09 تأويل المعتزلة نصوص الكتاب والسُّنَّة

قَوْلُهُ: (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ؛ إِذِ الْقَدَمُ الْحِسِّيُّ لَا تَثْبُتُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ شَيْءٍ، أَيْ: لَا يَثْبُتُ إِسْلَامُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِنُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، وَيَنْقَادُ إِلَيْهَا، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا، وَلَا يُعَارِضُهَا بِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ وَقِيَاسِهِ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَمِنَ الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ.

وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ نَافِعٌ.

وَمَا أَحْسَنَ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ لِلنَّقْلِ مَعَ الْعَقْلِ.

الشيخ: يعني: علينا التَّسليم لما جاء به الرسولُ ﷺ من الأوامر والنَّواهي وإن لم نعرف الحكم والأسرار، فالواجب على الأمة التَّسليم لأمر الله، فالله جلَّ وعلا منه الرسالة، وهي الأوامر والنَّواهي، والرسل عليهم البلاغ، والأمة عليها التَّسليم والانقياد، هذا هو الحق، وهذا الذي قاله ربيعة أيضًا.

فالحاصل أنَّ الأمة عليها التَّسليم والانقياد لأمر الله، والتصديق بأخباره مطلقًا ولو لم تعلم معنى ذلك الشيء، عليك أن تتعلمه وتتفهمه وتطلب معناه، ولكن لا يقف هذا التَّصديق والانقياد على فهم الحكمة، بل عليك أن تنقاد للأمر فعلًا، وللنهي تركًا، وإن لم تفهم العلة والحكمةَ في هذا الشيء، فإن الإنسان إذا كان لا يقبل إلا ما فهمه وأراده صار تابعًا لهواه، لا، بل الواجب اتباع الحقّ مطلقًا وإن لم تعرف المعنى الذي من أجله شُرعت هذه العبادة، أو من أجله نهى عن هذا الشيء، فإذا قال الرسولُ ﷺ: افعلوا، نفعل، وإذا قال: لا تفعلوا، لا نفعل، وإن كنا لا نعرف السرَّ ما هو، لماذا حرَّم اللهُ هذا؟ ولماذا أمر بهذا؟ مع أن الغالب على مَن تأمَّل النصوص بصدقٍ ونيةٍ صالحةٍ وتجردٍ ورغبةٍ في الخير أنه يرى من المعاني العظيمة والأسرار البديعة ما يشرح قلبه، ويُنور بصيرته، ويُريح ضميره، وينقاد لهذا الشيء عن اقتناعٍ، وعن رغبةٍ عظيمةٍ، وعن انشراحٍ فيما ظهر له من المعاني العظيمة في هذا الأمر، ولما ظهر من المعاني العظيمة في النَّهي، ولكن ليس كل أحدٍ كذلك.

وَمَا أَحْسَنَ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ لِلنَّقْلِ مَعَ الْعَقْلِ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَقْلَ مَعَ النَّقْلِ كَالْعَامِّيِّ الْمُقَلِّدِ مَعَ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، بَلْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ الْعَامِّيَّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَصِيرَ نَبِيًّا رَسُولًا، فَإِذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ الْمُقَلِّدُ عَالِمًا، فَدَلَّ عَلَيْهِ عَامِّيًّا آخَرَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفْتِي وَالدَّالُّ، فَإِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ قَوْلِ الْمُفْتِي، دُونَ الدَّالِّ، فَلَوْ قَالَ الدَّالُّ: الصَّوَابُ مَعِي دُونَ الْمُفْتِي؛ لِأَنِّي أَنَا الْأَصْلُ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، فَإِذَا قَدَّمْتَ قَوْلَهُ عَلَى قَوْلِي قَدَحْتَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بِهِ عَرَفْتَ أَنَّهُ مُفْتٍ، فَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي فَرْعِهِ! فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْتَفْتِي: أَنْتَ لَمَّا شَهِدْتَ لَهُ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، وَدَلَلْتَ عَلَيْهِ، شَهِدْتَ لَهُ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِ دُونَكَ، فَمُوَافَقَتِي لَكَ فِي هَذَا الْعلمِ الْمُعَيَّنِ لَا تَسْتَلْزِمُ مُوَافَقَتَكَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَخَطَؤُكُ فِيمَا خَالَفْتَ فِيهِ الْمُفْتِيَ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ لَا يَسْتَلْزِمُ خَطَأَكَ فِي عِلْمِكَ بِأَنَّهُ مُفْتٍ، هَذَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُفْتِيَ قَدْ يُخْطِئُ.

الشيخ: العقل عرفت به صدق الرسالة ومميزات الرسالة، وصدق الرسول ﷺ، ولكن لا يلزم من هذا أن نُقدم هذا الدليل على مَن عرفنا صدقه وأمانته، وذاك آلة عُرف بها صدق الرسول ﷺ، وبعد ذلك لا يجوز أن يُقدم العقل على الذي عرفنا أمانته وصدقه، وأنه لا ينطق عن الهوى، أما العقل فقد يُخطئ ويُصيب.

ثم العقول لا حدَّ لاختلافها، فعلى أي عقلٍ تُعرض النصوص وتصدق؟!

س: ............؟

ج: ..............

وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ مَعْصُومٌ فِي خَبَرِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لَهُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلرَّسُولِ: هَذَا الْقُرْآنُ ............

قَوْلُهُ: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمَانِ).

هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الدِّينِ -بَلْ وَفِي غَيْرِهَا- بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الْإِسْرَاء:36]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ۝ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الْحَجِّ:3- 4]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ۝ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الْحَجِّ:8- 9].

الشيخ: هذه الآيات كلها تدل على وجوب الحذر من القول على الله بغير علمٍ، لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله: لا في العقائد والأصول، ولا في الأحكام إلا بعلمٍ من كتاب الله، أو سنة الرسول ﷺ، أو ينقل عن أهل العلم، أما أن يخوض فيها بغير علمٍ فهذا فيه وعيد شديد، وهو من التَّكلف الذي حرَّمه الله، بل جعل الله القول عليه بغير علمٍ في رتبةٍ فوق الشرك، نسأل الله العافية، وجعل ذلك من عمل الشيطان، كما قال : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:168- 169]، هذا دليل على عظم خطر القول على الله بغير علمٍ، وأنه من الفواحش الكبيرة، ومن المحرمات المنكرة، فالواجب على المؤمن أن يحذر شرَّ لسانه.

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الْقَصَص:50]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النَّجْم:23].

الشيخ: يعني: الكفرة، وأن عمدتهم اتباع الظن والهوى، نسأل الله العافية، يعني: هذه أصولهم: الهوى المتبع، والظن الفاسد: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، ليس عندهم علم ولا قصد صالح، لا علم نافع وقصد صالح، هذه حال أهل البدع والشرك، إنما يتبعون أهواءهم، وإنما يعتمدون على الظنِّ.

أما أهل العلم والإيمان فإن عمدتهم على العلم النافع، والقصد الصالح الإخلاص، هكذا يجب على طالب العلم: أن يكون في قصده مخلصًا لله، يريد وجهه والدار الآخرة، ليس اتباع الهوى، وأن يكون على علم وبينة على أساس مستقيم، ويطلب العلم من معدنه، من أصله: قال الله، وقال رسوله، لا يعتمد على الظن والهوى، بل هذا شأن أهل البدع وأهل الشرك: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى، والهدى هو ما جاءت به النصوص.

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلَا: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف:58]. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الشيخ: علَّق عليه بشيء؟

الطالب: نعم، حسن كما قال الترمذي، "المشكاة" و"صحيح الترغيب".

