق لا يُكفَّر إلا إذا استحلَّ السَّرقة، ومَن عقَّ والديه لا يُكفَّر إلا إذا استحلَّ العقوقَ؛ قال: إنه حلال، ما فيه بأس! نسأل الله السلامة، وهكذا ...........

قَوْلُهُ: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ).

الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَهَذَا) إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ.

وَقَوْلُهُ: (وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) أَيْ: عِلْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَفْقُودِ: عِلْمَ الْقَدَرِ الَّذِي طَوَاهُ اللَّهُ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ.

وَيَعْنِي بِالْعِلْمِ الْمَوْجُودِ: عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ الْغَيْبِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [الجن:26- 27]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَفَاءِ حِكْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا عَدَمُهَا، وَلَا مِنْ جَهْلِنَا انْتِفَاءُ حِكْمَتِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ خَفَاءَ حِكْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا فِي خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرِ وَالْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا الْمَضَرَّةُ -لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا؟ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا حِكْمَةٌ خَفِيَتْ عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَا يَكُونُ عِلْمًا بِالْمَعْدُومِ.

الشيخ: وهذا كله واضح؛ فإنَّ إنكار العلم الموجود -وهو علم الشريعة- أو عدم الإيمان به كفرٌ وضلالٌ، فالله جلَّ وعلا بعث الرسلَ بشرائع وأحكامٍ يجب على الخلق التزامها، وعلى رأسهم ومقدمهم وإمامهم محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، أرسله الله إلى الناس عامَّة بما جاء به من علم العقائد، وعلم الأحكام، فوجب الإيمانُ بذلك وتلقيه بالقبول، فإنكاره كفرٌ وضلالٌ وردَّةٌ عن الإسلام ممن انتسب إليه.

أما العلم المفقود: فعلم الغيب، علم ما قدَّر الله للعباد، وما مضى في علمه سبحانه مما يكون في العالم، ومما يكون في الآخرة، هذا إليه سبحانه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، هو العالم بكل شيءٍ جلَّ وعلا، فليس لأحدٍ أن يُنكر العلم الموجود، وليس لأحدٍ أن يدَّعي العلم المفقود، بل عليه أن يُسلم لأمر الله، وأن ينقاد لحكم الله، ويقف عند الحدِّ الذي حدَّه الله، مع الإيمان بأنَّ الله حكيم عليم في كل شيءٍ حكيم عليم في خلقه جميع المخلوقات، ما ظهرت حكمته، وما خفيت حكمته؛ ولهذا كرر في آيات كثيرات هذا الأمر العظيم، هذا الأصل الكبير: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11]، إلى غير ذلك، كل هذا يُبين أنَّ أفعاله وتدبيراته وشرائعه كلها صادرة عن علمٍ، لا عن جهلٍ، وعن حكمةٍ، لا عن عبثٍ، فالعلم شامل، والغايات والحكم عظيمة، والقدرة كاملة، وإذا أشكل عليك شيءٌ في هذه الأمور فقل كما قالت الملائكة: قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، سواء ما ذكره المؤلفُ هنا من حكمة الحيَّات والعقارب والفأر والحشرات الأخرى، أو غير ذلك.

وقد يقال كما قال جمعٌ من أهل العلم: إنها لبيان أنَّ هذه الدار ليست دار خلدٍ، وليست دار نعيمٍ، ولكنَّها دار مُنغصة، منغصة بالحرِّ والبرد والأمراض والأكدار، وهذه الحشرات التي تُؤذي الكثير من الناس وتُنكد عليهم بعض معيشتهم، فلله الحِكَم والأسرار العظيمة في خلق ما خلق من السباع والكائنات المفترسة، ومن هذه الحشرات التي يقذرها الناس والتي تُؤذي الناس من البعوض والذُّباب والذر والحشرات الأخرى، والحيات والعقارب، وغير ذلك، فله فيها الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، سواء عرفنا ذلك أو لم نعرف ذلك، ولا شكَّ أن فيها تنغيصًا لهذه الدار، وتكديرًا لهذه الدار، وبيانًا بأنها ليست دار نعيم، وليست دار سرور، ولكنها دار منغصة بأنواع المنغصات؛ ليطلب العاقلُ دارًا غير هذه الدار، وليلتمس ذو البصيرة دارًا سليمةً مما ينغص، وليس هناك دار سليمة من المنغصات إلا الجنة، والطريق إليها هو امتثال ما جاءت به الرسل، والأخذ بما جاءت به الرسل، وحظنا منهم ونصيبنا هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلا طريقَ إلى الجنة والكرامة والسلامة من هذه المنغصات إلا بالتَّمسك بما جاء به هذا النبي العظيم من الشرع القويم، والصراط المستقيم، قولًا وعملًا وعقيدةً، والدعوة إليه، والصبر عليه، هذا هو الطريق: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153]، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هذا الطريق، وهذا الطريق يشمل أداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك كله داخل في الطريق، والله المستعان.

قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ).

قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ۝ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21- 22].

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، لله فيه كل يوم ستين وثلاثمئة لحظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمئة نظرة، يخلق ويُحيي ويُميت، ويعزّ ويُذلّ، ويفعل ما يشاءه.

الشيخ: وهذا معنى قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

الطالب: علَّق عليه قال: ضعيف؛ رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، وفيه زياد بن عبدالله -وهو البكائي- عن ليثٍ -وهو ابن أبي سليم- وكلاهما ضعيف، وقد رواه من طريقٍ أخرى نحوه عن ابن عباسٍ موقوفًا عليه، وإسناده يحتمل التَّحسين؛ فإنَّ رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب، وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم: شيخ. وذكره ابنُ حبان في "الثقات".

