قَوْلُهُ: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ).
الشيخ: وكثير ما يسألون: هل العبد مُخير أم مُسير؟
والجواب: أنَّ هذا واقع، وهذا واقع، عبارة الشارح: "مُيسر" أحسن، مسير، وهو مسير العبادة إلى ما يسَّر الله ، فقضاء الله نافذ فيه، فالعبد مُيسر ومُسير ومُخير، فهو مُخير لما أعطاه الله من العقل، والإرادة، والمشيئة، والسيرة، والضّار والنَّافع، والخير والشرّ، فهو يختار هذا على بصيرةٍ، ويختار هذا على بصيرةٍ، فيفعل ما أراد من المعصية والطاعة، ويترك ما أراد من المعصية والطاعة، فله مشيئة، وله اختيار، وقد علقت بها التَّكاليف، وتعلق بها العقاب والجزاء، وهو مسير بمعنى: أنه لا يخرج عن علم الله فيه، وأنه مضى في علم الله، وسبق في علم الله، فهو مُسير بذلك، ومُيسر له: اعملوا فكلٌّ مُيسر لما خُلق له.
قَوْلُهُ: (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَن شقي بقضاء الله).
تقدم من حَدِيثِ عَلِيٍّ ، وَقَوْله ﷺ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وَعَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عن جابر بن عبدالله قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ: مَا قَالَ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رسولَ الله ﷺ قال: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
الشيخ: والمعنى: أنه قد يعمل الإنسانُ بعمل أهل النار فيما يبدو للناس من ظاهر حاله: من معاصٍ وسيئات، ثم يتوب الله عليه، ويختم له بالخاتمة الحسنة؛ فيصير إلى الجنَّة، كما قد تمضي عليه حياته الطويلة بالكفر بالله والضَّلال، ثم عند قرب الأجل يُوفَّق للدخول في الإسلام والتوبة إلى الله، فيموت على الإسلام في مدةٍ قصيرةٍ؛ فيمحو الله سيئاته، ويُدخله الجنَّة بتوبته وإسلامه.
وهكذا العكس؛ قد يكون الإنسانُ يتظاهر بالخير لأسبابٍ ما، وعملٍ ما، ثم يرجع إلى حاله السيئة التي في باطنه، والتي يعتقدها، فيموت على ذلك؛ فيكون من أهل النار، نسأل الله العافية.
س: رواية أبي الزُّبير؟
ج: الأصل فيها الاتِّصال، وهو مدلس عند أهل العلم إذا عنعن، لكن تحملوها عنه، والحديث صحيح، ذكر أهلُ العلم أنَّ المدلسين فتَّشوا رواياتهم، ورووا عنهم ما ثبت لديهم بالسماع في "الصحيحين"، أما في غير "الصحيحين" فتُناقش ويُقبل ما يدل على السَّماع.
إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بأربع كلماتٍ: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيًّا أم سعيدًا، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السَّلف.
قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "التَّمْهِيدِ": قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تَخْرِيجِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الآثار واعتقادها وَتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.
الشيخ: صدق رحمه الله، كلام أبي عمر كلام جزل طيب، أهل السنة الجماعة متَّفقون ومجتمعون على الإيمان بما جاء في القدر، والفصل من أمر الله ، وأنه العلَّام بكل شيءٍ، والحكيم في كل شيءٍ ، وأنَّ العبد يُنعم ويُعذب بأعماله وأسبابه، وقد يمن الله على العبد ويُوفقه في آخر حياته للتوبة والاستقامة، فيمحو عنه سيئاته التي مات عليها ويُكفرها له ؛ فضلًا منه وإحسانًا، كما أنه قد يُنشئ لأهل الجنة قومًا ما عملوا خيرًا قط، يُنشئهم للجنة، ويُدخلهم فيها؛ لما فضل منها عن أهل العمل.
وَقَوْلُهُ: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وسُلم الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَوْجَدَ وَأَفْنَى، وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَضَلَّ وَهَدَى، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: القدر سرُّ الله فلا نكشفه.
وَالنِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وَقَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيَشَاءُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَيَشَاءُهُ كَوْنًا، وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَزَعَمُوا: أَنَّ اللَّهَ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، فَرُّوا إِلَى هَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا: شَاءَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَعَذَّبَهُ عَلَيْهِ! وَلَكِنْ صَارُوا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنار؛ فإنَّهم هربوا من شيءٍ فوقعوا فيما هو شرٌّ منه! فإنه يلزم أَنَّ مَشِيئَةَ الْكَافِرِ غَلَبَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ -عَلَى قَوْلِهِمْ- وَالْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، فَوَقَعَتْ مَشِيئَةُ الْكَافِرِ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى! وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ.
الشيخ: فردُّوا إلى هذا، أو ردّوا يعني: رجعوا إلى هذا الشيء، وصاروا إلى هذا الشيء؛ لئلا يقولوا: هذا هو المقصود، يعني: أن المعتزلة والذين رجعوا إلى هذا القول بزعمهم؛ لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر والمعصية وعذَّب عليها، فيكون خلاف العدل، فلزمهم أن تكون مشيئةُ المخلوق غلبت مشيئةَ الله، وأنه لو أراد شيئًا، والله أراد خلافه، فوقعت مشيئةُ المخلوقين ولم تقع مشيئةُ الله؛ هذا ما يفهم من الضَّلال والباطل.
وهذا مقام خطير، مقام القدر مقام خطير؛ ولهذا ذكر المؤلفُ أن الخوض فيه والتَّعمق فيه يُفضي إلى خطرٍ عظيمٍ، وإلى شرٍّ كثيرٍ، وإلى التَّكذيب والزَّندقة، نسأل الله السلامة، وأكثر العقول التي ما عندها بصيرة، ولا عندها تفقه في الدِّين لا تتحمل هذا الأمر، والله جلَّ وعلا يقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، الآيات في هذا واضحة في أنه شاء ما وقع من كفر الكافر، وإيمان المؤمن، كونًا وقدرًا، ولم يشأ ولم يرضَ دينًا وشرعًا؛ لأنَّ الإرادة إرادتان، وبعضهم جعل المشيئةَ كذلك بمعنى الإرادة مشيئتين: مشيئة شرعية، وإرادة شرعية، هذه عامَّة، الله سبحانه أراد من جميع الجنِّ والإنس أن يعبدوه، وأن يُطيعوه، فمنهم مَن أجاب، وهي بمعنى الأمر والرضا، فمنهم مَن أطاع الأمر وأجاب إلى هذا الشيء، وهم الأقل، ومنهم مَن أبى وتابع الهوى، وهم الأكثرون.