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

الشيخ: الألد الخصم هو الذي يُجادل بغير حقٍّ، ويأخذ بمواد الطرق هكذا وهكذا، من لديد الوادي، يعني: جانبيه، يعني: لا يقف عند حدٍّ في خصومته، بل هو كثير الخصومات، كثير التَّلون في خصومته لدفع الحقِّ، لا يهمه أن يسلك الطريقَ الذي يُغضب الله أو يُرضي الله، إنما يهمه أن يرد الحقَّ، وأن يخصم خصمه ويغلب خصمه، هذا هو الألد الخصم، الألد الخصم يعني: المتعنت في خصومته، المجادل بالباطل، الذي يتطلب كل طريقٍ وإن كان مُعوجًّا لدفع الحقِّ وقصد الباطل، والله المستعان.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلرَّسُولِ نَقَصَ تَوْحِيدُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، أَوْ يُقَلِّدُ ذَا رَأْيٍ وَهَوًى بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، فَيَنْقُصُ مِنْ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ خُرُوجِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإِنَّهُ قَدِ اتَّخَذَهُ فِي ذَلِكَ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] أَيْ: عَبَدَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. وَإِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ، كَمَا قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

الشيخ: صدق رحمه الله، ما أفسد دينَ الناس في القديم والحديث إلا ذلك، هل أفسد دين اليهود إلا علماؤهم الضَّالون المغضوب عليهم، وعُبَّادهم الضَّالون؟ وهل أفسد دينَ النصارى ومَن قبلهم حتى دين نوح إلا الضَّالون المجرمون الجاهلون؟ وهكذا هذه الأمة إنما أفسد دينَها وأوقع فيها الشرَّ والفتن والتَّفرق والاختلاف علماء السوء الذين ليس عندهم علمٌ وبصيرةٌ، وهم يدَّعون العلم، ويُنسبون إلى العلم، ورُهبانها الضَّالون المعتلون العابدون على جهالةٍ وعلى غير علمٍ، فيحسبهم الناس على علمٍ ويتأسَّون بهم.

وهكذا الملوك، غالب الملوك هكذا، ليس كلهم، لكن غالبهم هكذا، غالب الملوك يتَّبعون أهواءهم، وينشدون مصالحهم، وإن كان في ذلك ما يضرّ الأمة، ولكن فيهم الملوك الصَّالحون، وفيهم الأخيار، ولكن الأغلب هو هذا، فالعبرة في الأغلب، من هذا قوله جلَّ وعلا: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا [النمل:34] يعني: هذا من شأنهم في الأغلب، لكن الصُّلحاء منهم: كالملك داود وسليمان، والملوك الأخيار: كمعاوية، وأشباههم من ملوك المسلمين، وعمر بن عبدالعزيز وأشباههم؛ هم ملوك وخلفاء، وهكذا كل ملكٍ يأمر بتقوى الله، وينهى عن الباطل غير داخلٍ في الذمِّ، الذم ينصب على كلِّ ملكٍ لا يحكم شرع الله، ولا يدعو إلى طاعة الله:

رأيتُ الذنوبَ تُميت القلوب وقد يُورث الذلَّ إدمانُها

كلام عظيم: "رأيتُ الذنوب تميت القلوب" فالمعاصي هي أكثر ما يُميت القلوب، أول مرضٍ، أول بلاءٍ أنها تأتي لها بالمرض، الذنوب مرض في القلوب، مثل مرض الأبدان وأشدّ: الزنا مرض، شرب المسكر مرض، الغيبة مرض، النَّميمة مرض، السبّ والشَّتم بغير حقٍّ مرض، ثم هذا المرض قد يزداد حتى يموت القلب، كما يزداد على البدن فيموت البدن.

"وقد يُورث" قد للتَّحقيق، "وقد يُورث الذلَّ إدمانها" إدمان الذنوب يُورث الذل في الدنيا والآخرة، في الدنيا يحتقره الناس، ويفتضح، وتُقام عليه الحدود، ويكون ذليلًا بين المؤمنين بسبب معاصيه، وفي الآخرة إلى النار، نعوذ بالله، وأي ذلٍّ أشدّ من ذلِّ أهل النار؟! نسأل الله العافية.

"وترك الذنوب حياة القلوب" تركها حياة لها، مثلما أن ترك أسباب مرض البدن من أسباب حياة البدن، لكن المريض بأسباب الحياة، ومن مثل جهة الطبيب الصالح، واستقام على هذا جاءت الحياةُ ورجعت عليه الحياةُ، هكذا ترك الذنوب وترك المعاصي يُسبب رجوع الحياة إلى القلب، والسلامة إلى القلب، والانتعاش والبصيرة.

"وخير لنفسك عصيانها" يعني: خير لك في الدنيا والآخرة أن تعصيها في مخالفة هواها، تعصيها في الشيء الذي يُغضب الله، أما طاعتها فيما أباح الله فهو معلوم، لكن كان الغالب على النفوس الأمر بالفحشاء والمنكر، صار خيرًا لك عصيانها.

فَالْمُلُوكُ الْجَائِرَةُ يَعْتَرِضُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالسِّيَاسَاتِ الْجَائِرَةِ، وَيُعَارِضُونَهَا بِهَا، وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَأَحْبَارُ السُّوءِ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْخَارِجُونَ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، وَاعْتِبَارَ مَا أَلْغَاهُ، وَإِلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ، وَإِطْلَاقَ مَا قَيَّدَهُ، وَتَقْيِيدَ مَا أَطْلَقَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالرُّهْبَانُ، وَهُمْ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ، الْمُعْتَرِضُونَ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالشَّرْعِ بِالْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْخَيَالَاتِ وَالْكُشُوفَاتِ الْبَاطِلَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَإِبْطَالَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَالتَّعَوُّضَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بِخُدَعِ الشَّيْطَانِ وَحُظُوظِ النَّفْسِ.

فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ!

وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ!

وَقَالَ أَصْحَابُ الذَّوْقِ: إِذَا تَعَارَضَ الذَّوْقُ وَالْكَشْفُ وَظَاهِرُ الشَّرْعِ قَدَّمْنَا الذَّوْقَ وَالْكَشْفَ.

الشيخ: ذوقهم باطل، يعني: ذوقهم الذي وقع في نفوسهم، يعني: الذي يكتشفونه بصفاء قلوبهم بزعمهم، وبخلواتهم وأُنسهم بالله يظهر لهم كشفٌ من ربهم يُخالف ظواهر ما جاءت به الرسل، بل يقول بعضهم: إنَّ عندهم من العلوم ما ليس عند الرسل، جرَّهم الباطل إلى هذا، حتى إنَّ بعضهم يقول: حدَّثني قلبي عن ربي. يعني: ليس هناك واسطة الرسل، ينتهي بهم الأمر إلى أنهم يتلقون بزعمهم علومهم من ذوقهم الذي أخذوه عن ربهم مباشرةً، جهل زائد.

ويقولون: للعامَّة الشرائع الظَّاهرة، ولنا الحقائق الباطنة، حتى آل بهم الحال إلى أنهم تسقط عنهم التَّكاليف: لا صلاة، ولا زكاة، ولا شيء، يعني: وصلوا إلى حالةٍ من قربهم من الله ورضاه عنهم أسقط عنهم التَّكاليف، هكذا فعل بهم الشَّيطان.

وَمِنْ كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ "إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ"، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ، أَوْ أَجَلّهَا: فَإِنْ قُلْتَ: فَعِلْمُ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ مَذْمُومٌ كَعِلْمِ النُّجُومِ، أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا غُلُوًّا وإِسْرَافًا فِي أَطْرَافٍ:

فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ وَحَرَامٌ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِكُلِّ ذَنْبٍ سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِالْكَلَامِ.

وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ فَرْضٌ، إِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَعْلَى الْقُرُبَاتِ، فَإِنَّهُ تَحْقِيقٌ لِعِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَنِضَالٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ.

قَالَ: وَإِلَى التَّحْرِيمِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَسُفْيَانُ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ. وَسَاقَ الْأَلْفَاظَ عَنْ هَؤُلَاءِ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا.

لَا يَنْحَصِرُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِيهِ، وقَالُوا: مَا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ -مَعَ أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالْحَقَائِقِ، وَأَفْصَحُ بِتَرْتِيبِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِهِمْ- إِلَّا لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الشَّرِّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ أَيِ: الْمُتَعَمِّقُونَ فِي الْبَحْثِ وَالِاسْتِقْصَاءِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ أَهَمَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَيُعلمُ طَرِيقهُ، وَيُثْنِي عَلَى أَرْبَابِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ اسْتِدْلَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِدْلَالَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُخْتَارُ عِنْدَكَ؟ فَأَجَابَ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ: فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ: فهو باعتبار منفعته: فَهُوَ فِي وَقْتِ الِانْتِفَاعِ حَلَالٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ، كَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ. وَهُوَ بِاعْتِبَارِ مَضَرَّتِهِ فِي وَقْتِ الِاسْتِضْرَارِ وَمَحِلِّهِ حَرَامٌ.