تنبيه: كان الحديثُ محرَّفًا في مطبوعة أحمد شاكر، وكان هو صححه من "مجمع الزوائد" الذي أورد الحديثَ عن ابن عباسٍ موقوفًا، وصححناه نحن من حديثه المرفوع من "المعجم"، وهو الصواب؛ لأنَّ المؤلف ساقه من الطريق المرفوعة، فلا يصح تصحيح ما وقع فيه من التَّحريف من الطريق الموقوفة، كما لا يخفى؛ لاختلاف لفظيهما، كما أشرتُ إلى ذلك بقولي: نحوه. اهـ.

الشيخ: يُراجع الطبراني في "مسند ابن عباس"، وقول المحشي: "إن زياد بن عبدالله البكائي ضعيف" ليس بجيدٍ، أما ليث ابن أبي سليم فضعيف؛ لسُوء حفظه، واشتغاله بالعبادة، أما زياد بن عبدالله البكائي -راوي السيرة عن ابن إسحاق- هو عندهم جيد لا بأس به، أقل أحواله أن يكون حسنًا، وقول المحشي: "كلاهما ضعيف" ليس بجيدٍ.

س: بالنتيجة يعني: أن الحديث ..؟

ج: لا بأس به، بالطريقين جيد، والموقوف لا مجالَ للنظر فيه، أقول: الموقوف لا مجالَ للرأي فيه، له حكم المرفوع إذا لم يُتلقَّ عن بني إسرائيل.

اللَّوْحُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ فِيهِ، وَالْقَلَمُ الْمَذْكُورُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ وَكَتَبَ بِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَذْكُورِ الْمَقَادِيرَ، كَمَا فِي "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" عَنْ عُبَادَةَ بن الصامت قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا ربِّ، وماذا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.

الطالب: علَّق عليه: صحيح، غير أنني مُتوقف في صحة الحرف الذي استدلَّ به المؤلفُ وهو "فقال"، فقد جاء في بعض الروايات بلفظ: "ثم قال"، فأخرجه أبو داود (4700) من طريق أبي حفصة قال: قال عبادةُ بن الصَّامت .. فذكره بلفظ "فقال".

قلت: وأبو حفصة اسمه: حبيش بن شريح الشامي، لم يُوثقه غير ابن حبان، وفي "التقريب": "مقبول" يعني عند المتابعة، وإلا فلين الحديث كما نصَّ عليه في المقدمة، وقد تُوبع، لكن الطريق إلى المتابع لا يصحّ، فقال الطيالسي (577): حدَّثنا عبدالواحد بن سليم، عن عطاء ابن أبي رباح: حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه به. ومن طريق الطيالسي رواه الترمذي (2/ 232) وقال: "حديث حسن غريب، وفيه: عن ابن عباس".

قلت: وعبدالواحد هذا ضعيف كما في "التقريب".

وقد خالفه أيوب بن زياد فقال: حدَّثني عبادة بن الوليد بن عبادة: حدَّثني أبي، به، لكنَّه قال: "ثم قال: اكتب ..".

وهذا أخرجه أحمد (5/ 317) وسنده حسن، رجاله كلهم ثقات معروفون، غير زياد هذا، وقد روى عنه جماعة، ووثقه ابنُ حبان، فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى، لكن قد أخرجه الآجري في "كتاب الشريعة" (ص177) من طريقه بلفظ: "فقال له: اجرِ ..".

ورواه يزيد ابن أبي حبيب، عن الوليد بن عبادة به، بلفظ: "ثم قال له: اكتب".

ورجاله ثقات غير ابن لهيعة؛ فإنه سيئ الحفظ.

ويشهد له حديث أبي هريرة بلفظ: إنَّ أول شيءٍ خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدَّواة، ثم قال: اكتب .. الحديث.

رواه الآجري والواحدي في "تفسيره" (4/ 157/ 2) وفيه الحسن بن يحيى الخشني، مختلف فيه، وفي "التقريب": صدوق كثير الغلط.

وبالجملة فالروايات في هذا الحرف مختلفة؛ ولذلك فإنه لا يتم للمصنف الاستدلال بالرواية الأولى على تقدم خلق العرش عن القلم، حتى يثبت أرجحيتها على الأخرى.

ثم قال: وإذا كان لا بدَّ من الترجيح بينهما فالأخرى أرجح من الأولى؛ لاتفاق أكثر الرُّواة عليها، ولأنَّ لها شاهدًا عن أبي هريرة كما تقدم، ولأنها تتضمن زيادة في المعنى، وعليه فلا تعارض بين الحديث على هذه الرواية، وبين حديث عبدالله بن عمرو؛ لأنَّ حديثه صريح في أن الكتابة تأخَّرت عن خلق العرش، والحديث على الرواية الراجحة صريح في أنَّ القلم أول مخلوقٍ، ثم أمر بأن يكتب كل شيءٍ يكون، ومنه العرش، فالأرجح عندي أن القلم مُتقدم على العرش، والله أعلم.

وفي الحديث إشارة لطيفة إلى الرد على مَن يقول من العلماء بحوادث لا أوَّل لها، وأنه ما من مخلوقٍ إلا وهو مسبوق بمخلوقٍ، وهكذا، إلى ما لا أول له! فتأمَّل.

الشيخ: الحديث بالجملة لا بأس به، جيد، وإنما الخلاف: هل هو أول المخلوقات أم لا؟ وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة يرون أنه أول المخلوقات المشاهدة التي يُشاهدها الناسُ، أما أول المخلوقات في الجملة فالله أعلم، وابن القيم رحمه الله ذكر عن الهمداني قال:

والناس مختلفون في القلم الذي كُتب القضاء به من الدَّيان
هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمداني
والحق أن العرش قبل لأنه حين الكتابة كان ذا أركانِ

يُشير إلى قول النبي ﷺ: إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء، فظاهر النصوص أنَّ العرش مُتقدم قبل خلق القلم، وروايات خلق القلم فيها اختلاف في ألفاظها، فلا تقوى على الحكم بأنَّ القلم قبل ذلك؛ فإنَّ في رواية: "فقال"، ورواية أخرى: "ثم قال"، وفي رواية: "قال له" من غير فاء ولا ثم: إنَّ أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب يعني: حين خلقه قال له: اكتب، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، فالأمر في هذا واسع، والله أعلم .