أما الإرادة الثانية والمشيئة الثانية فهي الإرادة الكونية، هذه لا يتخلَّف عنها مُراده، ولا يقع في العالم شيء خلافها، وهي المرادة في قوله جلَّ وعلا: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وفي الحديث: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فالمشيئة الكونية والإرادة الكونية لا يتخلَّف مُرادهما أبدًا، أما الإرادة الشرعية والمشيئة الشرعية -على اصطلاح مَن قسم المشيئة إلى قسمين- فهذه بمعنى الرضا، وبمعنى الأمر، وبمعنى المحبَّة، يقع مُرادها من الشَّخص تارةً، ولا يقع تارةً، يقع مُرادها تارةً إذا شاء الله ذلك كونًا، ولا يقع مُرادها إذا لم يشأ الله كونًا؛ ولهذا يُقال لأبي طالب، ويُقال لأبي لهب، ويُقال لأبي جهل وأشباههم: إنهم مأمورون بطاعة الله، ومأمورون بالتوحيد والإخلاص، أراد الله منهم ذلك بما جاء به على لسان رسوله، وبلَّغهم رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن سبق في علم الله أنهم لا يستجيبون، في إرادة الله الكونية الماضية التي مضى فيها قدره أنهم لا يُؤمنون؛ فلهذا نفذت فيهم مشيئةُ الله وماتوا على دين قومهم، ولم يستجيبوا للدَّاعي، وهكذا أشباههم: كفرعون، دعاه موسى وألحَّ عليه موسى، وغيره من آل فرعون، فقامت عليهم الحُجَّة، ونفذت فيهم الإرادة الشرعية والأمر الشرعي، ولكنَّهم لم يستجيبوا؛ لأنَّ الإرادة الكونية السابقة قد غلبت عليهم ومضت فيهم، وهكذا قوم صالح، وقوم هود، وقوم نوح، وغيرهم من الأمم الكافرة؛ نفذت فيهم إرادةُ الله الكونية، ولم يقبلوا الإرادة الشرعية والأمر الشَّرعي.
ولهذا قال أهلُ الإيمان -أهل العلم والسنة: إنَّ الإرادتين تجتمعان في حقِّ المؤمن والمطيع، تجتمع فيه الإرادتان: الإرادة الشرعية، والإرادة الكونية، فإنه وافق مُراد الله شرعًا، ونفذ فيه مُراد الله كونًا؛ ففعلوا ما فعلوا من توحيد الله وطاعته، وتنفرد الإرادةُ الكونية والمشيئة الكونية في حقِّ الكافر وفي حقِّ العاصي؛ فإنه لم يقع منه ما وقع إلا عن مشيئةٍ وإرادةٍ مضى بها علمُ الله وقدره ، ولكنه لم يُوافق المشيئة الشَّرعية والإرادة الشرعية، بل خالفهما بعصيانه وكفره، وقد يُهدى ويُوفق فيهتدي ويُسلم ويُطيع ويتوب، فتقع الإرادة الثانية حينئذٍ: الإرادة الشرعية، وموافقة الأمر لما تاب ورجع.
فالمؤمن توجد فيه الإرادتان: الإرادة الشرعية؛ لأنه وافق الشرع. والإرادة الكونية؛ لأنه لم يفعل ذلك إلا بما أراده الله ، لا يكون في ملك الله ما لا يُريده سبحانه.
أما سؤالهم: كيف يُريد منه ذلك ويُعذِّبه؟
فيُقال: إنَّ ربك حكيم عليم، أراد هذا الأمر كونًا وعذَّب عليه لأسبابٍ اقتضتها حكمتُه من كونه علم منه أنه لا يقبل الخيرَ، وأنه يُريد الشرَّ، ولأعماله التي سار عليها ومشى عليها، وقد أُعطي العقل والإرادة والمشيئة، فاختار هذا دون هذا، فهو عُذِّب بما اختاره من الشرِّ، وبما فعله من الشرِّ.
والمجبرة يقولون: إنه كالريشة في الهواء، يتصرف فيه كيف يشاء ، ليس له فعل، ولا اختيار.
وآخرون يقولون: له فعل واختيار، ولكنه تابع لاختيار الله، كما هو قول أهل السّنة.
ويقولون أيضًا: لا تُعلل الأحكام، وهذا غلط، بل تُعلل كما قال: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139]، وذكر عللًا أخرى في كتابه العظيم .
الطالب: بالفاء، وهم بطن من قيس ....... كما في "الأنساب" للسَّمعاني.
الشيخ: فهر من قريش، قرشيات.
الطالب: قال: ضعيف.
الشيخ: هذا ضعيف؛ لأنَّ بقية بن الوليد الحمصي معروف بتدليس التَّسوية، فإذا لم يُصرح بالسماع فروايته ضعيفة، وهنا عنعن الأوزاعي، وفي متنه نكارة، فإنَّ عضَّ الأنف ودقّ الرقبة ليس من القتل الشرعي، القتل الشرعي أن يُقتل بالسيف كما هو معروف، أو بما هو أسرع إراحةً، أما عض الأنف ودقّ الرقبة وإن كان قد يُحمل على قصد التَّشديد وليس الفعل، لكن هذا من نكارة المتن.
الطالب: قال: وعلَّته العلاء بن الحجاج؛ فإنه في عداد المجهولين، ولم يُوثقه أحدٌ، حتى ولا ابن حبان، بل ضعَّفه الأزدي كما قال الذهبي، وتضعيفه وإن كان مغموزًا فيه فهو مُعتبر ههنا؛ لأنه لم يُخالف بذلك توثيق أحدٍ؛ ولذلك فإن تحسين الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى لمثل هذا الإسناد من تساهله الذي عُرف به عند أهل العلم بهذا الشأن، وقد أخرجه ابنُ أبي عاصم في "السنة".
الشيخ: يُعلق عليه ويُضعف أيضًا من جهة عنعنة بقية.
الطالب: تكلم عليه أحمد شاكر، قال رحمه الله تعالى: هذا الحديث نقله المؤلفُ من كتاب اللالكائي، من رواية بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، ولعلَّ زاعمًا يزعم تعليله بأنَّ بقية مُدلس، وليس أمامنا إسناد اللالكائي حتى نعرف: أصرح بقيةُ بن الوليد بالتَّحديث أم لم يُصرح؟ ولكنها علَّة ذاهبة؛ فلم ينفرد بقية بروايته عن الأوزاعي، فقد رواه الإمام أحمد مرتين في "المسند" (355)، (3056) فقال في أولاهما: حدَّثنا أبو المغيرة: حدَّثنا الأوزاعي.
الشيخ: زال المحذور.
الطالب: عن بعض إخوانه، عن محمد بن عبيدٍ المكي.
الشيخ: هذه علَّة ثانية، العلة الثانية: عن بعض إخوانه.
الطالب: عن عبدالله بن عباس .. إلخ.
وقال في الأخرى: حدَّثنا أبو المغيرة: حدَّثنا الأوزاعي: حدَّثني الْعَلَاءُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ المكي، عن ابن عباسٍ، بهذا الحديث.
الشيخ: بقيت العلَّة الوحيدة؛ علة العلاء بن الحجاج، دارت المسألةُ على العلاء بن الحجاج.
الطالب: فالإسناد الأول أبهم فيه شيخ الأوزاعي، ثم بيَّن في الثاني أنه العلاء بن الحجاج، وقد فصلنا القولَ فيه في شرحنا للمسند، وقلنا: إنَّ إسناده حسن على الأقل.