قَالَ: فَأَمَّا مَضَرَّتُهُ: فَإِثَارَةُ الشُّبُهَاتِ، وَتَحْرِيفُ الْعَقَائِدِ وَإِزَالَتُهَا عَنِ الْجَزْمِ وَالتَّصْمِيمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالِابْتِدَاءِ، وَرُجُوعُهَا بِالدَّلِيلِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَشْخَاصُ. فَهَذَا ضَرَرُهُ فِي اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَلَهُ ضَرَرٌ فِي تَأْكِيدِ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ، وَتَثْبِيتِهَا فِي صُدُورِهِمْ، بِحَيْثُ تَنْبَعِثُ دَوَاعِيهِمْ وَيَشْتَدُّ حِرْصُهُمْ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الضَّرَرَ بِوَاسِطَةِ التَّعَصُّبِ الَّذِي يَثُورُ مِنَ الْجَدَلِ.

قَالَ: وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ: فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ فَائِدَتَهُ كَشْفُ الْحَقَائِقِ وَمَعْرِفَتُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ، فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ وَفَاءٌ بِهَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرِيفِ، وَلَعَلَّ التَّخْبِيطَ وَالتَّضْلِيلَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ.

قَالَ: وَهَذَا إِذَا سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَدِّثٍ أَوْ حَشْوِيٍّ رُبَّمَا خَطَرَ بِبَالِكَ أَنَّ النَّاسَ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَاسْمَعْ هَذَا مِمَّنْ خَبَرَ الْكَلَامَ، ثُمَّ قَلاهُ بَعْدَ حَقِيقَةِ الْخِبْرَةِ وَبَعْدَ التَّغَلْغُلِ فِيهِ إِلَى مُنْتَهَى دَرَجَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَاوَزَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَمُّقِ فِي عُلُومٍ أُخَرَ تُناسِب نَوْع الْكَلَامِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَسْدُودٌ. وَلَعَمْرِي لَا يَنْفَكُّ الْكَلَامُ عَنْ كَشْفٍ وَتَعْرِيفٍ وَإِيضَاحٍ لِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ عَلَى النُّدُورِ. انْتَهَى مَا نَقَلْتُهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الشيخ: هذا الكلام الذي قاله الغزالي واضح، وينبغي له أن يقتصر على ما قاله السلف وما حفظه عن السلف؛ لأنَّ هذا هو الحقّ، وهو الإعراض عن البحث من طريق أهل الكلام: من فرض أمورٍ لا حقيقةَ لها، ومن كشفٍ عن أشياء تُورث الشُّبَه، وتُوقع في الشك، فقد أعرض السلفُ الصالح عن علمٍ، وتركوا هذا البحث عن يقينٍ، وعن بصيرةٍ، فالطريق هو طريقهم، فلا حاجةَ إلى البحث عن الجوهر والعرض وأشباه ذلك، والبحث في الجسم: هل هو واجب الجسم؟ وكيف كذا؟ وكيف كذا؟ فإنَّ هذا لا خيرَ فيه، وضرره أكثر.

وإنما الواجب تلقي ما جاء به الكتابُ والسنةُ بالقبول والإيمان والإذعان، وإمرار النصوص كما جاءت، والإعراض عمَّا وقع فيه أهلُ الكلام الذين تركوا العنايةَ بالكتاب والسنة، وأقبلوا على قول فلانٍ وفلانٍ، ثم تعمَّقوا في ذلك، وأوردوا الأسئلة والجوابَ عنها، فوقعوا في شرٍّ كثيرٍ، وقلَّ أن يرجع منهم مَن خرج إلى الباطل، قلَّ أن يرجع إلى الصواب؛ ولهذا شدد الشَّافعي رحمه الله في هذا وقال: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِّعال، ويُطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء مَن خرج عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام.

وكتاب "إحياء علوم الدين" كتاب فيه شرٌّ كثيرٌ، وإن كان من أجلِّ كتبه كما قال الشارح؛ لما فيه من بعض الفوائد، ولكنه فيه شرٌّ كثير، حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه جدير بأن يُسمَّى: إماتة علوم الدين، لا "إحياء علوم الدين"؛ لما فيه من البدع الكثيرة، وتأييد مذهب الأشاعرة في نفي الصِّفات وتأويلها، وإذا تأمَّله طالبُ العلم وجد فيه شرًّا كثيرًا، ووجد فيه فوائد جمَّة، فيه فوائد عن أحوال القلوب، وعن فضائل الأعمال، ولكنه مشحون أيضًا بأشياء تضرّ طالب العلم؛ لأنها ترجع إلى مجرد الآراء وبحث أهل الكلام، كما بيَّنه هو في كتابه هذا، فهو بيَّن أنَّ ما وقعوا فيه شرٌّ عظيم، وأن الطريق السَّوي هو الإعراض عن ذلك.

لكن ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابنُ القيم أنَّ الإنسان قد يضطر إلى ذلك اضطرارًا، فإن اضطر إليه جاز أن يرد عليهم بالمثل، إن اضطر إلى ذلك وجادله مُجادل ممن يتبجح بما عنده من العلوم الفاسدة، وعلم من نفسه القُدرة على ردِّ هذا الباطل، وأنه قادر عليه، وأن لديه من الحجج العقلية ما يُبطل به حجج هذا المشبه، فهذا لا بأس به في حقِّه، وقد يجب عليه لنصر دين الله، وإقامة الحجَّة على المبطلين، وإلا فالأصل هو الأخذ بالكتاب والسنة، والتَّمسك بالأدلة النَّقلية، والكف عن الخوض في الكلام، لكن إذا اضطر إليه إنسانٌ مع صاحب بدعةٍ أو صاحب كلامٍ لإقامة الحقِّ ودحض الشُّبه؛ لئلا يقال: انقطع؛ لئلا يُقال: هذا غلبه بالحقِّ، وهذه هي النصوص، إذا خشي هذا واضطرَّ إلى أن يرد من طريق العقل، ومن طريق البحث العقلي، ومن طريق الكلام، وكانت عنده في هذا حصيلة، ويعلم من نفسه أنه قادرٌ على أن يرد هذا الباطل من طريق العقل، ومن طريق البحث العقلي، ومن طريق الخوض في الكلام، إذا علم من نفسه هذا، وأراد نصر الحقِّ لا مجرد المغالبة وإظهار أنه يتفوق على هذا الشخص، أو ما أشبه ذلك، وإنما الذي يحمله على التَّنزل إلى هذا الأمر قصده إرادة الحقّ، ونصر الحق، وبيان حجة أهل الحق، وبطلان حجة أهل الباطل، إذا كان من هذا الطريق ومن هذا السبيل فلا بأس، وقد يجب أيضًا ويتأكد عند مسيس الحاجة إليه، وعند القُدرة من صاحب الحقِّ.

س: تفسيره لمعنى قوله ﷺ: هلك المُتنطعون أي: المُتعمِّقون في البحث والاستقصاء؟

ج: ليس بظاهرٍ، المعروف عند العلماء: المتنطعون في جميع العبادات، والمتكلفون فيما يتعلق بالعبادة، ويتعلق بالكفِّ عن سلوك طريقة غير إسلامية، هذه طريقة غير الموافق للحق، كما يدل عليه حديث: لن يُشاد أحدٌ هذا الدين إلا غلبه، سددوا وقاربوا.

وَكَلَامُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ، وَالسَّلَفُ لَمْ يَكْرَهُوهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ اصْطِلَاحًا جَدِيدًا عَلَى مَعَانٍ صَحِيحَةٍ، كَالِاصْطِلَاحِ عَلَى أَلْفَاظٍ لِعُلُومٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا كَرِهُوا أَيْضًا الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَقِّ وَالْمُحَاجَّة لِأَهْلِ الْبَاطِلِ، بَلْ كَرِهُوهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أُمُورٍ كَاذِبَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْحَقِّ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيها مِنْ عُلُومٍ صَحِيحَةٍ، فَقَد وَعَّرُوا الطَّرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهَا، وَأَطَالُوا الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِهَا مَعَ قِلَّةِ نَفْعِهَا، فَهِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَى، وَأَحْسَنُ مَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَصَحُّ تَقْرِيرًا، وَأَحْسَنُ تَفْسِيرًا، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا التَّكَلُّفُ وَالتَّطْوِيلُ وَالتَّعْقِيدُ، كَمَا قِيلَ:

لَوْلَا التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا لَمَا وُضِعَتْ كُتبُ التَّنَاظُرِ لَا الْمُغْنِي وَلَا الْعَمَدُ
يُحَلِّلُونَ بِزَعْمٍ مِنْهُمُ عُقَدًا وَبِالَّذِي وَضَعُوهُ زَادَتِ الْعُقَدُ

الشيخ: والمعنى أنَّ الغالب على الناس التَّنافس في إظهار قوة الفهم، وأنه أفهم من فلان، وأنه يعرف، وأنه يفهم؛ حتى يمدح ويُثنى عليه ويُعطى شيئًا من المال، ويُوظف، وما أشبه ذلك؛ ولهذا جاءت كتب الخلاف في الأغلب.

وإن كان يريد بـ"المغنى" لابن قدامة و"العمد" لابن عقيل فليس بجيدٍ، وإن كانت كتبًا أخرى في الكلام فله ما نوى، ولكن "المغني" و"العمد" ليس من هذا الباب، بل وضع لإظهار الحقِّ، وبيان خلاف أهل العلم، وكذا "العمد" بالأدلة لابن عقيل؛ لما فيها من الدليل، وذكر فيها أشياء رحمه الله في الفقه، ولكن الواقع في غالب الناس هو التَّنافس.

س: "العمد" لابن عقيل؟

ج: ...........

فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِالَّذِي وَضَعُوهُ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ، وَالْفَاضِلُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ زَادَتْ بِذَلِكَ.

وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يَحْصُلَ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْيَقِينُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَيَحْصُلَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَيِّرِينَ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَتَدَبَّرَ مَعْنَاهُ وَيَعْقِلَهُ، وَيَعْرِفَ بُرْهَانَهُ وَدَلِيلَهُ الْعَقْلِيُّ والْخَبَرِيُّ السَّمْعِيُّ، وَيَعْرِفَ دَلَالَتَهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، وَيَجْعَلَ أَقْوَالَ النَّاسِ الَّتِي تُوَافِقُهُ وَتُخَالِفُهُ مُتَشَابِهَةً مُجْمَلَةً، فَيُقَالُ لِأَصْحَابِهَا: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تَحْتَمِلُ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ قُبِلَ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُخَالِفُهُ رُدَّ.

الشيخ: يعني: تجعل ميزانًا، كما قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، هذا هو الواجب؛ أن تكون هي الميزان، عليها تُعرض الأشياء كلها، سواء أهل الكلام أو غير أهل الكلام، جميع المتعارضين تُعرض أقوالهم وأفعالهم واختياراتهم وأفكارهم على هذا الميزان العظيم، وهو كتاب الله وسنة الرسول ﷺ، وما بيَّنه أهلُ العلم في معانيهما، فما وافق ذلك أو وافق أحدَ الأصلين قُبِلَ، وإلا رُدَّ على قائله، وهذا كما يكون في المسائل الخلافية في الأحكام يكون في مسائل العقائد أيضًا من باب أولى.

وَهَذَا مِثْلُ لَفْظِ: الْمُرَكَّبِ، وَالْجِسْمِ، وَالتَّحَيُّزِ، وَالْجَوْهَرِ، وَالْجِهَةِ، وَالْحَيِّزِ، وَالْعَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَأْتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ، بَلْ وَلَا فِي اللُّغَةِ، بَلْ هُمْ يَخْتَصُّونَ بِالتَّعْبِيرِ بِهَا عَنْ مَعَانٍ لَمْ يُعَبِّرْ غَيْرُهُمْ عَنْهَا بِهَا، فَتُفَسَّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَاتٍ أُخَرَ، وَيُنْظَرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ.

مِثَالُ ذَلِكَ فِي التَّرْكِيبِ، فَقَدْ صَارَ لَهُ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا: التَّرْكِيبُ مِنْ مُتَبَايِنَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَيُسَمَّى: تَرْكِيبَ مَزْجٍ، كَتَرْكِيبِ الْحَيَوَانِ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَالْأَعْضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ.

وَالثَّانِي: تَرْكِيبُ الْجِوَارِ، كَمِصْرَاعَيِ الْبَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ ثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ هَذَا التَّرْكِيبِ.

الثَّالِثُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ، وَتُسَمَّى: الْجَوَاهِرَ الْمُفْرَدَةَ.

الرَّابِعُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ، كَالْخَاتَمِ مَثَلًا، هَيُولَاهُ: الْفِضَّةُ، وَصُورَتُهُ مَعْرُوفَةٌ.

الشيخ: الهيولى مادة من مركب المادة والصورة، وهذه اصطلاحات لهم خبيثة: هيولاه المادة والصورة، صور الحلقة، مثل: السيف، الهيولى مادته، السيف من حديد، والصورة كونه يقطع به الشيء الذي يقطع، ومن هذا يتوصلون إلى نفي الصِّفات، فإنك إذا قلت: إنَّ الله جلَّ وعلا موصوف أنه سميع بصير، قالوا: هذا معناه رسم للمادة والصورة، فيكون مُشابهًا للمخلوقين، فتُنفى الصِّفة، فيقعون في أباطيل كثيرةٍ، وإذا قالوا بأنه بصير، معناه: أنه وصف لذات وأجزاء أخرى كاليد، فيقال لهم: هذا تركيب لمخلوقٍ ركَّبه الله كما يشاء من لحمٍ ودمٍ وعرقٍ وعظامٍ ونحو ذلك، والله مُنَزَّه عن صفات المخلوقين ، له ذات لا يعلم كيفيتها إلا هو، وله صفات لا يعلم كيفيتها إلا هو، فهو موصوف بأنه ذو ذات، وذو صفات، وذو سمع وبصر وعلم ويد وقدم وإصبع، وغير ذلك، لا تُشابه صفات المخلوقين، فما لنا حاجة في هذا البحث الذي لا وجهَ له، وهو يُفضي إلى الشرِّ والفساد والعقائد الفاسدة.

س: أيش هو الجوهر؟

ج: الجوهر هو الفرد الذي لا ينقسم، الجزء المتين الكثير الذي لا ينقسم، جوهر الشيء الذي تتركب منه الأشياء ........

وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَالُوا: إِنَّ الْجِسْمَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، وَلَهُمْ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ يُمْكِنُ التَّرْكِيبُ مِنْ جُزأيْنِ، أَوْ مِنْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ مِنْ سِتَّةٍ، أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ؟ وَلَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ لَازِمًا؛ لِثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْجِسْمَ غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُمْ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

الْخَامِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، هُمْ سَمَّوْهُ: تَرْكِيبًا لِيَنْفُوا بِهِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي اسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ، فَلَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَلَا كَرَامَةَ.

وَلَئِنْ سَمَّوْا إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ: تَرْكِيبًا، فَنَقُولُ لَهُم: الْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، سَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّسْمِيَةِ بِدُونِ الْمَعْنَى حُكْمٌ، فَلَوِ اصْطُلِحَ عَلَى تَسْمِيَةِ اللَّبَنِ: خَمْرًا، لَمْ يَحْرُمْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ.

الشيخ: لأنَّ الاعتبار بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ، مثلما سمَّى المشركون الشرك: توسُّلًا، وسموه: تقربًا، وسموه: تعظيمًا للأولياء والصَّالحين، هذا ليس بحقيقةٍ، بل هو تنقص للصَّالحين، وليس بتعظيم للصالحين، وليس توسلًا، بل هو عبادة لهم، وتقرُّب إليهم، وذلّ لهم، فتسميتهم الشرك بالله: توسلًا، أو تقرُّبًا، أو تعظيمًا للصَّالحين، أو ما أشبه ذلك، لا يُخرجه عن كونه شركًا، كما أن تسمية التوحيد: تنقص الصالحين، تنقص الأنبياء، لا يجعله منكرًا، ولا يجعله خلاف الحقِّ، بل هو الحق، وليس بتنقصٍ، وإنما هم المتنقصون.