س: الاختلاف عفا الله عنك أيش يكون الاختلافُ هذا في الألفاظ، يعني: اضطراب؟

ج: قد لا يُسمَّى: اضطرابًا؛ لأنَّ المقصود حاصل: إنَّ أول ما خلق الله القلم، فقال، أو: ثم قال، أو: قال له. فالمقصود حاصل سواء كان بفاء أو بثم أو بإسقاطهما، والحاصل أنَّ القلم قيل له: اكتب، وأنه جرى بالمقدرات، سواء كان قبل ذلك شيء أو لم يكن.

س: لكن قول المُحشي: "حسن إن شاء الله" التقييد بالمشيئة هنا؟

ج: عنده شكٌّ يعني.

............

الطالب: زياد بن عبدالله بن الطفيل العامري البكائي -بفتح المهملة وتشديد الكاف- أبو محمد الكوفي، صدوق، ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، من الثامنة، ولم يثبت أنَّ وكيعًا كذَّبه، وله في البخاري موضع واحد مُتابعة، مات سنة ثلاث وثمانين. (البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه).

الشيخ: ..... وأنه ثبت في رواية ..... والمغازي صدوق .....

س: ............؟

ج: يميل ابنُ القيم إلى أنَّ المقصود: المخلوقات المشاهدة، ليس كل شيءٍ، بل المشاهدة التي يُشاهدها الناسُ من السماء والأرض، فهو خلق قبلها، بخلاف المخلوقات التي لا يُشاهدها الناس: كالعرش وغير ذلك من المخلوقات التي يعلمها الله.

وبعضهم أجاب بأنَّ الرواية "قال له" بغير فاء ولا ثم: إنَّ الله أول ما خلق القلم، قال له يعني: في أول خلقه قال له.

..............

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْقَلَمُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوِ الْعَرْشُ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلَ الْقَلَمِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عبدالله بن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كتب اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.

فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَالتَّقْدِير وَقَعَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِ الْقَلَمِ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا.

وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَم .. إِلَخْ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ:

فَإِنْ كَانَ جُمْلَةً -وَهُوَ الصَّحِيحُ- كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ كَمَا فِي اللَّفْظِ: أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ بِنَصْبِ "أَوَّلَ" وَ"الْقَلَمَ".

وَإِنْ كَانَ جُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِرَفْعِ "أَوَّلُ" وَ"الْقَلَمُ"، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، فَيَتَّفِقُ الْحَدِيثَانِ؛ إِذْ حَدِيثُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَرْشَ سَابِقٌ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ مُقَارِنٌ لِخَلْقِ الْقَلَمِ. وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ.

فَهَذَا الْقَلَمُ أَوَّلُ الْأَقْلَامِ وَأَفْضَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْقَلَمُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1].

وَالْقَلَمُ الثَّانِي: قَلَمُ الْوَحْيِ: وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَلَمِ هُمُ الْحُكَّامُ عَلَى الْعَالَمِ، وَالْأَقْلَامُ كُلُّهَا خَدَمٌ لِأَقْلَامِهِمْ. وَقَدْ رُفِعَ النَّبِيُّ ﷺ لِلَّهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، فَهَذِهِ الْأَقْلَامُ هِيَ الَّتِي تَكْتُبُ مَا يُوحِيهِ اللَّهُ تبارك وتعالى من الأمور التي يُدبرها، أَمْرَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ.

قَوْلُهُ: (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ -لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا -لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).

تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كأنَّا خُلقنا الآن، فيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ به المقادير أم فيما استقبل؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؟ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.

الشيخ: وفي آخر اللَّفظ الأول في حديث سُراقة قالوا: ففيمَ العمل؟ سألوه: ما دام أنَّ الأمور قد جرت بها المقاديرُ، وجفَّت بها الأقلامُ، ففيمَ العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا، فكل مُيَسَّر لما خُلق له؛ فأما أهل السَّعادة فيُيسرون لعمل أهل السَّعادة، وأما أهل الشَّقاوة فيُيسرون لعمل أهل الشَّقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5- 10].

وله في هذا المعنى من رواية عليٍّ أيضًا في "الصحيحين": أنه ﷺ جاء يُشيع جنازةً، فجلس عند القبر ولما يلحد، فقال: ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، قالوا: ففيمَ العمل إذًا؟! قال: اعملوا، فكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.

والأحاديث في هذا كثيرة في مسألة القدر وسبقه، وأنه أمر مضى، وأنَّ العباد يجرون في أمرٍ قد فُرغ منه، وأنَّ الله يُيسر أهل السَّعادة للسعادة، ويُيسر أهل الشَّقاوة للشَّقاوة، وأنَّ على كل مُكلَّفٍ أن يعمل ويجتهد ويسأل ربَّه التوفيقَ، فسوف يُيسر لما خُلق له.

الطالب: علَّق على الرواية الأولى، قال: صحيح لغيره، وقد خرجته في "السنة" لأبي عاصم.

الشيخ: ......... من رواية ابن عباس.

وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْلَامُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا مَجْمُوعَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمَقَادِيرِ أَقْلَامًا غَيْرَ الْقَلَمِ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ الْأَقْلَامَ أَرْبَعَةٌ -وَهَذَا التَّقْسِيمُ غَيْرُ التَّقْسِيمِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ:

الْقَلَمُ الْأَوَّلُ: الْعَامُّ الشَّامِلُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ اللَّوح.