ووقع في إسناده هنا ومتنه غلط كثير، صححنا ما استطعنا من رواية "المسند"، فكان هنا محمد بن عبد الملك، بدل: محمد بن عبيد المكي. وكان "وهو يومئذٍ أعمى"، وكتب "لئن" في الموضعين: "لأن"!
وكان أيضًا: "كأني بنساء بني فهم يطفن بالخروج، تصطل إلياتهن"! وهو كلام لا معنى له.
وكان "لتنتهي" بدل "لينتهين".
ثم وجدتُ الإسنادَ الذي فيه بقية: فرواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" (ص238) عن الفريابي، عن أبي حفص عمر بن عثمان الحمصي قال: حدَّثنا بقية بن الوليد قال: حدَّثنا أبو عمرو –يعني: الأوزاعي- إلى آخره بهذا الإسناد، ولكن مع شيءٍ من الاختصار.
الشيخ: والخلاصة أنَّ مداره على العلاء بن الحجاج، وذكر الشيخ ناصر والذهبي بأنه مجهول لا يُعرف حاله، ولم يُوثقه أحدٌ، فيكون الأثر ضعيفًا من هذه الحيثية؛ من جهة العلاء بن الحجاج، وفي متنه نكارة كما تقدم، وبكل حالٍ ما له حاجة، الأدلة في القدر واضحة، ليس هناك حاجة إليه.
س: القدرية مجوس هذه الأمة؟
ج: جاء في عدة أحاديث، ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية وغيره أنها بمجموعها يشدّ بعضها بعضًا؛ لأنهم أنكروا بعضَ أفعال الله، والمجوس قالوا بالإلهين؛ ولهذا شابهوا المجوس.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفِينَةٍ، وَصَحِبَنَا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ الْقَدَرِيُّ: أسلم، قال المجوسي: حتى يُريد الله، فقال القدري: إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ! قَالَ الْمَجُوسِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ وَأَرَادَ الشَّيْطَانُ، فَكَانَ مَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ! هَذَا شَيْطَانٌ قَوِيٌّ!
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا!
الشيخ: فتح له باب الشرِّ، نسأل الله العافية.
الشيخ: إذا كانت المشيئةُ النافذة لا تنفع، وهذا عامي غلب هذا المتعلم، والمقصود أنَّ مشيئته نافذة ، وإرادته الكونية نافذة، ولكنه سبحانه قد يبتلي بعضَ الناس ويمتحنهم بما يشاء من أمراضٍ ومصائب وكفر، إلى غير ذلك، وهو سبحانه له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، فلا يلزم من كونه أراد كذا وأراد كذا أن يكون لا حكمةَ له، قد يخفى على العباد، حسبهم أن يُطيعوا الأوامر ويمتثلوها، وينتهوا عن النَّواهي، وأن يقفوا عند حدِّهم؛ لأنَّ حكمة الله جلَّ وعلا فوق ذلك ، فوق معلوماتهم، وفوق نظرهم وتعليلهم وما يدعونه من حكمةٍ.
فالواجب مثلما قال أهلُ السنة: الواجب التَّسليم لله، والإيمان بما سبق به علمه، وعدم التَّفتيش والنَّظر في الحِكَم؛ فإنَّ الحكم تخفى عليهم كثيرًا، ولا يعلمون منها إلا ما أطلعهم الله ؛ ولهذا لما بلغ ابن عمر عن ناسٍ يُنكرون القدر، وأخبره بذلك يحيى بن معمر ومَن معه، قال: "أخبروهم أني بريء منهم، وهم بُرآء مني، والله لو كان لأحدهم مثل أحدٍ ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يُؤمن بالقدر"، ثم ذكر حديثَ عمر في سؤال جبرائيل.
الشيخ: حُجَّة أهل السنة قائمة.
الطالب: حاشية: دخل عبدُ الجبار الهمداني -أحد شيوخ المعتزلة- على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني -أحد أئمة السنة- فلما رأى الأستاذ قال: سبحان مَن تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فورًا: سبحان مَن لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربُّنا أن يُعصى؟ قال الأستاذ: أيُعْصَى ربنا قهرًا؟! فقال القاضي: أرأيتَ إن منعني الهدى، وقضى عليَّ بالردى، أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته مَن يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار.
وفي "تاريخ الطبري" انظر تعليق أحمد شاكر في "المسند" ......: أن غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليُناقشه: أشاء الله أن يُعصى؟ فقال له ميمون: أفعُصي كارهًا؟!
...........
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].
وَمَنْشَأُ الضَّلَالِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَتِ الْجَبْرِيَّةُ: الْكَوْنُ كُلُّهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مَرْضِيًّا. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: لَيْسَتِ الْمَعَاصِي مَحْبُوبَةً لِلَّهِ، وَلَا مَرْضِيَّةً لَهُ، فَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً، وَلَا مَقْضِيَّةً، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ.
الشيخ: كلهم قد ضلوا عن السَّبيل: الجهمية والمعتزلة، الجهمية المجبرة، والقدرية النُّفاة، كلهم ضلُّوا عن السَّبيل، ووفَّق اللهُ أهلَ السنة والجماعة للحقِّ والهدى، فالمعاصي والكفر قد شاءها المولى جلَّ وعلا لحكمةٍ بالغةٍ، مع أنه لا يرضاها ، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقال: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فهو سبحانه يرضى العمل الصالح ويُحبه، ولا يرضى الكفر والمعاصي، ولا يُحب ذلك، ولكنه قضى ما قضى، وقدَّر ما قدَّر لحكمةٍ بالغةٍ حميدة يعلمها هو ، وإن كنا لا نعلم الكثيرَ منها.
س: هل نضرب لهم مثلًا -ولله المثل الأعلى: أنَّ الرجل المريض قد يشاء الدَّواء وهو لا يُحبه؛ لأنه يُؤلمه، ولكن يشاءه لأنَّ فيه شفاءه، فالله حكيم عليم يُوقع هذه المعاصي والكفر لحكمةٍ يعلمها سبحانه، وإن كان لا يرضاها شرعًا، هل يكون هذا المثل واردًا؟
ج: لا أراه؛ لأنَّ المريض يضطر إلى هذا الشيء؛ ولهذا يفعله وهو لا يرضاه، وأما الله فإنه يفعله عن اختيارٍ، لا عن اضطرارٍ له وكراهةٍ له، وإنما يكرهها لحكمةٍ أخرى؛ وهو سبحانه قادر على كل شيءٍ، أما المريض قد يضطر، فهذا يُخالف هذا.
س: ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟
ج: الإرادة إرادتان: شرعية وقدرية، فالإرادة الشرعية تُوافق الأمر والرضى والمحبَّة، مثل قوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء:26]، وقال جلَّ وعلا: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، هذه إرادة شرعية بمعنى الأمر، وبمعنى الرضا.
والإرادة الكونية بمعنى المشيئة، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، هذه معناها المشيئة، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]، هذه الإرادة الكونية وأشباهها كثير، غالب الإرادات في القرآن كونية.