فالتوحيد هو تعظيم للصالحين، وإنزال لهم في منازلهم كالأنبياء، وتعظيم لله وإنزاله منزلته.

فالألفاظ والأسماء الجديدة التي يخترعها الناسُ لا تُغير المعاني، ولما قال الذين مرُّوا على سدرةٍ يُعظمها المشركون يوم حنين قالوا: "اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط"، ما أثَّر هذا الاسم على الحقيقة، قال: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:  اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، فلاحظ الحقيقة ولم يُبال بالأسماء والعبارات، فجعل قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط" مثل قول بني إسرائيل: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.

فالحاصل أن الاعتبار في الأحكام بالحقائق والمعاني التي يُعرف فيها الكلام، لا بمجرد الألفاظ التي يخترعها الناسُ، أو الأسماء التي يُجددونها، مثلما قال المؤلف: لو قالوا للبن وسمّوه: خمرًا، ما يحرم اللبن، لو سمّوه: خمرًا، لم يحرم اللَّبن، فلا يتأثر بذلك، وإذا سمّوا الخمر: عصيرًا، أو سمّوها: شرابًا روحيًّا، أو سموها: شرابًا طيبًا، أو ما أشبه ذلك، هي خمر ومحرمة وإن سمّوها ما شاءوا.

السَّادِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا: وَهَذَا يَفْرِضُهُ الذِّهْنُ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ: هَلْ يُمْكِنُ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ وُجُودِهَا، وَوُجُودُهَا مُجَرَّدٌ عَنْهَا؟ هَذَا مُحَالٌ!

فَتَرَى أَهْلَ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: هَلْ ذَاتُ الرَّبِّ وُجُودُهُ أَمْ غَيْرُ وُجُودِهِ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً رَأْيُ الْوَقْفِ وَالشَّكِّ فِي ذَلِكَ. وَكَمْ زَالَ بِالِاسْتِفْسَارِ وَالتَّفْصِيلِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَضَالِيلِ وَالْأَبَاطِيلِ.

وَسَبَبُ الْإِضْلَالِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ تَدَبُّرِ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِكَلَامِ الْيُونَانِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ: أَهْلَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفِيدُوا عِلْمًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا أَتَوْا بِزِيَادَةِ كَلَامٍ قَدْ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ مَا يَضْرِبُونَهُ مِنَ الْقِيَاسِ لِإِيضَاحِ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ وَأَمْثَالُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَعَ مَنْ يُنْكِرُ الْحِسَّ.

وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَذَوْقِهِ وَسِيَاسَتِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، أَوْ عَارَضَ النَّصَّ بِالْمَعْقُولِ فَقَدْ ضَاهَى إِبْلِيسَ، حَيْثُ لَمْ يُسَلِّمْ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].

الشيخ: ولهذا كان النبيُّ ﷺ إذا جاءه مَن يُريد الإسلامَ عرض عليه أمور الإسلام، ولم يذكر له شيئًا من الأمور العقلية التي قد يحتاج إليها بعضُ الناس في زعم هؤلاء، فيأتي إليه ويسأله ويقول له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، واستقم على أن تُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. كما سأله جبريلُ، وكما سأله ضمامُ بن ثعلبة، وكما سأله غيرهما، يُبين لهم ما جاء به الشرعُ، وما أمر به الله من الأعمال والأقوال، ولا يذكر لهم ما يتعلق بالعقول، وما تُصور العقول من كائنات أو التزامات أو شُبهات، كل هذا قد أعرض عنه المصطفى ﷺ، وأعرض عنه أصحابُه؛ لعدم الحاجة إليهم، فهم ناس عندهم عقول، وعندهم فهم، ويكفيهم، فليسوا بحاجةٍ إلى أن يأتوا بكلامٍ جديدٍ ليس له أصل.

ثم ما جاء في الكتاب والسنة تفهمه العقول الصحيحة وتعقله، ويكون واضحًا لا يختلف فيه أحدٌ من أهل اللسان الذين عرفوا اللغة العربية؛ فإنه تكلم بأفصح لسانٍ، وأوضح لسانٍ، فإذا سمعه العاقلُ من البادية أو الحاضرة عقلوه وفهموه، ما يحتاجون إلى كلماتٍ أخرى، أو إلى صيغٍ أخرى، بل هو كلام واضح، أما أهل الأعجمية فيحتاجون إلى أن يُفسر لهم بلغتهم، ويُترجم لهم بلغتهم، ويكفيهم ذلك.

وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا نَبِيَّهُ، وَيَرْضَوْا بِحُكْمِهِ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

............

الشيخ: أخبرهم بأنه يوسف، وأمرهم أن يأتوه، فلما دخلوا عليه خرُّوا سجدًا على طريقة الأمم الماضية في التَّحية بالسجود، وقال لهم: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100]، فالأحد عشر كوكبًا إخوته، والشمس والقمر هذا أبوه وأمه، هذا تأويل الرؤيا، وجودها وحدوثها حين حضروا عنده، وكانوا في الأمم الماضية يُحيون العظماء بالسُّجود، ومن هذا سجد الملائكة لآدم تحيةً وتقديرًا وتعظيمًا وتكريمًا، ثم نهى اللهُ عن ذلك في شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وصار السجود مختصًّا بالله ، ونهى أن يُفعل مع غيره: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62].

وَمِنْهُ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا، وَتَأْوِيلُ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف:6]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، وَقَوْلِهِ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا إِلَى قَوْلِهِ: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78- 82]، فَمَنْ يُنْكِرُ وُقُوعَ مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْعِلْمَ بِمَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْهُ؟

الشيخ: ............

وَأَمَّا مَا كَانَ خَبَرًا -كَالْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- فَهَذَا قَدْ لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ، إِذْ كَانَتْ لَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ، فَإِنَّ الْمُخْبَرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُخْبَرَ بِهِ، أَوْ مَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ الَّتِي هِيَ تَأْوِيلُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ. وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ نَفْيُ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَ الْمُخَاطِبُ إِفْهَامَ الْمُخَاطَبِ إِيَّاهُ.

الشيخ: يعني: جنس المخاطب، وجنس الأشياء التي أرادها المخاطب إفهام المخاطبين، هذا معلوم من حيث اللغة العربية، ومن حيث المعنى المشترك بين الأمم، لكن حقائق ذلك الشيء المخبر عنه إنما تتضح وتُفهم ويكون علم المخاطب بها تامًّا بعد وجودها، فإخباره عن الجنة والنار وما فيهما وعن الصُّحف حقيقةً أمر معلوم من حيث المعنى، إذا أُعطي كتابه بيمينه أو شماله، والجنة والنَّعيم وما فيهما من الفواكه والأنهار والحور العين، والنار فيها العذاب والأغلال، وغير ذلك، هذا أمر معلوم، لكن تأويله الكامل والعلم به على التَّمام إنما يكون يوم القيامة إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، وأهلُ النار النار، فباشروها، وجدوا أنَّ النار وما فيها من الشرِّ حق اليقين، ووجدوا أنَّ الجنة وما فيها من النَّعيم حق اليقين، هذا تأويلها، يعني: نهاية ما يتعلق بذلك، إذا شاهد المؤمنون ما وعدهم الله وباشروه، وشاهد أعداءُ الله ما وعدهم الله وباشروه، وشاهد الناسُ ما في الموقف والحساب والجزاء وتطاير الصحف، إلى غير ذلك، هذا هو النِّهاية، يعني: نهاية ما ينتهي إليه الخبر؛ أن يُشاهد المخبر ذلك الشيء ويراه بعينه، بعدما كان علم اليقين صار عين اليقين وحقَّ اليقين أيضًا.