القلم الثاني: خبر خلق آدَم، وَهُوَ قَلَمٌ عَامٌّ أَيْضًا، لَكِنْ لِبَنِي آدَمَ، وَرَدَ فِي هَذَا آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ عَقِيبَ خَلْقِ أَبِيهِمْ.

الْقَلَمُ الثَّالِثُ: حِينَ يُرْسَلُ الْمَلَكُ إِلَى الْجَنِينِ ............

إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى، قَالَ تعالى: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44]، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52]، هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:56]، وَنَظَائِرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.

وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ يُرَاعِي بِهَا رَعِيَّتَهُ، فَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَتَّقِيَ، فَإِنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ اتَّقَى الْمَخْلُوقَ، وَالْخَلْقُ لَا يَتَّفِقُ حُبُّهُمْ كُلُّهُمْ وَبُغْضُهُمْ، بَلِ الَّذِي يُرِيدُهُ هَذَا يُبْغِضُهُ هَذَا، فَلَا يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُمْ كُلُّهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، فَعَلَيْكَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُكَ فَالْزَمْهُ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ فَلَا تُعَانِهِ، فَإِرْضَاءُ الْخَلْقِ لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ، وَإِرْضَاءُ الْخَالِقِ مَقْدُورٌ وَمَأْمُورٌ.

الطالب: علَّق على هذه اللَّفظة.

الشيخ: كل هذا من كلام الشَّارح؟

الطالب: نعم، الذي بعد الشَّافعي.

الشيخ: خلطت علينا، دلَّسْتَ، ما عرفنا الحاشية من الكتاب!

الطالب: لا، كل هذا الكلام من الصلب.

الشيخ: الله يهدينا وإياك، والحاشية، وأيش هي الحاشية؟

الطالب: الحاشية حول الحديث -حديث ابن عباس- كلمتان: صحيح لغيره، وقد خرجته في "السنة" لأبي عاصم. فقط.

الشيخ: ...........

س: .............؟

ج: وقوله: "صحيح لغيره" محل نظرٍ، الأقرب أنه صحيح لذاته؛ لأنَّ سنده جيد عند أحمد والترمذي، سنده جيد عن أبي هريرة، وعن معاذٍ.

س: القلم الثاني خبر خلق آدم أو حين خُلق آدم؟

ج: يقصد لما لازم موسى آدم قال: إنَّ الله قد كتبها قبل أن يخلقني، كذلك إخراج ذريته من ظهره كتب ما كتب، قد يُريد هذا، لكن بكل حالٍ هذه الأقلام ما هي بلازم أن تكون أربعةً، الأقلام لا يُحصيها إلا الله جلَّ وعلا، فالجزم بأنها أربعة ليس بجيدٍ، والأقلام لا يُحصيها إلا الله.

وقد ذكر ابنُ القيم في بعض كتبه كذلك الأقلام الأربعة، ولكن ليس المعنى أنه ليس هناك قلم آخر، قال: هي أقلام أربعة، قد قيل: إن هناك قلمًا خامسًا، وهو ما يُكتب به الحوادث في السنة؛ فإنَّ في السنة في ليلة القدر فيها لله تقادير، قد جاء في الآثار عن ابن عباسٍ وغيره: أنَّ الله جلَّ وعلا يُقدر فيها ما يكون من حوادث السنة.

فالحاصل أنَّ الأقلام لا يجوز الجزم بأنها أربعة فقط، فالأقلام كثيرة، والله هو الذي يعلمها ويُحصيها ؛ ولهذا قال في حديث المعراج: يسمع به صريف الأقلام، الأقلام التي تُكتب لا يعلمها إلا هو ، قد تكون أربعةً، وقد تكون مئةً، وقد تكون آلافًا، فالله الذي يعلمها ، وقد يكون لكل شيءٍ قلم خاصّ، فربنا هو العالم بهذه الأشياء .

..............

س: حج آدمُ موسى بأمرين، ما هما؟

ج: فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى، أحدهما: أنه لامه على أمرٍ ليس من صنعه، صنعه الذي يُلام عليه الذنب، وأما كونه أُنزل إلى الأرض لحكمةٍ بالغةٍ ما يُلام على هذا، ولا إخراجه من الجنة، إنما اللوم على فعله المعصية، أما ما رتَّب اللهُ عليها فهو الحكيم العليم .

والأمر الثاني: أنه لامه بعد التَّوبة، والإنسان بعد التوبة ما يُلام، إنما يُلام قبل أن يتوب، يُلام ويقرع حتى يتوب، أما إذا تاب ما يُلام بعد التوبة، لا يقال للإنسان سيئته، بل يُشكر على توبته ويُدعا له ويُشجع على الثبات عليها ولا يُعاب.

فَإِرْضَاءُ الْخَلْقِ لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ، وَإِرْضَاءُ الْخَالِقِ مَقْدُورٌ وَمَأْمُورٌ.

الشيخ: ومَن أراد رضا الخلق هلك؛ لأنهم لا يرضون إلا بما يُوافق أهواءهم، فالحزم والواجب العناية بإرضاء الله، والقيام بأمره ، والوقوف عند حدوده، رضي الناسُ أو كرهوا، هذا هو طريق النَّجاة، طريق النَّجاة: العناية بأسباب رضا الله، وذلك باتِّباع أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، واتِّباع ما شرع، ومحبَّة الناس على قدر قيامهم بأمر الله، فيُحبون في الله، ويُبغضون في الله، ويرضى منهم ما يُرضي الله، ويكره منهم ما يكرهه الله، هذا هو طريق النَّجاة، وهو الطريق الذي جاءت به الرسل، ودلَّ عليه القرآنُ العظيم.