وبعضهم جعل المشيئةَ قسمين مثل الإرادة، وبعضهم اقتصر بهذا على الإرادة فقط، أما المشيئة فلا تكون إلا كونية: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولكن لو ورد الاثنان أحيانًا بمعنى الإرادة الشرعية فلا مانع، الإرادة الشرعية والمشيئة الشرعية معناهما واحد، فإنه يقال: إنه سبحانه شاء شرعًا، وأراد شرعًا من العباد أن يعبدوه، وأن يُطيعوه، ولكنه أراد وشاء كونًا من الكافر أن يكفر، ومن العاصي أن يعصي؛ لحكمةٍ بالغةٍ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْفِطْرَةُ الصَّحِيحَةُ:
أَمَّا نُصُوصُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْكِتَابِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا، وَأَمَّا نُصُوصُ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا فَقَالَ تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وَقَالَ تَعَالَى عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْكِبْرِ: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].
الشيخ: الله كما أنه له المشيئة النافذة والإرادة النافذة فله أيضًا وصف المحبَّة كما يليق به، وله أيضًا وصف الرضا كما يليق به، ووصف الكراهة والسّخط كما يليق به، فله إرادة نافذة كاملة، ومشيئة نافذة كاملة، لا رادَّ لها، ولا مُعقب لها، وهو سبحانه يُحب ويرضى، ويكره ويسخط، وكل ذلك يليق به سبحانه، لا يُشابه خلقه في شيءٍ من ذلك، كما أنه لا شبيهَ له في ذاته وإرادته ومشيئته وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وحياته، فكذلك لا شبيهَ له في غضبه ورضاه، ومحبته وكراهته، وضحكه، ويده وقدمه وأصابعه واستوائه وغير ذلك، الباب واحد، بابها عند أهل السنة باب واحد، كله يجب فيه الإثبات، كما جاء في النصوص، وإمرار الصِّفات كما جاءت مع الإيمان بها وإثباتها، واعتقاد أنها حقٌّ، وتنزيه الرب عن مُشابهة الخلق.
فأهل السنة والجماعة يُثبتون أسماء الرب وصفاته إثباتًا بريئًا من التَّنزيه، ويُنزهون الله عن مُشابهة خلقه بذاته أو صفاته تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل، فلا تمثيلَ ولا تعطيلَ عند أهل السنة والجماعة، بخلاف أهل البدع؛ فإنهم بين ممثلٍ وبين مُعطِّلٍ، إما تعطيلًا كاملًا: كالجهمية والمعتزلة؛ فإنهم عطَّلوا كل الصِّفات، أو تعطيلًا جزئيًّا كما يقع للأشعرية وجماعةٍ. والمشبِّهة مثَّلوا الله بخلقه، وشبَّهوه بخلقه، فخسر الجميعُ، وضلَّ الجميعُ عن سواء السبيل، ووفَّق اللهُ أهلَ السنة وثبَّتهم على الحقِّ؛ فأثبتوا لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصَّحيحة، سواء كانت آحادًا أو مُتواترةً، أثبتوها لله، إذا استقام الإسنادُ وصحَّ الإسنادُ أثبتوا ما دلَّ عليه الخبر لله في جميع أنواع الصِّفات الذاتية والفعلية، كلها يُثبتونها لله على الوجه اللائق به، إثباتًا بريئًا من التَّحريف والتَّعطيل والتَّكييف والتَّمثيل، هذا هو الواجب على كل مسلمٍ، وهذا هو القول الحقّ الذي لا حقَّ سواه، وما سواه باطل، ومَن خالف هذا الأصل وهذا الأساس وهذا الطريق وهذا السَّبيل تناقض، أو خالف النصوص مخالفةً ظاهرةً علنيةً، فالجهمية عطَّلوا وهلكوا، والمشبِّهة مثَّلوا وهلكوا، وأهل السنة والجماعة أثبتوا لله ما جاءت به النصوص، فلم يُشبِّهوا الله بخلقه، ولم يُعطِّلوا صفاته، ففازوا ونجوا، وصاروا أحقَّ الناس بالرسل عليهم الصَّلاة والسلام، وأولاهم باتِّباعهم، والسير على منهاجهم، جعلنا الله وإياكم منهم.
الشيخ: وهذا الحديث ورد بلفظين: كره لكم و سخط لكم، و يكره لكم و يسخط لكم، وكل ذلك حقٌّ، فهو يسخط ما يُخالف شرعه، ويكره ذلك، كما أنه يُحب ويرضى ما يُوافق شرعه ، لكن محبَّته ورضاه وكراهته وسخطه تليق به ، لا تُشبه صفات المخلوقين.
وَفِي "الْمُسْنَدِ": إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ ﷺ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ برضاك من سخطك، وأعوذ بمُعافاتك من عُقوبتك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ.
فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ، وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فعل العقوبة، فالأول الصِّفة، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ من رِضَاكَ وَمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أن تغضب عليه وتُعاقبه، فإعاذتي مِمَّا أَكْرَهُ وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هِيَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ.
الشيخ: وهذا معنى: أعوذ بك منك أعوذ بك لأنه المجير والعاصم والحافظ منك؛ لأنَّ كل شيءٍ بمشيئته وإرادته ، فالمؤمن يستجير بالله، ويعوذ به منه، يعني: يعوذ بصفات الرِّضا وصفات المحبَّة وصفات العفو وصفات الجود والكرم من صفات الغضب والانتقام والعذاب، ونحو ذلك.
فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ، وَعِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَيْءٍ صَادِرٍ عَنْ غَيْرِ مَشِيئَتِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ، فَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ عُبُودِيَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ أَمْرًا وَلَا يَرْضَاهُ ولا يُحبه؟ وكيف يشاءه ويُكونه؟ وكيف تجتمع إِرَادَتُهُ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ؟
قِيلَ: هَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي افْتَرَقَ النَّاسُ لِأَجْلِهِ فِرَقًا، وَتَبَايَنَتْ طُرُقُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ، وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ.
فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ.
وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لِمَا يُرِيدُ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ وَذَاتُهُ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ قَضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُرَادِهِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ: بُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَلَا يَتَنَافَيَانِ؛ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِمَا. وَهَذَا كَالدَّوَاءِ الْكَرِيهِ إِذَا عَلِمَ الْمُتَنَاوِلُ لَهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَكَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عاقبته، فكيف بمَن لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
الشيخ: وهذا تمثيل تقريبٍ؛ لأنَّ هذا يقرب للعقلاء، فإن الشيء قد يُراد لغيره لا لذاته: كقطع العضو المتآكل، والدواء المكروه لما يُرجى من ورائه ظنًّا أو علمًا من المصلحة، فهو مراد غير مراد، مراد من جهة ما يُرجى من ورائه، غير مراد ولا محبوب لما فيه من الكراهة والأذى، وهذا في حقِّ المخلوق الضَّعيف القليل العلم، فكيف بالرب الذي يعلم كل شيءٍ، ولا يخفى عليه خافية .