والعلوم أقسام ثلاثة: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، فما أخبر الله به عن الآخرة من باب علم اليقين، فإذا شاهدناه صار عينَ اليقين، فإذا باشره الناسُ ولمسوه بأيديهم صار حقَّ اليقين: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:7]، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الحاقة:51]، ومثال ذلك في الدنيا إذا قال قائلٌ ثقة لك: قد قدم زيد من مكة. أو: قد سال وادي حنيفة. فهذا من باب علم اليقين، إذا كان المخبرون ثقات صار علم اليقين، فإذا قابلت زيدًا ورأيتَه بعينك، أو أتيتَ الوادي وشاهدتَ السبيلَ فهذا عين اليقين، فإذا أخذت بيد زيدٍ وصافحته، أو خُضت الوادي، أو شربت منه، أو لمسته صار حقَّ اليقين.

فهكذا علمنا بالآخرة من باب علم اليقين، فإذا وقف الناسُ يوم القيامة وشاهدوا الناسَ، وشاهدوا ما يكون يوم القيامة صار عينَ اليقين، وإذا دخلوا الجنَّة، ودخل أهلُ النار النارَ صار علمهم بها حقّ اليقين، نسأل الله السَّلامة.

س: معنى قول الشارح: اعلم أنَّ المُخاطب لا يعلم المعاني المُعبر عنها باللفظ حتى يرى عينها أو ما يُناسب عينها؟

ج: يعني بالعين: الحقيقة، يعرف عينها إما بالمشاهدة، أو بمشاهدة المثل، يعرف الخيلَ، يعرف الإبل، فإذا أخبر أنَّ هذا مثل هذا الخيل، وهو يعرف الخيل، صار عنده علم، وإذا أخبر أنَّ هذا مثل الحمار، وهو يعرف الحمار، صار عنده علم، مثلما قال النبيُّ ﷺ: أُتيت بالبراق، وهو دابة فوق الحمار، ودون البغل، نحن نعرف الحمار، ونعرف البغل، فكان عندنا بصيرة، لكن لو سمع هذا الكلام من لا يعرف الحمار، ولا يعرف البغل، لا يصير عنده علم.

فَمَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَا أَنْزَلَ آيَةً إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ مَا عَنَى بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَهَذَا مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ.

وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ -كَابْنِ جَرِيرٍ وَنَحْوِهِ- يُرِيدُونَ بِهِ تَفْسِيرَ الْكَلَامِ وَبَيَانَ مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ وَافَقَ ظَاهِرَهُ أَوْ خَالَفَ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ كَالتَّفْسِيرِ؛ يُحْمَدُ حَقُّهُ، وَيُرَدُّ بَاطِلُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْآيَةَ [آل عمران:7] فِيهَا قِرَاءَتَانِ: قِرَاءَةُ مَنْ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَقِرَاءَةُ مَنْ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ حَقٌّ، وَيُرَادُ بِالْأُولَى: الْمُتَشَابِهُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ. وَيُرَادُ بِالثَّانِيَةِ الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي يَعْرِفُ الرَّاسِخُونَ تَفْسِيرَهُ، وَهُوَ تَأْوِيلُهُ.

وَلَا يُرِيدُ مَنْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ لَازِمَ هَذَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ كَلَامًا لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ وَلَا الرَّسُولُ، وَيَكُونُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا سِوَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَقُولُهُ غَيْرُ الرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَجِبُ امْتِيَازُهُمْ عَنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ"، وَلَقَدْ صَدَقَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا لَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

الشيخ: رواية البخاري كما تقدم: اللهم فقهه في الدِّين وعلمه الكتاب، لكن جاء في رواية غير البخاري: كما ذكره الحافظُ ابن حجر، وذكره الحميدي في جمعه: أنه ذكر في الجمع رواية: اللهم فقهه في الدين وعلمه التَّأويل كما ذكر الشارح، ولكن الصواب أنَّ هذا خارج "الصحيحين"، .......: اللهم فقهه في الدِّين، اللهم علمه الكتاب، فصار اللهم فقهه في الدين، وعلمه الكتاب، ومعنى علمه الكتاب علمه التأويل، يعني: تفسيره، والمعنى واضح.

فالحاصل أنَّ قوله جلَّ وعلا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] مَن وقف على الجلالة أراد بالمعنى المشتبه الذي لا يعلمه سواه ، وحقائق الأمور: حقائق ما في الجنة، حقائق ما في النار، حقائق أسمائه وصفاته لا يعلمها سواه سبحانه وتعالى.

ومَن وقف على "الراسخين في العلم": وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فمعناه: التفسير، تفسير الكلام من الله، معناه: بيان الأحكام التي بيَّنها لعباده، وأمرهم بها، ونهاهم عنها، فهذه يعلمها الله والراسخون في العلم.

الطالب: تعليق: صحيح؛ رواه أحمد، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والضياء المقدسي في "المختارة" بسندٍ صحيحٍ عن ابن عباسٍ.

وأما عزو المصنف إياه للبخاري فوهم, وإنما عنده بلفظ: اللهم علمه الحكمة، وفي لفظ: الكتاب بدل الحكمة أخرجه, وهو رواية لأحمد والطبراني، ورواه مسلم مختصرًا بلفظ: اللهم فقهه، وهو رواية لأحمد، وفي أخرى له عن ابن عباس قال: "فدعا الله أن يزيدني علمًا وفهمًا" .........

وَدُعَاؤُهُ ﷺ لَا يُرَدُّ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.

وَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّقُولُ عَنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْ آيَةٍ: إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْأُصُولِ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَهِيَ الْمُتَشَابِهُ، كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومَ الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَطْلُوبُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَادِّينَ.

وَالتَّأْوِيلُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلَالَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي تَنَازَعُ النَّاسُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالطَّلَبِيَّةِ، فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ مِنْهُ الَّذِي يُوَافِقُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .......

الشيخ: مراده العلماء، أكثر الناس المراد به: العلماء، كما في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173].

س: ............؟

تعليق: قوله: وتابع أبو أسامة حماد بن سلمة في روايته عن هشام حين وصله أحمد عن عفان .......

قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) النَّفْيُ وَالتَّشْبِيهُ مَرَضَانِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ: مَرَضُ شُبْهَةٍ، وَمَرَضُ شَهْوَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فَهَذَا مَرَضُ الشَّهْوَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10]، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125]، فَهَذَا مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَرْدَأُ مِنْ مَرَضِ الشَّهْوَةِ؛ إِذْ مَرَضُ الشَّهْوَةِ يُرْجَى لَهُ الشِّفَاءُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَمَرَضُ الشُّبْهَةِ لَا شِفَاءَ لَهُ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.

وَالشُّبْهَةُ الَّتِي فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ نَفْيُهَا وَتَشْبِيهُهَا، وَشُبْهَةُ النَّفْيِ أَرْدَأُ مِنْ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ؛ فَإِنَّ شُبْهَةَ النَّفْيِ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَشُبْهَةَ التَّشْبِيهِ غُلُوٌّ وَمُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

وَتَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَهَذَا أصل نَوْعَيِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ نَوْعَانِ: تَشْبِيهُ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهَذَا الَّذِي يَتْعَبُ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ، وَأَهْلُهُ فِي النَّاسِ أَقَلُّ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ تَشْبِيهِ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ، كَعُبَّادِ الْمَشَايخ، وَعُزَيْرٍ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْأَصْنَامِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّارِ، وَالْمَاءِ، وَالْعِجْلِ، وَالْقُبُورِ، وَالْجِنِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ يَدْعُونَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

الشيخ: وهناك تشبيه ثالث؛ وهو تشبيه الخالق بالمعدومات والمستحيلات والناقصات، كما فعل نُفاة الصِّفات، فإن تشبيه المخلوق بالخالق جاءت الرسلُ جميعًا ببطلانه، وبيان أنَّ الله هو المستحق للعبادة جلَّ وعلا، وأنه مُصرف الكون، وأنه الخلَّاق الرزاق، فعلم أصحابُ العقول السليمة صحَّة ذلك، وكذلك تشبيه الخالق بالمخلوق، فإنه واضح البطلان: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، لكن هناك تشبيه ثالث؛ وهو تشبيه الخالق بالمعدومات والنَّاقصات والمستحيلات، وأنه إذا قال: ليس بكذا، ولا كذا، ولا كذا، انتهى الأمرُ إلى تشبيهه بالمعدومات وبالجمادات والناقصات، فلا يسلم من هذا أو هذا: إما بالجماد الذي لا يتكلم ولا يسمع ولا يُبصر، وإما بالعدم الذي ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا غيره، ولا غيره، حتى يكون عدمًا، وهذا هو الذي وقعت فيه الجهمية والمعتزلة وأشباههم، غلوا في النَّفي والتَّعطيل حتى لزم من نفيهم وتعطيلهم عدم وجود الله، وإنكار وجوده ، وهذا غاية في التَّعطيل، وغاية في الإلحاد، وغاية الكفر بالله، وذلك إنكار وجود الخالق ووصفه بالمستحيلات والمعدومات، نسأل الله العافية.