وَأَيْضًا فَالْمَخْلُوقُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَإِذَا اتَّقى العبدُ ربَّه كفاه مؤنة الناس، كما كتبت عائشةُ إلى معاوية، رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا: مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ ، وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ لَهُ ذَامًّا.

الطالب: علَّق عليه: صحيح، رواه الترمذي (2/ 67) من طريق عبدالوهاب بن الورد، عن رجلٍ من أهل المدينة قال: كتب معاويةُ إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما: "أن اكتبي لي كتابًا وصيني فيه، ولا تُكثري عليَّ"، فكتبت عائشةُ رضي الله عنها إلى معاوية: "سلام عليك، أما بعد، فإني سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: مَن التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك".

ثم رواه من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: إنها كتبت إلى معاوية. فذكر الحديثَ بمعناه، ولم يرفعه.

قلت: والمرفوع إسناده ضعيف؛ لجهالة الرجل الذي لم يُسمّ.

وأما الموقوف فسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات.

ورواه عثمان بن واقد، عن أبيه، عن محمد بن المنكدر، عن عروة بن الزبير به مرفوعًا بلفظ: مَن التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

رواه القضاعي في "مسند الشِّهاب" (ق 42/ 2)، ومشرق بن عبدالله في "حديثه" (ق 61/ 2)، وابن عساكر (15/ 278/ 1).

قلت: وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات معروفون، وفي عثمان بن واقد كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وفي "التقريب": "صدوق ربما وَهِمَ".

وروى بعضه ابن بشران في "الأمالي" (144/ 145)، وابن الأعرابي في "معجمه" (82/ 1)، وأبو القاسم المهراني في "الفوائد المنتخبة" (3/ 23/ 1)، وابن شاذان الأزجي في "الفوائد المنتقاة" (1/ 118/ 2)، و"القضاعي" (42/ 2) عن قطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي: حدَّثنا أبي، عن هشام بن عروة، به، بلفظ: مَن طلب محامدَ الناس بمعصية الله عاد حامده ذامًّا.

وقال المهراني: حديث غريب، لا أعلم رواه عن هشام غير العلاء بن المنهال.

ورُوي عنه بلفظ: مَن التمس محامد الناس بمعاصي الله تعالى عاد حامدُه من الناس ذامًّا له.

رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (2/ 5/ 2)، والعقيلي في "الضعفاء" (325)، وابن عدي في "الكامل" (ق 272/ 2)، وأبو الحسن ابن الصَّلت في حديث ابن عبدالعزيز الهاشمي (ق 76/ 1)، وقال العُقيلي: "العلاء بن المنهال لا يُتابع عليه، ولا يُعرف إلا به".

وقال ابن عدي: "وليس بالقوي".

قلت: وأما ابن حبان فذكره في "الثِّقات"!

ثم قال العقيلي: "ولا يصح في الباب مسند، وهو موقوف من قول عائشة".

قلت: الصواب عندي: أنَّ الحديث صحيح موقوفًا ومرفوعًا، أما الموقوف فظاهر الصحة، وأما المرفوع فلأنه جاء من طريق حسنة عن عثمان بن واقد كما تقدم، فإذا انضم إليه طريق الترمذي ارتقى الحديثُ إن شاء الله إلى درجة الصحة.

الشيخ: وقد صحح ابن حبان المرفوع أيضًا، كما في كتاب "التوحيد"، كما ذكر الشيخ محمد رحمه الله.

فَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ كَفَاهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَرَضِيَ عَنْهُ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ يَرْضَوْنَ؛ إِذِ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى: يَا جبرائيل، إني أُحبُّ فلانًا فأحبَّه، فيُحبه جبرائيل، ثم يُنادي جبرائيل فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ أَنْ يَتَّقِيَ: إِمَّا الْمَخْلُوقَ، وَإِمَّا الْخَالِقَ. وَتَقْوَى الْمَخْلُوقِ ضَرَرُهَا رَاجِحٌ عَلَى نَفْعِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقْوَى اللَّهِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ للتَّقوى، وهو أيضًا أهل المغفرة، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، لَا يَقْدِرُ مَخْلُوقٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ الذُّنُوبَ وَيُجِيرَ مِنْ عَذَابِهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا احْتَاجَ تَقِيٌّ قَطُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2- 3]، فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي التَّقْوَى خَلَلًا، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، لا محوجه إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُنَافِي الِاكْتِسَابَ وَتَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ حَرَامٌ، كَمَا قَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَفْضَلَ الْمُتَوَكِّلِينَ، يَلْبَسُ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لِلِاكْتِسَابِ، حَتَّى قَالَ الْكَافِرُونَ: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:7]؛ وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنْ يَرَى الِاكْتِسَابَ يُنَافِي التَّوَكُّلَ يُرْزَقُونَ عَلَى يَدِ مَنْ يُعْطِيهِمْ: إِمَّا صَدَقَةً، وَإِمَّا هَدِيَّةً، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّاسٍ، أَوْ وَالِي شُرْطَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، لَا يَسَعُهُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ.

الشيخ: وهذا القول من أفسد الأقوال؛ فإنَّ التوكل ما يتم إلا بالأسباب، والتوكل يجمع أمرين:

أحدهما: الثِّقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مُسبب الأسباب، ورازق العباد، وأنَّ كلَّ شيءٍ مضى بقدره سبحانه.

والأمر الثاني: التَّعاطي للأسباب، فالجنة لها أسباب، والنار لها أسباب، والرزق له أسباب، وكلها مُقدرة، قد مضى في علم الله أعمال العباد من طاعةٍ ومعصيةٍ، وأكساب حلال وحرام، كلها مضى في علم الله أمرها، ولكن العبد مأمور مفروض عليه أن يتعاطى ما أوجب الله عليه، وأن يدع ما حرَّم الله عليه، ويطلب الرزق حتى لا يحتاج إلى الناس، وحتى لا يموت جوعًا وظمأً، وفطر اللهُ العبادَ على ذلك، العباد والحيوان كلهم مفطورون على هذا الأمر، فهذا القول لا يقوله مَن يعقل، ولا مَن يفهم، بل هو قول فاسد صدر عن عقولٍ فاسدةٍ، وعن تصورات فاسدةٍ.