فهو سبحانه قد يُريد أشياء مكروهة له ، لكن لها عواقب، ولها غايات يُحبها ويرضاها؛ ولهذا أرادها من زيدٍ وعمرو، وإن كانت مكروهةً في نفسها، لكن هناك ما توصل إليه من الغايات المحمودة: من انتقام ممن خالف أمره وعصاه وارتكب نهيه، وآذى عباده، وغير هذا من الغايات التي يعلمها ، فقد يُصيب الإنسان ويُقدر على الإنسان مرضًا وأذًى من بعض الخلق، وإن كان مكروهًا له ذلك الشيء من فاعل ذلك الأذى، وإن كان المرضُ في نفسه ليس مطلوبًا ومقصودًا، لكن وراءه أشياء من صبر المبتلى ورضاه واحتسابه، وقيامه بما شرع الله له؛ فيكون وراء ذلك خير عظيم، وفوائد جمَّة من هذا المصاب، وفيها ما يُرضي الله ويُقرب إليه ، وهكذا ما يُصيب الإنسان من أذًى من بعض الناس، أو سجن، أو قتل، أو غير ذلك، فهو مقدر، وللذي أصابه ذلك إن كان على الحقِّ والهدى من الخير والفلاح والفائدة العظيمة والعواقب الحميدة ما لا يُحصيه إلا الله .
س: يقولون: إنه يلزم من نزول الله أن يخلو منه المكان؛ لأنَّ النزول يكون من أعلى إلى أسفل؟
ج: النزول في لغة العرب يكون من أعلى إلى أسفل؛ ولهذا استدل العلماءُ بقوله سبحانه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:193]، وما أشبهه على أن القرآن كلامه ، وعلى علوه ، فربنا ينزل كل ليلةٍ نزولًا يليق بالله، لا يُشابه خلقه في ذلك، فالنزول على قاعدته وعلى بابه، لكن ربنا لا يُشابه خلقَه حتى يقال: إنَّ هذا من جنس المخلوقين، وأنه متى نزل عن العرش خلا ذلك المكان، كما أن الشخص إذا نزل من السطح إلى الأرض صارت الأرضُ تحت السطح. هذا شيء يليق بالمخلوقين، أما ربنا فله صفات تليق به، لا يعلم كيفيتها إلا هو، وإلا فهو ينزل كما قال وكما يشاء ، ولا نعلم كيفية هذا النزول، بل نكلها إليه ؛ لأنه أخبرنا بالنزول، ولكن لم يُخبرنا بالكيفية، كما أخبرنا بالاستواء، ولم يُخبرنا بالكيفية كيف استوى؟ وأخبرنا أنه يسمع ولم يُخبرنا كيف يسمع؟ وهكذا يُبصر، وهكذا كيف يتكلم؟ إلى غير ذلك.
فعلينا أن نمسك عمَّا أمسك الله عنه، وعلينا أن ننطق بما نطق الله به، وبهذه الصِّفات العظيمة الخطيرة التي ضلَّ فيها أمم، وهلك فيها فرق، فطريق السلامة أن نقف حيث وقف الله ورسوله، وأن ننطق حيث نطق الله ورسوله، وبذلك تحصل السلامة مع إثبات الحقِّ.
فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ الشَّيْءَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وكونه سببًا إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهِ.
مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ خَلَقَ إِبْلِيسَ الَّذِي هُوَ مَادَّةٌ لِفَسَادِ الْأَدْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِشَقَاوَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ، وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ خِلَافِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلرَّبِّ تَعَالَى تَرَتَّبَتْ عَلَى خَلْقِهِ، وَوُجُودُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِهَا.
مِنْهَا: أَنَّهُ يَظْهَرُ لِلْعِبَادِ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ، فَخَلَقَ هَذِهِ الذَّاتَ الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا، وَهِيَ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، فِي مُقَابَلَةِ ذات جبرائيل الَّتِي هِيَ مِنْ أَشْرَفِ الذَّوَاتِ وَأَطْهَرِهَا وَأَزْكَاهَا، وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ، فَتَبَارَكَ خَالِقُ هَذَا وَهَذَا.
كَمَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ والنَّهار، والدَّواء والدَّاء، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَذَلِكَ من أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ، وَقَابَلَ بَعْضَهَا ببعضٍ، وجعلها مجال تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَخُلُوُّ الْوُجُودِ عَنْ بَعْضِهَا بِالْكُلِّيَّةِ تَعْطِيلٌ لِحِكْمَتِهِ وَكَمَالِ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ، مِثْلِ: الْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، والعدل، والضَّار، والشَّديد العقاب، والسَّريع العقاب، وَذِي الْبَطْشِ الشَّدِيدِ، وَالْخَافِضِ، وَالْمُذِلِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَمَالٌ، لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا، وَلَوْ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسَتْرِهِ وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ آثَارِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِر لَهُمْ.
الشيخ: والمقصود من هذا كله أن يُبين قُدرته العظيمة، لو كان الناس شيئًا واحدًا وصفةً واحدةً وطبيعةً واحدةً لم تظهر آثارُ قُدرته وتصرفه، وقُدرته على تنويع الأشياء، وتقسيم الأشياء، وإيجاد المضاد، إلى غير ذلك، لو كان الناسُ طبيعةً واحدةً وحالًا واحدةً لم تظهر قُدرته على التَّصرف في أحوال عباده، فلما جعل هذا عاصيًا، وهذا مُطيعًا، وهذا حسنًا، وهذا قبيحًا، وهذا سريع الغضب، وهذا بطيء الغضب، وهذا أسود، وهذا أبيض، وهذا كذا، وهذا كذا؛ صار ذلك أوضح شيءٍ على قُدرته العظيمة، وعلمه الكامل، وإرادته النافذة، وأنه على كل شيءٍ قدير، وبكل شيء عليم .
وَمِنْهَا: ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُنْزِلُهُ في غَيْر مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَخِبْرَتِهِ، فَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِقَبُولِهَا وَيَشْكُرُهُ عَلَى انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ، وَأَعْلَمُ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَلَوْ قُدِّرَ عدم الأسباب المكروهة له لَتَعَطَّلَتْ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَلَفَاتَتْ مَصَالِحُ عَدِيدَةٌ.
وَلَوْ عُطِّلَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ، لَتَعَطَّلَ الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الشَّرِّ الَّذِي فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ الَّتِي فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الشَّرِّ.
وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ، فَإِنَّ عُبُودِيَّةَ الْجِهَادِ مِنْ أَحَبِّ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ وَتَوَابِعُهَا مِنَ الْمُوَالَاةِ لِلَّهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَعُبُودِيَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعُبُودِيَّةُ الصَّبْرِ وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَإِيثَارِ مَحَابِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعُبُودِيَّةُ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَيَعْصِمَهُ مِنْ كَيْدِهِ وَأَذَاهُ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُ تِلْكَ الْحِكَمِ بِدُونِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؟
فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، وَهُوَ فَرْضُ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ، كَفَرْضِ وُجُودِ الِابْنِ بِدُونِ الْأَبِ، وَالْحَرَكَةِ بِدُونِ الْمُتَحَرِّكِ، وَالتَّوْبَةِ بِدُونِ التَّائِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ مَرْضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ من جميع الوجوه؟
قيل: هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَلْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهَا مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا لِذَاتِهَا؟
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَسُوغُ لَهُ الرِّضَا بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَهَذَا سُؤَالٌ لَهُ شَأْنٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ، أَعْنِي: عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وَجُودَهَا خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ بِهِ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ. وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ خَيْرٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ.
وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبِيَّةٌ إِضَافِيَّةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الموضوعة في محلِّها خَيْرًا فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحِلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ؛ لِمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ، مُسْتَعِدَّةً لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، حَيْثُ وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا، هَذَا مِنْ أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير كله، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَتَأَمَّلْهُ، فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا.
الشيخ: وهذا مقام عظيم بحثه ابنُ القيم رحمه الله في كتابه "شفاء العليل"، وفي غيره.
والخلاصة: أنَّ ما يقع من الشُّرور والمعاصي وما يعدّه العبدُ شرًّا فهو نسبي، أما بالنسبة إلى الله فهو خيرٌ، فإنه إنما قدَّر العقوبات وقدَّر المعاصي لحِكَمٍ بالغةٍ؛ ابتلاءً وامتحانًا ليتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والمجتهد في طلب الحقِّ من غيره، فهي بالنسبة إليه خير؛ حيث قضى ما قضى، وقدَّر ما قدَّر من المعاصي والسَّيئات والكفر، ونحو ذلك بالنسبة إليه خير؛ لأنه حكيم عليم بما يقضي ويُقدر ، أما بالنسبة للمخلوق وما حصل له بسببها من الشَّقاء فهي شرٌّ بالنسبة إليه؛ لكونه عصى ربَّه وخالف أمره، فهي شرٌّ بالنسبة إليه، وخير بالنسبة إلى الله ؛ لكونه قضاها وقدَّرها لحكمةٍ بالغةٍ ، فانقطع عنها الخير بفعل العبد لها، ولم ينقطع عنها الخير بالنسبة لحكمة الله وإرادته .
فالشر ليس إليه، لا يُتقرب به إليه، ولا يُضاف إليه؛ ولهذا قال لما ذكر عن الجنِّ المؤمنين: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، فنسبوا الرشد إليه، ولم ينسبوا الشرَّ إليه من أدبهم وفقههم؛ لما فيه من الإجمال، وإن كان خالقه، هو خالق الشرِّ وخالق الخير ؛ خلق المعصية، وخلق الكفر، وخلق الإيمان من العبد، الله خلق العبدَ وأفعالَه من خيرٍ وشرٍّ، وإيمانٍ وكفرٍ، ولكنه علَّمه الإيمانَ، وخلق فيه ما خلق من أعمال الإيمان، وهو يُحب ذلك ويرضاه، وعلَّمه الشرَّ ونهاه عنه، وكره منه ما فعله من ذلك الشرِّ، وله الحكمة البالغة والحُجَّة الدامغة في تقديره وإيجاده ذلك.
وقول بعض العلماء: إنَّ القدر سرُّ الله في خلقه. يعني: الحِكَم والأسرار، لا يعلم غالبَ الأسرار وغالب الحِكَم إلا هو ، والتَّعمق في ذلك كرهه أهلُ العلم؛ لأنَّ التَّعمق قد يُفضي إلى الشكِّ والريب وسُوء الظن، يكفي العبد أن يقول: إنَّ الله حكيم عليم، وأنه قضى ما قدَّر، وقدَّر ما شاء لحكمةٍ بالغةٍ، قد تظهر للعباد، وقد لا تظهر.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟
قِيلَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، فَإِنَّ وُجُودَهُ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، والشرُّ الذي فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ.
فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ إِيضَاحٍ لِذَلِكَ: فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ.
فَإِيجَادُ هَذَا خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِعْدَادُهُ وَإِمْدَادُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ إِعْدَادٌ وَلَا إِمْدَادٌ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ؟
قِيلَ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ، فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟
فَهَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ! وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الَّذِي بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ لِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ.
فَإِنِ اعْتَاصَ عَلَيْكَ هَذَا، وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ | وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ |
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْضَى لِعَبْدِهِ شَيْئًا وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ؟
قِيلَ: لِأَنَّ إِعَانَتَهُ عَلَيْهِ قَدْ تَسْتَلْزِمُ فَوَاتَ مَحْبُوبٍ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الطَّاعَةِ الَّتِي رَضِيَهَا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ وُقُوعُ تِلْكَ الطَّاعَةِ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً هِيَ أَكْرَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَتَيْنِ [التوبة:46]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ إِلَى الغزو مع رسوله، وهو طاعة، فَلَمَّا كَرِهَهُ مِنْهُمْ ثَبَّطَهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْضَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى خُرُوجِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ فَقَالَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا أَيْ: فَسَادًا وَشَرًّا، وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ أَيْ: سَعَوْا بَيْنَكُمْ بِالْفَسَادِ وَالشَّرِّ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47] أي: قَابِلُونَ مِنْهُمْ، مُسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ هَؤُلَاءِ وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ مِنَ الشَّرِّ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ خُرُوجِهِمْ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ أَقْعَدَهُمْ عَنْهُ. فَاجْعَلْ هَذَا الْمِثَالَ أَصْلًا، وَقِسْ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ: فَهُوَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، بَلْ وَاقِعٌ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْخَطُ الْفُسُوقَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَكْرَهُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَاقِعَةٌ بِكَسْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَيَرْضَى بِعِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ، فَيَرْضَى بِمَا مِنَ اللَّهِ، وَيَسْخَطُ مَا هُوَ مِنْهُ، فَهَذَا مَسْلَكُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَرِهَتْهَا مُطْلَقًا.
الشيخ: والصواب الأول: أنَّ ما كان من جهة الله فهو محمودٌ؛ لأنَّ له الحكمة البالغة ، فهو محمود على ما شرع، وعلى ما قضى وقدَّر؛ لعظيم حكمته، وكمال علمه ونظره لعباده، أما ما يتعلق بفعل العبد لها ووقوعها منه فهو مكروه مسخوط؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا لا يرضى منه ذلك، بل نهاه عن ذلك، فهي من حيث وقوعها من العبد مكروهة مسخوطة، ومن حيث أنَّ الله قدَّرها وسبق بها علمه محمودة؛ لما لله فيها من الحِكَم والأسرار، والتَّمييز بين العباد وبين صالحهم وطالحهم، ومُحسنهم ومُسيئهم، والراغب في الخير من غيره، والصادق من الكاذب، وظهور آثار أسماء الله من: العفو، والتواب، والغفور، والرحيم، وغير هذا.
وَقَوْلُهُمْ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُمُ الْكَرَاهَةَ لَا يُرِيدُونَ بِهِ شُمُولَهُ لِعِلْمِ الرَّبِّ وَكِتَابَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالَّذِي إِلَى الْعَبْدِ مَكْرُوهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا.
قِيلَ: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمُقَامِ الضَّيِّقِ، وَالْقَدَرِيُّ الْمُنْكرُ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
الشيخ: والجبري ما يرى للعبد فعلًا ولا اختيارًا، ويراه كالريشة يقلبها الهواء، وكاليد المرتعشة، وقولهم من أفسد الأقوال وأضلها، فسلبوا العبدَ قُدرته واختياره، وما جعلوا له قدرةً ولا اختيارًا، وهذا باطل، والواقع شاهد ببطلان قولهم.