ولم يسلم من هذه الشّرور: تشبيه المخلوق بالخالق، وتشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه الخالق بالجمادات والمعدومات؛ لم يسلم من هذا كله إلا أهلُ السنة والجماعة، فإنهم نزَّهوا الله عن مُشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل، وأثبتوا له صفات الكمالات إثباتًا بريئًا من التَّمثيل، وهكذا أهل الحقِّ، وهكذا جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بإثبات الصِّفات والأسماء لله ، وإثبات الكمالات لله على الوجه اللائق به، وجاءت الرسل تُنزهه عن مُشابهة خلقه، وبيان عظم حقِّه، وأنه لا شبيهَ له، ولا كفؤ له، ولا ندَّ له، وأنه المستحق للعبادة، لا يستحقّها سواه جلَّ وعلا، فأبطلت ما تعلق به عباد الأصنام، وعباد المشايخ، وعباد النجوم والكواكب، إلى غير ذلك.

فالإسلام هو إفراد الله بالعبادة، والإيمان بأنه المستحق للعبادة، وأنه لا شبيهَ له، ولا كفؤ له، ولا ندَّ له، وأنه سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، مُنزَّه عن صفات النَّقص والعيب، هذا هو مذهب الرسل وطريقهم وصراطهم المستقيم الذي سار عليه أهلُ السنة والجماعة، وثبتوا عليه، ودعوا إليه، وحذَّروا من مُخالفته.

س: معنى قوله: "الأولياء"؟

ج: يعني: يُسمون بالأولياء كما تفعل الصُّوفية؛ فإنهم سمّوا أناسًا: أولياء، وليسوا بأولياء، ليس كل مَن سمّوه: وليًّا، يكون وليًّا؛ لأنَّ ولي الله هو المؤمن التَّقي المستقيم: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62- 63]، وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34].

قَوْلُهُ: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ).

يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالَّذِي هُوَ وَصْفُهُ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَكَلَامُ الشَّيْخِ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ: فَقَوْلُهُ: (مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وَقَوْلُهُ: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:2- 3]، وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]. وَهُوَ أَيْضًا مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ.

وَالْوَصْفُ وَالنَّعْتُ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: مُتَقَارِبَانِ. فَالْوَصْفُ لِلذَّاتِ، وَالنَّعْتُ لِلْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الْوَحْدَانِيَّةُ وَالْفَرْدَانِيَّةُ. وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ لِلذَّاتِ، وَالْفَرْدَانِيَّةَ لِلصِّفَاتِ.

الشيخ: النُّعوت والأوصاف المعنى واحد، نعته بكذا، ووصفه بكذا، واحد، فرد المعنى واحد، فهو واحد سبحانه بذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله جلَّ وعلا، فهو سبحانه وتعالى موصوف بالفردانية، بالوحدانية، بالإلهية الحقَّة التي ليس له فيها شريك؛ ولهذا قال : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98].

س: الفردانية؟

ج: ........

فَهُوَ تَعَالَى مُوَحَّدٌ فِي ذَاتِهِ، مُتَفَرِّدٌ بِصِفَاتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَلَمْ يُنَازِعْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَكِنْ فِي اللَّفْظِ نَوْعُ تَكْرِيرٍ، وَلِلشَّيْخِ نَظِيرُ هَذَا التَّكْرِيرِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْعَقِيدَةِ، وَهُوَ بِالْخُطَبِ وَالْأَدْعِيَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْعَقَائِدِ، وَالتَّسْجِيعُ بِالْخُطَبِ أَلْيَقُ.

الشيخ: لكن سجعه ما هو على طريقة أهل العقائد، أهل العقائد يعتنون بالتَّدليلات الجامعة، لا يرون هذه السّجعات، أما المؤلف فهو مُولع بالسّجعات؛ يأتي بالألفاظ التي ليس لها كبير أهمية.

وَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أَكْمَلُ فِي التَّنْزِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ).

قَوْلُهُ: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ).

أَذْكُرُ بَيْنَ يَدَيِ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ مُقَدِّمَةً، وَهِيَ: أَنَّ للنَّاسَ فِي إِطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ تُثْبِتُهَا، وَطَائِفَةٌ تُفَصِّلُ، وَهُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلسَّلَفِ، فَلَا يُطْلِقُونَ نَفْيَهَا وَلَا إِثْبَاتَهَا إِلَّا إِذَا بُيِّنَ مَا أُثْبِتَ بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا نُفِيَ بِهَا فَهُوَ مَنْفِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ فِيهَا إِجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ، كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، فَلَيْسَ كُلُّهُمْ يَسْتَعْمِلُهَا فِي نَفْسِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ النُّفَاةُ يَنْفُونَ بِهَا حَقًّا وَبَاطِلًا، وَيَذْكُرُونَ عَنْ مُثْبِتِيهَا مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَبَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا يُدْخِلُ فِيهَا مَعْنًى بَاطِلًا مُخَالِفًا لِقَوْلِ السَّلَفِ، وَلِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ بِنَفْيِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُتَّبِعُونَ، لَا مُبْتَدِعُونَ.

فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي هَذَا الْبَابِ، أَعْنِي: بَابَ الصِّفَاتِ، فَمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَثْبَتْنَاهُ، وَمَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَفَيْنَاهُ. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّصُّ يُعْتَصَمُ بِهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، فَنُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي.

الشيخ: وننفي ما نفاه الله ورسوله.

وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَمْ يَرِدْ نَفْيُهَا وَلَا إِثْبَاتُهَا فَلَا تُطْلَقُ حَتَّى يُنْظَرَ فِي مَقْصُودِ قَائِلِهَا: فَإِنْ كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا قُبِلَ، لَكِنْ يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ النُّصُوصِ، دُونَ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، مَعَ قَرَائِنَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَالْحَاجَةَ، مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مَنْ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مَعَهُ إِنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ بِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ: كَدَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ وَأَمْثَالِهِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ، وَإِنَّهُ جُثَّةٌ وَأَعْضَاءٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

فَالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ النَّفْيِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا حَقٌّ، لَكِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مَنْ أَدْخَلَ فِي عُمُومِ نَفْيِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنَّ السَّلَفَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ حَدًّا، وَأَنَّهُمْ لَا يَحُدُّونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَشَرِيكٌ وَأَبُو عَوَانَةَ لَا يَحُدُّونَ وَلَا يُشَبِّهُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ، يَرْوُونَ الْحَدِيثَ وَلَا يَقُولُونَ: كَيْفَ؟ وَإِذَا سُئِلُوا قَالُوا بِالْأَثَرِ.

وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ: وَقَدْ أَعْجَزَ خَلْقَهُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اللَّهَ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِحَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ خَلْقِهِ، مُنْفَصِلٌ عَنْهُمْ، مُبَايِنٌ لَهُمْ.

سُئِلَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، قِيلَ: بِحَدٍّ؟ قَالَ: بِحَدٍّ. انْتَهَى.

الشيخ: ومعنى "بحدٍّ" يعني: بحدٍّ يعلمه هو ؛ فإنَّ السلف إذا قالوا: "بحدٍّ" معناه: بحدٍّ يعلمه هو ، ومَن قال: بلا حدٍّ، يعني: بلا حدٍّ نعلمه نحن، فمنهم مَن نفى الحدَّ، ومنهم مَن أثبت الحدَّ، فمَن أثبته أراد حدًّا يعلمه الله، ومَن نفاه أراد حدًّا نعلمه نحن، نحن لا نعلم حدودَ صفاته ، بل نعلم أنه فوق السَّماوات على عرشه، بائن من خلقه، الحدّ يعلمه هو ، وبلا حدٍّ نعلمه نحن، فإطلاق الحدود والغايات والأعضاء والأركان والأدوات عليه ونحو ذلك أمر مبالغ فيه.