س: قوله: وقد يكون ذلك من مكَّاسٍ أو والي شُرطة؟

ج: يعني: قد يأتيه برزقٍ غير طيبٍ، المكَّاس معروف حاله، ووالي الشرطة قد يأخذ المالَ بغير الحقِّ.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ التي في تفسير قوله تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] فقال الْبَغَوِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قالوا: إنَّ الله لا يُعطي يوم السبت! قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَرْزُقُ، وَيُعِزُّ قَوْمًا، وَيُذِلُّ آخَرِينَ، وَيَشْفِي مَرِيضًا، وَيَفُكُّ عَانِيًا، وَيُفَرِّجُ مَكْرُوبًا، وَيُجِيبُ دَاعِيًا، وَيُعْطِي سَائِلًا، وَيَغْفِرُ ذَنْبًا، إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ.

الشيخ: وهذا معنى قوله جلَّ وعلا: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يعني: أنه سبحانه له شؤون في عباده لا تُحصى، وهذه الشؤون لا تُنافي القدر السابق، فإن التقادير اليومية التي تُطابق القدر السابق، فهو بكل يومٍ له شؤون: من شفاء مريض، ومن زوال ملك، ومن إعطاء ملك، ومن قيام دولة، وسقوط دولة، ومن غير هذا من الشؤون، وتوسيع على قوم، وتضييق على قوم، وإعزاز قوم، وإذلال قوم، إلى غير ذلك، مثلما تقدم في الأثر -أثر ابن عباس- المرفوع والموقوف: "لله في كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمئة وستون نظرة"، يخلق في كل نظرةٍ، ويُعطي ويمنع، ويذل ويعزّ، إلى غير ذلك.

فالمقصود أنَّ قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أمر واسع، لو صحَّ الأثر عن ابن عباسٍ فهو يدل على أنه جلَّ وعلا لا أحدَ يتحجر عليه ، بل تصرفه مُطلق في كل وقتٍ وحينٍ، وهذا التَّصرف المطلق الذي صدر عنه قوله جلَّ وعلا: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ لا يُنافي ما سبق به علمه، ومضى به قدره، فكل ما يقع تنفيذ وإظهار لما سبق به علم الله في هذا الكون، وفي هذه الحياة، وفي هذه العاجلة.

س: قول بعض المُفسرين: شأن يبديه ويبتديه؟

ج: مُرادهم ملكًا جديدًا إن صحَّ التَّعبير، يعني: مُرادهم أنه مضى به علمه وقدره فيُبديه -يعني: يُظهره- ولا يبتدؤه، ما سبق به القدر، كل شيء قد سبق به القدر، إن أرادوا هذا فلا بأس به.

قَوْلُهُ: (وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ).

هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَقْدُورَ كائنٌ لا محالةَ، ولقد أحسن القائلُ حيث يقول:

مَا قَضَى اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَهْ وَالشَّقِيُّ الْجَهُولُ مَنْ لَامَ حَالَهْ

وَالْقَائِلُ الْآخَرُ:

اقْنَعْ بِمَا تُرْزَقُ يَا ذَا الْفَتَى فَلَيْسَ يَنْسَى رَبُّنَا نَمْلَهْ
إِنْ أَقْبَلَ الدَّهْرُ فَقُمْ قَائِمًا وَإِنْ تَوَلَّى مُدْبِرًا نَمْ لَهْ

قَوْلُهُ: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ، وَلَا مُعَقِّبٌ، وَلَا مُزِيلٌ، وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا نَاقِصٌ، وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ).

هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ بِالْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَهَا قَبْلَ خَلْقِهَا، كَمَا قَالَ ﷺ: قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.

الشيخ: وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه بين أهل السنة والجماعة، وإنما خالف في هذا القدرية النُّفاة والمعتزلة ومَن قال بقولهم، أما أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ كلهم مُجمعون على أنَّ الله جلَّ وعلا علم كل شيءٍ، وقدر كل شيءٍ، وكتب كل شيءٍ ، ليس بينهم في هذا نزاع، والقرآن واضح في ذلك: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2] : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

والقرآن واضح في أنه علم كل شيءٍ، وقدَّر كل شيءٍ، ولا يقع في ملكه شيء لا يعلمه ولا يُريده، بل لا يقع شيء في ملكه إلا وقد علمه وكتبه وشاءه ؛ ولهذا في "صحيح مسلم" عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.

فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَصِيرُ موجودةً لأوقاتها، على ما اقتضته حكمتُه الْبَالِغَةُ فَكَانَتْ كَمَا عَلِمَ، فَإِنَّ حُصُولَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إِيجَادُهَا إِلَّا مِنْ عَالِمٍ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ عَلَى إِيجَادِهَا، قَالَ تَعَالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

وَأَنْكَرَ غُلَاةُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ حَتَّى يَفْعَلُوا! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: نَاظِرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا، وَإِنْ أَنْكَرُوا كَفَرُوا.

فَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُثِيبُهُ، وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لَا يَفْعَلُ مَا اسْتَطَاعَهُ فَيُعَذِّبُهُ، فَإِنَّمَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ.