والقدرية النُّفاة نفوا خلق الله لأفعالهم، وقالوا: إنَّ العبد يستقل، وأن الأمر أنف. وهذا باطل أيضًا.
وأهل السنة والجماعة وفقوا للتوسط؛ فآمنوا بأنَّ الله سبق علمه وتقديره وكتابته، والعبد له فعل، وله اختيار، ولكن لا يشاء إلا أن يشاء الله، فهو ملوم من جهة اختياره وفعله؛ لما فعل من الشر: وهو الزاني، وهو السارق، وهو العاصي، وهو الكافر، وهو قد مضى فيه علم الله، وسبق فيه علم الله ، فلله الحكمة البالغة، والحجَّة الدامغة فيما شاء وقدر .
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَأَتَّى النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ مَعَ شُهُودِ الْحِكْمَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَمَعَ شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ النَّافِذَةِ؟
قِيلَ: هَذَا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ مَنْ عَمِيَتْ بصيرتُه في شهود الأمر على غير مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَرَأَى تِلْكَ الْأَفْعَالَ طَاعَاتٍ؛ لِمُوَافَقَتِهِ فِيهَا الْمَشِيئَةَ وَالْقَدَرَ، وَقَالَ: إِنْ عَصَيْتُ أمره فقد أطعتُ إرادته!
وفي ذلك قيل:
أصبحت مُنفعلًا لما يختاره | مِنِّي، فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتُ |
الشيخ: هذا قول القدرية المرجئة، وهو قول أهل وحدة الوجود، وهذا من أبطل الباطل، فإنَّ القدر نافذ، وليس للعبد فيه حُجَّة، وهو مأمور ومنهي ومسؤول عن اختياره ومشيئته.
وَهَؤُلَاءِ أَعْمَى الْخَلْقِ بَصَائِرَ، وَأَجْهَلُهُمْ بِاللَّهِ وَأَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ هِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ، لَا مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ، وَلَوْ كَانَ مُوَافَقَةُ الْقَدَرِ طَاعَةً لَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُطِيعِينَ لَهُ، وَلَكَانَ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ -كُلُّهُمْ مُطِيعِينَ! وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ.
لَكِنْ إِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ عَجْزَ نَفْسِهِ، وَنُفُوذَ الْأَقْدَارِ فِيهِ، وَكَمَالَ فَقْرِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ عِصْمَتِهِ وَحِفْظِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ -كَانَ بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا بِنَفْسِهِ، فَوُقُوعُ الذَّنْبِ مِنْهُ لَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ ألبتة، فإنَّ عليه حصنًا حصينًا: "فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي»، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الحالة، فَإِذَا حُجِبَ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ وَبَقِيَ بِنَفْسِهِ؛ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُكْمُ النَّفْسِ، فَهُنَالِكَ نُصِبَتْ عَلَيْهِ الشِّباك والأشراك، وأُرسلت عليه الصَّيادون، فإذا انتفى عَنْهُ ضَبَابُ ذَلِكَ الْوُجُودِ الطَّبْعِيِّ، فَهُنَالِكَ يَحْضُرُهُ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ مَحْجُوبًا بِنَفْسِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا فَارَقَ ذَلِكَ الْوُجُودَ صَارَ فِي وُجُودٍ آخَرَ، فَبَقِيَ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ.
الشيخ: "وأُرسلت عليه الصَّيادون" أُرسل أحسن؛ لأنه جمع مذكر سالم، ومعنى الكلام الأخير: أن العبد إذا استحضر عظمةَ الله، واستقام على أمره، وحافظ على دينه؛ فإنه حينئذٍ يكون في حفظ الله وكلاءته، كما في الحديث: فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي يعني: حين استحضاره عظمة الله، وحين قيامه بأمر الله، وحين ضمّه النَّوافل إلى الفرائض عن رغبةٍ ورهبةٍ، وعن استحضارٍ وشهود عيانٍ، فإنه بهذا لا تقع منه المعصية؛ لأنَّ ما في قلبه حينئذٍ من خوف الله وتعظيمه والإقبال عليه وجمعه عليه يمنع من ذلك، فإذا غفل ومال إلى شهواته وجاء حجابُ الغفلة وحجابُ الإعراض قد تقع منه حينئذٍ المعصية، وقد ينال منه عدوه بسبب الغفلة.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ، فَكَيْفَ نُنْكِرُهُ وَنَكْرَهُهُ؟!
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: نَحْنُ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ وَيُقَدِّرُهُ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، بَلْ مِنَ الْمَقْضِيِّ مَا يُرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا يُسْخَطُ وَيُمْقَتُ، كَمَا لَا يَرْضَى بِهِ الْقَاضِي لِأَقْضِيَتِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ مِنَ الْقَضَاءِ مَا يُسْخَطُ، كَمَا أَنَّ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَقْضِيَّةِ مَا يُغْضَبُ عَلَيْهِ وَيُمْقَتُ وَيُلْعَنُ وَيُذَمُّ.
وَيُقَالُ ثَانِيًا: هُنَا أَمْرَانِ: قَضَاءُ اللَّهِ؛ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَقْضِيٌّ؛ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ. فَالْقَضَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ وَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، نَرْضَى بِهِ كُلِّهِ، وَالْمَقْضِيُّ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا يُرْضَى بِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُرْضَى بِهِ.
وَيُقَالُ ثَالِثًا: الْقَضَاءُ لَهُ وجهان:
أحدهما: تعلُّقه بالرب تعالى، فمن هذا الوجه ونسبته إليه يُرْضَى بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُرْضَى بِهِ، وَإِلَى مَا لَا يُرْضَى بِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: قَتْلُ النَّفْسِ لَهُ اعْتِبَارَانِ: فَمِنْ حَيْثُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ وَشَاءَهُ وَجَعَلَهُ أَجَلًا لِلْمَقْتُولِ وَنِهَايَةً لِعُمُرِهِ -يُرْضَى بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ صَدَرَ مِنَ الْقَاتِلِ وَبَاشَرَهُ وَكَسَبَهُ وَأَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَعَصَى اللَّهَ بِفِعْلِهِ -نَسْخَطُهُ وَلَا نَرْضَى بِهِ.
الشيخ: والوجه الثاني مع الثالث مُتقاربان في المعنى، والخلاصة: أنَّ على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، كما أنَّ عليه أن يصبر، فالسنة للمؤمن أن يرضى، والصواب عند العلماء أنَّ الرضا سنة ومُستحب، والصبر واجب على المقضيَّات والمكروهات، الصبر عليها واجب، والرضا بها مُستحب، كما في حديث أنسٍ: إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السّخط، وإسناده مُقارب، وقوله جلَّ وعلا: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51].
وفي الحديث الصحيح: فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل يعني: سلّم لأمر الله وقل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155- 156] يعني: سلّموا لله ولم يعترضوا.