وكان من الواجب على المؤلف ألا يتعاطى هذه العبارة المجملة، ولكن مثلما تقدم أنه أراد بذلك معنًى صحيحًا، ولكنه وقع في ألفاظٍ لم ترد بها النصوص، وهكذا قولهم: بجسمٍ أو بغير جسمٍ، وغير هذا مما وقع فيه كثيرٌ من الناس، فلا يُقال: بجسم، ولا بغير جسم؛ لعدم ورود الدليل، ولكن يُقال "الذات" الله له ذات مُتميزة عن خلقه، لا تُشابه ذوات الخلق:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

كذبات إبراهيم كلهن في ذات الله فالذات جاءت بها النصوص، وهي ذات منزهة عن مُشابهة الذَّوات، ذات مستقلة قائمة بنفسها، لها صفاتها، ولها كمالاتها، حتى كان من أعظم العلامات التي يُميز بها الخالق عن المخلوق، وهو أنه موصوف بصفات الكمال، مُنَزَّه عن صفات النَّقص والعيب، فله ذات كاملة، ليس فيها نقص وعيب، بل لها الكمال المطلق من كل وجهٍ.

وأما إذا أطلق الحدّ والجهة ففيها التَّفصيل، وكذلك الأركان والأعضاء والأدوات فيها معانٍ مجملة، لكن الأركان والأعضاء والأدوات إن كان المراد أنه تعالى عن القدم، وعن اليد، وعن الوجه، فهذا باطل، وإن أُريد أنه تعالى عن أعضاء، وعن أركان تُشابه المخلوقين، وتماثل المخلوقين، فهذا حقٌّ، فهو مُتقدس عن مُشابهة صفات المخلوقين، فليس له أركان، ولا أعضاء، ولا أدوات تُشابه صفات المخلوقين، ولكن نعم له صفات لا تُشابه صفات المخلوقين، له اليد والقدم والإصبع والوجه ونحو ذلك، ولا يجوز أن تنفى؛ لأن المبتدعة سمّوها: أركانًا، وسموها: أدواتًا، وسمّوها: أعضاءً، لا تنفى، فالألفاظ يأتون بها ليتوصلوا بها إلى ردِّ ما جاءت به النصوص، وهذا من أبطل الباطل.

فالواجب الحذر من أعداء الله حيث شبَّهوا ولبَّسوا، وهذه عادة أهل البدع؛ يأتون بألفاظ مخترعة من عند أنفسهم، فيُوهمون أنهم يريدون بها الحقَّ.

فأهل السنة والجماعة لا يقبلون منهم هذه الأشياء، بل يقولون: فسّر لنا مُرادك، فإن فسّر حقًّا قالوا: أردتَ حقًّا، ولكن ألفاظك مبتدعة ومجملة، فلا ينبغي أن تثبت، وإن فسَّر باطلًا قالوا له: ألفاظك باطلة، ومعناك باطل، وهكذا مَن نفى لا مَن أثبت فبين لنا ما أثبت، فإن بيَّن حقًّا قالوا: معناك حقٌّ، ولكن لفظك ليس بمشروعٍ، بل مُبتدع! وإن بيَّن باطلًا قيل له: لفظك مُبتدع، ومعناك باطل.

هكذا يُقال له في هذه الألفاظ التي ذكرها الشيخُ: "تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات" كل هذه ألفاظ مجملة، ونُؤجل كمال التَّفصيل فيها.

س: ............؟

ج: لا يحدون حدًّا يعلمونه.

س: ما هو الحدّ الذي يعلمه الله؟

ج: غير صفات المخلوقين، هذا معناه، له كمال لا يُماثل كمال المخلوقين، كماله منفصل عن المخلوقين، الحدود في كمال صفاته زائد على المخلوقين في كمالاتهم، لا يعلمه إلا الله ، ليس استواؤه كاستوائنا، ولا يده كأيدينا، ولا وجهه كوجوهنا، ولا ذاته كذواتنا، ولا علمه كعلمنا، وهكذا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَدَّ يُقَالُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ حَالٍّ فِي خَلْقِهِ، وَلَا قَائِمٍ بِهِمْ، بَلْ هُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِمَا سِوَاهُ.

فَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ نَفْيِهِ إِلَّا نَفْيُ وُجُودِ الرَّبِّ وَنَفْيُ حَقِيقَتِهِ.

وَأَمَّا الْحَدُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَحُدَّهُ الْعِبَادُ، فَهَذَا مُنْتَفٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ: سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُور بْنَ عَبْدِاللَّهِ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيَّ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ التُّسْتَرِيَّ يَقُولُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَاتُ اللَّهِ مَوْصُوفَةٌ بِالْعِلْمِ، غَيْرُ مُدْرَكَةٍ بِالْإِحَاطَةِ، وَلَا مَرْئِيَّةٍ بِالْأَبْصَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، مِنْ غَيْرِ حَدٍّ، وَلَا إِحَاطَةٍ، وَلَا حُلُولٍ، وَتَرَاهُ الْعُيُونُ فِي الْعُقْبَى ظَاهِرًا فِي مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقَدْ حَجَبَ الْخَلْقَ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ، فَالْقُلُوبُ تَعْرِفُهُ، وَالْعُيُونُ لَا تُدْرِكُهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُ بِالْأَبْصَارِ، مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا إِدْرَاكِ نِهَايَةٍ.

وَأَمَّا لَفْظُ الْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ: فَيَسْتَدِلّ بِهَا النُّفَاةُ عَلَى نَفْيِ بَعْضِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ: كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي "الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ": لَهُ يَدٌ وَوَجْهٌ وَنَفْسٌ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالنَّفْسِ، فَهُوَ لَهُ صِفَةٌ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ يَدَهُ قُدْرَتُهُ وَنِعْمَتُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ الصِّفَةِ. انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، قَالَ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وَقَالَ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وَقَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

وَقَالَ ﷺ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ لَمَّا يَأْتِي النَّاسُ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ الْحَدِيثَ.

وَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْقُدْرَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: بِقُدْرَتِي، مَعَ تَثْنِيَةِ الْيَدِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَنَا أَيْضًا خَلَقْتَنِي بِقُدْرَتِكَ، فَلَا فَضْلَ لَهُ عَلَيَّ بِذَلِكَ. فَإِبْلِيسُ مَعَ كُفْرِهِ كَانَ أَعْرَفَ بِرَبِّهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ.

وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ الْأَيْدِي لَمَّا أَضَافَهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ؛ لِيَتَنَاسَبَ الْجَمْعَانِ، فَاللَّفْظَانِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ. وَلَمْ يَقُلْ: "أَيْدِيَّ" مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ، وَلَا "يَدَيْنَا" بِتَثْنِيَةِ الْيَدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ. فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا نَظِيرَ قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ : حِجَابُهُ النُّورُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.

وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ: إِنَّهَا أَعْضَاءٌ، أَوْ جَوَارِح، أَوْ أَدَوَاتٌ، أَوْ أَرْكَانٌ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ جُزْءُ الْمَاهِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَا يَتَجَزَّأُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْأَعْضَاءُ فِيهَا مَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالتَّعْضِيَةِ.

تعليق: قال: التَّعضية: التقطيع، وجعل الشيء أعضاء.

تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91]، وَالْجَوَارِحُ فِيهَا مَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَالِانْتِفَاعِ. وَكَذَلِكَ الْأَدَوَاتُ هِيَ الْآلَاتُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْتَفِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهَا فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي، سَالِمَةٌ مِن الِاحْتِمَالَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا؛ لِئَلَّا يُثْبَت مَعْنًى فَاسِدٌ، أَوْ يُنْفَى مَعْنًى صَحِيحٌ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.

وَأَمَّا لَفْظُ "الْجِهَةِ" فَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَعْدُومٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَخْلُوقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْصُرُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَإِذَا قِيلَ: أَنَّهُ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

.............