الشيخ: كلام الشافعي مع اختصاره كلام عظيم، الشافعي هو أبو عبدالله محمد بن إدريس، من بني المطلب بن عبد مناف، كانت وفاته سنة أربع ومئتين، ومولده سنة خمسين ومئة، وعمر أربعًا وخمسين سنة، مات وهو في قرب الكهولة، المقصود أنه رحمة الله عليه قال كلامًا جيدًا: "ناظروهم بالعلم" يعني: القدرية النُّفاة، نفاة القدر، "فإن أقرُّوا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا"، والمعنى قولوا لهم: هل الله يعلم هذه الأشياء الموجودة من أعمالنا من طاعات ومعاصٍ أو لا يعلمها؟

فإن قالوا: لا يعلمها فقد وصفوه بالجهل فيكفرون، فإنهم إن قالوا: لا يعلمها معناه: أنه جاهل بأحوال عباده لا يعلمها حتى تقع، فهذا معناه وصفه بالجهل، تنقص له سبحانه، وطعن في ربوبيته وكمال صفاته؛ فيكون كفرًا وضلالًا عند الجميع.

وإن قالوا: يعلم أنه يعمل كذا ويعمل كذا، ويعلم أعمالهم. خُصِمُوا؛ لأنهم إذا قالوا: يعلم، لا يمكن أن تقع الأشياء على خلاف علمه، لكن يعلم أحوالهم وأعمالهم وجميع ما يصدر منهم، فإنه لا يمكن أن يقع الشيء على خلاف علمه، فإنه إذا وقع على خلاف علمه صار جهلًا؛ لأنَّ العلم لا بدَّ أن يُطابق الواقع، فإن كان الواقعُ لا يُطابق العلمَ صار العلمُ جهلًا، فمَن قال مثلًا: إني أعلم أن زيدًا قد مات، أو قد تزوج، ثم ظهر أنه ما مات ولا تزوج، ماذا يكون علمه؟ يكون جهلًا، قال على غير علمٍ، فإذا كانت الوقائعُ خلاف العلم المدَّعى صار جهلًا.

وبهذا يُعلم أنهم مخصومون: إذا أقرُّوا بالعلم خُصِمُوا في نفي القدر، وإن جحدوه كفروا؛ لوصفهم الله بما لا يليق.

فقد اتَّضح صحَّة قول أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي ﷺ ومَن سار على نهجهم، وهو قول الرسل جميعًا عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ الرسل جميعًا وصفوا الله بما يليق به من العلم والحكمة، ونزَّهوه عن كلِّ ما لا يليق به، وهكذا أصحابهم المؤمنون بهم وصفوا الله بما يليق به، فجاءت الجهمية، وجاءت المعتزلة، وجاءت طوائف البشر على خلاف ما عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام في شُبَهٍ داحضةٍ، وتأويلات سفيهة ساقطة لا وجهَ لها، ولا قيمةَ لها، وقد تواترت الأخبارُ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنَّ العلم قد سبق، فالله قد علم الأشياء وكتبها ، فذلك مُطابق لما جاء في القرآن الكريم، وقد جاء هذا من عدة أحاديث: من حديث عليٍّ رضي الله عنه، ومن حديث عمر، ومن حديث أبي مسعودٍ البدري، ومن حديث عبدالله بن عمرو، ومن أحاديث كثيرة كلها دالة على سبق العلم.

وَإِذَا قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ؟ قِيلَ: هذه مُغالطة.

الشيخ: يعني: كونه يقدر، وكونه يقدر، وكونه له مشيئة، وكونه له اختيار؛ ما يلزم من ذلك أن يستقلَّ، فالله جلَّ وعلا له مشيئة واختيار سابق عليه، ومشيئة الله غالبة، وإرادته غالبة ، فلا يشاء العبدُ إلا ما شاءه الله، هو الذي يُوقع في قلبه ما يشاء : وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، ولكن أهلها يُغالطون.

وذلك أنَّ مجرد قُدرته عَلَى الْفِعْلِ لَا تَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ، وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ إِنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ إِلَّا بِمَا يَظْهَرُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومَ.

الشيخ: وهكذا ما يقع من الغرق والحرق وقتل القاتل، قتل الذي يقتل، كله قد سبق فيه علم الله، وآنت آجالهم، مربوطة بهذا، وأن أعمالهم تنتهي عند هذا، كتب عمره كذا وكذا، وأنه ينتهي بكذا وكذا، فالله قد سبق علمه لما يحدث في العالم، فمَن مات بالقتل فقد قدَّر الله ذلك، وأنه يموت بالقتل، ومَن مات بالغرق فقد سبق علمُ الله بأنه يموت بالغرق، وأن عمره ينتهي هناك، ومَن مات بالحرق كذلك، وهكذا مَن مات بافتراس السباع، أو مات بغير ذلك، كله قد سبق به علم الله، وأنَّ هذا الإنسان المعين فلان ابن فلان سوف يموت في كذا، بسبب كذا، فسبحان الحكيم العليم.

وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُغَيِّرُ الْعِلْمَ، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلٍ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ، لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ.

وَإِذَا قِيلَ: فَمَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ؟

قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ، وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنِ الْمَعْلُومُ إِلَّا وُقُوعَهُ، فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إذا وقع لم يكن الْمَعْلُومُ إِلَّا وُقُوعَهُ، وَهَؤُلَاءِ فَرَضُوا وُقُوعَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ! وَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: افْرِضْ وُقُوعَهُ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ! وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: فإذا كان وقوعُه مع علم الرب عدم وُقُوعِهِ مُحَالًا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا؟

قِيلَ: لَفْظُ "الْمُحَالِ" مُجْمَلٌ، وَهَذَا لَيْسَ مُحَالًا؛ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ لَهُ، وَلَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ، وَلَا لِامْتِنَاعِهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ مُسْتَطَاعٌ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ مَعَ انْتِفَاءِ لَازِمِ الْوُقُوعِ صَارَ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هِيَ مُحَالٌ! وَمِمَّا يُلْزِمُ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ ............

قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]).

الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَسَبْقِ عِلْمِهِ بِالْكَائِنَاتِ قَبْلَ خَلْقِهَا.

قَالَ ﷺ فِي جَوَابِ السَّائِلِ عَنِ الْإِيمَانِ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.

الشيخ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا يعمُّ أمره الكوني، وأمره الشرعي، فأموره الشرعية مقدرة ومحكمة، وأموره القدرية كلها محكمة ومقدرة، وهكذا قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا يدل على إحكام وإتقان من جميع الوجوه، وأنَّ هذا شيء قد سبق به علمُ الله ، فخلقه كما شاء ، فأمر الله كذلك: قَدَرًا مَقْدُورًا قدرًا سابقًا، ومقدورًا على هيئةٍ وصفةٍ خاصَّةٍ لا يتجاوزها، هكذا بيَّن ، ثم يقول في الآيات الأخرى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، فمع القدر شيء قد كُتب وفُرغ منه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، هذا كله واضح في أنه سبق العلم، وسبقت الكتابة، وسبق التقدير من جميع الوجوه.

وَقَالَ ﷺ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قَالَ: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرائيل، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: وهذا يُبين أنَّ الإيمانَ بالقدر من الدِّين، قال: أتاكم يُعلِّمكم دينَكم، فدلَّ ذلك على أنَّ ما ذُكر في الحديث كله من الدِّين: الشَّهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، وهكذا الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهكذا عدم العلم بأشراط الساعة، ولكن يعلم أماراتها، كل هذا دين، قال: أتاكم يُعلِّمكم دينَكم، فدلَّ ذلك على أنَّ ما ذُكر في الحديث من الدِّين، يُدان الله به، يعني: يُعبد اللهُ به، ويُتقرب إليه به .

.............

وَقَوْلُهُ: (وَالِاعْتِرَافُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ) أَيْ: لَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ والاعترافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِصِفَاتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَنْ زَعَمَ خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَخْلُقُ فِعْلَهُ؟! وَلِهَذَا كَانَتِ الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَحَادِيثُهُمْ فِي السُّنَنِ.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.

الطالب: علَّق عليه: إسناده ضعيف، لكن له طرق يتقوى بها، ثم خرجته في "ظلال الجنة في تخريج السنة".

الشيخ: أحاديث المجوس متعددة، وهي ثابتة في الجملة، وسُموا: مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس قالوا بالإلهين: النور والظلمة، فشابهوهم، فهم قالوا: العبد يخلق فعله! ومنهم مَن قال: أفعاله كلها من حسنٍ وقبيحٍ، وسيئات وحسنات. ومنهم مَن قال: يخلق السيئ فقط، ولا يخلق الحسن غير الله، وأما السيئ فمن عند غيره.

وقد تشبَّثوا بقوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، وضلوا عن قوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78].

فالحاصل أنَّ القدرية النُّفاة شابهوا المجوس من هذه الحيثية؛ من حيث إنهم جعلوا مع الله شريكًا في خلق بعض الأشياء، وهو الإنسان، يخلق فعله، سواء مطلقًا أو الفعل السيئ فقط، وكل هذا باطل، الله خالق كل شيءٍ : اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، خلق الإنسان وخلق عمله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] .

..............

وروى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ، وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ.

الطالب: تعليق: إسناده ضعيف، وقد خرجته في المصدر المذكور.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ، وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ.

الطالب: علَّق عليه: قال: إسناده ضعيف.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صِنْفَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ.

الطالب: إسناده ضعيف، ولا يغتر بتصحيح صاحب "التاج الجامع للأصول" إياه, ثم خرجته في "تخريج السنة".

لَكِنَّ كُلَّ أَحَادِيثِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَوْقُوفُ مِنْهَا: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ".

الطالب: ضعيف موقوفًا ومرفوعًا، أما الموقوف: فرواه اللالكائي في "شرح السنة"، وفيه مَن لم يُسم، وأما المرفوع: فرواه بنحوه الطبراني في "الأوسط"، وفيه هانئ بن المتوكل، وهو ضعيف.

وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِعِلْمِ اللَّهِ الْقَدِيمِ، وَمَا أَظْهَرَ مِنْ علمه الذي لا يُحاط به، وَكِتَابِهِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ، وَقَدْ ضَلَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَلَائِقُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ بِالْجُزْئِيَّاتِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ.

وَأَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ جُمْلَةً، حَيْثُ جَعَلُوهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ قُدرته وخلقه.

وَالْقَدَرُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي دِلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِي جَحَدُوهُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَحْضَةُ بِلَا نِزَاعٍ -هُوَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ مَقَادِيرِ الْعِبَادِ، وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ يعني به هؤلاء: كقول ابن عمر لَمَّا قِيلَ لَهُ: يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ: "أَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَأَنَّهُمْ مِنِّي بَرَاءٌ".

الشيخ: تقدم قولُ الشافعي: "ناظروهم بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصِمُوا، وإن جحدوه كفروا"، وجاء عن أحمد رحمه الله أنه قال: "القدر قُدرة الله، ومَن أنكر القدر فقد أنكر قُدرة الله"، وهذا لازم لهم؛ لأنهم إذا أنكروا علمَ الله بالأشياء وإحصاءه لها فقد نسبوه إلى العجز والجهل، فيكون هذا إنكارًا لقُدرة الله، وإنكارًا لعلمه ، فتطابق ما قاله الشافعي وما قاله تلميذُه أحمد في هذا الباب، فإنكار القدر إنكارٌ لقُدرة الله، وإنكارٌ لعلم الله، فإن جحدوا هذين الأمرين كفروا كفرًا ظاهرًا، وإن أقرُّوا بهما بأنه قادرٌ، على كل شيءٍ قدير، وبكل شيء عليم؛ خصموا أنفسهم، وبطل قولهم.