وكما جاء في الأحاديث: أنا بريء من الصَّالقة والحالقة .. إلى آخره، ليس منا مَن ضرب الخدود .. إلى آخره.
فالمقصود أنَّ الصبر واجب على ما يقضيه الله ويُقدره من أمورٍ يكرهها الإنسانُ: كموت قريبٍ، والمرض، والفقر، والجراحات التي تُؤذيه، وما أشبه ذلك، لكن لها وجهان:
من حيث أنها فعل الله وقضاؤه يرضى بها؛ لأنه ذو الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، فهو قضى هذه الأشياء وقدَّرها لحكمةٍ بالغةٍ يرضى بها المؤمن، ويُقرُّ بها، ويعلم أنها عدل وحكمة، وأنَّ الله يُثني عليه بها، ويمدح بها؛ لكونه الحكيم العليم جلَّ وعلا.
ومن حيث أنها تصدر من المخلوق على وجهٍ لا يرضاه، تُكره من هذه الحيثية، تُكره المعاصي والشُّرور والكفر، وأنواع الضَّلال تُكره وتُسخط من هذه الحيثية؛ من حيث صدورها من المخلوق، وكونه عصى الله جلَّ وعلا بها، فهي مكروهة من المخلوق بالمفعولات، ولكنَّها مرضية بالنسبة إلى الفعل، فهنا فاعل وفعل ومفعول، فالفاعل هو الله ، والفعل وصفه من خلقٍ وتقديرٍ وغير ذلك، والمفعول هو الواقع من كفر العبد ومعصيته وظلمه للعباد ونحو هذا.
هذا المفعول وقع بقضاء الله وقدره، فهو مفعول مخلوق لله ، ولكنه أيضًا يُنسب إلى العبد كسبًا وفعلًا، فهو مسخوط من هذه الحيثية، من حيث أنَّ العبد اقترفه على وجهٍ لا يرضاه الله ، فنحن نكرهه من العبد، ونسخطه من العبد، ونذمه عليه، ويستحق عليه القصاص: القتل والحدود الشرعية لما يُوجب الحدود، إلى غير ذلك، ولكنه مرضيٌّ من جهة أنَّ الله قدَّره، فالله هو الحكيم العليم، فنُؤمن بهذا ونرضى به قدرًا، ونصف الله بما يستحقه من ذلك؛ لكونه العدل الحكم الحكيم فيما يقضيه ويُقدره، كما أنه الحكيم فيما يشرعه لعباده ويأمر به ، وهذه نكتة عظيمة للفَطِن، قلَّ مَن يُفرق بها، ويفطن لها.
وَقَوْلُهُ: (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ ..) إِلَى آخِرِهِ.
التَّعَمُّقُ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي طَلَبِ الْقَدَرِ وَالْغَوْصِ فِي الْكَلَامِ فِيهِ ذَرِيعَةُ الخذلان. الذَّريعة: الوسيلة، والذَّريعة والدَّرجة والسلم: متقاربة الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الْخِذْلَانُ وَالْحِرْمَانُ وَالطُّغْيَانُ: مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى أَيْضًا، لَكِنَّ الْخِذْلَانَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصْرِ، وَالْحِرْمَانَ فِي مُقَابَلَةِ الظَّفَرِ، وَالطُّغْيَانَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِقَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: (فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ! قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلك صريح الإيمان إلى تعاظم أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ.
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن الوسوسة، فقال: تلك محض الإيمان.
الشيخ: يعني: ليست الوسوسة هي صريح الإيمان، إنما صريح الإيمان مُدافعتُها واستعظامها واعتبارها عظيمة لا ينبغي أن يُتكلم بها، هذه الوسوسة التي يُلقيها الشيطانُ في القلوب نحو الله، ونحو رسوله، ونحو شرعه، ونحو الإيمان بالبعث والنُّشور، والجنة والنار، وما يتضمَّن التَّشكيك بذلك، والاعتراض في ذلك، هذه من وساوس الشيطان، تقع على الصَّالحين وغير الصَّالحين، فالصالحون يستعظمونها، ويرونها شرًّا عظيمًا، وبلاءً كبيرًا، ويُوقنون أنها من الشيطان، فاستعظامهم لها وتيقّنهم أنها من عمل الشيطان ذاك صريح الإيمان.
وفي روايةٍ: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يخرَّ من السماء أحبّ إليه من أن ينطق به. ورُوي: ما نتعاظم أن ننطق به من خبث وشرِّ ما يُفضي إليه من التَّشكيك بالله، وفي دينه، وبالبعث والنُّشور، والجنة والنار، وفي صدق الرسول، وغير هذا من هذه الأجناس.
ومن هذا الباب: ما ثبت في الحديث الصحيح في "الصحيحين" عن النبي ﷺ: يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: خلق الله كذا، وخلق كذا، فمَن خلق الله؟ فمَن وجد فلينتهِ وفي اللفظ الآخر: فليقل: آمنتُ بالله، ولينتهِ، وفي لفظٍ آخر: فليستعذ بالله ولينتهِ، وقد وقع هذا لأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه؛ جاءه رجلان يسألانه عن هذا السؤال، فحصبهما وقال: "صدق خليلي، صدق خليلي"، ثم ذكر الحديثَ، هذا من جنس الوسوسة التي تقع، ومن جنس حديث الشيطان الذي يقع لبعض الناس، فإذا وجد الإنسانُ هذه الأشياء من التَّشكيك في الله، أو التَّشكيك بالبعث والنُّشور، أو الجنة والنار، أو صدق الرسول، أو صدق القرآن، أو أنه كلام الله، أو ما أشبه ذلك من الأمور المعروفة المقطوع بها التي هي من أسس الإيمان؛ فليعلم أنه من الشيطان، وليحذر ذلك، وليُعرض عن ذلك، وليقل: آمنتُ بالله ورسوله، أعوذ بالله من الشيطان. هذا هو صريح الإيمان؛ استعظامك لهذا الشيء، وإنكاره، واستقباحه، وما يقع من قول: آمنتُ بالله ورسوله. والتَّعوذ بالله من الشيطان، هذا كله من صريح الإيمان، ومن الدلائل على قوة الإيمان، واستقامة العبد وبُعده عن الاستجابة لعدو الله الشيطان.
هَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ سَوَّدُوا الْأَوْرَاقَ بِتِلْكَ الْوَسَاوِسِ الَّتِي هِيَ شُكُوكٌ وَشُبَهٌ، بَلْ وَسَوَّدُوا الْقُلُوبَ، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ؛ وَلِذَلِكَ أَطْنَبَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَمِّ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ وَالْفَحْصِ عَنْهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ.
الشيخ: الذي نعرف: فقأ، يُراجع الأصل: مسند عبدالله بن عمرو تُراجعونه، الذي نعرف: فقأ.
الشيخ: وهذا إسناد جيد حسن؛ لأنَّ أبا معاوية وداود ابن أبي هند كلاهما ثقة ظاهر معروف، فهو من رجال الحسن.
الطالب: التَّعليق: صحيح؛ رواه أحمد وغيره بإسنادٍ جيدٍ، ورواه ابن ماجه أيضًا.
الشيخ: .............